الثلاثاء، 28 سبتمبر 2021

مبادلة المسيح

 

التدوينة دي مثال توضيحي على أهمية أنك تراجع مرة ومرتين آراء باحثين بيكتبوا في مجال اللاهوت.. ومتسلمش بأي رأي إلا لما تتأكد منه. البداية في الصورة رقم (1) بنقرأ للدكتور جورج بباوي في سياق رده ونقده وقدحه للأنبا رفائيل.. إن الكلمة اليونانية ντάλλαγμα موجودة في العهد الجديد، ولم تُستخدم للتعليم عن موت الرب. ركز كويس.. لم تُستخدم عن إيه؟ عن موت الرب. الكلمة بتحمل معنى المقايضة والمبادلة. فكانت حُجة د بباوي إن الكلمة دي لم ترد في العهد الجديد في سياق الكلام عن ذبيحة المسيح، وبالتالي لا يصح تطبيق معنى المبادلة ده على ذبيحة الصليب. استشهد بوجود الكلمة في مر 8: 37، ومت 16: 26.

في الحالة دي أنت محتاج تتأكد من المعلومة دي.. أنا عملت البحث بتاعي.. ببساطة على الاستاذ جوجل.. فلاقيت صورة (2)، (3) ودول جزء من كتاب الإيمان بالثالوث (الفصل الخامس) اللي لم يترجم إلى العربية في ترجمة بناريون (لا أعلم بأمانة الأسباب إيه). وفي الجزء ده بيورد تورانس الكلمة اللي د بباوي قال إنها لا تُستخدم في الكلام في سياق الكلام عن موت الرب.. في 3 مواضع. 1- الرسالة إلى ديوجينتوس، 2- شرح أوريجانوس على الآيات اللي ذكرها د بباوي مر 8: 37، مت 16: 26، وق أثناسيوس في ضد أبوليناريوس. ودي ترجمة الصورتين دول لكلام تورانس.. يقول توماس تورانس كتابه ”الإيمان بالثالوث“:



أعطي تعبير لاهوتي في وقت مبكر عن هذا التحول الفدائي ك "مبادلة" (ντάλλαγμα   أجريت بين الله والبشرية الخاطئة والموصوفة في العهد الجديد ب "المصالحة"، وبهذه الطريقة أظهرت مغزاها العميق ك "مبادلة كفارية". كذلك الكاتب غير المعروف لرسالة ديوجنيتوس يتحدث عن ”المبادلة ντάλλαγμα الحلوة“ إذ الله في عطفه وحبه ”حمل بنفسه خطيتنا، مقدًما ابنه كفدية من أجلنا، القدوس من أجل الأثمة، والبريء من أجل الأشرار، والبار من أجل الأثمة، وغير الفاسد من أجل الفاسدين، وغير المائت من أجل المائتين“ (فصل 9). وفي نفس الوقت، هذا المفهوم للمبادلة الكفارية ارتبط بمبادلة ذبائحية ντάλλαγμα أظهرت بالأكثر دلالتها البدلية. كما عبر أوريجانوس عن ذلك ”لا يستطيع إنسان أن يعطي أي شيء عِوضًا ντάλλαγμα عن حياته، لكن الله قدّم مبادلة (عِوضًا) ντάλλαγμα من أجل حياتنا كلنا، أي الدم الغالي ليسوع المسيح“ (شرح أوريجانوس على متى 12: 28 في سياق الإشارة إلى مت 16: 26، مر 8: 27). كذلك عبر أثناسيوس ”لم يكن ممكنًا أن يُعطي شيئًا كفدية عوضًا عن شيء آخر، لكنه أعطى جسدًا عوضًا عن جسد، ونفسًا عوضًا عن نفس، ووجود كامل عوضًا عن الإنسان بأكمله: هذه هي مبادلة المسيح  (ντάλλαγμα του Χριστου)" (ضد أبوليناريوس 1: 17).

هل ممكن تكون الكلمة استُخدمت في أي مكان آخر.. آه.. بمزيد من البحث لاقينا نفس الكلمة عند غريغوريوس النيسي في الكاتشيزم الطويل فصل 24 في سياق الحديث عن فدية المسيح أيضًا، والكلمة بين الأقواس:

ς ν εληπτον γένοιτο τ πιζητοντι πρ μν τ (ντάλλαγμα,) τ προκαλύμματι τς φύσεως μν νεκρύφθη τ θεον.

يبقى كده أتأكدنا إن الكلمة موجودة ومستخدمة عند الآباء .. في الكلام عن إيه؟ عن موت الرب. يبقى دي أهم نقطة أتأكدنا منها خلاص.. ممكن نشوف الكلمة في قاموس يوناني لمزيد من التأكيد على أن المعنى يحمل نوع من المبادلة أو المقايضة.. وصورة (4) من قاموس أبونا أندرياس المقاري..


نيجي لكلام د بباوي إن ق أثناسيوس لم يستخدمها عن موت الرب، وهو للأمانة بيقول إن ق أثناسيوس لم يستخدمها في النص المشار إليه من ”تجسد الكلام“، لكن رفضه التام للكلمة ومعناها بيقول إن ده تفكير مش موجود عند الآباء –من وجهة نظره- وإن الأنبا رفائيل غلط واعتمد على ترجمة عربية غير دقيقة. المهم لاقينا تورانس بيقول إن الكلمة قالها ق أثناسيوس في ”ضد أبوليناريوس“.. وإحنا عارفين إن د بباوي مترجم النص ده إلى اللغة العربية.. ولما روحنا للنص.. كانت المفاجأة أننا لم نجد عبارة (مبادلة المسيح).. انظر الصورة رقم (5).


ناقص دلوقت إننا نروح لمصدر النص باليوناني.. علشان نتأكد ترجمة مين أدق لنص أثناسيوس: تورانس ولا د بباوي؟ عندنا باترولوجيا جريكا.. ولما فتحناها على النص المطلوب هناك لاقينا جملة ”هذه هي مبادلة المسيح“ واضحة وضوح الشمس  
 τουτ έστι το αντάλλαγμα του Χριστού . وبكده يطلع تورانس أكثر أمانة لترجمة النص من د بباوي..

وبالتالي نوصل للنتائج الآتية:

1- الكلمة αντάλλαγμα بيستخدمها الآباء في سياق شرحهم لموت الرب، مش زي ما د بباوي قال.

2- إن الكلمة αντάλλαγμα استخدمها ق اثناسيوس، مش زي ما د بباوي قال.

3-  إن الكلمة αντάλλαγμα في القواميس اليونانية تحمل معنى المقايضة والبدل.. بل والعِوض أيضًا.

4- إن تورانس اللاهوتي البروستانتي كان أمين تجاه نص ق أثناسيوس من د بباوي اللي شبعنا كلام عن أثناسيوس.

الموضوع ده أخد مني كذا ساعة.. بس مش مهم كله للفايدة. لكن أنا متأكد أنه في ناس مش هتصدق برضو أن د بباوي مكنش كلامه دقيق في النقطة دي.. وإن الأنبا رافائيل هو اللي غلط.. وده يدل إن كتير مننا الموضوع عنده ليس بحث عن الحق بقدر ما هو انتماء لأشخاص. لكن معلش.. أهم حاجة أنا أتاكدت من اللي بقراه.. ومحدش أكل بعقلي حلاوة. وأحب أنكم تعملوا نفس الشيء حتى مع أي حاجة أنا بكتبها.


الأحد، 26 سبتمبر 2021

ق أثناسيوس، وإشكالية اللغة، ولقب الآب، والإيذاء الأبوي

 

بيحكي كريستوفر هول في كتابه (Learning Theology with Church Fathers) أنه وجد أن كتير من الطلبة بتوعه بيعانوا من تجارب سيئة في بيوتهم، وبيحكي قصة لفتاة معينة اسمها مثلاً ”سوزان“ واللي كان أبوها بيغتصبها، فكيف تتجاوب ”سوزان“ مع فكرة أكَّد عليها ق أثناسيوس في جداله مع الأريوسيين، ألا وهي أن أفضل مصطلحات تعبر عن الله هو الآب، مش ”غير الحادث/ أو غير الصائر/ أو غير المخلوق“ (agentos) زي ما كان الأريوسيين عايزين.[1]

ركز بقى علشان الكلام ده متوازن جدًا.. على عكس الأطروحات اللي بنسمعها، واللي بتروح يمين قوي أو شمال قوي. الأول بالنسبة ل ”سوزان“ اللي عبرت عن صراعها تجاه الأمر ده بأنها قالت إنها كانت محصورة بين خيارين: إما تموت أو تنكر وجود الله. لأنها لو قالت إن الله موجود هتلاقي أبوها في وش هذا الله الآب. ولو اختارت تنكر الله هتتحرر من أبوها فعلاً، لكن هتخسر الملاذ الآمن وأعمق حب هي نفسها بتبحث عنه بكل كيانها، واللي مش ممكن تلاقيه غير في الله. صراع صعب فعلاً.

لكن يالا بينا نرجع بالزمن للقرن الرابع، هنلاقي ق أثناسيوس بيصر في جداله مع الأريوسيين إن أفضل وصف للعلاقة بين الأقنوم الأول والثاني، هو الاستعانة بنموذج عائلي، وهو العلاقة بين الآب والابن. بالطبع وبالتأكيد ق أثناسيوس بيقول إن هذا التشبيه بينطبق في جوانب معينة، ولا ينطبق في جوانب أخرى. وأن فعلاً اللغة غير قادرة على التعبير بشكل كافي عن الحقيقة الإلهية. ولكن كريستوفر هول بيقول بس اللغة والتشبيه ده بالتحديد بيعبر (جزئيًا) عن الحقيقة الإلهية. وأن لو في إمكان ق أثناسيوس كان فضَّل الصمت وعبادة الله في انبهار، لكن ق أثناسيوس وق كيرلس وكل الآباء لم يصمتوا. لماذا؟ لأن فصيل آخر قرر يوصف ربنا بأوصاف غير متوافقة مع إعلانه عن ذاته في الكتاب المقدس. وبالتالي الصمت في هذه الحالة لن يكون أفضل اختيار.

وبالتالي مش كل حاجة نلجأ للاهوت الأبوفاتي/ السلبي. ق غريغوريوس النزيانزي بعد أن حذر من أن الكلام في اللاهوت خطير جدًا، و أنه ”ليس لكل إنسان أن يتفلسف في شأن الله[2] لكنه يقول بعدها بسطور قليلة ”لستُ أمانع الذكر الدائم لله، بل الجدل في موضوع الله، ولا أمانع الجدل على أنه كفر بل على أنه تطفل“. ثم يأتي النزيانزي في الخطبة التالية (28) ويزعج راحتنا بالتأكيد على عدم إدراك الله في مجده، لكنه مع ذلك يقول ”هيا بنا إلى الكلام عن الله“،[3] وهذا يعني أن عدم إدراك الله، وعجز اللغة، ليس معناه أن نخرس ولا نتكلم عن الله. وحسنًا يتحدث جان دانيلو عن أن المبالغة في عدم إمكانية معرفة الله تؤدي إلى اللأدرية أو الإلحاد..  كما أن المبالغة في إمكانية معرفة الله تؤدي إلى العقلانية أو وحدة الوجود  (pantheism) .. ويقول ”إنه بالفعل لا نستطيع أن نقول أي شيء عن الله، وكذلك نستطيع أن نقول أشياءً لا حصر لها عن الله“.[4] وهذه هي المفارقة أو البارادوكس. ق كيرلس الأورشليمي ليه تشبيهات جميلة في الموضوع ده وبيقول: ”ربَّ معترض يقول: إذا كانت الطبيعة الإلهية لا يمكن إدراكها، فلماذا تتحدث عنها؟! فهل لأني لا أستطيع أن أشرب النهر كله، ألا يمكنني أن آخذ منه قدر حاجتي؟“. ونفس الشيء بيقول أقدر أبوص للشمس على قدي، وأقدر أدخل حديقة مليانة ثمار آكل منها على قدي.

وفي النهاية حين أراد الله أن يعلن لنا عن ذاته، تحدث، واستخدم اللغة، وحين أوحى لكتبة الكتاب المقدس كتبوا عنه باللغة. إذا كما أن اللغة ليست شاملة في تعبيرها عن الله، إلا أنها ليست عديمة النفع تمامًا، بل إنها تحمل الحقيقة جزئيًا، وإلا فقدنا الثقة في كل ما قيل عن الله وتعاملاته. في رأيي هذا هو التوازن. وأن فكرة التمييز بين الله في ذاته، والله في تدبيره، لا يُقصد منها ألا يعكس تدبير الله ولو جزءًا صحيحًا عن ذاته.

نعود إلى كريستوفر هول وقصة ”سوزان“. في البداية يشرح أن ق أثناسيوس رفض اقتراح الأريوسيين، ورفض استبدال تعبير الآب بتعبير ”غير الحادث/ أو الصائر“. لأنه وفقًا للقديس أثناسيوس فإن لقب ”agentos“: ”هذا اللقب غير مستمد من الكتب المقدسة... أما لقب الآب فهو لقب بسيط مستمد من الكتاب المقدس“.[5] ثم يشرح في النقاط التالية[6] الفرق بين مضامين كلا اللقبين:

غير الحادث/ غير الصائر/ أو الخالق

الآب في علاقته بالابن

هذا التسمية تخص علاقة الله بخليقته.

هذه التسمية تخص الله في علاقته بابنه.

الخليقة خارج طبيعة الله.

الابن هو مولود الآب من جوهره.

الله ليس بحاجة إلى أي خليقة سواء كانت أزلية أو موجودة خارج الزمن، لأنه كائن كامل غير ناقص.

الله لم يكن في أي وقت مجدبًا أو عقيمًا. بل يلد الابن أزليًا، لأنه من جوهره.

نستطيع أن نصف الله بأنه الخالق، حتى إذا لم يخلق بعد. لأنه يخلقها بإرادته.

لا يمكن أن نسمي الله ”أبًا“ إلا إذا كان له ”ابن“ أزلي في وحدة جوهرية معه.

 بكل تأكيد يدرك ق أثناسيوس أن هناك بعض الجوانب في العلاقة بين الأب وأبنائه لا تنطبق على العلاقة بين الآب والابن. ومن أهمها أن الآباء الأرضيين يلدون في وقت وزمن معين، وأن الوالد لابد أن يسبق أولاده. وأمور أخرى كثيرة. لكن هذا لم يجعل ق اثناسيوس يتخلى عن هذا الوصف لأنه مبني على أسس كتابية ولاهوتية. ويلفت نظرنا إلى نقطة مهمة أيضًا، أن لقب ”agentos“ مستمد من الفلسفة اليونانية، بينما لقب ”آب“ مستمد من فم يسوع. وهو اللي علمنا أننا لما نصلي نقول ”يا آبانا“ مش ”يا أيها غير الصائر أو غير الحادث“.[7]

الخلاصة: ليس معنى أن هناك قصور في اللغة أن نهمل اللغة التي نقرأها في الكتاب المقدس. ليس معنى أن اللغة قاصرة، أنها لا توصِّل أي قدر من الحقيقة الإلهية، وإلا ما كان هناك أي داعٍ لها. ولنفترض مثلاً أن الكثير من الآباء اغتصبوا أبناءهم، اعذروني على المبالغة، هل سنتوقف عن التعبير عن الله بوصفه ”أبًا“. نشكر الله أنه لا يزال هناك عدد من الآباء الذين يوصلون معنى الحب والحماية والقيادة إلى آخره من المعاني الجميلة.

