الأحد، 23 فبراير 2020

كتب عن اللاهوت المستيكي وديونسيوس الأريوباغي


هاستعرض معاكم بعض الكتب اللي تعرضت للاهوت المستيكي وشخصية مهمة في هذا الموضوع وديونسيوس الأريوباغي والكتابات المنسوبة ليه.

في البداية.. عندنا في موسوعة ”تاريخ الفلسفة- فريدريك كوبلستون“ الجزء الثاني والصفحات من (129- 140)، يستعرض الكاتب تأثر ديونسيوس بالفلسفة الأفلاطونية المحدثة، ومحاولة ديونسيوس للتوفيق بين الرافدين: الفسلفي واللاهوتي دون إنكار عقيدة التجسد.. لأن أتباع الأفلاطونية المحدثة أنكروا بالطبع التجسد.


كذلك في كتاب ”تاريخ الفلسفة الأوربية في العصر الحديث“ خصص الكاتب يوسف كرم الفصل الثالث عن شخصية ديونسيوس الأريوباغي (ص53- 57).


في كتاب ”اللاهوت الصوفي حسب ق غريغوريوس النيصي“، يتعرض كاتبه عن تأثر غريغوريوس النيصي بالفلسفة الأفلاطونية المحدثة أيضًا، وبالأخص في أعماله: تفسير سفر النشيد، وحياة موسى، وعن النفس والقيامة. كما يستعرض الكاتب كيف وردت كل مصطلحات الصوفية عند النيصي، مثل: السر، قدس الأقداس (بمعنى أسمى درجات الصلاة)، العتمة أو الظلمة الإلهية، والحب (العشق)، الانحطاف (الدهش)، الانعتاق من الذات، وسُكر الروح المعتدل.. إلخ.


في كتاب ”بحث في اللاهوت الصوفي- فلاديمير لوسكي“، في الثلاث فصول الأولى بالأخص يتعرض لكتابات ديونسيوس الأريوباغي وحديثه عن لاهوت النفي (الأبوفاتي) ولاهوت الإثبات (الكتافاتي)، وتأثره بذلك بآباء الكنيسة السابقين له مثل النيصي وإكليمندس السكندري، والنزيانزي. ويلفت الانتباه للتشابه بين ديونسيوس وأفلوطين في كتابه التاسوعات (ص 24)، وكلامه عن الانعتاق من المحسوسات. كما يشرح لوسكي الفرق بين صوفية أفلوطين، والصوفية المسيحية.

في كتاب ”مملكتي: من فهم المسيحية إلى مسيحية الفهم“ للكاتب أمجد رفعت، بيقدم بعض الفصول عن فكرة اللاهوت الصوفي أو المستكي. المميز في كتاب أمجد أنه بيربط المفاهيم اللاهوتية بالأفكار الفلسفية القديمة والحديثة ببراعة شديدة. وهتلاقيه جايب اقتباسات لابن عربي عن اللهوت التنزيهي، وأن ”الحق يُمتنع عن التصور“ (101)، ووصف ابن عربي بأن العلوم اللاهوتية جميعها علوم وثنية! (102)، وده بالمناسبة نفس مفهوم ق غريغوريوس النيصي بان كل تصور عن الله أو مفهوم عن الله يخلق وثنًا. ليه؟ ببساطة لأن الله غير موصوف، وغير مدرك، فالكلام عن الله بيحد الله بشكل أو بآخر.
وفي فصل بعنوان ”اللاهوت المسيحي لاهوت صوفي“ يتعرض لآراء آباء زي النزيانزي، وإكليمندس السكندري، وق هيلاري اسقف بواتييه اللي بيقدم فكرة أننا بنقترب لله بالتقوى، وليس باللغة لقصورها وليس بالعقل لمحدويته (112)، كما يميز هيلاري الفريق بين الفهم والإدراك. ثم يناقش الكاتب في فصل آخر لغة الموسيقى كوسيلة للتعبير عما لا نستطيع التعبير عنه بالألفاظ. ثم يصف هذا الرحلة الصوفية الارتقائية نحو الله بأنها ”شوق لا يُنتقص بل يزيد كلما ارتوى“، وفي فصل آخر يتحدث عن صوفية المعرفة يميز فيه بين ”الفكر“ و”الفهم“.. ويقتبس من مار أغوريس بأن ”الفهم موقعه القلب، والفكر موقعه العقل“، وبالتالي القلب بمفهومه الواسع هو وسيلتنا لإدراك الله وليس العقل.
ثم يميز في فصل آخر بين الصوفية المسيحية والحلولية أو وحدة الوجود أو البوذية- وفكرة الفناء في الله عند الحلاج، ويؤكد أن الصوفية المسيحية تنتهي بالاتحاد بالله بدون إلغاء ”الأنا“ فعند المسيح لا يوجد ”محو الذات“ (241). ثم في فصل آخر عن فلسفة كيركيجارد الذي يعلمنا أن ”الإنسان يكتشف الحقيقة كلما اشتدت رغبته- وليس بمقدار فهمه. لأن الحقيقة تقوم في العلاقة وليس في الموضوع“.  

في كتاب ”اللاهوت الباطني“ يقدم د جورج فرج أحدث الكتب اللي بتتناول جوانب هذا الموضوع. ويقدم دراسة عن ظاهرة الكتابات المنحولة والكتابات مجهولة المؤلف (ص13- 18)، وهذا الجزء يعتبر تنقيح لما أورده سابقًا في كتاب له بعنوان ”الاحتكام للآباء“. لكن في هذا الكتاب يتعرض تفصيليًا لشخصية ديونسيوس الأريوباغي، ويخبرنا أن أول من قدم كتاباته هو ق ساويرس الأنطاكي (20)، ويذكر تشكك البعض في قبولها في البداية وقبولها بعد ذلك سواء من البيزنطيين مثل مكسيموس المعترف، وفي الغرب توما الأكويني.
يثم يتعرض لمن اعترضوا على نسبتها لديونسيوس الأريوباغي تلميذ بولس الوارد في سفر الأعمال، مثل هيباتيوس من أفسس، وفوتيوس البطريرك. ثم يحدد أنه يوجد ”شبه إجماع أن ديونسيوس هذا سوري الجنسية، لا خلقدوني، دون هذه الكتابات بين 485م و528م“. ثم يستعرض الكاتب كتابات الأريوباغي مع شرح مختصر لمحتوياتها.
ثم نأتي لأهم ما يميز الكتاب وهو ترجمة رائعة لنص مهم بالرغم من قصره، وهو مقالة ”اللاهوت المستكي“، مع شرح مفصل لأفكارها ومنهجية كاتبها في شرح اللاهوت السلبي/ النفي/ الابوفاتي أو التنزيهي، واللاهوت الإيجابي/ الثبوتي/ ولماذا وكيف نخاطب الله أحيانًا بما ليس فيه (النفي)، وبما هو فيه أو بما أُعلن عنه في الوحي المقدس (الإيجاب). فضلاً عن إجابة الكاتب لبعض الاعتراضات التي تقال عن أفكار الأريوباغي مثل: هل كان لاأدريًا؟ هل علم بوحدة الوجود؟ هل نتحد بالله وكيف؟ 

الثلاثاء، 18 فبراير 2020

سر تجسد الرب- ق أمبروسيوس



ترجمة د جورج عوض، بمعرفة المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، في 127 صفحة (قطع صغير)

في ترجمة تانية بمعرفة أسرة ق ديديموس الضرير- أسكندرية. 
في الكتاب ده ق أمبروسيوس بيرد على آراء الكثير من المهرطقين، اللي بيعتبرهم زي قايين، من حيث تقدمتهم المرفوضة من الله. كمان ق أمبروسيوس بيرفض فكرة تشبيه الابن بالكلمة المنطوقة (49)، وبالطبع في آباء سابقين كانوا شبهوا ولادة اللوغوس من الآب بولادة الكلمة أو النطق من العقل أو الفكر.. لكن التحفظ اللي حصل بعد كده أن النطق في النهاية ليه طبيعة مادية.. أمبروسيوس بيقول ”يجب أن نخترس هنا أننا ربما ندخل قضية النطق المادي، فالله كائن غير جسدي (لا مادي)“ (ص 50)، من ناحية تانية الكلام كثير.. أما الكلمة ”لا عدد له ولا درجة“ (ص 50).
من الأفكار اللي بيناقشها الكتاب ده برضو هي الآلام والانفعالات اللي تعرض ليها المسيح أثناء تجسده، وطبعًا زي آباء كتير بينسبوا الآلام والانفعالات للتدبير التجسد.. وللتجسد.. وبيقول: ”لأنه هو تألم ولم يتألم، مات ولم يمت، قُبر ولم يُقبر، قام ولم يُقم، لأن جسده قام، لأن هذا الذي سقط قام.. قام بحسب الجسد الذي أُميت وقام. لم يقم من جهة الكلمة الذي لا يطاله فساد أو انحلال..“ (ص 63)، و”لم يتألم من جهة ألوهية الكلمة غير المتألم“، حتى تجربة الترك على الصليب يقول ”لأنه هُجر من جهة الجسد، في حين أنه من جهة الألوهية لم يكن ممكنًا أن يُترك ولا يُهجر“.
في الفصل 9: 96 بيقول ق أمبروسيوس إن البعض بيقول إن الآبن مختلف عن الآب بحجة إن الآب ليس له علة، فوجوده من ذاته، أما الابن فعلته هو الآب، وبالتالي وجوده ليس من ذاته. الناس دي قالت في (97) إن غير المولود (الآب) مختلف عن المولود (الابن).. بيرد أمبروسيوس بأن كلمة مولود ليست خاصية في الطبيعة not a Property of nature ولكنها توصيف للتوالد signification of generation. وبيقول لو عايز أعبّر عن الطبيعة الإلهية هاقول ”الإله الحقيقي“ لكن لما أقول ”الابن“ فأنا أصف المولود.. ولما أقول "الآب" فأنا أصف مَنْ ولد. أمبروسيوس بيحاول يثبت وحدة الجوهر بالرغم من البدايات المختلفة  different beginnings بالنسبة لكل من الآب والابن بالأمثلة الثلاثة التالية:
-       مثال (1) بيقول إن الطيور مرة اتقال عنها "ليطر طيرًا" (4: 20)، ومرة جبلت من الأرض (1912)، ومرة بالإكثار (التكاثر) (1: 22). بدايات مختلفة للطيور لكن لها نفس الطبيعة: نفس الجوهر.
-       مثال (2) جسد ربنا يسوع نفسه أتى عن طريق الروح القدس وإحنا جسدنا بيأتي بالتكاثر -ومع ذلك جدس المسيح وجسدنا ليه نفس الطبيعة. إذًا علة التوالد مختلفة، لكن نفس الطبيعة.
-       مثال (3) آدم نفسه -جُبل من الأرض- لكنه شارك طبيعته مع أولاده بالتكاثر حتى يشاركوه في نفس الجنس- وبالتالي الوالد هنا (آدم) له بداية مختلفة عن (أولاده). لكن في النهاية ليهم نفس الطبيعة. أمبروسيوس بيوصل لنتيجة مفادها هي: ”عدم تماثل البداية لا يضر أبدًا تماثل الجوهر“ (فقرة 105).
 في الفصل العاشر بيناقش أمبروسيوس البعض اللي بيقولوا إن الابن مشابه (Like) فقط للآب لكنه مش من ذات الجوهر. هنا بيقول لدول إن الأشياء اللي من جوهر مختلف لا يمكن يتشابهوا- حتى لو تشابهوا ظاهريًا فقط؛ لأن اللبن والثلج والبجعة البيضاء كلها ليها لون أبيض (مظهر خارجي) لكن من الواضح أنهم  مختلفين من حيث الطبيعة. وبيقول: ”إن اختلاف الطبائع لم يتأثر بتماثل المظهر“ (فقرة 107). وبالتالي اللي بينكروا وحدة الجوهر مش من حقهم يقولوا إن الابن شبه الآب (108). ولو قالوا ده شبه في الشكل أو اللون- فبيقولهم إن دي خصائص الجسد وتعبّر عن التركيب- وربنا روح وغير مركب وغير منظور. ولو شبيه ليه في بعض الأجزاء فقط -كده تكون صورة الله مركبة لأنها قابلة للتجزأ.
بيعارض ق أمبروسوس هرطقة أخرى بتقول إن جسد المسيح من نفس طبيعة اللوغوس.. المهم أنه قدّم آيات تؤكد إن الجسد من مريم -وبيشرح إن المسيح قدّم (جسده ذبيحة)- ولم يقدّم لاهوته ذبيحة؛ لأن اللاهوت لم يخطئ. وبيقول كده: ”إنه قدّم التقدمة مما يخصنا. وإلا ما السبب في تجسده إذا لم يُفدى الجسد الذي أخطأ بواسطة المسيح؟“ (فقرة 78). كمان المترجم د. ﭼورﭺ بيدعم نفس الفكرة باقتباس من ق. أثناسيوس في رسالته إبيكتيتوس: ”لم يأتِ اللاهوت لمساعدة نفسه حتى يلبس ما هو من نفس جوهره، كما أن الكلمة لا يخطئ في شيء وهو يفتدي خطايا الآخرين، حتى يصير جسدًا ويقدّم ذاته ذبيحة لأجل نفسه ويفتدي نفسه“ (صفحة 79، حاشية رقم 1). الحقيقة الاقتباسين دول أكدوا لي إنه مفيش حاجة اسمها ”التجسُّد غير المشروط“ على الأقل عند أثناسيوس وأمبروسيوس! اللاهوت لم يقدم ذبيحة لنفسه.. الذبيحة هي جسد اللوغوس لأن الجسد هو اللي أخطأ. فماذا لو لم يخطىء آدم؟ الإجابة: لن يقدّم اللاهوت أي ذبيحة؛ لأنه لم يخطئ! هذه حُجة أمبروسيوس وأثناسيوس.

