السبت، 24 فبراير 2018

النعمة والغضب في المفهوم الأرثوذكسي


في تدوينة لكاتب يُسمى [1]Dylan Pahman عن الغضب والنعمة والموقف الأرثوذكسي منهما، أقتبس الآتي: 
يقول الكاتب: كلمة النعمة في أصلها اليوناني مرتبطة بالفرح (Chara) وبالمحبة (Charitas)، بينما كلمة الغضب تعني السخط الشديد، وتُستخدم للتعبير عن غضب الآلهة الوثنية وكذلك الله في العهد القديم. ثم يقتبس من الفيلسوف الألماني ردولف أوتو ما يلي:
”قد نرى في الغضب نزوة وعاطفة متهورة. لكن هذه النظرة مرفوضة بالتمام من كل رجال الله في العهد القديم، إذ أنهم يرون غضب الله أبعد ما يكون عن أي انتقاص من ألوهيته، وإنما يظهر كتعبير طبيعي عنها، كعنصر من القداسة نفسها، ولا يمكن الاستغناء عنه.“
ثم ينتقد ردولف أوتو فريدريك شلايرماخر- لاهوتي بروستانتي- لأن الأخير يرفض وجود فكرة غضب الله في اللاهوت المسيحي. ويؤكد أن الأمر ليس له علاقة ببروستانت أو أورثوذكس، أو الشرق والغرب. المهم كلام ردولف أوتو بيربط غضب الله بقداسته وليس بنزوات غضب أو انفعالات متهورة. ثم يقتبس من الأب ألكسندر شميمن، وهو لاهوتي أرثوذكسي، ما يلي:
”إن معرفة الله تؤدي إلى هذه الكلمة غير المدركة، والواضحة، والتي لا مفر منها في آن واحد: قدوس. في هذه الكلمة نعبّر عن أن الله مغاير تمامًا لنا، فهو الواحد الذي لا نعرف عنه شيئًا، وهو غاية كل أشواقنا، الواحد غير الموصوف الذي يحرك إرادتنا، الكنز السري الذي يجذبنا إليه. قدوس، هي كلمة الكنيسة، وأنشودتها، واستجابتها عندما تدخل السماء بينما تقف أمام المجد الإلهي السماوي.“
ثم يقدم الكاتب اقتباسًا لموقف ثالث، في منتهى الراديكالية، وفي الجهة المقابلة تمامًا لرفض فكرة غضب الله، لدى الواعظ البيوريتاني، جوناثان أدواردز، الذي يقول في عظته الشهيرة بعنوان ”خطاة بين بين يدي إله غاضب“ ما يلي:
”إن الله الذي يُمسك بك فوق حفرة جهنك، تمامًا مثلما يمسك المرء عنكبوتًا، أو أي حشرة كريهة فوق النار، هذا الإله يمقتك[2]، وغضبه مروعًا، وسخطع عليك يشتعل كنار. ينظر إليك فيراك لا تستحق شيئًا سوى أن تُطرح في النار. عيناه أطهر من أن تحتمل النظر إليك.. وأنت في عينيه أشد رجسًا (أو كراهة) ـاف مرة من أبشع أفعى سامة في أعيننا.“
ماذا سنختار؟ هل النظرة المتطرفة جدًا لغضب الله كالتي عند جوناثان إدواردز، أم إنكار غضب الله كليةً كما عند شلايرماخر؟ ثم يقتبس الكاتب من مكسيموس المعترف[3] ما يلي: 
”الله هو شمس البر.. وأشعة صلاحه السماوي تستطع على كل البشر على حدٍّ سواء. والنفس كالشمع إذا التصقت بالله، وكالخزف إذا التصقت بالمادة. وهذا يعتمد على إرادتها وقصدها. الخزف يتقسى في الشمس، بينما الشمع يلين. هكذا كل نفس تلتص بالعالم المادي، بالرغم من وصايا الله، تتقسى مثل الخزف، وتدفع بنفسها إلى الهلاك مثلما فعل فرعون (قارن خر 7: 13). أمّا كل نفس تلتصق بالله تلين مثل الشمع، وتتقبل طابع وختم الحقائق الإلهية، وتصبح ’مسكنًا لله في الروح‘ (أف 2: 22)“

هذه النظرة توفر خيارًا ثالثًا يتوسط موقف إدواردز وشلايرماخر؛ إذ يوفر إقرارًا بوجود الغضب الإلهي، مع الإقرار بمسؤولية الإنسان في أنه بسلوكه يذخر لنفسه غضب الله (رومية 2: 10). يؤكد هذا مقتبسًا من القديس أمبروسيوس قوله: ”الشرير عقوبة لنفسه، والبار نعمة لنفسه- ولكلاهما، سواء الصالح أو الطالح، فإن جزاء أفعاله يُدفع في نفس صاحبها.“ وكذلك يقتبس من سي إس لويس قوله: ”عند نهاية كل شيء سيقول المباركون لم نعش أبدًا إلا في السماء، وسيقول الضالون كنا دائمًا في جهنم، وكلاهما سيقول الصدق.“




[2] هناك بعض الترجمات على الأنترنت تترجم هذه العبارة، الله يمقت خطاياك، وليس يمقتك أنت، لكن الله يمقتك هي الترجمة الصحيحة.
[3] مكسيموس المعترف، أحد آباء الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية، وأحد المدافعين عن إيمان مجمع خلقدونية. كانت له آراء لاهوتية مهمة، لكنه أُتهم اتهامات سياسية وبمباركة دخول العرب مصر وشمال أفريقيا، مما حكم عليه بالنفي وقطع لسانه ويده اليمنى.

الأربعاء، 21 فبراير 2018

تطبيقان على التدوينة السابقة



في اللينك السابق فيديو للاهوتي الشهير وليام لين كريج، وإذا تتبعنا طريقته في حل إشكالية الحرب في العهد القديم، سنجد الملاحظات التالية:
-      في دقيقة 2 يتبع كريج مقاربة رقم 4، بتبرير الأسباب الأخلاقية للدينونة الإلهية، بأن يسوق دلائل عن فساد وفجور شعب كنعان، وتعديد خطاياهم..
-       في دقيقة 4: 35 بيلجأ إلى مقاربة رقم 11، بالتركيز عن أن المقصود هو الطرد، واستخلاص الأرض من أيدي هؤلاء الشعوب، لأن الأرض تقذف سكانها بسبب نجاساتهم..
-     في دقيقة 6: 40 بيلجأ لمقاربة رقم 3 عن الحصانة الإلهية، وبيقول أن ربنا ليه الحق يعطي الحياة ويأخذها.. وربنا ليس عليه أي التزام أو إجبار بأنه يطول عمر أي شخص ولو ثانية واحدة. وبيلجأ كمان لمقاربة رقم 5 وبيقول أنه في خير أعظم لهؤلاء الأطفال هو خلاصهم بدلاً من أن يكبروا في ثقافة فاسدة وتكون نهايتهم الجحيم.
-      في دقيقة 8: 45 ربما بيلجأ إلى مقاربة ممكن نعتبرها ”خير أعظم“ أيضًا، وهو أن ما حدث لهذا الشعب يكون درس عملي ومهم لشعب الله، فلا يعيشوا في عبادة الأوثان. طبعًا  عبادة الأوثان لم تكن موضوعة في الحسبان من الأساس أصلاً، وإلا كانت مصر بأوثانها أولى بالحرب، وإنما الفساد الأخلاقي. الأكثر من هذا أن شعب بني اسرائيل لم يتعلم الدرس!

أما في اللينك السابق، لابونا داود لمعي عن نفس الموضوع، فإذا تتبعنا طريقته في حل إشكالية الحرب في العهد القديم، سنجد الملاحظات التالية:

-       حتى دقيقة 4 ، وفي نهاية الفيديو أيضًا، يؤكد على فكرة عدل الله الذي يتكامل مع محبته.. ويشبه بالأب الذي يحب أولاده كلهم ولابد أن يعدل بينهم بالتساوي أيضًا. (لكن المشكلة أبي الحبيب، هذه هي نقطة الخلاف بالضبط. في قصة الحروب البعض يقول  البعض أن الله لم يتعامل بالعدل مع كل أولاده، إلا إذا اعتبرنا أن الأطفال التي قتلت ليسوا من أولاده!! كذلك نجد أن هناك من أخطأوا ولم يتلقوا أي عقوبة، وقد أكد أبونا بنفسه في نفس الفيديو أن لو ربنا هيعاقب الكل مكنش حد يبقى موجود دلوقتي!)
-        في دقيقة 4: 30 ، بيقول عبارة غريبة ”هما اللي عملوا كده في نفسهم. مش ربنا هو اللي عاقبهم“. هذه العبارة لا تنطبق على الموضوع مَحل البحث، ولا على سدوم وعمورة  وعلى الطوفان أيضًا. دي دينونة مباشرة من الله، وليس كشخص أفرط في شرب الكحوليات حتى تليف كبده.. الوضع مختلف هنا.
-        في دقيقة 4: 35، بيقول أن الناس بتتعاطف لقتل السفاح، هنا يلجأ إلى مقاربة رقم 4، وتبرير الإبادة بأن هؤلاء الناس كانوا مثل النازيين أو داعش الآن.
-      أبونا بيسوق أمثلة لا تنطبق على حالة حروب كنعان، وبيلجأ زي وليام لين كريج إلى قصة إبراهيم، وتشفعه من أجل الأبرار. المشكلة في هذه الفكرة إن الله كان حريص على أن يخلص بار واحد (لوط- حسب كلام ابونا)، ولم يكن هناك حرص مقابل في تخليص ربما عدد كبير من الاطفال الأبرياء أيضًا في حالة حرب كنعان. بالطبع ناهيك عن قصة المديانيين في سفر العدد 31، وقتل الاطفال الذكور المسبيين من الحرب.  
-        في دقيقة  14: 20، يلجأ ابونا إلى مقاربة رقم 11، والتركيز على الحرب.
-      في دقيقة 17: 50، بيقول أن قتل الأطفال كان هو الأفضل لهم، مثلما قال كريج في الفيديو السابق، ونحن نقول السؤال ب ”لو كان الأطفال كبروا كانوا هيطلعوا زي والديهم..“ غير شافي لضمائرنا، لأن الأفضل من أنهم يقتلوا أنهم يكبروا ويفتقدهم ربنا بنعمته بطريقة ما، ويصبحوا صالحين، أو ربما فاعلين في امتداد ملكوت الله على الأرض. لأنه بهذا المنطق، سيكون من الأفضل أن نقتل أبنائنا في سن مبكرة، لوجود احتمالية أن يبتعدوا عن الرب حين يكبرون. هذا المنطق قاسي وغير مقبول.
-        في دقيقة 19: 25، يتحدث عن الدفاع عن النفس، ولا ينطبق هذا على موضوعنا.. 
-        في دقيقة 19: 45، ينكر علي المؤمنين غريزة حب البقاء.. هذا ليس له علاقة بالموضوع أيضًا.. إلا إذا أراد  أبونا ألا نرى بشاعة في القتل أو الموت.. لا اريد أن أظلمه! كما يستنكر على حزقيا الملك أنه طلب أن يطيل الله عمره، أو يستنكر علينا أن نفعل مثله. طبعًا بهذا المنطق محدش يدعي لحد بطول العمر بعد كده!!
-      في نهايى الفيديو يقول ”من يرفض عدل الله يريدون أن يعيشوا في الخطية.“ هذا أيضًا ليس له علاقة بالموضوع.. لأن أولاد الله ممن يقرأون الكتاب المقدس، ويأخذون بجدية علاقتهم بالله، هم من يتعثرون أكثر في هذه النصوص، وليس من يريدون أن يعيشوا في الخطية.
في النهاية لا أريد ان أدين أحدًا.. وإنما قصدت بهذين التطبيقين أن نبحث بجدية عن مقاربات جديدة، ولا نكتفِ بما اعتدنا عليه، وربما الأفضل أن نمزج بين أكثر من مقاربة، بدون الإفراط والتطبيق الرديكالي لإحدى المقاربات حتى لا نقع في خطأ آخر يصعب تبريره.  

الثلاثاء، 20 فبراير 2018

13 مقاربة لحل إشكالية العنف في العهد القديم

فيما يلي 13 مقاربة لحل معضلة العنف والحرب في العهد القديم.. هذه المقاربات بعضها قديم، وبعضها حديث جدًا.. من خلال هذا الإحصاء نريد أن نأخذ من كل مقاربة جوانبها الإيجابية، ونترك الجوانب السلبية التي إمّا تقوِّض من مصداقية الوحي الإلهي، أو تتهم الله بالتعسف، أو تخفق في التوفيق بين إله العهد القديم، وإعلانه الكامل في شخص يسوع المسيح. 



1- رفض النص: بدعة ماركيون في القرن الثاني، لم يعجبه إله العهد القديم، وانتهى به الأمر برفض العهد القديم كله ومعظم العهد الجديد. استخدم المشرط بدل القلم (العلامة ترتليان).[1] بالطبع هناك ما يُسمى ب (Modern day Marcionites) الذين يدعون لإعادة تقنين الأسفار بشرط أن يكون ”عدم العنف“ هو معيار التحكيم. وهناك أيضًا (Functional Marcionites) الذين يتجاهلون هذه النصوص تمامًا. بداخلهم يرفضون هذه النصوص وإن لم يُسموا هراطقة.
2- التفسير الرمزي للنص أو (روحنة النصوص): الرائد في هذا العلامة أوريجانوس وآخرون؛ يرى أن ظاهر النص يخفي تحته حقائق روحية أبعد وأعمق. فلسفة أوريجانوس أن ”القضية برمتها روحية“. من تفسيراته (راحاب= الكنيسة، الحبل القرمزي= دم المسيح. في قصة لوط مثلاً: لوط هو ناموس العهد القديم، وامرأة لوط= شعب إسرائيل الذين رفضوا الوصية، ابنتي لوط= أورشليم والسامرة.) كان هذا المنطق يُطبق على الإلياذة والأوديسة.. نصح أفلاطون بعدم تدريسهما للأطفال، لكن لم يتبع أحد نصيحته لأن الناس كانت تحترم كتابات هوميروس، واكتفت بالتفسير الرمزي.[2] وبالتالي كان التفسير الرمزي ملائمًا لهذا العصر. وإن كنت أرى أن حروب العهد القديم يمكن اعتبارها جزءًا من حرب روحية أكبر مع قوى إبليس. المشكلة أن عصرنا الحالي غارق في المادية والنزعة الاستهلاكية والواقعية، لا يعترف إلا بالأرقام والنتائج، ولا يستوعب فكرة الرمزية، فوجب العدول عنها.
3- الحصانة الإلهية (divine immunity): تقول هذه المقاربة: الله له سلطان مطلق، ولا يُساءل عما يفعل، وكل ما يفعله صالح ولا يمكن أن يُخطئ. وليام لين كريج يقول أن الله لديه المبرر الأخلاقي الكافي لهذه الإبادة. المشكلة في هذا الطرح أنك ستقول: كيف يكون قتل الأطفال وسبي الناس شيئًا صالحًا؟ وستكون الإجابة: طرقه ليست كطرقنا، وأفكاره ليست كأفكارنا، نحن لا نرى الصورة الأشمل، معيار الله للعدل ليس كمعيارنا. لذا لا يجب أن نتشكك في سلوك الله مهما بدا شريرًا. يقول كريج عن قتل الأطفال: ”الله له الحق أن يعطي الحياة ويأخذها..الأطفال يموتون كل يوم. تنتهي حياة أشخاص. الله ليس ملزمًا أبدًا بأن يطيل حياة شخص ما ثانية واحدة..“[3]  إشكالية هذه المقاربة أنها تغلق الباب أمام الأسئلة التي تؤرقنا.
4- القضية العادلة: هي محاولة لتبرير سلوك الله، وتوضيح أنه عقوبة مُستحقة سواء في الطوفان (تك 6: 11- 13)، أو سدوم وعمورة، أو سقوط أورشليم (2مل 21: 10- 15)، وكذلك بتسليط الضوء على الخطايا الشنيعة لشعوب كنعان مثلاً، وأنهم قد تجاوزوا مرحلة اللاعودة: (من أمثلة هذه الخطايا: ممارسة  السفاح والشذوذ والزنا وبالأخص مع الحيوانات –bestiality، والأهم تقديم أطفالهم كذبائح بشرية للإله مولك.. إلخ). التركيز على أن حروب كنعان ليست حرب إبادة بل دينونة إلهية، مثلها مثل الطوفان وسدوم وعمورة، وغير ذلك. مشكلة هذه المقاربة أن أحيانًأ بيكون في أبرياء بيموتوا، والشعور بعدم تقديم فرصة كافية للتوبة. ديفيد لامب بيقول ”فكر في النازيين“ أو داعش (حسب د. أوسم وصفي)، وهم يدربون أبناءهم وسيداتهم على العنف.
وإذا قلت يمكن قبول ذلك بالدينونة الطبيعية مثل سدوم وعمورة والطوفان، ولا تقبل أن يستخدم الله شعب في تنفيذ الدينونة؟ يُرد على ذلك، أنه ليس من حقنا اختيار وسيلة الدينونة، (تشبيه القاضي وعشماوي). في النهاية: ”لكي يحقق الله عمله في العالم، فهو يستخدم العنف من بين وسائل أخرى كثيرة، حتى لا تفلت الخطية والشر بدون عقاب. يختار الله الاشتراك في العنف حتى لا يكون للشر الكلمة النهائية.“
5- مقاربة الخير الأعظم: بمثابة استئصال جراحي لنجاة الشخص المريض. عندما نبحث في الأسباب الكتابية سنجد أنه ليكون له 1- شعب مقدس (مفرز): ” لأَنَّكَ أَنْتَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ. إِيَّاكَ قَدِ اخْتَارَ الرَّبُّ إِلهُكَ لِتَكُونَ لَهُ شَعْبًا أَخَصَّ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، لَيْسَ مِنْ كَوْنِكُمْ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ، الْتَصَقَ الرَّبُّ بِكُمْ وَاخْتَارَكُمْ، لأَنَّكُمْ أَقَلُّ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ.
 بَلْ مِنْ مَحَبَّةِ الرَّبِّ إِيَّاكُمْ، وَحِفْظِهِ الْقَسَمَ الَّذِي أَقْسَمَ لآبَائِكُمْ، أَخْرَجَكُمُ الرَّبُّ بِيَدٍ شَدِيدَةٍ وَفَدَاكُمْ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ يَدِ فِرْعَوْنَ مَلِكِ مِصْرَ
.“ تث 7: 7، 8. 2- في أرض مقدسة، حتى لا يلتصقوا ببقية الأمم الوثنية. لكن هذه المقاربة تثير تساؤلاً: هل يوجد أب للحفاظ على أولاده يذهب ليقتل كل أطفال المنطقة التي يسكن فيه؟ وفي النهاية هل نجح هذا الهدف، وصار ابنه شخصًا جيدًا ولم يفسد؟
ربما في حالة قتل الأطفال يفسر البعض أن قتلهم، وإن كان غير مستحب في حد ذاته، ألا أنه لخيرهم وخلاصهم، لأن هؤلاء الأطفال كانوا سيربون في ثقافة فاسدة، وسينسخون تصرفات والديهم، ومن ثم فمصيرهم الجحيم. وبالتالي لو قصر الله حياتهم، فهذا لمصلحتهم. أبونا داود لمعي يقول: ”أليس من الرحمة أن يموت هذا الطفل بدري، لعله يجد مكانة افضل عند الله؟“[4] طبعًا إحنا بنقول لأبونا ”أليس من الرحمة أن يُترك ليعيش ويرسل له الله من يفتقده، فيتوب أو ربما يصير أحد رجال الله، ويساهم في امتداد ملكوته على الأرض؟!!!“  
6- رفض الوحي:  أو التفرقة بين الله كما يصوره النص (textual God)، والله الفعلي (actual God). في هذه المقارنة يصف كتبة الإسفار وقد تعرضوا لنوع من الخطأ أو التضليل جعلهم ينسبون لله ما ليس فيه. هذا يطعن في وحي الكتاب كله؛ لأننا لن نستطيع أن نرسم خطًا فاصلاً بعد ذلك لنميز بين ما توهمه كاتب النص وما هو منسوب بشكل حقيقي عن الله.  أبونا متى المسكين مثلاً يقول: ”حروب الرب.. كانت دموية بأقصى ما يمكن التعبير عنه.. ولا يمكن أن يجيزها الضمير، ولا يمكن أن يبررها العقل بحسب موازين إيماننا، ولكننا نقول إن إسرائيل تصرفت بأكثر مما أوصى به الله.“[5]
7- المبالغة الأدبية (Hyperbole): تعتمد هذه المقاربة على دراسة مقارنة لنصوص الحرب في ثقافة الشرق الأدني الكبير، وبمقارنتها سنجد أن لغة نصوص الحرب تتسم بالمبالغة الأدبية والشمولية. فعندما يُقال أنهم حرموا وقتلوا كل نفس حية، وكل طفل وامرأة وشيخ، فهو لا يقصد هذا حرفيًا، وإنما يدل على هزيمة كبيرة، حتى ولو لم يوجد امرأة أو طفل واحد. عندما نقوم بدراسة حالة على عماليق سنجد ما يلي:
دراسة حالة: عماليق (باول كوبان)
-        خر 17: 13 ماذا فعل يشوع؟  هَزَمَ يَشُوعُ عَمَالِيقَ وَقَوْمَهُ بِحَدِّ السَّيْفِ.“ يُفترض أنه أبيد هنا.
-        1صم 15: 3  اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَالِيقَ، وَحَرِّمُوا كُلَّ مَا لَهُ وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ بَلِ اقْتُلْ رَجُلاً وَامْرَأَةً، طِفْلاً وَرَضِيعًا، بَقَرًا وَغَنَمًا، جَمَلاً وَحِمَارًا.“ في هذه الآية أمر بالقضاء عليهم نهائيًا.
-        1صم 15: 20   ”فَقَالَ شَاوُلُ لِصَمُوئِيلَ: إِنِّي قَدْ سَمِعْتُ لِصَوْتِ الرَّبِّ وَذَهَبْتُ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي أَرْسَلَنِي فِيهَا الرَّبُّ وَأَتَيْتُ بِأَجَاجَ مَلِكِ عَمَالِيقَ وَحَرَّمْتُ عَمَالِيقَ.“ شاول يعطي تقريرًا بالقضاء عليهم!
-        1صم 27: 8-9  دَاوُدُ وَرِجَالُهُ وَغَزَوْا الْجَشُورِيِّينَ وَالْجَرِزِّيِّينَ وَالْعَمَالِقَةَوَلَمْ يَسْتَبْقِ (داود) رَجُلاً وَلاَ امْرَأَةً.“ داود يعطي تقريرًا بالقضاء عليهم نهائيًا!
-        1صم 30: 1، 2  ”وَلَمَّا جَاءَ دَاوُدُ وَرِجَالُهُ إِلَى صِقْلَغَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، كَانَ الْعَمَالِقَةُ قَدْ غَزَوْا الْجَنُوبَ وَصِقْلَغَ، وَضَرَبُوا صِقْلَغَ وَأَحْرَقُوهَا بِالنَّارِ، وَسَبَوْا النِّسَاءَ اللَّوَاتِي فِيهَا.“ مازالوا موجدين!
-        1صم 30: 17 ”فَضَرَبَهُمْ دَاوُدُ مِنَ الْعَتَمَةِ إِلَى مَسَاءِ غَدِهِمْ، وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلاَّ أَرْبَعَ مِئَةِ غُلاَمٍ الَّذِينَ رَكِبُوا جِمَالاً وَهَرَبُوا.“ كونوا جيشًا ومن هربوا منهم يُقدرون ب 400 شخص!!
-        1أخ 4: 43 في أيام حزقيا (بعد داود ب 250 سنة): ”وَضَرَبُوا بَقِيَّةَ الْمُنْفَلِتِينَ مِنْ عَمَالِيقَ.“ما زال هناك منفلتين!
-        إس 3: 1  هامان الأجاجي؟ هامان من نسل أعجاج العماليقي ويصل لمكانة مرموقة في أرض السبي.
وبالتالي لا يبدو الأمر أن الإبادة حدثت بشكل حرفي، ثم نرى في إر 25: 9 يستخدم الله نفس كلمة ”تحريم“ كعقاب لبني إسرائيل على يد البابليين. هأَنَذَا أُرْسِلُ فَآخُذُ كُلَّ عَشَائِرِ الشِّمَالِ، يَقُولُ الرَّبُّ، وَإِلَى نَبُوخَذْرَاصَّرَ عَبْدِي مَلِكِ بَابِلَ، وَآتِي بِهِمْ عَلَى هذِهِ الأَرْضِ وَعَلَى كُلِّ سُكَّانِهَا وَعَلَى كُلِّ هذِهِ الشُّعُوبِ حَوَالَيْهَا، فَأُحَرِّمُهُمْ وَأَجْعَلُهُمْ دَهَشًا وَصَفِيرًا وَخِرَبًا أَبَدِيَّةً.“
-        أيضًا الأدلة الأثرية لا تدعم فكرة حملة عسكرية كاسحة..  
-        كما أن هناك نصوص كتابية تقول إن الإبادة لم تحدث.. في سفر القضاة يقول إن يهوذا لم يستطع أن يطرد سكان الوادي (1: 19)، وبنو بنيامين لم يطردوا اليبوسيين (ع 21)، ومنسى لم يطرد أهل بيت شان (ع 27)، وفي ع 28 يقول إن وكَانَ لَمَّا تَشَدَّدَ إِسْرَائِيلُ أَنَّهُ وَضَعَ الْكَنْعَانِيِّينَ تَحْتَ الْجِزْيَةِ وَلَمْ يَطْرُدْهُمْ طَرْدًا (ع 28)
-        كذلك هناك تحذيرات كتابية بعدم الاختلاط بهم أو الانجذاب لإلهتهم، فكيف يصح هذا إذا تم إبادتهم بالكامل..
وبالتالي يقول كريستوفر رايت: ”ما اختبرته شعوب كنعان من دينونة الله في جيل واحد، اختبره شعب إسرائيل على مدار تاريخه.“ والمقصود بيه التهجير والتشريد أكثر من الإبادة. آيه الطرد..   أيضًا الخسائر والضحايا كانت بين المسلحيين، وكانت هناك فرصة كبيرة للمدنيين بالهروب أو الاستسلام.
8- نظرية الإعلان المتدرج Progressive revelation: استكمالاً للمقاربة السابقة، اشتراك الله في العنف في العهد القديم كان نوعًا من التنازل تماشيًا مع المناخ الثقافي السائد، ومنظومات بشرية في عالم ساقط. وربنا قبل أن يصدقوا أنه إله محارب كخطوة نحو إعلان الله المتدرج والوصول إلى ذروة الإعلان في المسيح. ويدللون عن هذا التنازل بأمور أخرى، مثل الطلاق، تعدد الزواج، المحظيات (ملكات اليمين)، وربما نظام العبودية أم خدمة الدَّين. ”لا يستطيع أحد أن يعلم الناس التفاضل والتكامل قبل الجمع والطرح.“
9- مقاربة الدولة الثيؤقراطية: ترتكز على فكرة أن إسرائيل في ذلك الزمن كان لها وضع خاص، قبل عصر الملوك، حين كان الحكم إلهي، وبالتالي ما حدث في الماضي كانت له ظروفه وهو غير قابل للتكرار. وكانت الحروب التي يأمر بها الله حروب مقدسة، وحروب آلهة في المقام الأول. والإله المنتصر هو الإله الأقوى. نرى ذلك بوضوح في قصة وضع التابوت في معبد الإله داجون، وكلام ربشاقي لرسل الملك حزقيا.
10- مقاربة الدعاية السياسية (نقد التنقيح): هذه المقاربة تعتمد على فكرة أن هناك تنقيح أو تحرير جرى على نصوص العهد القديم في فترة ما بعد السبي، للتأكيد على أن تقصير يشوع في القضاء النهائي على هذه الشعوب هو السبب الرئيسي في السبي. وهي نوع من الدعاية السياسية ضد الأجانب، وليس بالضرورة هو ما حدث بالفعل.[6] بالطبع هذه المقاربة مثل مقاربات أخرى تزعزع في مصداقية الوحي.
11- التركيز على الطرد: طالما أن الله فعل نفس الشيء مع بني اسرائيل، لاحظ استخدام نفس التعبير ”يحرم“، فالأمر في جوهره يتركز على الطرد، بالرجوع إلى لاويين 18، أن الأرض تقذف سكانها بسبب النجاسات. ولم يكن الأمر يركز على القتل بأكثر ما يركز على الطرد. من مؤيدي هذه المقاربة وليام لين كريج وألمح لها باول كوبان في كتابه (Is God a Moral Monster?). بالطبع ما يؤيد هذه المقاربة الدلائل الحفرية القليلة التي تظهر دمارًا شاسعًا..
12- مركزية المسيح Christ- centered: يقدم هذه المقاربة اللاهوتي الشهير كارل بارت، وهو يرى أن أي صورة في العهد القديم لا تتفق مع صورة المسيح  بصفته الإعلان الكامل لله، هي من اسقاطات البشر. إشكالية هذه المقاربة أنه إذا رفضنا الطوفان وسدوم وعمورة سنطعن في العهد الجديد الذي أكد هذا الأحداث.. وإذا رفضنا عزا الذي لمس التابوي، فماذا عن حنانيا وسفيرة، وإذا رفضنا إبادة كنعان، ماذا عن الإبادات الكاسحة في سفر الرؤيا. هذه المقاربة بالرغم أنها تنطلق من اعتبار المسيح مركز فهم الكتاب المقدس، إلا أنها تطعن في مصداقية الوحي أيضًا.
13- مركزية الصليب Cross- centered:  يقدم هذه المقاربة الكاتب الأمريكي جريجوري بويد. على الصليب ظهر شكل قبيح خارجيًا عن الله، وعميق داخليًا. ارتضى أن يظهر كمن ليس هو حتى يعلن لنا عن من هو بالحقيقة. على الصليب صار لعنة ليخلصنا، وفي حروب كنعان نسب لنفسه الشر والقسوة كنوع من التنازل والإخلاء، المؤقت، حتى يُفهم في عصر لا يعترف إلا بالإله المحارب (Warrior God). فكرة الإله المحارب استمرت في العهد الجديد ولكن بمعنى روحي: ”جَرَّدَ الرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينَ أَشْهَرَهُمْ جِهَارًا، ظَافِرًا بِهِمْ فِيهِ.“ (كولوسي 2: 15). ترمبر لونجمان يشير إلى أن حروب كنعان ”هي مرحلة مبكرة للحرب التي خاضها المسيح على الصليب والتي ستكمل في الدينونة الأخيرة.“[7] جدير بالذكر هنا أن هناك من يرصد مقارنة بين الحروب العنيفة قبل دخول أرض الموعد، والحروب العنيفة قبل دخول أورشليم الجديدة يف سفر الرؤيا، ويستخلصون من هذا رمزية مشتركة؛ أن كل من يقاروم أو سيقاوم عمل الله الخلاصي سيكون جزاؤه الفناء. 
في حوار على الإنترنت يحكي جريج بويد هذه القصة ليشرح فكرة الإخلاء:
في أحد بيوت الإيواء، استقبلوا فتاة صغيرة عمرها 10 سنوات. وفي الصباح دخل أحد العمال ليجد أنها لطخت غرفتها ببرازها. غالبًا ما يُفسر هذا على أنه نوع من التمرد، لكن هذا الفريق المسيحي المسؤول عن البيت حاول استيعاب الأمر، ولم يعنفوها، بل خصصوا لها مكانًا لتفعل هذا، وكانوا ينظفون هذا لفترة طويلة. بعد فترة وبعد أن شعرت الفتاة بالأمان، واستطاع الفريق أن يكتشف أن هذه الفتاة كانت تتعرض للاغتصاب الجنسي على يد والدها، وفي إحدى الليالي أخرجت بعض الفضلات أثناء اغتصاب والدها لها، مما جعله ينفر ويتركها.. شعرت الفتاة أن هذا الشيء يمثل لها حماية من يذاء والدها.. فبدأت كل ليلة في أن تلطخ بفضلاتها الحائط حتى لا يقترب والدها منها.. هذا السلوك منفر للعاديين، لكنه كان يشعرها بالأمان.
هذا الفريق عمل على أن يشعرها بالأمان أولا، ويبني معها علاقة أساسها الحب والثقة ثانية، حتى لو اضطروا أن يشتركوا معها في هذا السوك المقزز.. ثم تدريجيًا تحررت من هذه العادة وصارت في مكان أفضل وحالة أفضل. (نفس الشيء تنازل الله واشترك مع شعبه في أعمال منفرة ودموية، حتى يقودهم تدريجيًا إلى وضع أفضل- في المسيح.)





[1]  ديفيد ويصا، الكتاب المقدس بلا رتوش، إصدار دار النشر الأسقفية، صفحة 139.
[2] Eric A Seibert, Disturbing Divine Behaviour - Troubling Old Testament Images of God., 2009, 62.
[3] https://www.youtube.com/watch?v=9FGv9aOCcyU
[4] https://www.youtube.com/watch?v=aJdTee3eCnU
[5] الأب متى المسكين، تاريخ إسرائيل، إصدار دير ابو مقار، صفحة 53.
[6]  نفس المرجع السابق، صفحة 106.
[7] د. رياض قسيس، لماذا لا نقرأ الكتاب الذي قرأه المسيح، الناشر P. T. W، صفحة 100.

الأحد، 18 فبراير 2018

قراءة في كتاب ”هل يُلام الله؟“ للكاتب جريجوري بويد



في هذا الكتاب يهاجم جريجوري بويد الأجوبة المسيحية التقليدية والكلاشيهات عن ”إشكالية الألم والمعاناة“، فهو ضد التوجه المسيحي العام والسائد بأن كل ما يحدث هو من يد الله، أو ما أترجمه بنظرية المسودة (blueprint theory)- بمعنى كأن الله رسم قبل تأسيس العالم مسودة بالقلم الرصاص مثلاً لكل ما سيحدث في العالم من أحداث، وما يحدث أن الخليقة تسير على هذه المسودة لتحبّرها بالقلم الجاف مثلاً. (ملحوظة: سوء الترجمة زاد من صعوبة هذا الكتاب). هذه النظرية باختصار تقول إن كل شيء مُعد ومخطط له سلفًا من قبل الله. 
بالطبع الكاتب يرفض هذه الفكرة. وينتقد اللاهوتيين المسيحيين، مثل جون بايبر مثلاً، الذين قالوا أن حادث 11 سبتمبر مثلاً يجب أن نقبله كجزء من خطة الله! (صفحة 52). الكاتب يرفض هذا، لأنها لو جزء من خطة الله، وعلمنا بأنها كذلك قبل وقوعها، ما كان يجب أن نمنع حدوثها أبدًا. يزعم الكاتب أن هذه الفكرة لتخدير المؤمنين، والأهم أنها تقدم فكرة مغلوطة عن الله.
الكاتب أيضًا ضد فكرة..
-    أن يكون الله فوق التأثر أو فوق الألم. وينتقد النظرة التقليدية القائلة بأن الانكشاف العاطفي emotional vulnerability هو نوع من الضعف، أو فيه انتقاص من كمال الله. لكن الكاتب يذهب إلى أبعد من هذا، ويقول في صفحة 190، 191 أننا لا يجب أن نشعر بالوحدة لأن الله تألم مثلنا، ويتفهم معاناتنا، ويشاركنا فيها.. كأن الله في المسيح يجلس معنا في ”مجموعة مساندة“، كواحد من المـتألمين. (بالطبع أرى أنها فكرة صعبة، لأننا نؤمن أن الله لا يتفهم آلامنا فقط، ولا يشاركنا فيها فقط، لكنها آلام محيية شافية.. وأرى أن إخلاء الله وتنازله في التجسد لم يقلل أبدًا الفجوة بين الخالق والمخلوق.. لم أشعر بارتياح لهذه الفكرة.)  
-  الكاتب ضد فكرة أن يكون الله فوق التغيير.. في صفحة 56 يقول إن الصليب يكشف الألوهة ليس في غياب التغيير وإنما في كمال التغيير المسوق بالحب!
-   الكاتب ضد فكرة أن الله لكي يكون كلي لقدرة فهذا يعني أن يتحكم في كل الأمور. في صفحة 143 يقول أن أي أب مثلاً يقدر أن يتحكم في أبنائه الصغار بشكل كامل، لكننا لا نحب هذا النوع من الآباء. بل نحب الأب الذي مع قدرته الكاملة يترك لأبنائه حرية الاختيار حتى يتعلموا.. ويقول أن الله يفعل هذا حتى إذا تضمن الأمر مخاطرة بحدوث نتائج سيئة أو مأساوية..
-  ضد فكرة أن يكون الله هو علة كل شر يحدث في العالم.. لأن الله نور وليس فيه ظلمة البتة. يعتمد الكاتب على فكرة جميلة بأن يسوع المسيح هو الإعلان الكامل عن الله.. خلي جمال يسوع هو اللي يحدد نظرتنا لله، وليس خبراتنا الشخصية. وبالطبع المسيح جاء بالخير والشفاء والخلاص للناس، وبالتالي فالكاتب يرفض أن يكون الشر من يد الله أبدًا.  
كيف يفسر الشر إذن؟ هو يُرجع الأمر إلى 1- التعقيد الهائل الذي يغلف الكون الذي نعيش فيه. ويشرح ما يُسمى بتأثير الفراشة (butterfly effect).. ودي باختصار تعني أن حركة جناح فراشة في قرن سابق يكون لها تأثير في حدث يحدث اليوم.. وبالتالي لا نستطيع كبشر أن نعرف سلسلة الروابط المعقدة التي تؤدي إلى وقوع حدث معين (صفحة 184). وفي صفحة 151 يقول ”نحن نرى ذيل عملية طويلة معقدة وغير معروفة أو مفهومة.. نحن نشاهد فقط آخر الحركات في لعبة وهي أكثر تعقيدًا مما نفكر أو نظن.“
2- الأمر الثاني هو نظرية الحرب الروحية الكونية، فهو يرى أن عالم الملائكة والشياطين- بأعداد كبيرة لا نعرفها- ولها مطلق الحرية في الحركة، وبالتالي ”الحال في عالم الأرواح لا يختلف كثيرًا عن طبيعة الأحوال في عالمنا المادي“ (صفحة 124). نفس الدرجة من التعقيد هناك. ويأتي بشاهد مهم هو دانيال 10: 12- 13، الذي يقول أن الملاك تأخر عن دانيال 21 يومًا، لأنه كان في حرب مع الشياطين حتى جاء ميخائيل لإعانته، وبالتالي فإن نتائج هذه الحرب يؤثر أيضًا في ما يجري على الأرض.
بالطبع الفكرة الأولى تفرح المتشككين واللاأدريين، بالرغم أنه يدعو للتمسك بالرجاء وتثبيت النظر في المسيح، خلال مسيرتنا في هذا الكون المغلف بتعقيدات لا توصف، ومنغمسة في حرب كونية روحية حامية الوطيس. أمّا الفكرة الثانية تضع أهمية كبيرة لفكرة الحرب الكونية، مما جعلني أنا شخصيًا يشعر أن الشيطان يمثل ندًا أكبر مما نتصور لله، وأن الله منهمك طوال الوقت في هذه المعركة، وأن قدرة الله محدودة أمام هذه الحرب ونتائجها واحترام حرية الإرادة الممنوحة سواء للبشر أو الملائكة.
تعقيب مهم: أرى أن فكر جريجوري بويد يقترب من فكر مدرسة (open theism)، والمعتزلة في علم الكلام الإسلامي.
أولاً: اللألوهة المنفتحة بتعتمد على فكرة أن علشان يكون في علاقة حقيقية بين الله والإنسان.. يبقى الله بيتسجيب بقدر استجابة الإنسان.. في احترام مطلق لحرية إرادة الإنسان.. وبالتالي نتيجة العلاقة دي مفتوحة.. كل الاحتمالات مفتوحة. فيما معناه أن المستقبل غير معروف بشكل كامل لله، ممكن يكون عنده توقعات.. والله بيدعونا نشاركه في صناعة هذا المستقبل. طبعا في فكرة بتقول أن علم الله السابق لا يعني أن ما يعلمه سيكون محتم الحدوث.. لكن فكرة أخرى ترد أنه كيف يعرف الله مسبقًا بحدوث شيء إلا ويتحتم حدوثه! فكرة الألوهة المنفتحة بتقول إن كل الاحتمالات مفتوحة أمام الله..
ثانيًا: المعتزلة أسسوا مدرسة اسمها القُدرية libertarianism وليس القَدرية بفتح القاف. وهي بتقول أن الإنسان له قدرة وحرية كاملة، وأنه يخلق أفعاله. وكانوا بيردوا على المدرسة الجبرية اللي كانت بتنسب كل شيء لله، وإن الإنسان كالجماد. الشجرة تثمر دي جملة غلط، لأن الله الذي يجعلها تثمر، هكذا الإنسان قدرت له أفعاله وهو فقط يتممها.. ونشأت المعتزلة كرد فعل ونقيض لهذه المدرسة. المدرسةالجبرية تجعل من الله العلة الأولى لكل ما يحدث، من خير وشر، وهذا ما يرفضه جريجوري بويد، أما المدرسة الثانية فتجعل من المخلوقات ذوي الإرادة الحرة العلة الأولى فيما يفعلونه، وليس لله دخل في هذا، وما عليه سوى احترام حرية الإنسان، وهذا ما يؤكد عليه جريجوري بويد في أكثر من موضع في كتابه، قائلاً أنه من المستحيل أن يبطل الله حرية الإنسان؛ فهذا مستحيل منطقيًا، ولا يقدر الله عليه، مثلما لا يستطيع الله أن يخلق مثلثًا دائريا أو أعزبًا متزوجًا.