يتخيل كريستوفر هول الحوار التالي بين ق أثناسيوس والفتاة ضحية اغتصاب أبيها ”سوزان“ في الفقرة التالية: ”كنتُ أود أن أظل صامتًا وأسبِّح السر والعجب الإلهي متعبدًا له. لكن للأسف بدأ بعض المعلمين في التحدث عن هذا السر بطريقة تهدد رسالة الإنجيل بشكل خطير. كيف لي أن أبقى صامتًا بينما بدأ أريوس يعلِّم أن الابن هو مجرد مخلوق في مرتبة سامية؟ هل يستطيع مخلوق أن يخلصنا من الخطية؟ يا سوزان، هل يستطيع مخلوق أن يخلصك...؟ لا أبدًا. نعم، الصمت الموقر والعبادة المنبهرة هي بالأحرى جدًا الاستجابة اللائقة تجاه عظمة الله وسره. لكن يأتي وقت لابد فيه من التكلم لعلنا نرسم إطارًا حول السر نفسه. وهذا ما حاولت أن أفعله. لكن هل تعرفين يا سوزان أن الآب الذي أقدمه لكِ لديه كل ما كنتِ تتمنينه في أبيكِ البشري، بل وأكثر جدًا. فقد اختار أن يظهر محبته فأرسل ابنه إلى عالم وجعكِ ومعاناتكِ ليفتدي العالم. لكنه ما كان ليقدر أن يفعل هذا إذا لم يكن بالحقيقة هو الآب والابن والروح القدس“.[8]  

على نفس المنوال أيها الأحباء، إذا أردنا أن نتمثَّل بروح الآباء وتعاليمهم. هل بسبب قصور في خبراتنا البشرية نرفض ما أعلنه الله عن نفسه؟! لقد عبر الكتاب المقدس والآباء عن أن الآب أرسل ابنه ليخلص العالم، فهل نقول هذا فصل بين الأقانيم؟! وأن الآب بذل ابنه، فهل نقول إن الله سادي مغرم بتعذيب ابنه؟ وأن الله يدين ويعاقب، فهل نقول إن الله تفوق على الوالدين في إيذاء الأطفال؟ هذه حُجج واهية، لا تثبت أمام النظر بجدية إلى ما أعلنه الله عن نفسه في الكتاب المقدس، واستخدمه الآباء بحكمة أيضًا. ولنأخذ من ق أثناسيوس كلامه عن أن بعض الكلام مستمد ليس من الكتاب المقدس بل من الفلسفة اليونانية. فهل نستطيع التمييز؟   

         

[1] Christopher Hall, Learning Theology with Church Fathers, p. 45- 51.  

[2]  ق غريغوريوس اللاهوتي، الخطب اللاهوتية، عظة 27: 3، 4.

[3]  نفس المرجع السابق، عظة 28: 1.

[4] Jean Daniélou, God and the Ways of Knowing, p. 57.

[5]  ق أثناسيوس، ضد الأريوسيين، مقالة 1: 34.

[6]  اختصرت بشدة في ترجمة هذا الجدول.

[7]  نفس المرجع السابق.

[8]   مرجع سابق، ص 51.

السبت، 11 سبتمبر 2021

نقطة اتفاق: كفارة البدلية العقابية في الردود الأرثوذكسية على البروتستانتية في القرن السادس عشر والسابع عشر

 


بقلم الأب: جوشوا سكوبنج

ترجمة/ د. إيليا بولس

إن ردود الأرثوذكسية على الإصلاح، سواء كانت على اللوثرية أو الكالفينية، تتحفظ وتتعارض مع العديد من المواقف البروتستانتية الأساسية، ولكن نقد كفارة البدلية العقابية ليس من بين تلك الاعتراضات. في الواقع، كتب البطريرك إرميا الثاني إلى اللوثريين يحثهم على تأمل وجهة النظر الأرثوذكسية للكفارة كما يلي:

قد يرى المرء قاطع طريق أو مجرم يُعاقب، والملك نفسه يعطي ابنه الحبيب، الوحيد المولود، والشرعي، الذي لم يكن كهذا (المجرم)، ليتم إعدامه، وينقل الذنب من الرجل الشرير إلى الابن من أجل إنقاذ المجرم المدان وتخليصه من السمعة السيئة.[1]

ما سبق ذكره من البطريرك، بعد أن اقتبس من عظة القديس يوحنا الذهبي الفم على كورنثوس الثانية، هو أحد أقدم التشبيهات وأكثرها شيوعًا لكفارة البدلية العقابية. نرى فيه شخصًا يُعاقب بشكل عادل وفقًا لقانون الملك، ولكن بدلاً من هلاكه النهائي، يضع الملك بدلاً من ذلك المجرم ابنه البريء، لينال ذنب الرجل المدان ويُعاقب مكانه من أجل إنقاذه. من الواضح أن هذا مثال توضيحي على كفارة البدلية العقابية، حيث يضع الأب ابنه على الصليب، مكان المجرم الملعون، لكي يخضع لعقوبة ذلك المجرم العادل، ومن أجل إطلاق سراحه. وتابع البطريرك:

إذا، بعد هذه الأشياء، حصل الابن على مكانة كبيرة بعد أن أنقذ [الجاني]، ثم تعرض للإهانة في مجده الذي لا يوصف من قبل الشخص الذي عوقب نيابة عنه، أفلن يفضل هذا الأخير أن يموت ألف مرة، إذا كان لديه أي ذكاء، بدلاً من أن يبدو أنه مسؤول عن مثل هذا الجحود الكبير؟[2]

لا يكتفي البطريرك إرميا بأنه لا ينأى بنفسه عن كفارة البدلية العقابية فحسب، بل إنه يطرحها صراحة بمصطلحات الخلاص والعقاب نيابة عن المجرم. من الواضح أن هذه كفارة نيابية، وقانوني وبالتالي قضائية، وهي بدلية؛ لأنه يحل مكان المجرم ويخضع لعقوبة المجرم نفسه. عوقب ابن الله بالعقاب العادل للخطاة، واقفًا طواعية في مكان المحكوم عليهم، بدافع الحب، ولكي يفديهم. فبدلاً من دحض ما يسمى بالمفهوم البروتستانتي لكفارة البدلية العقابية، يقدمها البطريرك على أنها وجهة نظر أرثوذكسية بكونها متجذرة في النظام الذبائحي للعهد القديم، وفقًا لوجهة النظر الأرثوذكسية المقدمة إلى اللوثريين:

ذبح الحيوانات والأواني الذهبية والفضية قدمها القدماء لله. من الواضح أن جسد المسيح يشمل كليهما. لانه ذُبح لاجل مجد الآب.[3]

ما سبق لا يؤكد فقط أن موت المسيح يجب أن يُفهم من منظور الذبيحة القانونية والبدلية عن الخطيئة، وبالتالي فهي عقابية بطبيعتها، بل يتم تقديمها أيضًا في سياق تفسير الإفخارستيا. وبهذه الطريقة، فإن نظام الذبائح في العهد القديم هو الذي يوفر إطارًا لمعنى المناولة المقدسة، وبالتالي تُفهم الشركة المقدسة نفسها من منظور كفارة البدلية العقابية. المسيح هو الحمل الذبيحي ”المكرس لله منذ البدء. لقد كان قربانًا له لأنه المولود الوحيد، ولأن الخبز تحول إلى جسد المسيح“.[4] يتم تحويل الخبز إلى جسد البديل العقابي للإنسان الساقط.

بالنسبة للبطريرك، هذه المسألة غير مثيرة للجدل بين الأرثوذكس واللوثريين، وعلى الرغم من مقالتين إضافيتين تم فيهما التأكيد على نقاط الخلاف ومناقشتها بإسهاب، فإن مسألة كون المسيح بديلاً عقابياً لم يتم ذكرها، ولم يتم اعتبارها أبدًا كنقطة خلافية. علاوة على ذلك، فإن هذه المقالات هي التي يُعتمد عليها وتُستوعب كجزء من اعتراف دوثيسيوس Dositheus كما تم التأكيد عليه في مجمع أورشليم (1672). مرة أخرى، كفارة البدلية العقابية لم تكن محل خلاف، وفي المرسوم الثامن يُفترض ضمنيًا (المسيح كوسيط) كجزء من الفهم الأرثوذكسي للكفارة:

بإعطائه نفسه فدية عن الكل من خلال دمه، حقق المصالحة بين الله والإنسان حيث يهتم بخاصته، فهو شفيع وكفارة عن خطايانا.(Decree 8).

مرة أخرى، في ضوء تعاليم المصلحين المعروفة، يؤكد دوثيسيوس أن المسيح هو كفارة لخطايانا، وأنه قدم نفسه ذبيحة، وأنه بدمه صنع مصالحة بين الله والإنسان. هذه كلها لغة البدلية العقابية، وفي ضوء وعيه بالمحادثات السابقة للبطريرك إرميا، لا يكتفي  دوثيسيوس بعدم  إبعاد الأرثوذكسية عن كفارة البدلية العقابية فحسب، بل يواصل تقديمها على أنها معيارية. يؤكد  دوثيسيوس أن القربان المقدس نفسه، بكونه المسيح الجسد والدم، هو ذبيحة حقيقية واسترضائية تُقدم لجميع الأرثوذكس“ (Decree 22).

 بعبارة أخرى ، على الرغم من عدم الإيحاء بأن الإفخارستيا هي ذبيحة ”ثانية“ أو ”تكرارية“ للمسيح، يجب أن تُفهم ذبيحة الإفخارستيا من منظور هذا النوع من الذبيحة الذي يسترضي غضب الله العادل ضد الخطيئة. وهكذا يظهر مرة أخرى أن الجانب القانوني والذبائحي لموت المسيح يُنادى به بصفة أساسية ككفارة البدلية العقابية، ويتم دمجه في الفهم الأرثوذكسي للتناول المقدس نفسه.

في وقت لاحق ، أكد بيتر موجيلا Mogila في القرن السابع عشر مرة أخرى كفارة البدلية العقابية كجزء من الفهم الأرثوذكسي للكفارة. من إجابته على السؤال 24: إنه يدعو المسيح كاهنًا، لأنه قدم نفسه لله وللآب: قائلاً، الذي بالروح الأبدي قدم نفسه لله بلا عيب. إذن قُدم المسيح مرة ليحمل خطايا الكثيرين. بعبارة أخرى، حمل المسيح خطايانا. لم يحمل الموت فقط، بل الخطايا. وقد قدم نفسه ذبيحة نقية عن تلك الخطايا وفقًا للمنطق الشرعي لنظام الذبيحة في العهد القديم، وهو نظام عقابي وبدلي. ومرة أخرى يوضح العلاقة مع القربان المقدس في السؤال 107، إذ يجيب:

ثمار هذا السر هي:  أولاً ، تذكار آلام وموت المسيح. حيث كان يتألم، ليس من أجل نفسه، ولكن من أجل معاصينا: كما يقول الكتاب المقدس: "فَإِنَّكُمْ كُلَّمَا أَكَلْتُمْ هذَا الْخُبْزَ وَشَرِبْتُمْ هذِهِ الْكَأْسَ، تُخْبِرُونَ بِمَوْتِ الرَّبِّ إِلَى أَنْ يَجِيءَ."(1 كو 11: 26) ثانياً: هذا السر استرضاء أو كفارة لله عن خطايانا“.

وبهذه الطريقة ترتبط الإفخارستيا ارتباطًا وثيقًا بـكفارة البدلية العقابية. بل إن الكفارة والاسترضاء جُعلا مترادفين. أخيرًا، على الرغم من أنه اقتباس أطول، ردًا على السؤال 47، أجاب موجيلا مرة أخرى بوضوح بمصطلحات في إطار كفارة البدلية العقابية:

أن موت المسيح كان أكثر تميزًا وذو فوائد أعظم بكثير مما يمكن أن يكون موت جميع البشر: لهذه الأسباب الخاصة. أولاً ، بسبب العبء الثقيل لخطايانا، كما قال النبي (إشعياء 53: 4)، فقد حمل أحزاننا وتحمل أوجاعنا، ومع ذلك فقد حسبناه مصابًا ومضروبًا من الله ومذلولاً. ولكنه جُرح لأجل معاصينا، وقد سُحق لأجل آثامنا. وأيضًا النبي إرميا، متحدثًا بشخص المسيح (مراثي أرميا 12:1 )، أما إليكم، يا جميع عابري الطريق؟ تطلعوا وانظروا ما إذا كان هناك أي حزن مثل حزني الذي حدث لي. ثانيًا، لأنه على الصليب تمم وظيفته الكهنوتية، مقدمًا نفسه لله وللآب من أجل فداء البشرية: كما يتحدث الرسول عنه (تيموثاوس الأولى 6: 6)، الذي أعطى نفسه فدية عن الجميع. ومرة أخرى (أفسس 5: 2)، أحبنا المسيح، وأسلم نفسه من أجلنا، قربانًا وذبيحة لله، لرائحة طيبة. وأيضًا في مكان آخر (رومية 5: 8)، وبينما كنا بعد خطاة، مات المسيح من أجلنا. ثالثًا، لأنه على الصليب أكمل المصالحة التي أجراها بين الله والإنسان. كما أعلن الرسول للتو (كولوسي 1:20 و 2:14)، أن يصالح كل الأشياء لنفسه، بعد أن صنع الصلح بدم صليبه. مسح الصك المكتوب الذي كان ضدنا؛ الذي كان ضدنا. وأخذه من طريقنا وسمّره على الصليب.[5]

 في الختام، لا يقتصر الأمر على أن ردود الفعل الأرثوذكسية في القرن السادس عشر على البروتستانتية لا تنأى بنفسها عن البدلية العقابية، بل تدمجها بشكل إيجابي كجزء طبيعي من التعليم الأرثوذكسي حول الكفارة. من الواضح أيضًا أن بيتر موجيلا في القرن السابع عشر حافظ على هذا الفهم الأرثوذكسي في نفس حقبة الجدل مع البروتستانت. على الرغم من أنه في نفس التاريخ الذي كان متوقعاً أن يُطلب فيه إنكار البدلية العقابية، إلا أننا نجد أنه تم تأكيدها والحفاظ عليها من قبل البطريرك إرميا والبطريرك دوسيثيوس والمتروبوليت بيتر موجيلا. في ضوء هذا والدراسات السابقة، فقد ثبت بشكل قاطع أن البدلية العقابية أمر طبيعي في الأرثوذكسية، تاريخيًا، لاهوتيًا، وسرائرياً. وبالتالي فإن ما هو غير طبيعي هو المحاولة المعاصرة في محوها من ذاكرة المسيحيين الأرثوذكس وتصويرها على أنها تطور غريب وحديث وغير أورثوذكسي. ولا شيء أبعد من هذا عن الحقيقة، وعلى هذا النحو فإن الهجوم على البدلية العقابية هو هجوم ضد الفهم الأرثوذكسي للإنجيل.

(هذا المقال مترجم عن مدونة الأب جوشوا سكوبنج، الذي خدم في كنيسة All Saints للروم الأرثوذكس بولاية بنسلفانيا، وخريج معهد سانت فلاديمير اللاهوتي:

https://godlightangels.blogspot.com/2020/02/a-point-of-agreement-penal.html



[1] Patriarch Jeremiah II, Augsburg and Constantinople, First Exchange, pg 41.

[2]  هذا الاقتباس من ترجمة د سعيد حكيم هو كالتالي: ” فلو أن ملكًا قد رأى سارقًا ومجرمًا وهو يُعذَّب، ثم وضع ابنه الوحيد لكي يبذل نفسه عنه، وحوَّل العقوبة عن المجرم ونقلها إلى الابن الذي لم يكن مجرمًا، ليس فقط عقوبة الموت، بل والخطية أيضًا، وذلك حتى يُخلص المدان، وينقذه مما التصق به من صفة سيئة، وبعد كل هذا رفعه إلى أعلى مرتبة. ثم بعد هذه المحبة.. حدث أن أهان الملك الذي أحسن إليه، ألا يُفضل أن يموت آلاف المرات.. على أن يصبح مذنبًا بكل هذا الجحود؟“( يوحنا ذهبي الفم، تفسير كورنثوس الثانية، ترجمة د سعيد حكيم، عظة 11، المركز الأرثوذكسي، ص191- 193).

[3] Patriarch Jeremiah II, Augsburg and Constantinople, First Exchange, pg 66.

[4] Ibid.

[5] Peter Mogila,The Orthodox Confession of The Catholic and Apostolic Eastern Church, Question 47, P.43, 44.