الأربعاء، 12 فبراير 2020

تفسير سفر المزامير- ق أثناسيوس (ج2)



ترجمة د جورج ميشيل، مراجعة د جورج عوض
بمعرفة المركز الأرثوذكسي، 143 صفحة (قطع صغير)
في البداية عاوز أقول بالنسبة للقديس اثناسيوس، يسقط البعض في فخ أنه عاوز يطلع كل حاجة من كتابه العمدة ”تجسد الكلمة“، واللي هو بلا شك كتاب مهم جدًا. لكن لازم نشوف الكتابات الأخرى؛ لأن كل كتاب له مناسبته وله غرضه من الكتابة. الآن بالنسبة  لكتاب تفسير المزامير، يمكنك قراءة تدوينة أو ريفيو عن الجزء الأول في الرابط التالي (https://christopraxy.blogspot.com/2018/09/blog-post_66.html). أما الجزء الثاني فلدي بعض الملاحظات استعرضها في الأسئلى الأربعة التالية والإجابة عليها، كما يلي:
س1: هل تأثر ق أثناسيوس بالفسلفة اليونانية وبالأخص الأفلاطونية؟
ج1: التأثر بالفسلفة الأفلاطونية يظهر بوضوح في كتابه ضد الوثنيين، اقرأ ملخص للكتاب على نفس المدونة، لكن في تفسير المزامير لاحظت مواضح التأثر بالفلسفة اليونانية كما يلي: 1- في تفسيره لمزمور 31 ”لا تصيروا كالخيل والبغل الذين لا فهم لهم“، يقول إن الآية تشير إلى ضرورة ألا نسلم للأهواء غير العاقلة (ص 91). ونفس الشيء يتكرر في تفسر مزمور 35 وآية ”الناس والبهائم تخلصهم يارب“، إذ يقول إن الناس هو اليهود، والبهائم هم الأمم ”الذين لم يكن لديهم المعرفة الصحيحة“، والناس ”يحتفظون بصفة العقلانية، أمّا البهائم فهم من ينحنون إلى الأرض ويرعون الأساس؟؟ الأرضي“ (في غموض في ترجمة الأساس دي.. ص109). المهم هنا بتظهر أفكار أفلاطون عن القوى الشهوانية والغضبية في الإنسان.. وإن الإنسان إذا استولت عليه القوى الشهوانية صار كالخنزير، وإذا استولت عليه القوة الغضبية صار كالكلب. وبالتالي اذا استسلم وغُلب الإنسان من هذه القوى يصبح اقرب إلى البهيمة منه إلى الإنسانية.
2- مرة أخرى في تفسر مز 32 يفسّر القيثارة ذات العشرة أوتار بأنها الجسد، و5 حواس و5 أفعال للنفس، ”لكل حاسة فعل تقوم به“ وهذه بلا شك مصطلحات فلسفية أرسطية عن الحس والعضو الحاس. 3- في تفسير مزمور 33 يفسر العظام بأنها قوى النفس. 4- وفي مزمور 32 يتحدث عن أن أفكار الله هي الترتيب المتناغم للكون.. وبالطبع من المحتمل جدًا أن الأفكار هنا هي الأفكار أو المثل الأفلاطونية التي كان لها وجود مستقل عند أفلاطون لكن التوجه المسيحي هو أن تكون هذه الأفكار في عقل الله (اللوغوس) الذي يحفظ تناغم الكون.
5- في تفسير مز 36 يقول ق أثناسيوس إن تنعم البار هو ”عدم التأثر الذي للنفس“، وهو يربط عدم التاثر هذا ”بالمعرفة الحقيقية للكائنات“ (ص114). نفس الفكرة ترد في تفسير مز 38 حيث يقول إن الراحة من الله هي ”عدم تألم النفس“، و”تقترن معها المعرفة الحقيقة للكائنات“. أغلب الظن إن الإشارة هنا هي لمفهوم ”الأباثيا“ وهو مصطلح فلسفي يوناني، وتعرض له الفلاسفة من أمثال شيشرون وسينيكا. في كتاب صدر حديثًا بعنوان ”من النيل إلى الرون“ للأب مارك شريدن وفصل بعنوان ”الجدل حول مفهوم الأباثيا“ نقرأ عن هذا المصطلح تفصيليًا وكيف صار محل جدل في الغرب، بخلاف الشرق، إذ رأى بعض الآباء في الغرب أنه نوع من التشبه بالله وبمعنى العصمة من الخطأ.. لكن المعنى المتوازن يعبر عن السلام الذهني الداخلي أو السكينة. هناك حاشية في التفسير تفيد بأنه ليس معناه ”انعدام الشعور“، وبالفعل ق أغسطينوس أحد الذين دافعوا عن المصطلح.. مستشهدًا باضطراب المسيح ذاته في بستان جثيماني..
6- في تفسير مزمور 38 يظهر ق أثناسيوس الثنائية الأفلاطونية عن الصورة والمثال (الحقيقة) بشكل واضح. فهو يتقرأ آية 6، 7 كالآتي: ”كل الأشياء باطلة.. لأنه بالصورة يسلك الإنسان. بل باطلاً يضطرب“. ثم يعلق ويقول إنه إذا توافق الإنسان مع الصورة وليس الحقيقة، فإنه قد أطلق حقًا على هذه الحياة بأنها باطلة.. ”لأننا لا نعيش الحياة الحقيقية ولكن كما إلى صورة في خيالنا“. ويؤكد نفس المعنى مرة أخرى ”أي أننا لا نحيا الآن الحياة الحقيقية، ولكن تلك الموجودة في صورة نتخيلها“ (ص 126، 127). الامثلة الستة السابقة تعبر بوضوح عن استخدام (تعميد أو مسحنة) ق أثناسيوس لمصطلحات عصره الفلسفية.
س2: هل ينادي ق أثناسيوس بالعقوبة والدينونة والغضب، أم بغير ذلك من الأفكار التي تقول إن الله لا يعاقب ولا يدين ولا يغضب، وأن الجميع سيخلصون في النهاية أو ما يعرف بالأبوكتاستاسيس أو الخلاص الشامل؟
ج2: على مزمور 17 يعلق على آية ”من نسمة ريح غضبك“ قائلاً ”الله لا يعاقب الخطاة في الحال، لكنه يسبق بالتكلم عن غضبه وعن العقوبات“ (ص 24). وعلى مزمور 20 يقول عن الخطاة أنهم في المجيء الثاني سيكونون في النار حينما يأتي للمجازة بحسب الأعمال (ص45). وعلى آية ”يارب بغضبك تقلقهم وتأكلهم النار“ يقول إن ”الغضب يعلن العقوبة التي ستُوجب عليهم بسبب تمردهم عليه“ (ص 46). وعن مز 24 يشرح ق أثناسيوس إن الجمع بين الرحمة والعدل (الحق) ليس بدعة.. ويعلق على آية ”جميع طرق الرب رحمة وحق“ بأن ”كل من يتغذى على الأقوال الإلهية، يتعلم منها أن عمل الخلاص الذي للمخلص يسوع إلهنا سيقترن بالرحمة والحق... الرحمة لمن تابوا.. ومن عاشوا في التعدي ولم يتوبوا يفرض عليهم العقوبة المنصوص عليها بوجب الحق“ (ص 67).
ويؤكد نفس المعنى في مز 32 ”إن الرب يجب أن يصنع الرحمة مع التائبين، ولكنه يحب العدل أيضًا لغير التائبين“، وأن ”النبي يقدم الرحمة والعدل، اللذين من خلالهما يقيس الله ويزن قيمة كل إنسان“ (ص 93). أمّا عن الجحيم ففي تعليقه على آية ”الرب يضحك به“ أي الشرير، في مز 36، يقول إ ن الله يضحك لأنه يعرف أنه ”عيَّن اليوم الذي فيه سيعطي لواحد الحياة الأبدية كمكافأة، وللآخر الجحيم الأبدي“ (ص 115).
س3: هل تأثر ق أثناسيوس بأمير الشراح أوريجانوس؟
ج3: لاحظت أن ق أثناسيوس يشير إلى ما يُسمى ب ”القوى العقابية“ التي يرسلها الله لكي تساعد الأبرار (ص 101).. ويقصد الملائكة التي تنفذ عقوبات معينة على الأشرار.. وقد استخدم أوريجانوس نفس التعبير (مش فاكر المرجع للأسف).  
س4: هل وجدت شيئًا يتقاطع مع مناهج التفسير الحديث؟
ج4: في تعليقه على مز 17 ”تجعلني رأسًا للأمم“ يعلق ق أثناسيوس ويقول إننا نعرف أن داود لم يملك على الأمم.. وبالتالي دي نبوة ”تكتمل في شخص من سيولد من داود بحسب الجسد“ (ص 32). المفاجأة بالنسبة لي أن ق أثناسيوس يؤكد هذا التفسير بقوله أن المسح لُقب بداود بحسب حزقيال (يوجد خطأ من المترجم لأنه قال حزقيا).. والشاهد المشار إليه هو حزقيال 34: 23 ”واقيم عليها راعيًا.. فيرعاها عبدي داود“.. في المناهج التفسيرية الحديثة يسمون هذه الظاهرة ب ”الاستبدال البلاغي“ (antonomasia) بمعنى استبدال اسم شخص بآخر، وقد ورد ذلك في 2مل 9: 31 عن ياهو الذي نادته إيزابل يا زمري.. (للمزيد انظر ”جماليات النص الكتابي، عادل زكري، إصدار مدرسة الأسكندرية، ص 29، 30).   

الأحد، 2 فبراير 2020

ملكوت الله في قراءات أحد الشعانين


الفكرة المحورية في تعاليم المسيح هي الإعلان عن ”ملكوت السموات“ (باسيليا تو ثيؤ). يقول متى ”مِنْ ذلِكَ الزَّمَانِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يَكْرِزُ وَيَقُولُ: «تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ»“ (مت4: 17). كذلك ملخص رسالة الرسل ”وَفِيمَا أَنْتُمْ ذَاهِبُونَ اكْرِزُوا قَائِلِينَ: إِنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ“ (مت 10: 7). وهي رسالة دورتي عيدي الصليب والشعانين حيث يملك المسيح على الصليب. كما يظهر كالتالي: 


- إنجيل الهيكل الكبير: ”قَبْلَ أَنْ دَعَاكَ فِيلُبُّسُ وَأَنْتَ تَحْتَ التِّينَةِ، رَأَيْتُكَ. أَجَابَ نَثَنَائِيلُ وَقَالَ لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ، أَنْتَ ابْنُ اللهِ! أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!“ (يو1). والمرد يكون: أوصانا في الأعالي.. هذا هو ملك اسرائيل.
- إنجيل الملاك غبريال (البشارة): ”هذَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ“ (لو 1).
- إنجيل الملاك ميخائيل: ”يشبه ملكوت السموات: كنزًا مخفي في حقل... تاجر لألئ حسنة.. شبكة مطروحة في البحر“.
- إنجيل مار مرقس: ”اشْفُوا الْمَرْضَى الَّذِينَ فِيهَا، وَقُولُوا لَهُمْ: قَدِ اقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ اللهِ“ (لو 10). ونلاحظ أن المزمور بيقول: الرب يعطي كلمة للمبشرين بقوة عظيمة، ملك القوات هو المحبوب (مز67).
- إنجيل الرسل: بعد أسماء الرسل ”اذْهَبُوا بِالْحَرِيِّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ. وَفِيمَا أَنْتُمْ ذَاهِبُونَ اكْرِزُوا قَائِلِينَ: إِنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ“. (مت 10)
- إنجيل الأنبا أنطونيوس: ”ابْنَ الإِنْسَانِ سَوْفَ يَأْتِي فِي مَجْدِ أَبِيهِ مَعَ مَلاَئِكَتِهِ، وَحِينَئِذٍ يُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ عَمَلِهِ“ (مت 16).
- إنجيل يوحنا المعمدان: والكلام على أن الأعظم في ملكوت السموات أعظم من يوحنا أعظم مواليد النساء. وبعض التفاسير تشير إلى أن الأصغر المقصدود هنا هو المسيح..
- إنجيل الباب البحري: بيتكلم عن أن اليهود سيطرحون خارج الملكوت.. وفي ناس ستأتي ”مِنَ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِب وَيَتَّكِئُونَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. وَهُوَذَا آخِرُونَ يَكُونُونَ أَوَّلِينَ، وَأَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ“ (لو13).
- إنجيل الباب القبلي: بيتكلم عن دخول المسيح أورشليم في مت 21 وبيقول ”قُولُوا لابْنَةِ صِهْيَوْنَ: هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِيكِ وَدِيعًا، رَاكِبًا عَلَى أَتَانٍ وَجَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ“ والناس كانوا بيصرخوا أوصانا لابن داود..  مبارك الآتي باسم الرب!“  
خلفية العهد القديم:  
بسقوط آدم وحواء نصّب إبليس نفسه ”رئيس هذا العالم“.. ولما ربنا أخرج شعبه من مصر قالهم هتكونوا لي  شعب وأنا أكون ملككم ”أمة مقدسة ومملكة كهنوت“ (خر19). لكن لما تملكوا الأرض طلبوا من جدعون أن يتسلط عليهم فرفض.. وألح الشعب مرة أخرى في زمن صموئيل، ربنا قال لصموئيل: ”لَمْ يَرْفُضُوكَ أَنْتَ بَلْ إِيَّايَ رَفَضُوا حَتَّى لاَ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ“ (1صم 8). قبل الله رغبة الشعب! شاول ربنا رفضه، ثم صار داود نموذج أي ملك يرضى عنه الله. ثم بسبب عصيان الشعب وفساد سليمان نُزع الملك عن الشعب.. بعد كده الأنبياء جم يقولوا هينبت غصن من جذع يسى وهيملك على كرسي داود الى الأبد.. ويعمل مملكة عظيمة ويقيم خيمة بيت داود الساقطة.. كتير من الآباء زي يوستين الشهيد مثلا.. لم يفوتهم التأكيد على النقطة دي.. وإثبات ان الملك نُزع عن اليهود وكان آخر ملك هو هيرودس الكبير واللي مكنش يهودي الأصل! وجاء المسيح في هذا الوقت.. لاحظ كلام تلميذي عمواس ”كُنَّا نَرْجُو أَنَّهُ هُوَ الْمُزْمِعُ أَنْ يَفْدِيَ إِسْرَائِيلَ. وَلكِنْ، مَعَ هذَا كُلِّهِ، الْيَوْمَ لَهُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ مُنْذُ حَدَثَ ذلِكَ“ (لو 24). وسؤال التلاميذ له ”يَا رَبُّ، هَلْ فِي هذَا الْوَقْتِ تَرُدُّ الْمُلْكَ إِلَى إِسْرَائِيلَ؟“ (أع 1).
هنلاقي واحد زي دانيال يحلم بتمثال راس ذهب، وصدر.. وساقين.. ويقول: ”فِي أَيَّامِ هؤُلاَءِ الْمُلُوكِ، يُقِيمُ إِلهُ السَّمَاوَاتِ مَمْلَكَةً لَنْ تَنْقَرِضَ أَبَدًا، وَمَلِكُهَا لاَ يُتْرَكُ لِشَعْبٍ آخَرَ، وَتَسْحَقُ وَتُفْنِي كُلَّ هذِهِ الْمَمَالِكِ، وَهِيَ تَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ“ (دا 2). وإشعياء قال أيضًا ” لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنًا، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيبًا، مُشِيرًا، إِلهًا قَدِيرًا، أَبًا أَبَدِيًّا، رَئِيسَ السَّلاَمِ“ (إش 9). في العهد الجديد تحققت كل هذه الوعود المسيانية بهذه المملكة.. وقد جاء الملك حتى يؤسس مملكته.. حتى نهاية حياة المسيح على الصليب كتب بيلاطس ”هذا هو ملك اليهود“. وسأله ”هل أنت ملك؟“ وقاله مملكتي ليست من هذا العالم. وده يعني أن ملكوت الله ليس مكانيًا..
أحيانًا المسيح كان بيتكلم عن الملكون كأنه حدث مستقبلي أو كحقيقة فعلية ”قد أقبل عليكم ملكوت الله“ (لو11). ”ها ملكوت الله داخلكم!“ (لو 17). في لاهوتيين كتير بيقسموا الموضوع ل 3 مراحل: 1- أفتتاح ملكوت السموات بالتجسد. 2- امتداد الملكوت في عصر الكنيسة، 3- ثم تتويج في الأيام الأخيرة كما نقرأ في سفر الرؤيا 11: 15 ”قَدْ صَارَتْ مَمَالِكُ الْعَالَمِ لِرَبِّنَا وَمَسِيحِهِ، فَسَيَمْلِكُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ“. وبيعبروا عن ملكوت السموات بلغة already/ but not yet.. عيشوا المستقبل من دلوقت.. بشخصية أبناء الملكوت.   

لاهوت المرض والموت في قراءات سر مسحة المرضى



مقدمة
الكنيسة هي مستشفى كما وصفها ق يوحنا الفم. لذلك على الكنيسة أن تقوم بدورها في خدمة أعضائها في حالات المرض والموت. فيما يلي استعراض للفكر اللاهوتي عن المرض والموت ورؤية الكنيسة في التعامل معهما كما يظهر في القراءات الليتورجية لسر مسحة المرضى بحسب طقس الكنيسة القبطية.
صلاة القنديل
تمثل مسحة المرضى أحد الأسرار السبعة للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ويصلي الكاهن فيها 7 صلوات على المرضى ويدهنهم بالزيت المقدس. ويسمى هذا الطقس بصلاة القنديل؛ لأن الكاهن يصنع 7 فتايل من القطن في إناء من الزيت. ويشعل واحدة فواحدة في بداية كل صلاة. مارس الرسل هذا السر كما يظهر في إنجيل مرقس: ”فَخَرَجُوا وَصَارُوا يَكْرِزُونَ أَنْ يَتُوبُوا. وَأَخْرَجُوا شَيَاطِينَ كَثِيرَةً، وَدَهَنُوا بِزَيْتٍ مَرْضَى كَثِيرِينَ فَشَفَوْهُمْ“ (مر6: 12- 13). كذلك ينصح الرسول يعقوب بممارسة هذا السر كنسيًا كما سنرى في القراءات الطقسية لهذا السر. خلال أسبوع البصخة تمارس الكنيسة هذا السر وتمسح الشعب كله في ما يُسمى ”جمعة ختام الصوم“.
الصلاة الأولى
يشعل الكاهن الفتيلة الأولى ويبدأ بصلاة الشكر، وهذه عادة الكنيسة أن تبدأ بالشكر في كل مناسبة حتى المرض أو الموت. كما يصلي الكاهن قائلاً: ”يا طبيب المرضى.. المنقذ من الشدائد.. يا ميناء الخلاص من حركات الأمواج وهياجها. اصنع رحمة مع المتضايقين بالأمراض..“. ثم يقرأ الكاهن سرًا طالبًا من الله أن ”يقدس هذا الزيت ليكون لكل الذين يُمسحون به شفاء لهم من أدناس الروح وآلام الجسد“. ثم يُقرأ النص الشهير من رسالة يعقوب 5: 10- 20 التي يقول فيها ”صَلاَةُ الإِيمَانِ تَشْفِي (أو تخلص) الْمَرِيضَ، وَالرَّبُّ يُقِيمُهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ خَطِيَّةً تُغْفَرُ لَهْ“ (ع15).
تذكرنا الكنيسة هنا بوجود ”علاقة أنطولوجية تربط المرض والمعاناة والموت بالخطية“.[1] لكن كلام الرسول يعقوب يعدنا بأمرين في الآية السابقة: أن نخلص وأن نقام. بعض المفسرين يذكرون أن الفعل (σώσει) الوارد في الآية يُستخدم بمعنى ”اسخاتولوجي عن الخلاص في الآيام الأخيرة“.[2] التشديد هنا على معنى سوتيريولوجي واسخاتولوجي اكثر منه شفاء جسماني. أمّا ”الوعد الثاني فهو يتضمن معنيين. الرب يقيمه من سرير مرضه. وإذا لم يكن هذا في مشيئته، فهو وعد بأن يقيم أولاده من الموت“.[3] هذا الأمر يتأكد في كلام الكاهن كالتالي: ”يا مَن أقام ابن الأرملة وابنة يايرس من الموت، وأقام لعازر بعد موته بأربعة أيام.. أقم عبدك هذا من موت الخطية. وإن أمرت بإقامته إلى زمان آخر، فامنحه مساعدة ومعونة لكي يرضيك في كل أيام حياته“. ثم يُستحسن أن يقال سرًا ”وإن أمرت أن تأخذ نفسه، ليكن هذا بيد ملائكة نورانيين يخلصونه من شياطين الظلمة. انقله إلى فردوس الفرح ليكون مع جميع القديسين“.
يجب ملاحظة أن الكنيسة لا تدين المريض بربطها بين المرض والخطية.. لكنها تصلي من أجل شفاء الجسد والروح. الفصل من الإنجيل في الصلاة الأولى هو عن مريض بركة بيت حسدا (يو 5: 1-7) الذي يقول له يسوع ”هَا أَنْتَ قَدْ بَرِئْتَ، فَلاَ تُخْطِئْ أَيْضًا، لِئَلاَّ يَكُونَ لَكَ أَشَرُّ“ (ع14). الكنيسة هنا لا تستثنى احتمالية أن يكون المرض نتيجة خطية ما. بعض الخطايا لها علاقة مباشرة مع المرض، على سبيل المثال الإفراط في تناول الكحوليات، أو العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج تزيد من احتمالية الإصابة بالأمراض المنقولة جنسيًا (STDs).
يقول اللاهوتي جون مايندروف ”إن الرابطة بين الخطية والمرض يبدو قويًا جدًا بحيث يظهر كما لو يوجد علاقة سببية بين الاثنيين. وبالتالي قد يظن المريض أن خطيته هي التي سببت له مرضه. لكن مرة أخرى، الحقيقة ليست بهذه السهولة“.[4] الخطية بوصفها سقوط آدم وحواء هي علة كل المآسي التي تحل علينا، لكن ”عندما يخطئ الناس مجددًا، فهم يساهمون باستمرارية خطية آدم وتبعاتها“.[5]
الصلاة الثانية
في هذه الصلاة تقرأ الكنيسة من رومية 15: 1- 17 لتشجع شعبها على إظهار الصبر والاحتمال، كما تشجع الأقوياء على ”أَنْ نَحْتَمِلَ أَضْعَافَ الضُّعَفَاءِ، وَلاَ نُرْضِيَ أَنْفُسَنَا“ (ع1). كما تشجع الكنيسة عائلة المريض بأن يحتملوه لا أن يدينوه. ثم يُقرأ الإنجيل من لوقا 19: 1- 10 عن زيارة المسيح لبيت زكا العشار. تذكرنا الكنيسة بهذا الإنجيل بأن شفاء النفوس أهم بكثير، وأن افتقاد المسيح للمريض هو أن يخلصه. ثم يتضرع الكاهن إلى الرب بأن يطهر المرض من كل خطاياه ”اغفر له غلطاته، إن كان بالفعل أو بالقول أو بالفكر. طهره من كل خطية، واحفظه زمان حياته سالكًا في وصاياك، لكي لا نفرح به العدو دفعة أخرى“.
الصلاة الثالثة
نقرأ فيها من 1كو12: 18- 13: 8 عن المحبة معتبرين إياها أعظم من عمل المعجزات وموهبة الشفاء ذاتها. ثم نقرأ الإنجيل من مت10: 1- 8 عن السلطان المعطى للتلاميذ بأن ”عَلَى أَرْوَاحٍ نَجِسَةٍ حَتَّى يُخْرِجُوهَا، وَيَشْفُوا كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضُعْفٍ“ (ع1). ثم يتضرع الكاهن لله قائلاً: ”كما سمعت لحزقيا عن ضيقة نفسه في ساعة موته ولم تعرض عن طلبته، كذلك أيضًا اسمعني أنا عبدك المسكين في هذه الساعة، وارحم عبدك (فلان)، وإن كانت خطاياه قد كثرت جدًا..“. لاحظ أنه في الصلوة الأخيرة يمارس الكاهن السلطان الذي أعطاه الله لتلاميذه، ولاحظ أيضًا أن امتلاك هذا السلطان لا يدعو للتفاخر؛ إذ يدعو الكاهن نفسه "عبدك المسكين"!
الصلاة الرابعة
نقرأ من رو8: 14- 21 عن التمجيد الذي ينتظرنا عندما نشارك المسيح في آلامه: ”إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضًا مَعَهُ“ (ع17). ثم نقرأ من الإنجيل من لوقا 10: 1- 9 عن خدمة السبعين رسول بما في ذلك خدمة شفاء المرضى (انظر ع9). ثم يصلي الكاهن ”أيها الرب المؤدب الشافي“، وكلمة ”المؤدب“ عادة ما تُفهم على أنها ”المعاقب“. لكن الكلمة في اليونانية هي مشتقة من كلمة paideia بالمعنى الإيجابي لها عن التعليم والتربية، ومنها كلمة pedagogy أو علوم التربية. يقول لارشيه ”يجب أن نذكر أن مصطلح pedagogy يشتق من الكلمة اليونانية paidagogia الذي فضلاً عن التعليم فهو يشير إلى الرعاية التي تُقدم للشخص المريض. ق إكليمندس السكندري يسمي المسيح بالمربي pedagogos بمعنى الذي يعلم ويوجه، لكن هو أيضًا من يطبب المرضى“. بالطبع عندما نقرأ في كتاب المربي لإكليمندس سنجد تأكيد على حق المربي (أو الله) في أن يعاقب ويدين. وبالتالي المصطلح يشمل العقوبة والرعاية في آن واحد. هذا يتأكد من كلام الكاهن؛ إذ يقول ”القريب في المعونة“، ”والمتأني في العقاب“.
الصلاة الخامسة
نقرأ من غل2: 16- 20 وفيها تذكرنا الكنيسة بأن كل واحد في آلامه ومعاناته يقدر أن يقول ”مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ“ (ع20). ثم نقرأ من يو14: 1- 19 عن الروح القدس المعزي الذي سيسكن فينا إلى الأبد. ثم يتضرع الكاهن للمسيح الطبيب الشافي. الكثير من آباء الكنيسة صوروا المسيح بالطبيب، وبعضهم اثبتوا عظمته بالمقارنة باسكلابيوس إله الشفاء لدى الإغريق والرومان. مرة أخرى لا يُستثنى شفاء الجسد هنا.
الصلاة السادسة
نقرأ من كولوسي 3: 12- 17 حيث ننصح بأن نتحمل أحدنا الآخر، ونغفر لأحدنا الآخر، ونظهر الشفقة والرأفة ”لْيَمْلِكْ فِي قُلُوبِكُمْ سَلاَمُ اللهِ“، وأهم شيء ”كُونُوا شَاكِرِينَ“ (ع15). ثم نقرأ من لوقا 7: 36- 50 عن قصة المرأة الخاطئة التي غسلت قدمي المسيح بدموعها ومسحتهما بشعر رأسها ودهنتهما بالطيب. ثم يتضرع الكاهن قائلاً: ”انهضه لينطق بالمجد بمحبة البشر لابنك الوحيد“. نلاحظ أنه تُصلى في هذه الصلاة أوشية القرابين- وما أجمل قربان هذه المرأة.. توبتها.. دموعها.. طيبها!
الصلاة السابعة
نقرأ من أف6: 10-18 عن وصية أن نحمل سلاح الله الكامل لنحفظ أنفسنا من هجمات إبليس. وأن نصلي كل حين ثم نقرأ من مت6: 14- 18 حيث ينصحنا بأن نغفر كما غفر لنا ابونا السماوي. ثم يطلب الكاهن من أجل الشفاء ”اشفِ عبدك (فلان) من أمراضه الجسدية وامنحه حياة مستقيمة ليمجد عظمتك ويشكر إحسانك“. ثم يمسح الكاهن المريض والحاضرين بالزيت المقدس.
خاتمة
من خلال هذا الاستعراض السريع لقراءت سر مسحة المرضى نستطيع أن نرى أن الكنيسة تؤمن وتعلم شعبها بأن هناك علاقة انطولوجية بين الخطية والمرض والموت. لذلك فإن الكنيسة تشجع المريض والشعب كله على التوبة، والغفران للآخرين، وتطهير النفس- في مناسبة المرض- من كل أنواع الآثام. كما أن الكنيسة لا ترى المرض كعقوبة، لكن كفرصة لحمل نير الصليب ومشاركة المسيح مع آلامه لنتمجد معه في السماء.        



[1]  Jean-Claude Larchet, The Theology of Illness (Crestwood, N.Y: St. Vladimir’s Seminary Press, 2002), 51.
[2] Martin, R. P, Word Biblical Commentary: James. Word Biblical Commentary, (Dallas: Word, Incorporated), p. 201 (electronic edition).   
[3] Holloway, G., James & Jude. The College press NIV commentary. (Joplin, Mo.: College Press Pub.), (electronic edition)
[4] Paul Meyendorff, The Anointing of the Sick (Crestwood, N.Y.: St. Vladimir’ s Seminary Press, 2009), 68.
[5] Larchet, The Theology of Illness, 38.