الجمعة، 27 مارس 2020

نصوص آبائية عن الصوم


ق يوحنا ذهبي الفم- عظة عن الصوم
دي عظة ألقاها في الاستعداد للصوم الأربعيني بيقول فيها أن موسى وإيليا بالصوم تحدثا مع الله. وأن وصية عدم الأكل من الشجرة هي نوع من الصوم، وده كان أمر ضروري جوه الفردوس، فكم بالأحرى وإحنا خارج الفردوس. الصوم اختطف نينوى من قبضة الموت وردها إلى الحياة. ”وباحتقار الصوم أتت عقوبة الموت، وبإكرام الصوم تُرفع العقوبة“.
في العظة دي بيحكي عن صوم نينوى وعنيونان اللي فكر يهرب فيخاطب يونان قائلاً:
ألم تسمع النبي يقول: أين أذهب من روحك ومن وجهك اين أهرب.. هل ستذهب إلى الأرض؟ اسمه "للرب الأرض وملؤها" ربما تقول إلى الجحيم؟ "إن فرشت في الهاوية فها أنت". أم ستقول إلى أقاصي البحر؟ الخطية تؤدي بنا إلى هذيان عظيم! هل هربت بعيدًا عن الرب؟ البحر أيضًا هو عبد لله، بفعل ما يأمره سيده. كان البحر مثل العبد المطيع، الذي تقابل مه عبد آخر سرق شيئًا من سيده وهرب، فلم يتوقف عن غزعاج من تستروا على العبد السارق حتى يأخذه ويعيده إلى سيده، هكذا البحر فعل!!


ق باسليوس الكبير- الصوم المقدس
دول عظتين برضو قدمهم ق باسليوس في الأحد الأول من الصوم الأربعيني.. بيقول فيهم إن الصوم صحة للنفس والجسد، والصوم بيميت الخطية داخل النفس. وبيقول لازم نصوم بأمانة مش تمثيل: ”في هذه الحياة نجد الأغلبية من البشر كأنهم على مسرح يلعبون أدواراً تمثيلية، فهم يحملون في القلب أمورًا دفينة بينما يظهرون للناس أمورا مغايرة .. لا تضع قناعًا على وجهك بل عِش على حقيقتك“. ثم يتطرق لفكرة أن الصوم أقدم من الناموس نفسه، والبداية كانت في جنة عدن (زي ما قال ذهبي الفم). وإن الإنسان مارس الصوم في الفردوس.
الصوم يمتدحه الأطباء.. الجسم لما بيتثقل بالتخمة بيصاب بأمراض كثيرة. ”فلتعطي الفم مهلة لتستريح البطن“. الصوم يخليك تهزم شهوات الجسد. ويعلمك الاعتدال في الزواج. بيخرجنا من الإدمان ”لأنه كما يطرد الدخان النحل كذلك الإدمان يطرد المواهب الروحية“.
 الصوم كمان تقليد آبائي ”ليت حديثنا يمضي نحو فحص أقدمية الصوم، وكيف أن كل القديسين حافظوا على هذا التقليد الآبائي الذي استلموه وسلموه إلينا“. ق باسليوس كأنه بيشرح بإسهاب القسمة بتاعة الصوم وإزاي نجى الفتية ودانيال وأصعد إيليا.. إلخ.   
الصوم يرود النفس.. وبيذكر تشبيه هنا لافت.. وهو أن الخيول قبل السباق بيقللوا الأكل ليها. المعدة وهو مش مليانة مفيدة في المشي وفي النوم كمان. يعني الصوم عند ق باسليوس أحسن من الريجيم بيحافظ على الصحة وبيخلصنا من الدهون المترهلة. لكن من ناحية تانية ”الصوم الحقيقي هو في الابتعاد عن الشر وفي عفة الكلمة وفي البعد عن الغضب وفي الانفصال عن الشهوة وعن التجديف وعن الكذب.. البعد عن هذه الأمور هو الصوم الحقيقي“.      


ق ساويرس الأنطاكي- الصوم
العظة دي ترجمها يوسف حبيب عن الفرنسية وقد ألقاها ق ساويرس في بداية الصوم الأربعيني. وبيقول فيها إنه طالما في مسافة كبيرة بين العالم الروحي والعالم المنظور فقد ”خلق الله الإنسان بفعل عجيب ووضعه بين الاثنين“ بجسد من طين، ونفس عاقلة روحانية غير مادية علشان ”يذكّر الإنسان بالعالم المنظور بجسده، وبالعالم غير المادي الروحاني بروحه“. علشان كده الإنسان منتصب مش منحني لاسفل بفضل الروح العاقلة اللي ليها السلطان ومنها يستمد التوجيه.
بيقتبس من حك9: 15 عن ”الجسم البالي يثقل العقل الكثير الهموم“. هذا الوضع صار بالسقوط.. الجسد بيجذب الروح لأسفل. قبل كده كان الروح هو اللي بيجذب الجسد لأعلى. والصوم يرجعنا إلى الحالة الأولى وتذكرة الروح بكرامتها الأولى. الصوم بيعمل نوع من التوازن.. ويعطي فرصة للروح لترتقي بالجسد لأعلى. الرسل كانوا بيصوموا.. فهل هما محتاجين للصوم وأنت الخاطئ مش محتاج.

البابا ثيؤفيلوس- التوبة والصوم

بيتكلم عن ملاك الصوم اللي لما نصوم هيجي ويقتلع الزروع الشريرة اللي زرعها الشيطان في قلوبنا ويزرع مكانها ثمار الروح. التوبة.. بدل الغضب طول أناة، بدل الكبرياء اتضاع، بدل العداوة سلام، بدل النجاسة والتراخي صلاة وسهر وتأمل في المزامير.. ويتغني بالتوبة ويعتبرها هي طعام الجوعى ونبع ماء الحياة الأبدية للعطاش.. ”أيتها التوبة أنتِ عون الذين يأسوا من أنفسهم!“ ”التوبة تجعل الإنسان يُبسط جناحيه كالنسر، ويصعد إلى أعالي السماوات من خلال فضائلها الروحية“.  

يوحنا كاسيان (الأوجاع الثمانية- روح النهم)
بيقول كاسيان بالنسبة للصوم لا يمكن بسهولة اتباع قاعدة موحدة، لأنه ليس الأجساد لديها نفس القوة (العمر/ الجنس.. إلخ)، في حد ميقدرش يصوم لحد الغروب. يؤكد أن الضعف الجسدي لا يقف عقبة في طريق نقاوة القلب طالما تؤخذ هذه الأمور كمتطلبات للجسد وليس للذة. ولا يكفي الامتناع عن الطعام فقط بالإضافة إلى اقتناء الفضائل. واللي ميقدرش يمسك شهيته (العدو الأضعف) ميقدرش يمسك شهوته (العدو الأقوى). الأولى معركة سهلة (معركة المعدة) والثانية المعركة الأصعب (معركة الروح). التأمل في الإلهيات هيساعدنا منركزش على ملذات الأكل.
يحكي كاسيان أن الأصوام كانت تُكسر عند استقبال الأخوة (فيما عدا الأصوام القانونية للكنيسة) بلا سجس. ثم في الآخر يورد قولاً للمبارك مكاريوس يقول فيه: ”ينبغي على الراهب أن يهتم بالصوم كما لو كان سيعيش في الجسد مئة عام، ويهتم بكبح تحركات الذهن وينسى الإهانات ويرفض الحزن- كما لو كان يوميًا على شفا الموت“. لأنه في الحالة الأولى التمييز مفيد وسليم وإلا مكن تحصل كارثة بسبب ضعف جسدي. لكن اليقظة في الحالة الثانية مهمة جدًا لأن الإنسان ممكن يموت في أي لحظة.

يوحنا كاسيان (المحاورات- محاورة 21)
يقول فيها أن الأكل في حد ذاته مش خطية طول ما هو يتناول بالشكر، وكل شيء طاهر للطاهرين، والاكل ده أمر ”سيان“- وأعتقد الفكرة دي واخدها من أوريجانوس. الأمر السيان زي الجواز مثلاً؛ لو اتجوزنا شيء مقدس، ولو متجوزناش لن نهلك. نفس الحكاية الصوم والرهبنة. ثم يفرق بين الوصية والأمر.. وما يؤمر به على نحو مطلق، يعني لو معملنهوش يبقى في عقوبة الموت. وما يُوصى به، الذي عندما يُعمل يكون مفيدًا وعندما يُهمل لا يجلب عقاباً. هل تفتكر الصوم إيه بقى: أمر أم وصية؟
على الأغلب كاسيان بيتكلم عن الأصوام الشخصية للراهب وليس الأصوام القانونية للكنيسة. اللي بيأكد كده أنه في البداية بيسأل الأب ثيوناس لماذا لا نحنى ركبنا في الخماسين، فيقول إنه حتى لو مش عارفين السبب يجب أن نسلم بسلطة الآباء وبعادات أسلافنا وأن نراعيها باعتبارها مسلمة من القدم.
بيذكر شروط جواز كسر الانقطاع: - الترحيب بأخ (وإلا كنت فظًالا تحب أخاك)، و- ضعف الجسد (وإلا كنت قاتل جسدك). واللي يصوم في موسم الاحتفال لا يتعبر عندنا متدين، بل غير معقول. ويقول إن الامتناع عن الطعام ليس شيئًا صالحًا في ذاته- ليس لذاته، ولكن بأعمال أخرى. الفضائل مش غايتها أن أصوم، لكن الصوم غايته أو أوصل للفضائل. ”لأن الأدوية وفن الحدادة والمهن الأخرى لا تستخدم من أجل الأدوات الخاصة بهذا العمل“. ويؤكد مرة أخرى لكنه أمر ”سيان“. ويجب مراعاة التمييز ”علينا أن نضع في إحدى الكفتين، نقاوة أنفسنا، وفي الأخرى قوتنا الجسدية.. ونزنهما بحكم حقيقي حتى لا نميل بإصرار إلى أي من الكفتين، سواء إلى صرامة غير واجبة، أو إلى استرخاء مفرط“.

الثلاثاء، 24 مارس 2020

هل تستعيد الكنيسة دروس تاريخها في مواجهة الكوارث؟



مقدمة
أثار انتشار وباء كورونا موجة ذعر وارتباك لدى أعظم الدول المتقدمة والنامية على حد سواء. لكن الإنسانية هذه المرة أصبح لديها خبرة ثمينة نظرًا للتقدم العلمي، ووسائل الاتصال، وإمكانية التعاون الدولي، فإذا بجهود العالم كله تتضافر من أجل وقف امتداد هذا المرض الفتاك. وبرغم أن طريقة وقف انتشار الفيروس واضحة على الورق وفي الأبحاث؛ إلا أن أفكارنا وروحياتنا، وجدالاتنا في هذه الأزمة أظهرت جهلاً بتاريخ مسيحيتنا وتعاملها في مثل هذا الأحداث، وكيف ربحت وكسبت منها، على عكس ما يحدث الآن. فيما يلي استعراض لبعض الأوبئة في القرون المبكرة، ثم في تاريخ الكنيسة القبطية في مصر، وسأحاول التركيز على بعض الدروس المستمدة منها، في محاولة لاستعادة الذهنية mind-set التي تبنتها الكنيسة في تلك المواقف العصيبة.   
أهم الأوبئة التي عاصرتها الكنيسة في القرون الستة الأولى:
1- طاعون جالينوس (165- 180م): ضرب منطقة أسيا الصغرى وجزءًا كبيرًا من أوروبا. وكان سببًا في وفاة اثنين من الأباطرة الرومان أحدهما ماركوس أوريليوس أنطونيوس الشهير، ولذا سُمي بالطاعون الأنطوني أو طاعون جالينوس نسبة إلى الطبيب الروماني الشهير جالينوس، والذي يُقال إنه هرب من روما أثناء هذا الوباء. وفي ذروته كان يحصد حياة 2000 شخص في روما كل يوم.[1]
2- طاعون كبريانوس (252- 267م): سمي بهذا الاسم لأن ق كبريانوس أسقف قرطاجنة قد عاصر هذا الطاعون، وقدّم وصفًا تفصيليًا لأعراض هذا الوباء في عظة له بعنوان ”الموت الجماعي“ كالآتي: ”الأمعاء مرتخية.. جروح في الحلق.. الأمعاء تهتز بقيء مستمر، العيون مشتعلة.. تعفن في القدمين أو بعض أجزاء الأطراف.. يتوقف السمع.. يعتم البصر“.[2]ضرب هذا الطاعون معظم مناطق حوض البحر المتوسط، وفي ذروته كان يحصد حياة 5000 شخص كل يوما في روما.
3- طاعون جوستنيان (542م): يُقال إن هذا الطاعون بدأ في صعيد مصر وانتقل إلى أوربا عبر السفن التي تنقل القمح إليها، واستمر لمدة 50 سنة. هذا الطاعون قضى على الطموحات السياسية لجوستنيان، وأعجزه عن استرداد الأجزاء الغربية التي أخذت من الأمبراطورية الرومانية، وأدت إلى هزيمة الرومان في معارك كثيرة أمام الفرس، وكذلك سهل مهمة الفتوحات الإسلامية بعد ذلك بقرن من الزمن. يُقال إن هذا الطاعون قتل في القسطنطينية فقط ما يقرب من 300 ألف في السنة الأولى فقط.[3] وفي ذروته كان يقتل ما بين 5-10 آلاف في اليوم الواحد.
ونظرًا لعدد الجثث اضطر جوستنيان لتعيين مسؤول عن التخلص منها اسمه ثيؤدور، ويحكي المؤرخ يوحنا الأفسسي كيف حفر ثيؤدور حفرًا هائلة تضم كل واحدة 700 ألف جثة، وكيف استأجر البعض للتخلص من هذه الجثث، ويصف كيف كان يضعون الجثث متراصة، ويضعون بينها جثث الأطفال، حتى تمتلئ المساحات كلها، ثم يضغطونها دوسًا بالأقدام، ويشبه الأمر بمعصرة العنب.[4]
أهم الأوبئة والمجاعات التي عاصرتها الكنيسة القبطية في مصر:
1- نقرأ عن مجاعة قاتلة أيام البابا بنيامين الأول (38)، إذ يقول كاتب تاريخ البطاركة الآتي: ”كان الموتى مطروحين في الشوارع والأسواق مثل السمك الذي يرميه الماء على البر، لا يجدون من يدفنهم.. كان سيفنى كل كورة مصر.. وكان يموت كل يوم ربوات“.[5]2- كما نقرأ عن غلاء ومجاعة وجفاف للنيل أيام الأنبا شنودة رئيس المتوحدين، وكان يموت كل يوم من ألف إلى ألفين.[6]3- كما نقرأ في سيرة البابا يوحنا (48)، أن البابا يوحنا كلّف شماسه الخاص ويُدعى مرقس بأن ”يفعل رحمة مع كل من في المدينة، وكانت مخازن البيعة وحسابها تحت يده.. وكان يغيث كل جائع ويدفع لهم طعامهم بكرة وعشية في كل يوم“.[7]
4- كما نقرأ في سيرة البابا يوسف (يوساب) الأول (٥٢)، نَقرأ: وبعد أيام جاء وَباء عَظيم على البَهائِم، وكانَت الدَّواب تَتَماوَت في الغَيط وفي سائِر المَواضِع إلى أن لم يَبق لأحَد مِن أهل مصر دابَّة. ولم يَجِدوا ما يَعمَلون عَلَيه، ولا يَقدِر أحَد يَمشي إلاَّ بَعد أن يَسُدّ أنفه مِن كَثرَة جيَف الدَّواب. حَتَّى الزَّرع انقَطَع وقَلَّت الثَّمرة، وكانت أرض مصر في حُزن عَظيم. ثُمَّ عاد الوَباء على النَّاس وفَنوا مِثل البَهائِم“. ماذا كانت استجابة الأب البطريرك: كان ”لا يَفتُر مِن البُكاء بدُموع غَزيرة على فَناء النَّاس والبَهائِم، ويَقول: يا رَبّ لقد حَوَّلت وَجهك عَن الشَّعب لأجل ذُنوبي، ولا تَفعَل مَعَهُم مِثل آثامي، وأدرِكهُم عاجِلًا برَحمَتِك. خَلِّص شَعبك وجَدِّد وَجه الأرض[8].“ ثم استجاب الله لصلاته، وجاءت أزمنة التعويضات والبركة بعد ذلك.

5- كما نقرأ في سيرة البابا خرستوذولوس (66) عن مجاعة شديدة أكل فيها الناس البغال والحمير الميتة،[9] كما نقرأ قصة جميلة عن الأنبا باسليوس أسقف أرمنت، الذي ”كان في زمن الغلاء لا يدع في بيته خبز إلا ويتصدَّق به.. وفي أحد الليالي.. دق باب منزله فقال لولده مينا أعطه خبزًا، ولم يكن بقي عنده إلا رغيفين، فدفع له رغيف.. ثم قرع الباب آخر فدفع له بعض (جزء من) الرغيف الآخر.. ولما هَمَّ ليفطر به قرع الباب آخر.. فألزمه أن يدفع بقية الرغيف.. وبقي بلا شيء يفطر عليه“،[10] وبقية القصة تحكي عن تدبير الله له بشخص لا يعرفه آتاه ليلاً وأعطاه منديلاً به طعام. 6- ثم نقرأ عن الشدة المستنصرية الشهيرة، حين حدث جفاف لمياه النيل لمدة 7 سنوات في أيام الخليفة المستنصر بالله الفاطمي (1094م). في هذه المجاعة قيل إن المصريين أكلوا الكلاب والقطط، وصنعوا خطاطيف ليصطادوا المارة من الناس في الطريق ليأكلوهم.. ولم ينصلح الحال إلا مع قدوم الوزير بدر الدين الجمالي.
الأخلاق المسيحية على المحك
يتميز ق كبريانوس بالتوازن والواقعية في وصفه لسلوك المسيحيين في هذه أزمة الطاعون الذي عاصره؛ فهو من ناحية يلوم البعض ممن يطلبون حماية خاصة لأنهم أصحاب الدين الصحيح؛ فيقول:
يزعج البعض أن قوة هذا المرض تهاجم شعبنا بالتساوي مع الوثنيين، كما لو كان المسيحي قد آمن بغرض أن يكون له تمتع بهذا العالم وهذه الحياة بدون ألم.. يزعج البعض أن هذا الموت الجماعي مشترك بيننا وبين الآخرين، ومع ذلك أي شيء في العالم ليس مشتركًا لنا مع الآخرين، طالما أن جسدنا هذا لا يزال باقيًا حسب قانون ميلادنا الأول المشترك بيننا وبينهم؟ فطالما نحن في هذا العالم، فنحن مشتركون مع الجنس البشري، في التساوي الجسدي، لكنهم منفصلون من جهة الروح... فمهما كانت أضرار الجسد فهي مشتركة بيننا وبين بقية الجنس البشري.. حينما تكون الأرض عقيمة.. فالجوع لا يميز بين الناس.. السبي يشمل الجميع.. انكسار السفينة يشمل الكل.. الحميات وضعف الأطراف.. كل هذه مشتركة لنا مع الآخرين، طالما أن هذا الجسد المشترك الذي لنا لا نزال نحمله في هذا العالم[11]
ما يؤكد عليه القديس كبريانوس هنا، أن المسيحيين الحقيقيين لا يتذمرون؛ لأنهم لم يدخلوا الإيمان ليحصلوا على حصانة خاصة ضد الأوبئة والأمراض الطبيعية؛ فطالما نحن تحت شريعة وقانون الميلاد الأول الجسداني، ونعيش في قيود الزمكان، سيسري علينا ما سيسري على الجميع. والاختلاف الوحيد هو ما نملكه في الروح، الكنز الذي لنا في السماء حيث لا يسرقه لص ولا يفسده سوس.
ومع ذلك يؤكد ق كبريانوس على التباين الشاسع بين استجابة المسيحيين بوجه عام مقارنة بالوثنيين. الأمر الذي يؤكده البابا ديونسيوس الكبير في رسالة فصحية له لبعض الأخوة في الأسكندرية؛ إذ يقول ”باغتنا هذا الطاعون الذي كان بالنسبة لهم (أي الوثنيين) الشيء الأكثر رعبًا.. لكن بالنسبة لنا فلم يكن الحال هكذا، إذ لم يكن أكثر من تدريب وتجربة..[12] نفس الشيء يؤكده ق كبريانوس: ”هذا الوباء وهذه الكارثة الذي يبدو مرعبًا ومميتًا، يفحص بر كل واحد، ويمتحن أذهان الجنس البشري“. ثم يوضح بأن هذا الامتحان هو فرصة لإظهار توجهاتنا الحقيقية وميولنا الراسخة، وفي نفس الوقت تعرية ادعاءاتنا، مثل ”هل الأصحاء سيخدمون المرضى، هل الأقرباء يحبون عائلتهم بحنان، هل السادة يشفقون على عبيدهم، هل الأطباء لا يتخلون عن المرضى الذين يلتمسونهم، وهل الشرسون يلجمون عنفهم، وهل الجشعون يمكن أن يطفئوا.. نار جشعهم الثائر.. حتى بالخوف من الموت، هل المنتفخون يحنون أعناقهم، وهل الأشرار يخففون جسارتهم..“.[13]
يرصد لنا ق ديونسيوس الكبير الأخلاقيات المسيحية التي ظهرت بشكل عملي في هذه النكبة كالآتي: ”أغلب الأخوة كانوا أسخياء بحبهم الدافق وحنوهم الأخوي.. دون أن يحتسبوا لأنفسهم من الهلاك، وكانوا يزورون المرضى، ويبحثون عنهم بكل جهدٍ ليسعفونهم.. وكثيرًا ما كانت العدوة تنتقل إليهم.. وقد تعافى عدد ليس بقليل على أيديهم، في حين أنهم كانوا يموتون“.[14] هذه أخلاق المسيحيين، لكن ماذا عن أخلاق الوثنيين؟ يقول البابا ديونسيوس: ”أما الوثنيون فكانوا يفعلون العكس تمامًا. إذ كانوا يهجرون هؤلاء الذين أصيبوا، ويتخلون عن أعز أصدقائهم. وعندما كانوا يشرفون على الموت كانوا يلقونهم في الشوارع أحياء، وإذا ماتوا كانوا يتركونهم بلا دفن كما لو كانوا منبوذين..[15] ويذكر البابا ديونسيوس أن شمامسة كانوا يحاولون إسعاف المصابين بالطاعون.  
بالطبع نحتاج أن نتأكد من صحة وصف البابا ديونسيوس، حتى لا يظن البعض أنها بروبجندا دينية لا أكثر، وهذا ما يتبين من خلال تحليلنا التالي. لكن الجدير بالذكر أن كثيرين من المؤرخين يرون أن سلوك المسيحيين في هذا الطاعون كان سببًا في دخول أعداد هائلة إلى الإيمان المسيحي. وسأستعين هنا بالكاتب رودني ستارك في كتابه (The Rise of Christianity)، الذي يقدم تحليلاً مهمًا لهذه الحقيقة. فإذا سألنا كيف رأى الوثنيون والمسيحيون هذا الوباء القاتل؟ يشرح رودني ستارك أن الناس في ظل هذه الأزمة من الطبيعي أن يسألوا: لماذا؟ لماذا يموت الآخرون وأنا لا؟ ماذا سيحدث بعد ذلك؟ ومن الطبيعي أن يلجأ الوثنيون إلى معبادهم، فإذ بهم يجدون الكهنة قد هربوا، أو القليل منهم الذي لم يستطيع إعطاء جواب سوى أن هذا هو غضب الآلهة. كذلك فلاسفتهم لم يقدموا جوابًا مشبعًا مرجعين الأمر إلى الحظ، كما عبّر شيشرون الخطيب الروماني المفوه بقوله ”يعتمد على الحظ أو ما نسميه الظروف أنك تتعرض للرخاء أو للمصائب.. بعض الأحداث فوق تحكم البشر“.[16]
وسط هذه الآلهة المحكومة بنزواتها، وعدم مبالاتها بالبشر، قدمت المسيحية بتعاليمها تصورًا مختلفًا عن الإله والعلاقة معه؛ فلم تبقى علاقة نفعية. لم يعد إرضاء الإله بالقرابيين كما في الديانة الوثنية، لكن إله المسيحية لا يرضيه سوى إظهار محبتنا لبعضنا البعض. رأينا في رسالة البابا ديونسيوس كيف أظهر المسيحيية محبة عملية تجاه بعضهم البعض وتجاه الآخرين من غير المسيحيين. هذه لم تكن بروبجندا دينية؛ أولاً: لأنه بحسب رودني ستارك، كتب البابا ديونسيوس هذا الكلام في رسالة فصحية لرعيته، ولن يخاطر بقول شيء لا يلمسونه في الواقع من حولهم. ثانيًا: أنه بعد هذا الطاعون بقرن من الزمان تقريبًا نجد الأمبراطور يوليان الذي حاول إحياء الوثنية من جديد يشكو من اهتمام المسيحيين بغير المسيحيين. ويحاول تأسيس ما يشبه الجمعيات الخيرية لمجاراة المسيحيين، وفي خطاب له يحث كاهن وثني على محاكاة فضائل المسيحيين.[17]وبحسب ستارك لم ينجح يوليان؛ لأنه لم يجد أساسًا عقائديًا متينًا، ولا مماراسات تقليدية راسخة لدى الديانة الوثنية، بعكس ما كان متوفرًا لدى الديانة المسيحية.
خاتمة
لم تتقوقع الكنيسة حول نفسها في جدالاتها الخاصة جدًا، بل سعت لتقديم إجابات شافية عن صلاح الله.لم تبحث عن حصانة خاصة، معجزية أو غيبية، لحماية أبنائها، دون بقية الناس، من المرض الفتاك، بل قبلت صليب المرض بشكر ودون تذمر. لم ترى في الوباء غضبًا من الله، بل تدريب وامتحان وإظهار لأصالة ما نؤمن به. لم يكن هاجس الكنيسة الحفاظ على نفسها وطقوسها، الأمر المطلوب في الظروف العادية، بل كان هاجسها أن تقوم بدورها في إظهار خلاص المسيح ومحبته للعالم أجمع. لذا فتحت ذراعيها، بدلاً من أن تغلقهما على نفسها وعلى تفاصيلها الخاصة.  

[1] Encyclopedia of Plague and Pestilence: From Ancient Times to the Present, edit. George Kohn, p, 9-10.
[2]  نصحي عبد الشهيد، القديس كبريانوس الأسقف والشهيد، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، ص 113-114.
[3] Encyclopedia of Plague and Pestilence, p. 216.
[4] Lester K. Little, Plague and the End of Antiquity: The Pandemic of 541- 751, p. 75.
[5] تاريخ البطاركة، طبعة دير السريان، ج1، صفحة 121.
[6] نفس المرجع السابق، صفحة 179.
[7] نفس المرجع السابق، صفحة 252.  
[8] شريف رمزي، سير البيعة المقدسة، بحسب أقدم المخطوطات، (تحت الطَّبع).
[9] نفس المرجع السابق، صفحة 515.
[10] نفس المرجع السابق، صفحة 497.
[11] نصحي عبد الشهيد، كبريانوس الأاسقف والشهيد، صفحة 110.
[12] ق ديونيسيوس السكندري الكبير، ترجمة أمجد رفعت، إصدار مدرسة الأسكندرية، صفحة 84- 85.
[13] نصحي عبد الشهيد، كبريانوس الأسقف والشهيد، صفحة 115.
[14]  نفس المرجع السابق.
[15]  نفس المرجع السابق.
[16] Rodney Stark, The Rise of Christianity: A Sociologist Reconsiders History, p. 79- 70.
[17] Ibid, 83.

الأربعاء، 11 مارس 2020

كيف ولد الله ابنه؟



يؤكد قانون الإيمان النيقوي القسطنطيني على ولادة الابن (اللوغوس- الأقنوم الثاني في الثالوث القدوس) ب 6 توصيفات أو تأكيدات: 1-  أن المسيح هو ”ابن الله الوحيد“(only begotten)، 2-  مولود من الآب قبل كل الدهور، فهي ولادة أزلية، 3-  كولادة النور من النور، 4-  وإله حق من إله حق، 5- وأنه مولود غير مخلوق، وهنا بيحط الابن في category مختلفة تمامًا عن كل المخلوقات..، 6- مساو للآب في الجوهر، بمعنى أن هذه الولادة لا تتضمن انتقاصًا في الآب ولم تجعل الأبن أدنى أو أقل. يشرح هاري ولفسون الفرق بين فيلو اليهودي والمسيحية أن فيلو اعتقد أن اللوغوس مخلوق وأن الآب هو العلة الفاعلية للوغوس (efficient cause) ، وبالتالي علاقة الآب باللوغوس زي علاقة الآب بالعالم.. أي كلاهما مخلوق من العدم.
لكن المسيحية في ظل الإعلان الجديد وظفت مصطلح اللوغوس لكنها أكدت أنه مولود من الآب منذ الأزل، وأن الآب هو العلة المادية للوغوس (material cause) ، بمعنى أن الابن له نفس جوهر الآب، وبالتالي علاقة الآب بالابن هي نوع خاص جدًا من العلاقة اللي بتختلف عن علاقة الله بالعالم أو أي مخلوق آخر.
وعلشان نفهم الفرق بين العلة الفاعلة والعلة المادية.. لازم نروح لأرسطو اللي قسِّم العلل إلى 4 أنواع:1- العلة الصورية formal cause، لو أخذنا مثلاً عمارة سكنية، العلة الصورية هي التصميم الذي يأتي من مكتب التصميمات.2- العلة المادية material cause هي مواد البناء نفسها.3- العلة الفاعلية efficient cause هي المهندس (الفاعل) نفسه اللي اشتغل..4- العلة الغائية final cause هي الغرض النهائي المقصود من البيت اللي هيتبني. وبالتالي نوع العلة في الولادة الأزلية للابن من النوع الثاني.. لأنه من نفس ذات الجوهر الإلهي.. وده الفرق بين الوالد والصانع/ الخالق. الوالد يلد ما هو مثله، لكن الصانع يخلق ما هو أدني ومختلف.
لاعتراض على فكرة العلية causation أن البعض قال إن العِلية تتضمن التعاقب الزمني.. يعني لازم العلة تكون سابقة على المعلول. لكن المسيحية أكدت واصرت أنها ولادة أزلية.. ليس لها بداية ولا نهاية ولا انقطاع.. خلينا نشوف واحد مهم جدًا قال كل الأوصاف اللي ممكن تتقال لشرح هذه الولادة الأزلية، وهو يوحنا الدمشقي.. (ولد 676م وكان والده يعمل وزيرًا في بلاط الخلافة الأموية) يقول:
لا يلد الله مثلما يلد الإنسان، فبما أن الله منزه عن الزمن، ولا بدء له ولا ينفعل، ولا يسيل، ولا جسم له، وفريد ولا نهاية له، بالتالي تكون ولادته بلا زمن وبلا بدء ولا انفعال ولا سيلان flux وبدون علاقة. وولادته التي لا تُدرك ليس لها بداية ولا نهاية. وهي بلا بدء لأنها لا تتحوّل، وبلا سيلان لأنها لا تنفعل ولا جسمية، وهي بلا علاقة لأنها لا جسمية؛ ولأن الله واحدٌ أحد وليس بحاجة إلى آخر. وهي بلا نهاية ولا انقطاع لأنها منوهة عن البدء والزمن والنهاية، وإنما هي دائمًا“.[1]
من أهم الأشياء اللي أكد عليها آباء الكنيسة أن الولادة الأزلية للابن لا تشبه بأي حال من الأحوال الولادة البشرية أو أن شئت الحيوانية أو الطبيعية.. لأن دي كانت منتشرة في الأساطير اليونانية اللي كانت بتصور ولادة الآلهة بنفس تشبيهات اللي بتحصل في الزواج.. فنجد مثلاً أثنياغوراس بيقول ”نحن بالفعل نعترف بأن الله لديه ابن! ولعلكم لا تسمحون لأحد بأن يستهزئ بأن الله لديه ابن! فهذا ليس أمرًا أسطوريًا من الشعراء الذين جعلوا الآلهة ليست أفضل من البشر. إلا أن أسلوب تفكيرنا ليس كمثلهم فيما يخص الله الآب والابن“.[2] نفس الشيء يقول ثيؤفيلوس الأنطاكي ”ليس كما يصف الشعراء وكاتبو الأساطير أبناء الآلهة المولودين بجماع جنسي“.[3] وبالتالي هو ليس كالتوالد الجسدي الحيواني بل نوعية خاصة من الولادة الفريدة لذا تسمى سرًا. ومن هنا لا نجد في تاريخ المسيحية من شبهوا ولادة الابن بأن الله اتخذ صاحبة وعاشرها وولد منها.. هذه الفكرة وثنية بامتياز.. حاربتها المسيحية بشكل واضح وصريح.
حتى قبل قانون الإيمان استخدام الآباء لتقريب فكرة الولادة الأزلية للابن.. تشبيه النار التي تشتعل من نار أخرى.. يوستين الشهيد مثلاً بيقول: ” هذه القوة هو مَن وُلِد من الآب.. لكن ليس عن طريق الانفصال، وليس كأن جوهر الآب انقسم لأن الأشياء إذا انقسمت لا تعود كما كانت قبل الانقسام.. ولشرح هذه النقطة ذكرت مثال النار التي تشتعل من نار اخرى، علمًا بأن النيران المشتعلة تتميز عن النار الأصليه.. (اللي) تظل هي النار نفسها بلا نقصان.[4] كده التشبيه ده بيؤكد أن الولادة الأزلية لم تنقص الآب.. وفي نفس الوقت في تمايز في الأقانيم. يوستين استخدم تشبيه نور الشمس كمان لكن كان عنده تحفظ واحد على التشبيه ده.. إن نور الشمس ليس له وجود من ذاته- وده مينفعش يتقال على الابن.
أكد قانون الإيمان النيقوي تشبيه الولادة الأزلية بعبارة نور من نور.. بعد مجمع نيقية هنلاقي مثلا يوحنا الدمشقي بيقول: إن تشبيه النور الصادر والنار يختلف عن ولادة الابن عن الآب؛ إذ أن النور المولود من النار.. ليس له أقنوم خاص به.. أمّا ابن الله.. فله أقنومه الخاص.[5] هنلاحظ نفس التحفظ اللي عبَّر عنه يوستين. لكن استمر تشبيه النور واالنار من النار.. هنلاقي ساويرس بن المقفع بيقول عن الولادة الأزلية: أنا مثلتها بولادة النور من النور؛ لأن النور يولد من النور بغير مجامعة، ولا تعب، ولا حبل، ولا نقص“.[6] واضح أن ساويرس علشان كان بيكتب في العصر العربي.. بيأكد على حاجات معينة واضحة!
العلامة أوريجانوس واجه الغنوصيين اللي خلطوا عقيدة الولادة الأزلية مع أفكار من الأساطير اليونانية.. فنجده في كتابه الأهم ”المبادئ“ بيهاجمهم كالتالي: يجب الحذر من الوقوع في الأساطير الجوفاء كقوم يتصورون لأنفسهم اجتزاءات.. حتى أنهم يجزئون الله الآب في جوهره“.[7] ويقول مرة أخرى: إننا لا نقول قول بعض المنشقين بأن جزءًا من جوهر الله قد انقلب ابنًا، أو أن الابن قد جاء به الآب من العدم، أي من خارج جوهره.. آنفين من كل مدلول جسدي لان الكلمة والحكمة ولد من الآب الذي لا يُرى ولا جسم له، بدون أي شهوة جسدية“.[8]
أوريجانوس بيقول جملة حاسمة قاطعة كالتالي: من العبث الحالم تخيّل إمكانية انقسام الجوهر في الطبيعة غير الجسمية. بل إن الأمر بالأحرى أشبه بالإرادة التي تنبثق من العقل دون أن تقتلع منه جزءًا، ودون أن تنفصل أو تنعزل عنه“.[9] وبكده أوريجانوس يحسم فكرة أن هذه الولادة بلا انقسام ولا تجزئة ولا انفصال.. هذه التوصيفات سيستخدمها من بعده كثير من اللاهوتيين.. لكنه بيدينا تشبيه آخر غير ولادة النور من النور: أي ولادة الإرادة من العقل.
في تشبيه تاني استخدمه بعض الآباء وهو ولادة الكلمة من الفكر.. بلا شك كان في مفردات وعبارات عند أفلاطون وأرسطو بتقول إن الكلمة هي وليدة الفكر.. وأن الكلمة مساوية في الأزلية مع الفكر..والآباء اللي كانوا مطلعين على الفسفة اليونانية بالتأكيد مش هيفوتوا الفرصة دي.. فنجد يوستين الشهيد يقول: عندما ننطق بكلمة نستطيع أن نقول إننا نلد الكلمة، لكن ليس بعزلها عنا، بمعنى أن قدرتنا على نطق الكلام سوف تزول“.[10] وبالنسبة لتشبيه الولادة الأزلية بولادة الكلمة من العقل.. نجد ق إيريناؤس معترض على جانب من التشبيه.. وهو أننا وإحنا بنفكر بتخرج أو بتتولد الكلمات ”بجهود متتالية بقدر ما يستطيع اللسان أن يخدم ذلك“.[11]لكن إيريناؤس بيقول ده مينفعش بالنسبة لله.. لأن: الله إذ هو عقل كله، ولوغوس كله، فهو يتكلم بالضبط بما يفكر فيه، ويفكر بالضبط بما يتكلم به“.   
(But God being all Mind, and all Logos, both speaks exactly what He thinks, and thinks exactly what He speaks.)
في الفصل 9: 96 بيقول ق أمبروسيوس في كتابه ”سر تجسد الرب“ إن البعض بيقول إن الآبن مختلف عن الآب بحجة إن الآب ليس له علة، فوجوده من ذاته، أما الابن فعلته هو الآب، وبالتالي وجوده ليس من ذاته. نخلي بالنا أننا بنقول إن الآب هو المصدر وهو علة الابن.. لكن مش بنقول العكس (يعني مش بنقول إن الابن كمان هو علة الآب).
لكن ق أمبروسيوس بيقول حتى لو الآب والابن مختلفين في النقطة دي لكن دي لا يعني أنهم مختلفين في الجوهر.. ويسوق الأمثلة التالية:
مثال (1) بيقول إن الطيور مرة اتقال عنها ”ليطر طيرًا“ (4: 20)، ومرة جبلت من الأرض، ومرة بالإكثار (التكاثر) (1: 22). بدايات مختلفة للطيور لكن لها نفس الطبيعة، ونفس الجوهر.
مثال (2) جسد ربنا يسوع نفسه أتى عن طريق الروح القدس وإحنا جسدنا بيأتي بالتكاثر الطبيعي-ومع ذلك جسد المسيح وجسدنا ليه نفس الطبيعة. إذًا علة التوالد مختلفة، لكن نفس الطبيعة في النهاية.
مثال (3) آدم نفسه -جُبل من الأرض- لكنه شارك طبيعته مع أولاده بالتكاثر حتى يشاركوه في نفس الجنس- وبالتالي الوالد هنا (آدم) له بداية مختلفة عن (أولاده). لكن في النهاية ليهم نفس الطبيعة. أمبروسيوس بيوصل لنتيجة مفادها هي: ”عدم تماثل البداية لا يضر أبدًا تماثل الجوهر“ (فقرة 105).
استخدم بعض الآباء تفرقة كانت عند الفلاسفة الرواقيين بين الكلمة الداخلية (internal logos) الكامنة داخل العقل، والكلمة المنطوقة (uttered logos).. فالتفرقة دي ظهرت بوضوح عند ثيؤفيلوس الأنطاكي كالتالي: عندما أراد الله أن يخلق.. ولد كلمته اللوغوس، جاعلاً إياه فاعلاً في الخارج.. في البدء كان الله وحده، واللوغوس كان بداخله.. ولأن اللوغوس هو الله، ويستمد طبيعته من الله، ففي كل مرة يريد أبو الكون أن يفعل هكذا فهو يرسله إلى مكان ما“.[12]هنلاحظ أن ثيؤفيلوس مع أن اللوغوس أزلي مع الآب.. لكنه حب يستفيد بهذه التفرقة الرواقية.. لكن التفرقة دي تنفع للتجسد مش للخلق.. ان الكلمة استعلنت بالتجسد.. دي أقرب إلى التشبيه.. هذه الفكرة تم حرمانها في المجمع المسكوني الخامس سنة 553.. وكأن إمكانية الولادة داخل الله كانت كامنة تنتظر لحظة الخلق لتنشيطها أو لتحقيقها.. وده غلط. هنلاحظ أن ثيؤفيلوس لم ينكر أزلية اللوغوس.. لكن قد يُفهم من كلامه أن أنكر أزلية الولادة نفسها.. (وده في رأيي المتواضع نوع من المط الزيادة للتشبيه او للتفرقة الرواقية).. في كل الأحوال كمان ثيؤفيلوس كان مقتضب في كلامه.. لكن خلينا نشوف الفكرة دي هتروح لحد فين..
العلامة ترتليان.. في كتابه ضد براكسياس بيقول الآتي: عندما تتكلم، فانت تنطق بما قد تحدثت به إلى نفسك.. وهكذا تكون الكلمة، بمفهوم ما، هي مُخاطب second person بداخلك.. نفس الكلام ينطبق على الله، لأن له عقلاً داخله حتى عندما كان صامتًا، وكلمته متغلغلٌ في عقله هذا! ومن هذا أضع دون تسرع كمبدأ ثابت: أنه حتى قبل خلق الكون لم يكن الله بمفرده، إذ كان له في ذاته عقل، ومتاصلٌ في هذا العقل كلمته، الذي جعله بجواره بحراكه داخل نفسه[13]. لم ينكر ترتليان أزلية اللوغوس.. لكن يُفهم من كلامه زي ثيؤفيلوس أن في مرحلتين للوغوس.. مرحلة كامنة ومرحلة ناطقة.. وزي ما قلنا هذه الفكرة حرمت فيما بعد.. إيه السبب في حرمانها ده نفهمه من القديس هيلاري أسقف بواتييه في كتابه ”عن الثالوث“ فنجده يرد على اللي بيقولوا إن ”طبيعة أي كلمة هي أنها أولاً احتمالية، ثم بعد ذلك تصبح حدثًا في الماضي.. الكلمات تموت في اللحظة التي تُنطق فيها“. وده لا ينطبق على الله وعلى اللوغوس بالتأكيد. وبيقولهم يوحنا قال في مطلع إنجيليه ”وكان الكلمة عند الله“.. وأنهم مش قادرين يميزوا بين (عند) و(في).. لأن ”عند“ تفيد معنى أنه مولود من الآب منذ الأزل.. ولم يكن (في) الله كامن ثم نُطق.. الفكرة الغلط.. ثم يقول: ”إن احتجاجكم بأن الكلمة هو منطوق الفكر، سوف يسقط على الأرض. الكلمة واقع وليس صوتًا، كيانٌ وليس كلامًا، إلهٌ وليس خيالاً“.[14]
نأتي لنقطة في غاية الأهمية وهي: هل الولادة الأزلية للابن بالإرادةأم بالضرورة؟ البعض قال إن لو الولادة دي بالإرادة فده معناه إن كان في احتماليه أنه لا يُولد.. وبكده يُحرم الابن من واحدة من أهم صفات الله وهي أنه يكون واجب الوجود (necessary being). يعني يكون له وجود بالضرورة.. بل على العكس هيكون ليه وجود عارض  contingent being.  أو ما يُسمى بممكن الوجود.. طبعًأ علشان يكون إله أصلا لازم يكون واجب الوجود..
يوستين الشهيد مثلاً قال إن الولادة دي بالإرادة.. لكن ماذا كان يقصد يوستين؟ أغلب الظن أن يوستين كان قاصد يقول إن الولادة الأزلية لابد أنه تكون خالية من أي نوع من الإجبار.. أو الاعتباطية.. أو الاتفاقية (حسبما اتفق يعني).. وأن الله لم يلد ابنه بالخضوع لأي قانون خارج ذاته.. بل لقانونه الذاتي وقصد مشيئته الأزلية.. لكن الرأي اللي ساد بعد كده أن الله يلد بالضرورة.. فهو بطبيعته ولود.. وأن الآب من صفاته أنه ولود.
لازم ننهي مع ق غريغوريوس النزيانزي.. في خطبه اللاهوتية العظيمة اللي بيحذرنا فيها بأن كل تشبيه قاصر عن أن يعبر عن كامل الحقائق الإلهية.. دي حاجة. الحاجة الثانية.. هو بيقول: ”قل لي ماذا يعني أن يكون الآب غير مولود، فأقول لك ماذا يعني أنيكون الابن مولودًا!.. عند ذلك نتمتم معًا منحنين على أسرار الله- إننا لا نستطيع أن نعرف ما بين أقدامنا، فكيف لنا باختراق أعماق الله، والكشف عن الطبيعة التي لا توصف ولا يدركها عقل“.[15]
نفس الشيء يؤكده ق إيريناؤس: إذا سألنا أحد (كيف صار الابن من الآب؟)، نجيبه أنه لا أحد يفهم هذه النشأة أو الولادة أو الدعوة.. أو اي أسم يعطيه الإنسان ليصف به ولادته التي هي في الحقيقة تفوق الوصف“.[16]ده معناه أن الولادة الأزلية حدث فريد من نوعه.. غير قابل للوصف أو الفهم أو الإدراك أو الإحاطة به.. هو ”بلا كيف“ بحسب التعبير العربي! نعم.. لا يوجد شيء مخلوق ينفع يبقى شبه الولادة الأزلية لله.. وكل التشبيهات صحيحة من جانب أو من جوانب .. وخاطئة من جوانب أخرى.. وقاصرة في كل الأحوال.



[1] المئة مقال في الإيمان الأرثوذكسي 1: 8.
[2] المرافعة 10، أثنياغوراس الفيلسوف الأثيني، ترجمة مارك ألفونس، مدرسة الأسكندرية، ص 73.
[3] ثيؤفيلوس الأنطاكي، الرد على أتوليكوس، الكتاب الثاني 22، ترجمة عادل زكري، مدرسة الأسكندرية، ص 77.
[4] يوستين الشهيد والفيلسوف، الحوار مع تريفو اليهودي 128.
[5] المائة مقال في الإيمان الأرثوذكسي، ص 66، 67.
[6]ساويرس ابن المقفع، الدر الثمين في إيضاح الدين، ص 12.
[7] المبادئ 1: 2: 6.
[8] المبادئ 4: 4: 1.
[9] المبادئ 1: 2: 6.
[10] الحوار مع تريفو 61.
[11] ضد الهرطقات 2: 28: 4.
[12] الرد على أتوليكوس، 2: 22.
[13] ترتليانوس الأفريقي، ضد براكسياس 5، 6، أمجد رفعت، مدرسة الأسكندرية.
[14] هيلاري أسقف بواتييه، عن الثالوث2: 15.
[15] الخطب اللاهوتية، ص 143.
[16] ضد الهرطقات 2: 28: 6.