الاثنين، 16 مايو 2022

عن (عدم) قابلية الله للتألُّم- ق غريغوريوس العجائبي

 



هذه ترجمة[1] لمقالة للقديس غريغوريوس صانع العجائب بعنوان On The Impassibility and Passibility of God أو ”عن (عدم) قابلية الله للتألُّم“، وهي في شكل يشبه المحاورة بدرجة قليلة مع شخص يُدعى ثيؤبومبوس، والذي وجَّه سؤالاً للقديس غريغوريوس صانع العجائب حول إمكانية أو قابلية الله للتأثُّر أو التألُّم.  

ق غريغوريوس صانع العجائب

يقول عالم الآبائيات كواستن إن ق غريغوريوس صانع العجائب (213- 270م) ولد من عائلة وثنية ذات مقام رفيع في قيصرية الجديدة عام 213م، وقد درس الخطابة والقانون، وحضر بعضًا من محاضرات العلامة أوريجانوس مثلت تحولاً في حياته، وكان إعجابه الشديد بأوريجانوس سببًا في ترك دراساته وعائلته، وسيم أسقفًا على بلدته قيصرية الجديدة، واعتبره آباء القرن الرابع مؤسسًا لكنيسة كبادوكية.[2]

مضمون المقالة

كما ترون تتعرض هذه المقالة بشكل محدد ربما للمرة الأولى لموضوع حساس جدًا وهو عن قابلية أو عدم قابلية الله للتألُّم أو التأثُّر، أو ما يُعرف بصفة ال impassibility، بمعنى مدى إمكانية أن يتقبل الله في ذاته تأثيرًا خارجيًا يغير من حالته. لذلك فإن صفة ال impassibility أو عدم قابلية الله للتأثر مرتبطة بصفة أخرى هي عدم قابلية الله للتغيُّر immutability. وترتبط أيضًا بصفة أخرى هي الأزلية أو عدم التزمن timelessness، فطالما يحيا الله في ”الآن“ دائمًا فهو لا يخضع لمؤثرات تغير من حالته الوجودية أبدًا. لذلك فإن صفة الـ impassibility تعني أيضًا خلو الله من الانفعالات والمشاعر، فضلاً عن الأهواء الشريرة. لكن هل الله بهذه المواصفات يكون كالجبل الجليدي iceberg، جامدًا، وخاملاً، وسلبيًا، واستاتيكيًا، وساكنًا؟ هل يشعر بنا ويتجاوب معنا بشكل حقيقي، أم أنه المحرك الذي لا يتحرك immovable mover كما يصفه أرسطو؟ هنا تكمن أهمية هذه المقالة المخصصة بجملتها لهذه الفكرة الصعبة والحساسة.

غير أن القارئ لمقالة القديس غريغوريوس العجائبي سيجده يقر بأن الله غير متألم وغير متغير في جوهره، لكن هذا لا يجعله خاملاً أو سلبيًا، بل إنه يتجاوب مع احتياجات خلائقه ويعتني بهم. ومِن ثَم فإنني أرى أنه يتبني فكرة مخففة أو معدلة من عدم قابلية الله للتأثر أو ما يُعرف بـ qualified impassibility. لا أرغب في تقديم عرض شامل لأفكار هذه المقالة، لكني أكتفي بتجيمع الأمثولات analogies أو التشبيهات التي استخدمها القديس في تأكيد فكرته عن أن الله يدخل دائرة الألم ولا يتألم، ويقف في بوابات الموت ولا يموت، بل كما أنه بموته أمات الموت، فهو بألمه جعل الألم نفسه يتألم.

1- الطبيب: يتحدث ق غريغوريوس عن أن الطبيب يتخلى مؤقتًا عن كرامة مهنته ويقوم بدور الخادم أو العبد، كل هذا من أجل الأخبار السارة لشفاء المريض، فهو ”لم يُنتقص بأي حالٍ من الأحوال خلال الفترة الزمنية التي أذل فيها نفسه ونفذ واجب الخدمة المطلوبة لشفاء الجسد (فقرة 6). وفي هذا إشارة إلى الله في تجسده كيف أخلى ذاته بغية أن يشفي البشرية المريضة، لكن ق غريغوريوس يذهب إلى أبعد من هذا واصفًا إن الله في آلامه لم يؤذَ بل كان سببًا في تألُّم الألم ذاته (الفقرة 6).

2- طرق الألماس بالحديد: الألماس لا يتأثر بضربة الحديد، بل على العكس ترتد الضربة على الضارب، وبالتالي فإن الله غير المتألم صار سببًا في تألمُّ الألم ذاته (فقرة 6).

3- دخول الملك إلى سجن المجرمين: عندما يدخل الملك أو أحد المسؤولين إلى سجن المجرمين لكيما ينفذ الأحكام ضدهم، فهو يتحمل الروائح الكريهة لهذا المكان، ومع ذلك لا نسمي الملك مثلما نسمي هؤلاء المجرمين: ”هكذا يجب أن نفكر في الله. لأنه بسبب عدم قابليته للتألُّم ليس له نصيب في الفناء، وبسبب عدم فنائه يقدر أن يطأ الموت بلا خوف تحت قدميه، وبسبب قدرة لاهوته، فهو بلا تألُّم، فلا ينفذ إليه الموت (فقرة 8).

4- حيوان السلمندر (السمندل): حيوان السلمندر أو السمندل Salamander هو من البرمائيات، التي يمكنها تحمل النار والتحرك فيه. ويرجع ارتباط السلمندر بالنار إلى بليني الكبير الذي تحدث عن أنه يتميز بالبرودة الشديدة وتحمله للاتصال بالنار (Natural History, book 10. 86)، وتحدث عنه ق أغسطينوس في سياق الحديث عن إمكانية عذاب الأجساد إلى الأبد في النار (مدينة الله، كتاب 21: 4). يستخدم ق غريغوريوس العجائبي هذا الحيوان ليؤكد أن الله اقترب من الموت ولم يُمسك به الموت، دخل دائرة الآلام ولم يؤذَ، فيقول: ”إذا كان السلمندر،  وهو حيوان فانٍ خاضع للفساد، يجعل قدرة الحرق التي للهب بلا فاعلية بفضل القدر الكبير من البرودة التي لديه، فكيف ننكر أن الله الذي هو أعلى من الموت والفساد كان يملك صفة عدم التألُّم عندما واجه الموت؟ (فقرة 9).

5- السيف الذي يجتاز في النار دون أن يقطعها: يمكنك أن تجيز السيف في النار، لكن لأن النار جوهر لطيف متماسك، فالنار لا تتقطع جراء حركة السيف فيها. كذلك جوهر الله لا يمكن أن يُمزق بالآلام (فقرة 9).

6- نفاذ نور الشمس من خلال الزجاج: يقول ق غريغوريوس العجائبي: ”نحن نرى أن أشعة الشمس تخترق الزجاج الشفاف. ويمر ضوء الشمس، والأجسام لا تعاق من المرور بلطافة عبر أجسام أخرى من طبيعة متخالفة. فإذا كان نوع معين من المادة لا يمنع قوة نوع آخر من المادة من العبور من خلالها، بفضل لطفاتها، ألا يجب أن نسلِّم بأن جوهر الله، الذي هو أعلى وأقوى من كل شيء، يمر بدون مقاومة عبر كل الأجسام الأخرى التي تقابله، وذلك بفضل لطافته، بحيث إنه لا تعاني الألوهة من الآلام بأي وجه (فقرة 10).   

7- اجتماع النور والظلمة: حين تدخل أشعة النور على الظلمة فهي تبددها، لكننا لا نقول إن النور أصابه العتامة. هكذا نفكر في الله. يقول ق غريغوريوس: ”لأن مزج الظلمة بالنور لا يُعتم النور، وإنما ينير النورُ الظلمةَ بأشعته، التي كشيء ضعيف يُبتلع بشيء أكبر وأكثر سموًا وأقوى منها... هكذا الأمر مع الله: فعندما دخل طواعية في الموت... ظلت طبيعة الله بلا فساد حتى في الموت، وبقدرة عدم تألمه أخضع الآلام، على طريقة النور حين يجتمع مع الظلمة“ (فقرة 12).

8- مادة الإسبستوس الواقية من النار: الأسبستوس أو الأسبست Asbestos، أو الأمينت، هو الحرير الصخري، ويُستخدم كمادة عازلة للحرارة وفي الملابس الواقية لرجال المطافئ. ولقد استخدم ق أثناسيوس نفس التشبيه في سياق حديثه بأن الموت فقد تأثيره بموت المسيح، مثلما تفقد النار فعل الإحراق بواسطة مادة الإسبستوس (راجع تجسد الكلمة فصل 28). نفس الفكرة يستخدمه ق غريغوريوس ويشرح كيف أن ”الأسبستوس  أيضًا يبقى على حاله إذا وضع عليه النار، ولا يعاني من أي أذى بسبب اجتماعه بالنار“، ”فلماذا من المنفر أو الصعب علينا أن نتحدث عن جوهر الله غير الفاسد الذي يبقى أيضًا كما هو في حالة عدم التأثر، حتى حين يتقابل مع الأشياء التي تسبب الآلام؟ (فقرة 12).

بالإضافة إلى كل هذه الأمثولات والتشبيهات، يحاجج ق غريغوريوس العجائبي أن الله الذي يعيش في غبطة كاملة divine blessedness، لا يعني أنه يستنكف أن يعتني بالإنسان المحتاج إلى مساعدته، لأن الفلاسفة اليونانيين والأبطال اليونانيين ضحوا بذواتهم من أجل شعبهم، ولا يمكن أن يكونوا أفضل من الله الذي يمنح جوده وصلاحه ومعونته عن خليقته. 


يمكنك تحميل الكتاب من هنا: 

https://drive.google.com/file/d/1CabqP3AInCxd4fG8jJ9MWW9Gpip4gfHW/view?usp=sharing 



[1] اعتمدت في هذه الترجمة على الترجمة الإنجليزية الواردة في سلسلة The Fathers of the Church مجلد 89 الصادر عن الجامعة الكاثوليكية في أمريكا، من الصفحات من 152- 173.  

[2] كواستن، علم الآبائيات ”باترولوجي“، المجلد 2، بناريون، ص 133- 134.