الثلاثاء، 11 يوليو 2017

تاريخ الهرمنيُوطيقا الكتابية-1



الأصل اللغوي لكلمة "هرمنيوطيقا"
ترجع كلمة "هرمنيُوطيقا" (heremeneutics) إلى فعل يونانية هو "هرمينويين" (hermeneuein)، وتعني "يبلغ/ أو يترجم/ أو يفسِّر". وهي إشارة إلى أحد آلهة اليونان يُسمى "هرمس Hermes"، وهو رسول الآلهة، الذي يتقن لغة الآلهة، ويفهم ما يدور في أذهانها. ثم يذهب ليخبرها إلى البشر، وبالطبع كان عليه أن يعبر الفجوة الكبيرة بين طريقة تفكير الآلهة وطريقة البشر في التفكير.
كان الفعل اليوناني (hermeneuein) يظهر في نصوص معينة تؤكد على مسؤولية البشر عن التفسير الصحيح لكتابات قديمة تحتوي على رسائل من الآلهة، واستخراج المعنى الباطن منها. باختصار "الهرمنيُوطيقا" هي فن الفهم. وعندما نقول "الهرمنيُوطيقا الكتابية" فنحن نقصد بذلك فن تأويل وتفسير النَّص الكتابي. هذه المهمة الخطيرة؛ إذ كيف لنا أن نفهم، اليوم وبظروفنا الحالية، نصًا قديمًا.. كُتب وفُهم ونُقل واستُخدم- في زمان ومكان- وفي ثقافة لم نعد نعيشها الآن.
"الهرمنيُوطيقا" من الكلمة التي استخدمها السيد المسيح وهو يفسر المكتوب لتلميذي عمواس: "ثُمَّ ابْتَدَأَ مِنْ مُوسَى وَمِنْ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ يُفَسِّرُ (dihermeneuo) لَهُمَا الأُمُورَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ" (لو 24: 27). ولكن قد يقول قائل: "أنا أقرأ، وأستطيع أن أفهم، ولا أحتاج لكتاب يعلمني كيف أفهم!". الأمر ليس بهذه السهولة، فإذا قلنا أن أحد معاصري داود النبي أتيحت له أن يدخل على صفحة من صفحاتنا على الفيسبوك، فهل سيفهم كل شيء، حتى إذا ترجم إلى لغته كل كلمة. من الواضح أن اللغة لها مدلولات تختلف حسب السياق التاريخي، وحسب خصائص الشكل الذي تكتب به الكلمات.  
"الهرمنيُوطيقا الكتابية".. هي فن التأويل أو التفسير الكتابي.. أو علم التفسير الكتابي. لماذا نقول "فن"؟ لوجود مساحة من المرونة تعتمد على المفسِّر وقدرته على الغوص في لجج الكتاب الغائرة. ولماذا نقول "عِلم"؟ لأنه يتبع قواعد وشروط حاكمة- ولا ينبغي أن يكون التفسير الكتابي عملية اعتباطية.. أو شخصانية. ومن ثَم فالهرمنيُوطيقا هي عملية تقنين codification لقواعد التفسير.
الاحتياج إلى الهرمنيُوطيقا (التفسير)
من الواضح أننا بحاجة إلى التفسير والتأويل لسبب بسيط، هو: الفجوة التي تفصل بين المفسِّر عن النص الذي يريد فهمه، ومن هنا تبرز الحاجة إلى إقامة أساسات تهدف إلى "تجسير أو ردم" (bridging) هذه الهوة أو الفجوة[1]. لماذا الصعوبة في فهم النَّص؟ ولماذا توجد فجوة وحواجز؟ لنتأمل الحواجز والفجوات التالية:
-        فجوة زمنية Time Gap: لأنه يوجد فاصل زمني- قرون أو آلاف السنين- بين كاتب النص والقارئ للنص الآن. إن أقدم أسفار الكتاب المقدس (التوراة) كتبها موسى منذ 3400 سنة، وآخر أسفار الكتاب المقدس (الرؤيا) كتبها يوحنا منذ حوالي 1900 سنة. 
-        فجوة ثقافية Cultural Gap: أي أن هناك تباينًا بين الثقافة التي عاش فيها كاتب النص والقارئ اليوم. يصف "هنري فيركلر" هذا الأمر بسمكة ملونة في حوض سمكي (نحن في زماننا وثقافتنا) وهي تنظر إلى سمكة ملونة أخرى في حوض آخر (كُتاب الأسفار في زمانهم وثقافتهم). وبدون فهم الفوارق بين الثقافتين سيؤدي ذلك إلى فهم مغلوط للنص الكتابي[2].
-        فجوة لغوية Linguistic Gap : النَّص الكتابي لم يكتب بالعربية أو بالإنجليزية. فقد كُتب العهد القديم بالعبرية والآرامية، وكُتب العهد الجديد باليونانية. وكل لغة لها خصائصها، ومن المعروف أن أي ترجمة مهما بلغت دقتها لا تستطيع أن تنقل كل مدلولات اللغة الأصلية في اللغة المُترجم إليها.  
-        فجوة جغرافية Geographical Gap: حيث كُتب النص في مناطق جغرافية مختلفة عما نعيش فيها. إذ جرت أحداث الكتاب المقدس في مناطق مثل مصر وبابل (العراق حاليًا)، وآسيا الصغرى (تركيا واليونان حاليًا)..
-        فجوة فلسفية Philosophical Gap: حيث يوجد اختلاف وتباين بين الرؤية الكونية (النظرة العامة للحياة والكون( للكاتب وقرائه الأوائل، والقارئ اليوم.
تعريفات هامة:
بعد أن فهمنا أن الهرمنيوطيقا هي علم تحديد قواعد التفسير. (بمعنى قبل أن ننزل لنعلب مبارة في كرة القدم أو السلة لابد أولاً من وضع قواعد اللعبة التي يتفق عليها الجميع). نأتي الآن لبعض المصطلحات ذات الصلة بالهرمنيُوطيقا.
أولاً: الشرح Exegesis وهو تحديد معنى النص الكتابي في سياقه التاريخي والأدبي. أي ما قصده الكاتب في الظرف التاريخي الذي كتب فيه لمجموعة من الناس (القراء الأوائل للنص- original audience). الشرح Exgesis  يحاول الإجابة على سؤال: "ماذا كان الله يريد أن يقول- من خلال الكاتب- للسامعين أو القراء الأوائل للنص؟".  أنت كدارس للكتاب تقوم بعملية ال Exgesis على مكتبك- وبمفردك- وتهتم أولاً وأخيرًا بفهم النص الكتابي. وهي تمثل مهمة فنية (technical) تمامًا.
ثانيًا: ال Exposition وهو توصيل معنى النص ودلالته (صلته) بالسامعين أو القراء الآن. وبالتالي هو عملية تلامس للنص مع الزمان والمكان الحاضريين- الآن. وأنت كدارس للكتاب المقدس تقوم بعملية ال Exposition من فوق المنبر- أمام الشعب- وتهتم فيه أولاً وأخيرًا بتوصيل معنى النص الكتابي. وهي تمثل مهمة عملية (practical) تمامًا.
ثالثًا: علم الوعظ Homiletics وهو علم (مبادئ) وفن (مهمة) توصيل معنى النص الكتابي ودلالته في سياق وعظي.
رابعًا: علم أصول التدريس Pedagogy وهو علم (مبادئ) وفن (مهمة) توصيل معنى النص الكتابي في سياق تدريسي.
سير عملية التفسير
تسير عملية التفسير بدءًا من الخطور رقم 1: ال Exgesis والتي هي محاولة استخراج لقصد الناس كما أراده الله- من خلال الكاتب- للقراء الأوائل. وهذا يحتم علينا أن نبدأ من الكاتب نفسه وجمهور قرائه والظروف المحيطة بهم. لأنك لو بدأت من حيث أنت الآن، ومن منظور الآن، سينتهي بك الحال لاستخلاص أشياء لم يقصدها النص الكتابي وقت أن كُتب.
ثم تأتي الخطوة رقم 2. ونقصد بها استخراج المبادئ اللاهوتية العامة التي نستنبطها من الأحداث الكتابية، والتي تنطبق على كل زمان ومكان. هذه الخطوة تحاول الإجابة على سؤال: "ماذا يقول النص عن طبيعة الله وصفاته وما يحبه وما يكرهه؟
ثم تأتي الخطوة رقم 3. وهي عملية ال Exposition وهي ببساطة عملية تطبيق المعاني والمبادئ المستخلصة من النص على القراء الحاليين.. جمهور الفيسبوك مثلاً.
                                                                                        
سؤال هام: ماذا يحدث إذا اختصرنا- وعملنا short-cut لعملية التفسير؟
عندما نقفز أو نستثني خطوة من الخطوات السابقة (ال Exposition، ثم استخلاص مبادئ لاهوتية عامة، ثم ال Exposition)، فإننا حتمًا سنقع إمّا في فهم وتفسير خاطئ للنص الكتابي أو سنقع في تفسيرات متناقضة وبالتالي تطبيقات خاطئة للنص الكتابي.
-        إذا تحركنا مباشرة من خطوة 1 إلى خطوة 3. وفقًا للمثال السابق سيلتزم المسيحيون بشرائع الطعام الواردة في سفر اللاويين- وحفظ السبت أيضًا.
-        وإذا تحركنا من خطوة 3 إلى خطوة 1 (باتجاه عكسي). بمعنى أننا فسرنا النص بأفكارنا الحالية في العصر الحديث فربما أقرأ ما كتبه بولس في رومية 7 على أنه نوع من الاكتئاب ثنائي القطب (bipolar depression)، فيها يتأرجح المريض بين نوبات من الاكتئاب والحالات المزاجية المرتفعة. أو ربما أفسر حالات دخول الأرواح النجسة في الإنسان على أنها نوع من الشيزوفرنيا أو انفصام الشخصية.
-        وإذا اكتفينا بخطوة 1، 2 فقط، سنستخلص لاهوتًا مجردًا ليس له ترجمة في حياتنا اليومية الآن. ويصبح اللاهوت لغوًا لا طائل منه. ويفقد النص الكتابي دوره ومفاعيلة المرجوة منه.
-        وإذا تحركنا مباشرة من خطوة 2 إلى خطوة 3 (بدون خطوة 1)، حينئذٍ تصبح عقيدتي اللاهوتية بلا أساس كتابي يدعمها.
-        وإذا تحركنا من خطوة 3 إلى خطوة 2 (رجوعًا)، تصبح أفكاري المعاصرة الآن هي المحددة لعقيدتي اللاهوتية. وهذا ما يمكن تسميته ب "اللاهوت الشعبوي" (popular theology). فقد نصدِّق من أفلام هوليود أن الشيطان له قرون وذيل، وأن الملائكة تمسك قيثارة وتعزف عليها (حرفيًا)، أو أن الله الآب يبدو كشخص متقدم في العمر وله لحية بيضاء. كل هذه الأفكار تنتج من التحرك من فهمنا للنص عندما نبدأ بأفكارنا نحن في ظروفنا الحالية.  




[1] Bernard Rahmm, “Biblical Interpretation”, Baker’s Handbook of Practical Theology. Baker’s Book House, p. 100.
[2] Henry Virkler; Hermeneutics: Principles and Processes of Biblical Interpretation, Baker Academic, 2007, p. 19.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق