الاثنين، 17 يوليو 2017

زمن المسخ.. تجربتي مع التعصب


فكرت أن ألجأ أليك أخي العزيز لما عرفته عنك من رحابة صدر وانفتاح في الأفق وحياديتك. أريد أن أحكي لك باختصار عن مواقف ممرت بها في حياتي.. ملأت رأسي إثر الحادث المروع الذي وقع في الأسكندرية مع الساعات الأولى للعام الحزين. وربما تريد بعد ذلك أن تنصحني بشيء. مع العلم أنني لا أتهم فئة بعينها بهذه الجريمة الحقيرة والجبانة. ولكن لا أدري لماذا تذكرت هذه المواقف التي حدث بعضها منذ أكثر من عشرين عامًا. وعلى رأي المثل "الهم بيجيب بعضه".
البداية كانت في المدرسة الابتدائية حين كنّا نأخذ حصة الدين المسيحي على السُّلم.. المدرسة موجودة إلى الآن.. والمدرسون كذلك، ويتذكرون ذلك جيدًا. فهمت بعد ذلك أنهم يريدون أن يقولوا لنا: هنا مكانكم حيث يجب أن تكونوا. وكان سؤال يطاردني.. كيف يذل وطن أبناءه بهذه الطريقة؟! ظللت لسنوات طويلة أقاوم صراعًا في نفسي حول فكرة هل التعصب في مصر له طبيعة فردية لأشخاص مريضة ومعقدة؟ مازلت يا صديقي أومن بمصر.. ما زلت أومن بالوطن الذي يحمي في حضنه كل من ولودوا على أرضه.
الموقف التالي كان بالمدرسة الإعدادية حين حرمني أستاذي من حق الدفاع عن نفسي عندما اتهمني بعض زملائي بأنني أتحدث في الدين. مع أني كنت الضحية. بعدها تلقنت درسًا مهماً وهو ألا أتحدث عن الدين أبدًا، بل واسمح للآخرين أن يتكلموا عن ديني كيفما يشاءون، وليس لي أن أعترض. قال لي الآخرون.. اترك أمرك لله، واقبل إهانة الآخر؛ لأنه الأقوى والأكثر عددًا. تأمل يا صديقي ما تأثير ذلك على فتى تتفتح الحياة أمامه؟ ماذا تتوقع في المستقبل من شخص كهذا؟ ومع ذلك قاومت تصديق الهواجس التي كادت أن تتجسد على أرض الواقع. كما قاومت نفسي لئلا أصبح متطرفًا أو ساخطًا يومًا ما، أو حتى متعصبًا، أومنزويًا عن المجتمع. تأمل كيف استهلك هذا من طاقتي، وقيدني وأنا في سنوات التحصيل الدراسي. لن تصدقني إذا قلت لك كيف كان معظم أساتذتنا يدخلون الفصل ليضيعوا الوقت في التفاهات. ولن أنسى مدرس اللغة العربية  في المرحلة الثانوية الذي كان يقول نكات إباحية على الملأ. وكيف كان يحطم برائتنا، ويلوث ضمائرنا، ويلطخ خيالنا الغض.
في المرحلة الجامعية التحقت بكلية الصيدلة واضطررت أن أعمل أثناء الدراسة في صيدلية مؤجرة في بيت الحاج محمد. وكنا نقوم بالواجب مع الحاج محمد وأولاده بقدر ما نستطيع وأكثر. كان له من الأولاد ثلاثة.. ناضجين غير متعلمين.. لم يحصلوا على الابتدائية، ولكن ملتحين حالقي الشارب. كانوا يأتوا إليّ لأجري لهم عمليات حسابية بسيطة، أو أقرأ لهم عنوان، أو أكتب لهم رقم تليفون. ولكننا كنا نعرف مدى كراهيتهم لنا، ونظرتهم لنا باستعلاء لمجرد أنهم مسلمون ونحن مسيحيون.
عملت بإحدى المستشفيات لمدة شهرين فقط.. ذقت فيهما الأمرين على يدي مديري. قلت لنفسي ربما لا أصلح لهذه الوظيفة وتركت العمل. وصدقني تأسفت عليه عندما علمت بوفاته. لكني علمت بعد فترة من الزمن أنه يكره النصارى بشهادة شاهد من أهلها.
كل هذا ولم أتحول إلى شخص متعصب، لازالت علاقتي مع علاء صديقي المسلم جيدة. واعتز بأستاذ سيد جاري. ولا أمنع ابني من النزول إلى الشارع ليلعب مع مصطفي وعبده، وأقول.. حتى عندما يكبر ابني لا يشعر بالغربة بين أهل بلده.
بالأمس تأتي زوجتي لتحكي لي عن طفل في المدرسة التي تعمل بها صُدم لما عرف أنها مسيحية. أو أطفال مسلمون في المرحلة الابتدائية لا يريدون الجلوس بجوار أقرانهم من المسيحيين. هل رضعوا التعصب من والديهم؟ معزورين.. لم يجدوا من يعلمهم عكس ذلك. أشار عليّ البعض بالهجرة .. رفضت. لم تكن تعوزني متطلبات الهجرة، وإنما الحماس للفكرة ذاتها.
اليوم بعدما اجتهدت في عملي، وصارعت الظروف وصارعتني، وغلبت الحياة وغلبتني. أرى الفقر اللعين الذي ولدت فيه. مع إن المشكلة ليست في الفقر، وإنما في النظام الذي حكم على الفقير أن لا ينمو أكثر من شجرة صغيرة.. مع إنه يحمل في بذرته ما يجعله ينمو كالنخيل. هل تتفق معي أن هذا أيضًا شعور مدمر كفيل بأن يحوِّل الإنسان إلى إرهابي يكره الحياة ويتلذذ بقتل الناس من حوله. ومع ذلك نكافح بشرف آملين غدًا أفضل. نترجى ظهور فجر الحرية والعدالة والقانون. إن أيدي الوطن الحانية طبخت أولادها وأكلتهم.
نحن الآن يا عزيزي أمام مواطن غير مصري يعيش على أرض مصر. مصر لم تعد مصر. والزمن لم يعد الزمن. نحن في زمن المسخ كما يقول عادل إمام في رائعة علاء الأسواني عمارة يعقوبيان. كما أنني أجزم أن غالبية الشعب المصري لا يشعرون بمصريتهم. بل يلعبون دور البلياتشو. نضع مساحيق من ماركات مختلفة على وجوهنا. فنظهر أفارقة في المهرجانات الرياضية. ثم سرعان ما نرتدي عباءة بيضاء وعقال ونترحم على عبد الناصر والحلم العربي وذلك عندما نتحدث عن فلسطين. ولكن الموضة السائدة هذه الآيام هي المساحيق الدينية. وقليلاً ما تظهر المساحيق المصرية الصنع في مجالات السياحة فقط. سمعت بأذني أثناء زيارتي لمعبد الكرنك بالأقصر مصريين يقولون: من أشار علينا بأن نأتي إلى هنا حيث هذه الأصنام. أرأيت؟ نسخر من تاريخنا.. ونسخر ممن يتحدث كلمتين بالفصحة. أصبحنا ممزقين لا تُعرف لنا هوية.
مسؤلية من؟.. بالطبع النظام. لا يستطيع النظام أن يتنصل من المسئولية. يملأون الدنيا صخبًا عن توفير فرص عمل.. استثمار.. رغيف العيش.. العلاج. ولكني أقول لك "لو استوردنا حكومة من الصين هتعمل نفس الكلام". إنهم يعملون وفقًا لعقلية رجل الأعمال.. مواردنا.. مصروفاتنا.. أرباحنا وبقاؤنا لأطول فترة في السلطة. ليس لديهم حس وطني حقيقي، وإلا تفتحت عيونهم على السرطانات الخبيثة التي تنهش في كبد الوطن. ولا عجب أن يشعر الناس أن حكوماتهم تستغلهم وتتاجر بهم. لقد مات مصطفى كامل وسعد زغلول ومكرم عبيد، ولم يتركوا خلفاً أو وريثاً. مازلت متعلقًا بالأمل مترجيًا فجر جديد تشرق فيه الحرية والعدل والمساواة هنا في أرض الله في مصر. وأرجو الله أن يمنحني الصبر عندما أرى مذلة الحق الضعيف وعزة الظلم القدير.
أشكرك لسعة صدرك لي.
يعيش على أرض مصر
عادل زكري
نُشر بجريدة المصري اليوم بتاريخ 5 يناير 2011، بعد حادثة كنيسة القديسين بالأسكندرية.
http://today.almasryalyoum.com/article2.aspx?ArticleID=283552

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق