الخميس، 13 يوليو 2017

هرمنيوطيقا النصوص النبوية- 11

ملاحظات على استخدام كُتَّاب العهد الجديد للعهد القديم

§        كثيرًا ما نُصاب بالارتباك عندما نقرأ الاقتباسات التي استخدمها مؤلفو العهد الجديد من العهد القديم، ولأسباب عديدة. منها أنها اعتباطية  وتُقتبس خارج السياق الأصلي الذي قيلت فيه. بل وأحيانًا لا يعبر الاقتباس عن أي تنبؤ. فمثلاً كلام هوشع الذي اقتبسه متى "من مصر دعوت ابني"، لم يكن هوشع يتنبأ على الإطلاق بل كان يحكي تاريخ في الماضي. فكيف لوصف في الماضي أن يكون نبؤة عن حدث مستقبلي؟
§        سؤال آخر مهم هو أن المسيح نفسه في حادثة تلميذي عمواس قيل عنه: "فَقَالَ لَهُمَا: «أَيُّهَا الْغَبِيَّانِ وَالْبَطِيئَا الْقُلُوبِ فِي الإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ ! أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ؟» ثُمَّ ابْتَدَأَ مِنْ مُوسَى وَمِنْ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ يُفَسِّرُ لَهُمَا الأُمُورَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ. " (لوقا24: 25-27). فهل كان تلاميذ المسيح ممن كتبوا في أسفار العهد الجديد يتبعون منهجية وفهم المسيح نفسه للعهد القديم؟
§        السؤال الأهم هو: كيف نفهم العلاقة بين المعنى الذي قصده الكاتب في العهد القديم والمعنى الذي قصده الكاتب في العهد الجديد؟ هذا هو السؤال المحوري، لأننا أحيانًا عندما نرص النبوات التي تحققت في المسيح في العهد الجديد- لأسباب دفاعية، ولتبيان فرادة السيد المسيح كشخصية محورية في التاريخ البشري، كثيرًا ما نظن أن العلاقة بين القديم والجديد هي علاقة مباشرة وبسيطة، لكن الأمر غير ذلك.
§        ولكي نجيب على السؤال المحوري السابق؛ علينا أن نجيب أولاً على 5 أسئلة أخرى:
1-   هل مفهوم "المعنى الأكمل" sensus plenior ) ( يشرح استخدام العهد القديم في الجديد؟
2-   ماذا عن التفسير التيبولوجي "النماذجي" أو "حسب المثال" (typology
3-   إلى أي مدى كان كُتّاب العهد الجديد يراعون السياق الأصلي الذي قيلت فيه النصوص التي اقتبسوها؟
4-   هل كُتاب العهد الجديد كانوا يستخدمون مناهج تفسيرية يهودية لقرائتهم للعهد القديم؟
5-   هل نستطيع أن نتبع خطوات كُتاب العهد الجديد في شرحنا وفهمنا وتفسيرنا لنصوص العهد القديم كلما وردت في العهد الجديد؟
§        نحاول الإجابة على السؤال الأول ومسألة "المعنى الأكمل"، أي المعنى الذي قصده الكاتب الإلهي (الله)، ولم يكن واضحًا تمامًا للكاتب البشري (كاتب النص). لذا يسميه البعض "المعنى الأكمل الملهم من الله" (inspired sensus plenior). هذا المعنى يُفهم في أفضل الأحوال بالربط المباشر بالمعى الحرفي للنص حتى يكوِّن تطورًا متجانسًا للمعنى.
"المعنى الحرفي يجيب على سؤال: ماذا يعني النص وفقًا لقصد الكاتب الملهم بكتابته في مرحلته الخاصة من تاريخ خطة الله الخلاصية؛ أمّا المعنى الأكمل فهو يجيب على سؤال: ماذا يعني النص في سياق خطة الله الكاملة للخلاص. هذا المعنى الأخير هو ما أراده الله الذي يعرف خطة الخلاص من بدايتها إلى نهايتها وقصده في لحظة إلهام الكاتب البشري بكتابة النص".
هذا يضيف غنىً وأبعادًا أعمق للنص الكتابي بمجرد أن نضعه في السياق الأكبر للكتاب المقدس ككل. هناك دلالات  أكثر عندما نضع النص في ضوء انكشاف التاريخ. وهذا ليس معنى حرفيًا لأن الكاتب لم يكن يقصده بوضوح عند كتابته. بعض من ينتقدون هذا المفهوم يقولون: ربما ينسب البعض أشياء إلى الكاتب الإلهي اعتمادًا على هذه الفكرة بعيدة تمامًا عن النص الأصلي، خصوصًا عندما يتغير المشار إليه في الكلام.
§        للإحابة على السؤال الثاني المتعلق بالتفسير التيبولوجي، وهي فكرة قريبة من مفهوم المعنى الأكمل. لا يرى البعض التفسير التيبولوجي كأسلوب تفسيري بقدر ما هو منظور على التاريخ. التفسير التيبولوجي يُعرّف كالتالي: النص يشير إلى أحداث أو كيانات أو أشخاص ترسم ملامح أحداث أو كيانات أو أشخاص مستقبلية. يعتمد هذا المفهوم على 3 افتراضات: 1- الله متسيد على التاريخ، ويوجّه التاريخ بطريقة تعلن عن شخصه وصفاته. 2- هناك أنماط تاريخية تتعلق بأحداث أو كيانات أو أشخاص مهمة  ترسم ملامح تكرار أمور متشابهة في وقت لاحق.  3- التحقيقات المستقبلية تخفي eclipse وتتجاوز التحقيق السابق.
مثال على ذلك: خروج شعب الله من مصر كحدث تاريخ يرسم ملامح تدخل إلهي أعظم في مرحلة تاريخبة لاحقة. كذلك بعض الدينونات مثل الطوفان وحرق سدوم وعمورة.. وغيرها. الحدث أو الكيان أو الشخص الأول يسمى "مثال" أو نموذج (type) أما الحدث أو الكيان أو الشخص المستقبلي أو اللاحق يسمى "النموذج المقابل" (anti-type).
وبناءً على ذلك ينسب كُتّاب العهد الجديد يفترضون أن المسيح يُظهر في حياته وخدمته نمطًا يتطابق بشكل أو بآخر مع أحداث أو كيانات أو جماعات أو أفراد في العهد القديم، واعتبروها تحقيق أو تتميم لها. مثال على ذلك رأى يوحنا البشير أن عدم كسر رجلي يسوع على الصليب (يو19: 36) تتميمًا أو تحقيقًا للنصوص المقدسة التي تتعلق بخروف الفصح (خر12: 46؛ عد9: 12).
بعض المنتقدين على هذا المفهوم يقولون هل: الكاتب البشري الأول كان يدرك العنصر التيبولوجي المستقبلي، أم أنه تأكد له بأثر رجعي retrospectively ؟ البعض بالطبع يجيبون بأن الكاتب الأصلي كان لديه بعض المعرفة الباهتة عن هذا العنصر المستقبلي؛ ويؤكدون على ذلك بأن الأنبياء في العهد القديم كان لديهم وعد بالمسيّا من أسفار موسى الخمسة.
§        للإجابة على السؤال الثالث المتعلق بمدى مراعاة كُتاب العهد القديم للسياق الاصلي للنصوص التي اقتبسوها. البعض يقول مدافعًا أنهم كانوا يراعون السياق الأول ويفهموه جيدًا وهذا جعلهم يرون أن به دلالة ما تتعلق بالمسيح. بينما يدّعي البعض الآخر أنهم يقتبسون بطريقة متشظية atomistically  وينتزعون النص من سياقه لغرض ما لديهم وعلى هواهم. والبعض يدافع بأن لديهم سياق أو أطار أوسع. والبعض بأساليب دفاعية يجيب بالآتي:
o       ربما الكاتب في العهد الجديد لا يقصد تفسير نص كتابي قديم على الإطلاق. مثلما تقول لي كيف حال مديرك في العمل فأقول لك: "لأَنَّهُ أَمْرٌ عَلَى أَمْرٍ. أَمْرٌ عَلَى أَمْرٍ. فَرْضٌ عَلَى فَرْضٍ. فَرْضٌ عَلَى فَرْضٍ. هُنَا قَلِيلٌ هُنَاكَ قَلِيلٌ." (إش28: 10)، وإذا كانت الأمور عصيبة معه فربما أقول: "كُلَّ مَنْ يَدْعُو بِاسْمِ الرَّبِّ يَنْجُو" (يوئيل 2: 32). قد يستخدم كاتب العهد الجديد النص القديم كوسيلة للتعبير فقط؛ لأن الكاتب على دراية وتآلف كبير مع النص القديم.
§        للإجابة على السؤال الرابع المتعلق بهل استخدم كُتّاب العهد الجديد  أساليب تفسيرية كانت رائجة لدى علماء اليهود في زمانهم، مثل مجتمع قمران وفيلون ويوسيفوس. بالطبع إذا كانت الإجابة بنعم، فهذا يعطي نوعًا من المشروعية. لأن الكاتب في نهاية الأمر يريد أن يوصل معنى ما لقرائه المعاصرين له.
يرى كثير من الدارسين أن هناك تشابهًا بين تفسير كُتاب العهد الجديد للعهد القديم والتفسير المدراشي للعلماء اليهود. باختصار التفسير المدراشي midrash هو منهج تفسيري يسعى للتعمق في فهم النص بطريقة غير سطحية والغوص في روح النص؛ للوصول إلى تطبيقات معاصرة للقراء.  
من ناحية أخرى، هناك أسلوب البيشير (pesher)، واشتهر به مجتمع وأدبيات قمران. كلمة (pesher) تعني تفسير. كان هذا المجتمع يرى أنه شعب الله الحقيقي ووحدهم الذين ينتظرون المجيء الوشيك لملكوت الله، ويفسرون النصوص الكتابية على أنها تجد تحقيقًا واتمامًا في تاريخهم المعاصر. ويعتقدون بأن هناك معنى اسخاتولوجيًا مخفيًا في كلام الأنبياء يفسرها لهم "معلم البر" صاحب أفضل فهم للتوراة.
أسلوب آخر هو التفسير الرمزي اللأليجوري allegory  ويعني أن هناك معنى دفين مستتر تحت المعنى المباشر للنص. لا يُنكر المعنى الحرفي المباشر، ولكنه لا يكون مهمًا. المثال الأشهر لذلك هو غلاطية 4: 21-31 حيث يشبه بولس هاجر بجبل سيناء وعبودية الناموس ، بينما سارة تشبه شعب الوعد الذي ينتمي لأورشليم السمائية. يستخدم بولس هاتين الشخصيتين بطريقة رمزية ليؤكد على فكرة لاهوتية لديه.
البعض يقول إن كُتاب العهد الجديد والسيد المسيح نفسه استخدموا هذه الأساليب التفسيرية حتى إذا لم تكن تناسبنا نحن الآن، أو أننا نراها غريبة بعض الشيء. وأن المسألة التي تحتاج إلى دراسة هي مدى استخدامهم لهذه الأسايب وليس استخدامها من عدمه. في حين ينكر البعض الآخر استخدامها، وينسبون الفضل كله لإعلان إلهي جديد أعطي لكُتاب العهد الجديد.
§        للإجابة على السؤال الخامس والأخير المتعلق بهل بمقدورنا أن نتبع خطوات كُتاب العهد الجديد في فهمنا وتفسيرنا للعهد القديم. ذكرنا أن البعض يبرئ كُتاب العهد الجديد من استخدام أساليب تفسيرية معاصر لهم مثل المدراش والبيشير والأليجوري. ويقولون أنهم استخدموا الاسلوب التفسيري التقليدي الذي يعتمد على الخصائص اللغوية والسياق التاريخي للنص (grammatical-historical analysis).
البعض الآخر يقر بأن كُتاب العهد الجديد كان لهم دور متفرد وسلطان ملهم في تفسيرهم للنصوص القديمة. بجانب درجة ما من استخدام الأساليب المعاصر التي ذكرناها. لكننا لا نملك هذا السلطان، وبالتالي ليس من حقنا استخدام هذا الأسلوب. يكفينا أن نفهم طريقتهم في فهم النصوص. لسنا مطابين بتطبيق نفس الأساليب، لكننا مطالبون بالاعتراف بالسلطان الرسولي.
§        ما أريد أن اقوله هنا، أن موضوع استخدام العهد القديم في العهد الجديد من أصعب الموضوعات وأوسعها جدلاً. وليس العلاقة بين القديم والجديد مباشرة وبسيطة، بل علاقة مركبة. فقد يكون الاقتباس:
o       ليس للتفسير بل كوسيلة للتعبير.
o       أو اقتباس للحدث القديم مع تطبيق مختلف معاصر للكاتب في العهد الجديد.
o       أو تحقيق لحدث قديم على طريقة التفسير التيبولوجي typology.
o       أو تحقيق جديد لحدث قديم على طريقة التفسير الرمزي allegory.
o       أو تحقيق لحدث قديم بعد استيضاح سياق الخطة الإلهية للخلاص الشاملة للكاتب في العهد الجديد.
o        أو استخدام لأسلوب تفسيري معاصر لتوكيد نقاط لاهوتية معينة للقراء المعاصرين للكاتب.
o       أو فهم جديد بإعلان إلهي جديد تفرد بهذه العطية كُتاب العهد الجديد.
o       أو مزيج من هذه الاحتمالات.
o       أو كتحقيق مباشر لنبؤة، بكل تأكيد، فهذا أمر يتفرد به المسيح كشخصية محورية في قلب التاريخ ليس لها نظير. 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق