الخميس، 13 يوليو 2017

هرمنيوطيقا النصوص النبوية-10

1- المعنى الأكثر اكتمالاً ( (Sensus Plenior
هذه الفكرة تبحث باختصار في سؤال هام: هل هناك معنى أعمق للنص النبوي؟ هل هناك معنى قصده الله، ولم يكن واضحًا بما يكفي للكاتب البشري؟ البعض يستشهد بمثال قيافا رئيس الكهنة الذي قال: ”فَقَالَ لَهُمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ قَيَافَا، كَانَ رَئِيسًا لِلْكَهَنَةِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ: أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَ شَيْئًا، وَلاَ تُفَكِّرُونَ أَنَّهُ خَيْرٌ لَنَا أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ الشَّعْبِ وَلاَ تَهْلِكَ الأُمَّةُ كُلُّهَا! وَلَمْ يَقُلْ هذَا مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ إِذْ كَانَ رَئِيسًا لِلْكَهَنَةِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، تَنَبَّأَ أَنَّ يَسُوعَ مُزْمِعٌ أَنْ يَمُوتَ عَنِ الأُمَّةِ، وَلَيْسَ عَنِ الأُمَّةِ فَقَطْ، بَلْ لِيَجْمَعَ أَبْنَاءَ اللهِ الْمُتَفَرِّقِينَ إِلَى وَاحِدٍ.“ (يو11: 49-52).
المدافعون عن المعنى الأكثر اكتمالاً sensus plenior يقولون إن قيافا قال هذا ولم يكن في ذهنه أية فكرة عن موت المسيح الكفاري أو النيابي. أمّا معارضو هذه الفكرة فيقولون إن قيافا كان يفهم ما يقول، لكنه لم يكن يستوعب كل المعاني المتضمنة في كلامه. وهذه ظاهرة شائعة في التواصل بين الناس. فالناس يفهمون ما يقولونه ولكنهم أحيانًا لا يدركون مضامين كل ما يقولونه. نفس الشيء مع الأنبياء.
فلنأخذ مثلاً هوشع 11: 1  ”لَمَّا كَانَ إِسْرَائِيلُ غُلاَمًا أَحْبَبْتُهُ، وَمِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنِي.“ في العهد الجديد يقول متى إن هذا النص هو نبؤة عن رجوع العائلة المقدسة من مصر بعد هروبها من الذبح على يد هيرودس. في حين عندما نقرأ نص هوشع لا نرى أي أساس يمكن أن نبني عليه المعنى الذي قصده متى. والدليل على ذلك الآيات التالية: ”كُلَّ مَا دَعَوْهُمْ ذَهَبُوا مِنْ أَمَامِهِمْ يَذْبَحُونَ لِلْبَعْلِيمِ، وَيُبَخِّرُونَ لِلتَّمَاثِيلِ الْمَنْحُوتَةِ“ (هو11: 2). فهوشع يتكلم عن خروج بني إسرائيل من مصر. النص واضح في ذلك. ربما يمكننا أن نستخلص معنى روحانيًا بالإضافة إلى المعنى الحرفي المباشر: وهو أن الله يدعو أبناءه في كل زمان ومكان ويتودد إليهم لكنهم لا يقدرون دعوته: ”كُنْتُ أَجْذِبُهُمْ بِحِبَالِ الْبَشَرِ، بِرُبُطِ الْمَحَبَّةِ، وَكُنْتُ لَهُمْ كَمَنْ يَرْفَعُ النِّيرَ عَنْ أَعْنَاقِهِمْ، وَمَدَدْتُ إِلَيْهِ مُطْعِمًا إِيَّاهُ.“ (ع4)، لكنهم رفضوا الله ورفضوا دعوته.
هذا هو السياق الذي يتحدث فيه هوشع. السؤال الآن: عندما نقرأ الكتاب كله وتنفتح أعيننا على معانيه العميقة والأكثر اكتمالاً، هل نرى شيئًا آخر؟ نعم بكل تأكيد. عندما أخرج الله شعبه من مصر كان ينفذ جانبًا من خطته الخلاصية. فلقد أخبر إبراهيم أن نسله سيُستعبد في أرض غريبة، وبإخراجهم من أرض العبودية فيه تحقيق لوعد الله بإعطاء نسله أرض كنعان. ولكننا نفهم الآن كما فهم البشير متى، أنه بدون هذه الخطوة في الخطة الخلاصية، أي بدون خروج الشعب من مصر، ما تكونت أمة إسرائيل، وما جاء نسل داود، وما وجد الأنبياء، وما ولد المسيح أصلاً، وما كان أكمل عمله الخلاصي على الجلجثة.
قطعًا لا يمكننا الجزم بأن كل هذا كان في ذهن هوشع، لكن الروح القدس الذي ألهمه بهذه الصياغة هو نفسه الذي ألهم متى بالفهم أو بالتحقيق الأكثر اكتمالاً في المسيح. لذا يرى البعض أن عبارة ”لكي يتم ما قيل“ لا توصل المعنى تمامًا؛ لأن المعنى هو أنه في المسيح يكتمل خروج إسرائيل من مصر.
مثال آخر في نبؤة بيت لحم في ميخا 5: 2 : ”أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمِ أَفْرَاتَةَ، وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا، فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطًا عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ، مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ.“ هذا النص قاله ميخا قبل الغزو الأشوري وفيه تعزية للشعب بأن الله سيرسل من نسل داود ملكًا من أفراته بيت لحم موطن عائلة داود- ليجلس على عرشه وينتقم من أعداء إسرائيل ويعم السلام والرخاء عليها. البعض يقول إنها حالة أخرى للمعنى الأكمل sensus plenior ، لكننا أمام مشكلة أن هذا الملك المتسلط يوصف كالتالي: ”وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ، مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ.“ فإضفاء صفة الأزلية هنا تحصرنا في شخص المسيح فقط. وبالتالي يرى البعض أنها كانت نبؤة مباشرة تحققت حرفيًا في المسيح ولا تعتبر حالة من حالات المعنى الأكثر اكتمالاً. لكن البشير متى، عكس وصف أفراته، وقال أنها ”لَسْتِ الصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا.“ (مت 2: 6)، وبعض التفاسير تقول إن متى أدرك أن بيت لحم لم تعد صغرى بعد ميلاد المسيح فيها!!
2-  تعدد المعاني في مقابل المعنى الأوحد
هذا يقودنا إلى إشكالية أخرى، هل النص النبوي له معنى وحيد أم له عدة معاني؟ هذه الفكرة لها مسميات مختلفة منها ”قانون الإشارة المزدوجة“ (double reference law) أو ”قانون التحقيق المزدوج“ (double fulfillment law) أو ”قانون المعنى المتعدد“ (multiple sense). البعض ينادي بمعنى أو تحقيق وحيد للنص النبوي، مع الاحتفاظ بفكرة التطبيقات المتعددة لمعنى النص. البعض الآخر يشير إلى أن هناك تحقيق عام وشامل للنص النبوي ويتحقق في مراحل تاريخية مختلفة. مثال على ذلك: تكوين 3: 15 تتحدث عن نسل المرأة الذي سيسحق رأس الحية. هذا تحقق بداية بالمسيح من خلال موته وقيامته (يو12: 31-32؛ رؤ12: 5، 10)، ومستمر من خلال الكنيسة (رو16: 20)، وسينتهي في المجيء الثاني للمسيح وإلقاء الشيطان في بحيرة النار (راجع رؤ20: 3، 10).
البعض الآخر يتحدث عن مصطلح يُسمى ”النظرة النبوية التلسكوبية“ (prophetic telescoping). حيث يقفز النبي فوق قمم متتالية على الطوبوجرافية النبوية دون ملاحظة الوديان الفاصلة بينها زمنيًا. -  مثال يوئيل 2: 28-32 والكلام عن حلول الروح القدس، وفي نفس الوقت يتكلم عن أحداث في اليوم الأخير ”يوم الرب العظيم المخوف“. السيد المسيح عمل نفس الشيء في حديثه على جبل الزيتون (متى 24)؛ وتكلم عن أحداث 70م وخراب الهيكل وأورشليم، وأحداث عن اليوم الأخير. هذا يفسّر لماذا المسيح عندما أمسك السفر وقرأ فيه توقف عند الآية 6 (لوقا4: 19) ولم يذكر عبارة ”يوم انتقام لإلهنا“ (إش 61: 2)، لأن هذا سيكون في المجيء الثاني-  يسمى هذا ب ”الخلطblending أو ”التقصير“ foreshortening  أي التقصير في الأفق/ أو المنظور النبوي.
هذا المنظور النبوي يمزج بين أمور تحدث في المستقبل القريب وأمور تحدث في المستقبل البعيد، فالأنبياء عادة ما يرون الأحداث الأخيرة متصلة بالسياق الأول الذي يتحدثون فيه. بعض النبوات التي تتحدث عن المستقبل القريب توضع في ضوء حدث اسخاتولوجي أكبر، وأحيانًا يختلطان معًا blending. والسبب في ذلك أن الكتاب المقدس دائمًا ما يرى أعمال الله في التاريخ في ضوء الخطة الإلهية الشاملة للتاريخ البشري كله وللخليقة كلها. هذا ما يُسمى بالنظرة الأمامية (straight on view) بمعنى حدث أمام حدث أو في ضوء حدث، وليس النظرة الجانبية (side view) بمعنى رؤية الأحداث متتابعة ويفصل بينها فترات زمنية (هذا الرأي أورده جوردون في في كتاب ”خطوات عملية لفهم كلمة الله.“
الأمر الآخر في صعوبة تفسير النبوة، هو الغموض Enigma الذي يكتنف النص-  أو بعض النصوص- فكل التفاصيل الخاصة لم تُعلن بالطبع للنبي حتى يعطينا صورة كاملة المعالم عن المستقبل. فأحيانًا تشعر في العهد الجديد أو القديم بأن مجيء الرب وشيك جدًا، هناك أمور نوعية تواجه كل جيل؛ فنهاية التاريخ وعودة المسيح يمكن أن تحدث في جيلنا أيضًا.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق