السبت، 24 مارس 2018

3 مشاهد تلفزيونية محترمة عن الحب


المشهد الأول من مسلسل أبو العلا البشري، سنة 1985، وبيتكلم عن التطور اللي حصل في الحب.. شاهد هذه المقطع من دقيقة 2: 30 ..

أهم فكرة في المشهد ده أن محمود مرسي بياكد على أن الحب مينفعش نعمله shortcut .. مينفعش نختصر المسافات فيه.. لازم ياخد وقته وينضج.. ويستوي كويس.. بيقولها ”اختصرتوا المسافات.. تحول الحب إلى اتفاق سريع. كل حاجة بقت فيه سهلة.. مبقاش في حاجة غالية وعزيزة. بقى زي سندويتش تكلوه في السكة وتهضموه قبل ما توصلوا.“ وبيأكد على فكرة اسمها ال tough love .. لازم الحب يبقى صعب علشان يعيش. 
المشهد التاني من مسلسل الداعية، 2013، والمسلسل كان بيتكلم عن أحداث الثورة، وجاب نموذج اثنين بيحبوا بعض من الحارة المصرية الفقيرة، وهما عليش ونعمة. عليش ونعمة في أول الحلقة كانوا خارجين .. وفي فوضى العاطفة.. بيحاول يعتدي عليها.. لكن عليش بيسعى يصلح غلطته وبيطلبها من أبوها. الطبيعي أن معظم المسلسلات والأفلام بتقدم البنت كضحية بتحاول تداري فضيحتها وتتجوز من اعتدى عليها. لكن في الحالة دي الأمر مختلف.. شاهد المقطع من دقيقة 27: 10 لحد دقيقة 30.. 


عظمة شخصية نعمة أنها اختارت تمش عكس التيار.. وترفض أنها تربط حياتها بشخص لم يحترمها. يتهيألي نسينا أن في حاجة اسمها احترام الذات.. اللي هو أغلى حاجة في الدنيا. يحاول عليش يقولها ”دي لحظة ضعف“، تقوله ”لحظة الضعف دي قتلت كل اللي باحلم بيه.“
شخصية نعمة اللي بتحب النخوة والشرف والرجولة ”مش راجل يستغل الضلمة ويتحول لكلب“.. غايبة عن مجتمعنا. لازم نقول لشبابنا كده.. ونقدم النموذج ده.. نموذج الإنسان اللي عنده كرامته أغلى شيء في الدنيا.. زي نعمة مش هتحاول تبني حياتها على غلطة.. حتى لو المجتمع كله بيقولها داري على فضيحتك. 

المشهد الثالث من مسلسل حديث جدًا هو مسلسل أبو العروسة، 2018، وفي سوسن بدر بتروح لواحدة بتحاول تخطف جوزها منها.. وبتدي درس في إزاي بتحمي مش جوزها بس لكن جوازها وعيلتها. شاهد المقطع ده من دقيقة 1: 00 لحد دقيقة 6: 00..
 

طبعًا عظمة المشهد ده في توظيف التورية، او التلاعب بالكلمات زي ”متربية“، ”حقي“، ”حقي أعرفك“.. أو عبارة ”لحد ما جاب اللي  في بطنه.. وبعد كده خته في حضني.. وطبطبت عليه.. وعالجته.. لحد ما أتأكدت أنه تاني مرة مش هياكل حاجة من الشارع.“ طبعًا الكلام أكتر على جوزها مش ابنهم الصغير.. ده ذكاء السينارست قبل أي حد تاني.
في فكرة في الكتاب المقدس قريبة من موضوع المشهد ده. كتير قوي يُشبه الله في الكتاب المقدس بالحبيب والخطيب والزوج:
-        هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: قَدْ ذَكَرْتُ لَكِ غَيْرَةَ صِبَاكِ، مَحَبَّةَ خِطْبَتِكِ، ذِهَابَكِ وَرَائِي فِي الْبَرِّيَّةِ.“ (إرميا 2: 2)
-        ”يَكُونُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، يَقُولُ الرَّبُّ، أَنَّكِ تَدْعِينَنِي: رَجُلِي، وَلاَ تَدْعِينَنِي بَعْدُ بَعْلِي.“ (هو 2: 16).. وهنا في تورية برضو.. لأنه ربنا بيعاتب شعبه وبيقولهم هيجي يوم تدعونني ”رجلي“ أو زوجي .. مش ”بعلي“.. مع أن بعل معناها زوج برضو.. كأن ربنا بيقولهم .. أنا الزوج الحقيقي.. والبعل الحقيقي.. مش الإله بعل.. ولا الأزواج الآخرين، أو بعليم، جمع بعل، اللي أنتو مشيتوا وراهم.
ده بيحصل لأن ربنا بيدافع عن العهد بينه وبين شعبه، اللي هو يشبه عهد الزيجة بين الراجل ومراته.. علشان كده اتقال”لأَنَّ الرَّبَّ اسْمُهُ غَيُورٌإِلهٌ غَيُورٌ هُوَ.“ نفس الشيء مطالبين أننا نحمي عهد الزيجة.. وتكون الغيرة على العهد الزيجي.. مش عدم ثقة بالنفس. الدفاع عن العهد الزيجي بشجاعة وعنف.. زي ما ظهر في المشهد السابق.  
كتير من الميديا بتروج لأفكار هدامة.. بس ساعات بتظبط، وإن كان في مرات قليلة زي المشاهد السابقة.    

الأربعاء، 21 مارس 2018

كتب لا تموت قبل أن تقرأها- بيتر كريفت



في هذه المحاضرة[1] يقدم د بيتر كريفت أهم كتب يمكن أن تقرأها .. ”مينفعش تموت قبل ما تقرأها“
في مجال السير الذاتية ينصح بما يلي:
1-    الاعترافات، للقديس أغسطينوس. ويعتبره أعظم كتاب بعد الكتاب المقدس.
2-    كتاب اسمه (A Severe Mercy) لكاتب اسمه شيلدون فانكوين.
في مجال الروايات ينصح بما يلي:
1-    الأخوة كارمازوف، لديستوفسكي. وبيقول أن ديستوفسكي بيخليك تتقابل مع شخصين عمرك ما تحلم تقابلهم، هما: الشيطان اللي جواك، والمسيح اللي جواك. شخصيات ديستوفسكي دايمًا غريبة الأطوار.. لكن الغريب أننا بنتوحّد معاها..
2-    رواية لسي إس لويس بعنوان (Till We Have Faces)
3-    قصة مدينتين، لتشارلز ديكنز.
في مجال المسرحيات ينصح بما يلي:
1-    مسرحية روبرت بولت، بعنوان (A Man for All Season)
2-    مسرحية لثورتون وايلدر، بعنوان (Our Town)، وبيقول أن المسرحية دي بنتقل وجهة نظر الأموات في حياتنا.
3-    مسرحية هاملت، لشكسبير.
في مجال أدب الملاحم ينصح بما يلي:
1-    سيد الخواتم، لتولكين، وبيعتبره أعظم كتاب في القرن العشرين.
2-    سجلات نارنيا، لسي إس لويس، وبيقول إنها قصص للأطفال يقرأها الكبار أيضًا. وشخصية اصلان الأسد، مش مريح لأنه أسد، لكنه صالح جدًا. وبيقول إن الأطفال بعتوا خطابات لسي إس لويس يقولوله أنهم أحبو أصلان أكثر من يسوع.. فكان بيقلهم: ”لا داعي للشعور بالذنب، لأنه هو يسوع.“
في مجال الفانتازيا ينصح بما يلي:
1-    كتاب لسي إس لويس بعنوان (The Great Divorce).. وبيقول إنه زي الكوميديا الإلهية لدانتي.. لكن في نسخة اقصر، وأكثر سهولة، وهي رحلة من الجحيم إلى السماء.
2-    كتاب ”رسائل خربر“ لسي إس لويس..
في مجال الخيال العلمي ينصح بما يلي:
1-    كتاب بعنوان (A Canticle).. لواحد اسمه ( (Leibowitz
2-    كتاب بعنوان (Brave New World) لواحد اسمه ألدوس هاكسلي، ودي رواية عن الحياة في المستقبل حيث يسيطر العلم على البشر، وتختفي المشاعر، ويقوم النظام بالسيطرة على الناس من خلال المخدرات والسيطرة على التكاثر من خلال انتاج اطفال محددي الوظائف والرغبات، في مجتمع الكل به سعيد لكنه معدوم الحرية. (ويكيبديا)
في مجال الكتب الروحية ينصح بما يلي:
1-    كتاب بعنوان (The Practice of Presence of God) لكاتب اسمه الآخ لورانس.
2-    كتاب بعنوان (The Story of a Soul) لواحدة اسمها تريزا الطفل يسوع، وهي راهبة كرملية فرنسية كاثوليكية.
في مجال الدفاعيات ينصح بالآتي:
1-    الخواطر، لباسكال
2-    مشكلة الألم، لسي إس لويس
3-    وفي كتاب تاني لسي إس لويس بعنوان (Defense of Miracles)
 في مجال الفلسفة الكلاسيكية ينصح بالآتي:
1-    دفاع سقراط، لأفلاطون
2-    عزاء الفلاسفة، لبوئيثوس
3-    أخلاقيات أرسطو
في مجال الفلسفة الشعبية ينصح بالآتي:
1-    مقدمة لتوما الأكويني، للكاتب الإنجليزي جيه كيه تشسترتون
2-    الإيمان الأرثوذكسي، لتشسترتون أيضًا. (مترجم إلى اللغة العربية)
3-    مدينة الله، لأغسطينوس
في مجال التاريخ  ينصح بما يلي:
1-    كتاب بعنوان (Everlasting Man)، لجي كيه تشسترتون
2-   كتاب لكاتب اسمه (Warren Carroll) بعنوان (Our Lady of Guadalupe: And the Conquest of Darkness )
في مجال اللاهوت ينصح بالآتي:
1-    المسيحية المجردة، لسي إس لويس
2-    الخلاصة اللاهوتية، لتوما الأكويني
في مجال الشعر ينصح بما يلي:
1-    شعر باسم (Lepanto) لتشيسترتون
2-    شعر باسم (Waste Land) لتي إس إليوت

السبت، 17 مارس 2018

أغسطينوس وبحثه عن الله في الذاكرة



أصعب الأجزاء في كتاب الاعترافات لأغسطينوس هو جزء من الكتاب العاشر يتحدث فيه اغسطينوس عن الذاكرة البشرية ودورها في بحثه عن الله.. ستجد هذا الجزء في ترجمة ”اعترافات أغسطينوس، ترجمة الخوري يوحنا الحلو، إصدار دار المشرق، الصفحات من 200- 218“.. عاوز أقول الأول أني اشتريت الكتاب ده وأنا في مراهقتي، ولم أفهم إلا القليل جدًا منه، ثم عدت إليه مرة أخرى في العشرينات، ولم أفهم إلى المزيد من القليل، ثم الآن بنعمة ربنا فهمت المزيد من القليل أيضًا. أقول هذا لأثير في نفسي ومن يقرأني روح التواضع.. عمرنا لا يكفي لنفهم كل شيء، فلماذا التظاهر بأننا أمتلكنا الحقيقة المطلقة؟!
هذا الجزء الخاص بالذاكرة يشرح إبستيمولوجيا ق أغسطينوس.. هذا المصطلح الأخير يعني ”كيف نعرف أننا نعرف؟“ يبدأ أغسطينوس بشرح أبسط أنواع المعرفة المستمدة من الحواس اللي بتلتقط صور من العالم المادي المحيط. وهنا بيجي دور الذاكرة اللي بيشبهها بالمخزن الواسع اللي بيخزن كل الصور والانطباعات اللي بستقبلها الحواس، وكمان الذاكرة بتقوم بترتيبها وتنظيمها واستدعائها عند الطلب.
-        صور عن الألوان بكل أنواعها بتدخل عن طريق العين.
-        صور عن الروايح بكل انواعها بتدخل عن طريق الأنف.
-        صور عن الأصوات بتدخل عن طريق الأذن.
-        صور عن النكهات والأطعمة، حادق، ماسخ، بتدخل عن طريق اللسان.
-        صور عن الملمس ..خشن، ناعم، بارد، ساخن، بتدخل عن طريق الجلد.
بعد ما يخزن الإنسان كل الصور دي في الذاكرة، يقدر بعد كده يميز بين الأبيض والأسود حتى لو هو في الضلمة.. ويقدر يميز بين الأصوات المختلفة حتى لو قاعد في صمت كامل. أغسطينوس بيقول أنه أحيانًا يستدعي بعض الصور من الذاكرة يلاقي بعض الصور بتطلع بسرعة، والبعض الآخر بيتأخر كأنه مش عاوز يطلع.. والبعض الآخر بيبقى عاوز تنتزعه بالعافية كده.. واحيانًا تجري بعض الصور وتطلع ومتكنش عاوزها.. وكأنها بتبرقلك وتقولك ”أنت عاوزنا.. صح؟“ فيقوم يطردها بيد عقله لحد ما يطلع اللي هو عاوزه ”من بين الغيوم ويظهر لي من داخل خبائه الخفي.
لكن في حاجات تانية الذاكرة بتعملها!
المفاهيم المجردة زي الحب والحرية، أو علوم الرياضيات والأرقام، والمعرفة المستمدة من قراءة نصوص معينة.. الحاجات دي ملهاش واقع خارج العقل علشان الذاكرة تلتقطله صورة.. يعني عمرك قابلت رقم (1)؟ عمرك قابلت الشعور بالخوف واقف كده مجسم قدامك؟ كمان وأنت بتدرس نصف قطر الدائرة، تعبت من المذاكرة دخلت المطبخ فلاقيت نص قطر الدائرة واقف جنب التلاجة؟
أغسطينوس بيقول طب الحاجات دي دخلت الذاكرة إزاي؟ لو سألت العين هتقولك؟ لو ليها لون يبقى دخلت عن طريقنا. ولو سألت الأذن هتقول: لو ليها صوت معين يبقى إحنا اللي نبهنا لوجودها. ولو سألت الأنف هتقول: لو ليها ريحة معينة يبقى إحنا المسؤولين. هنا اغسطينوس بيقول إن الحاجات دي كانت موجودة في عقله قبل أن يدركها .. هي بس مكنتش في الذاكرة! وهنا بيظهر تأثر أغسطينوس بالنظرية الأفلاطونية عن المعرفة اللي أسمها ”الاستذكار- أو الأنامنسيس“ اللي بتقول أن إحنا كان عندنا المعرفة دي في وجود سابق، ونسيناها، ولما بنتعلمها بنفتكرها (مع أن أغسطينوس لا يوافق على حكاية الوجود السابق دي).
هل الذاكرة فيها حاجة تانية؟ بيقول فيها الانطباعات impressions سواء فرح- حزن- كآبة.. إلخ. وبيقول أن الانطباعات دي لم تدخل بالحواس، وإنما النفس اختبرتها ثم أوكلتها إلى الذاكرة.. وربما الذاكرة سجلتها بدون استئذان من النفس حتى.. بيسأل أغسطينوس.. هل ينطبق نفس الشيء على النسيان؟! هو بيقول أنه لما بيتذكر النسيان بيحضر النسيان من الذاكرة.. وبيقول إن ”النسيان حاضر في ذاكرتنا بصورته فقط، لأنه لو كان حاضرًا بذاته لجعلنا ننساه؟!!“ ويقول مَن يقدر أن يحل هذه المعضلة؟ ومن يستطيع أن يجلي غوامضها؟ صورة النسيان هي الموجودة مش النسيان نفسه- لكنه بيرجه يقول إن علشان الذاكرة تحتفظ بصورة للنسيان جواها يبقى لازم سيبق كده وجود النسيان نفسه كحضور حقيقي..
لكن لو كان النسيان حاضر بشكل حقيقي.. إزاي الذاكرة ممكن تسجل صورته عليها؟؟؟ لأن النسيان لما بيحضر بيمحو كل رسم وتخطيط؟؟؟؟ المهم أنه بيستنتج من كده أنه مهما بلغ الأمر من الغموض والتعقيد، إلا أنه متأكد أنه بيقدر يتذكر النسيان- مع أن النسيان ده هو اللي بيدمر أي تذكُّر! (وأنا بقرأ هنا قلت: ارحم أمي العيانة!)
نأتي إلى نقطة هامة جدًا في حديث أغسطينوس عن الذاكرة؟ أغسطينوس بيقول كيف أجد ربنا إذا لم أتذكره؟ وبيقول المرأة اللي أضاعت الدرهم وراحت تدور عليه، لو كانت لاقيته ولم تتذكره، مكنتش هتعرفه. يعني مثلاً لو انت ضايع منك قلم بلون معين، لكن أنت مش فاكر لونه بالضبط، فحتى لو لاقيته مش هتتعرَّف على القلم.. ومش هتكون مـتأكد هل هو ده القلم اللي ضاع منك، ولا اللي ضاع منك لسه ضايع وده قلم تاني خالص. لكن لو تذكرته كويس هتقول بنبرة أكيدة: ”أيوه.. هو ده.. هو ده بالضبط“
وبالتالي لو في شيء إحنا فاكرينه ولو جزئيًا، يصبح من الممكن لما نلاقيه اننا نفتكره.. أما الشيء لو كان منسي تمامًا.. فمش هندور عليه اصلاً.. ”الشيء المفقود لا نبحث عنه إلا إذا بقينا نتذكره جزئيًا.
أغسطينوس بيطبق الكلام اللي فات ده على بحثه عن ربنا.. وبيقول أن لما بيبحث عن ربنا .. هو بيبحث عن السعادة. طب هل الذاكرة عندها صورة مخزنة أو انطباع عن السعادة الحقيقية؟ أغسطينوس بيقول عندها بالتأكيد.. هذه التأكيد هو بانيه على فكرة أن كل الناس بلا استثناء بتدور على السعادة بكل طريقة ممكنة.. حتى لو كان بطريقة غلط. السعادة شيء يعرفه كل الناس ”أنها لشيء يعرفه الجميع ولو قُدر لنا أن نسألهم سؤالاً واحدًا: أيرغبون في السعادة؟ لأجابوا بالإجماع ودون تردد، نعم. فلو لم تكن ذاكراتهم محتفظة ببعض الشيء من هذه الحقيقة التي يصبون إليها لكان إجماعهم هذا مدعاة للشك.
ثم يؤكد اغسطينوس أن السعادة الحقيقة موجودة في الله فقط. والناس بسبب السقوط ممكن يوهموا نفسهم بسعادة بديلة.. لكنهم بيتمنوا أنهم يعيشوا السعادة الحقيقية، لكن يبدو أن الأمر مكلف شوية! لأن الناس بتحب نور الحقيقة، بس بيكرهوا تأنيبها. ”يحبون الحقيقة حين تنكشف لهم، ويبغضونها حين تكشف عن مخبآتهم (ما يخفونه)“ هذه هي حالة القلب البشري الأعمى والكسول..  
ثم يقول أغسطينوس أنه بحث عن الله في ذاكرته ووجده بداخلها.. وتعرف عليه.. لأن الله يسكن في ذاكرته.. فأدركه عندما تعرف عليه.. لكنه يسأل مرة أخرى:
في أي مكان تقيم في ذاكرتي يارب؟
أجل، أين تقيم؟ أي مسكن جعلت لك فيها؟
أي معبد أنشأت لذاتك فيها؟ لقد اوليت ذاكرتي شرف الإقامة فيها..
لكني أتساءل عن الجزء الذي تسكن فيه..
ثم يرجع ليجيب على نفسه: ”لماذا أبحث عن الموضع الذي تقيم فيه كأن ذاكرتي تتضمن أمكنة يتميز بعضها عن بعض؟ يكفيني أنك تسكن في ذاكرتي!!

الاثنين، 5 مارس 2018

سر العشق الإلهي- تعليقات على فيلم الأب الخباز



شاهدت الفيلم التركي ”الأب الخباز“، الرابط بالأسفل[1]، واندهشت للعناصر المشتركة الكثيرة بين التصوف أو الصوفية الإسلامية من ناحية والصوفية أو النسك المسيحي، أو إن شئت لتسميها الحياة المستيكية الباطنية المسيحية من جهة أخرى. واندهاشي مبرر لأني لم أقرأ في هذا الموضوع للأسف. تدور أحداث الفيلم حول الأب الخباز الذي يكتشف سر الحياة في سر الخبز. الحنطة فيها أسرار الوجود كله. الإنسان يحتاج أن يُطحن، ويُعجن، ثم يدخل النار ليصير خبزًا يشبع القلوب والبطون.
لكن على قدر اطلاعي رصدت النقاط المشتركة التالية على سبيل المثال وليس الحصر:
-    فكرة إماتة الذات، ستجد في الفيلم الشيخ الولي يعلِّم الدرويش المبتدئ أن ”النفس هي العائق“. القديس أغسطينوس يقول ”انتصر على ذاتك ينهزم أمامك العالم.“[2] ولا شك يتبادر لأذهاننا قول السيد المسيح، وله علاقة مباشرة بالفيلم، ”إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ.“ (يو 12: 24)
-       هذه الإماتة سبيلها هو الوصول إلى العشق الإلهي (divine eros)، فالعشق هو الهَّم والدواء. أي بدونه لا يرتاح الإنسان، والوصول إليه صعب، لكنه الدواء لكل أدواء البشر.
-      يعتبر العلامة أوريجانوس مؤسس الصوفية المسيحية.. يرى أوريجانوس أن كلمة محبة في آية ”الله محبة“ (1يو 4: 8) تترجم أغابي (agape) وهي مكافئة تمامًا لكلمة (eros) أو عشق. ويقول أوريجانوس: ”لا أظن أن المرء يُلام إذا ما دعى الله (عشق- eros)، كما دعاه يوحنا الرسول (محبة- أغابي). كما أنني فضلاً عن هذا أتذكر أحد القديسين يُدعى أغناطيوس قال عن المسيح: ’إن عشقي قد صُلب.[3] والإشارة هنا إلى رسالة أغناطيوس إلى أهل رومية 7: 2.
-     ديونسيوس الأريوباغي (المزيف) يعرّف العشق بأنه ”قدرة على إحداث الوحدة، والتحالف، وامتزاج خاص بالجمال المطلق والصلاح المطلق (الله).“[4]
-   القديس يوحنا الصليبي (في أسبانيا- 1542م) يُسمى أمير التصوف المسيحي، كما يعتبره البعض الجسر أو القنطرة بين التصوف المسيحي والتصوف الإسلامي. يقول: ”أين احتجبت يا محبوب، وخلقتني في أنين؟ كإيل هربت بعد أن جرحتني، وفي أثرك خرجت صارخة، فكنت قد ذهبت.“ ربما تظهر هذه الحيرة في جهاد الدرويش بطل الفيلم للوصول إلى العشق الإلهي. وهذه ترجمة أخرى لكلام عروس النشيد: ”أَسْنِدُونِي بِأَقْرَاصِ الزَّبِيبِأَنْعِشُونِي بِالتُّفَّاحِ، فَإِنِّي مَرِيضَةٌ حُبًّا.“ (نش 2: 5)
-       فكرة أن يكون الله هو الحبيب المعشوق.. يقول ق يوحنا ذهبي الفم في قول شهير له على لسان المسيح: ”من يستطيع أن يعادلني في الجود؟ أنا أب وأخ وعريس وبيت وطعام ولباس وأصل كل ما تشتهي. لا أتركك تحتاج إلى شيء. أنت كل شيء بالنسبة لي.. الأخ والشريك في الميراث والصديق والقريب.. ماذا تريد أكثر من هذا؟ لماذا تنصرف عن من يحبك، وتتعب من أجل العالم؟ لماذا تغترف من برميل مثقوب؟
-       فكرة الذِّكر، وتكرار عبارات قصيرة، تظهر في الصلوات السهمية للرهبان، واستخدام المسبحة معروف في الرهبنة الكاثوليكية باسم صلاة الروزاري (Rosary) لحصر الذهن في أحداث إلهية مجيدة.
-       فكرة المعرفة الإشراقية العلوية التي لا تتأتى من الكتب. يرى الشيخ درويشًا مبتدئًا يكتب ويسجل العلوم والأفكار المختلفة. فيسأله وهل وجدت فيما تسجله ما تبحث عنه؟ فيجيب: لا. فيقول له ألقِ بالكتب، ومن الآن فصاعدًا لا تنقش ما تتعلمه على الورق، بل انقشه على قلبك. يُحسب للفيلم للأمانة أنه قال للمبتدئ أن ما حصله من علم لن يضيع سدى، لكنه سيكون معينه في مسيرتك للوصول إلى العشق الإلهي. أرى كلامًا مشابهًا عند القديس أغسطينوس: ”إذا لم تستطع مطالعة الكتب المقدسة وكشف حُجب كلام الله وإدراك أسرار كتبه، فعليك بالحب حينئذٍ ستجد كل شيء.[5] وايضًا يقول: ”إن عرفت المحبة تعلمت بواستطها ما كنت تجهله.[6]
-       فكرة المعجزات، في الفيلم الخبز يسوى بدون نار في الفرن. وأصحاب القلوب الدرويشية يعلمون بمجيء بعضهم البعض، وهناك شخصية في الفيلم تظهر وتختفي في أوقات معينة.. كل هذا ليس غريبًا عن خبرة الرهبان السواح في التراث القبطي.
-       فكرة رفض المناصب الكهنوتية.. عُرض على الدرويش الشيخ أن يكون إمام لمسجد السلطان، فرفض متحججًا أنه لابد أن يترك المكان الذي يُعرف فيه سره.. والقديس فرنسيس الأسيزي مثلاً يرفض رسامته قسًا.
-     فكرة الشخص المجذوب.. الذي يتصرف بطريقة أقرب إلى الخبل، وقد ظهرت في الفيلم، وبالرغم من هذا فهو يحس بسر الشيخ وكراماته بدلاً من المئات من الأشخاص العاديين. وهذا أيضًا ليس غريبًا عن بعض الشخصيات البسيطة التي ظهرت في تاريخنا الرهباني القديم والمعاصر.
-    وأخيرًا، الحكمة في الصمت.. يحكي الشيخ الدوريش في الفيلم عن درويش مبتدئ قصد تكية أحد الشيوخ الصوفيين لينضم إليهم، فجاء الشيخ بصحن فارغ وملأه بالماء، فيفهم الشخص الآخر أنه لا مكان متاح له في المكان، وإذا به يقطف وردةً ويضعها في الصحن..
هذه القصة موجودة في القصص المسيحية مع اختلاف طفيف لا يُذكر. القصة المسيحية تحكي عن شاب قصد دير الصمت في فرنسا، لكن رئيس الدير يأتي بكوب ملآن على آخره بالماء. يفهم الشاب أنه لا يوجد مكان متاح له في الدير، فيأتي بورقة من الشجر ويجعلها تطفو فوق الماء. فيما معناه أنه لن يُثقل على أحد في الدير. أعجب رئيس الدير بحكمة الشاب وقبله في الدير.
-       يُحسب للفيلم في رأيي التأكيد أكثر من مرة على أن العشق الدنيوي لا يكون عائقًا أمام العشق الإلهي.. ولذلك لا يرفض فكرة الزواج على عكس الرهبنة.. وإن كان في أحداث الفيلم نرى تدريبًا على الانفصال عندما تركته زوجته ليسير في مسيرة العشق بالرغم من احتياجها له.. وأظن أن الفيلم يريد أن يلمح أن هذه الزوجة كان لها قلب درويشي أيضًا بتغلبها على عاطفتها في هذا الموقف.
-       كذلك يُحسب للفيلم فكرة أن ينطلق الدرويش ليزرع الحب بين الناس..     



[2] القديس أغسطينوس، خواطر فيلسوف في الحياة الروحية، تعريب الخوري يوحنا الحلو، صفحة 225.
[3] Catherine Osborne, Eros Unveiled: Plato and the God of Love (Oxford: Clarendon Press, 2002), 73.
[4] Stephen Fields, Analogies of Transcendence (CUA Press, 2016), 199.


[5]  خواطر فيلسوف في الحياة الروحية، صفحة 111.
[6] نفس المرجع، صفحة 112.