الأربعاء، 23 مايو 2018

التربية الكتابية- داود الملك وعائلته



لا يستطيع أحد أن ينكر إنجازات الملك العظيم داود؛ إذ شهدت الأمة اليهودية أزهى عصورها في عهده وعهد ابنه سليمان. لكنه لم يكن أبًا ناجحًا بنفس القدر. فقد فشل في تربية ثلاثة من أبنائه على الأقل. ولقد كان الوحي الإلهي أمينًا في سرد إخفاقاته في هذا المجال بدون تلطيف أو تخفيف حتى نستفيد منها ولا نكرر المأساة. ولا نبالغ إذا نبالغ إذا قلنا أن إهمال دواد في تربية أبنائه كان له تأثير سلبي ليس على أسرته فقط بل عل مصير بلاده بأكملها. لم تظهر المشكلات إلا عندما كبر أبناؤه. يقول الكتاب: "ربِّ الولد في طريقه، فمتى شاخ أيضًا لا يحيد عنه" (أم 22: 6). وبينما يفسر البعض كلمة "طريقه" هنا على أنها طبيعة الطفل وفطرته الخاصة، فإن الدارس لسفر الأمثال يدرك أن هناك طريقين لا ثالث لهم: طريق الحكمة والأبرار، وطريق الحمقى والأشرار. ونعرف أن داود كانت له زوجات كثيرات فضلاً عن سراريه وأبناء كثيرون.. فكيف كان يحقق لكل هؤلاء اكتفاءً عاطفيًا على الأقل؟! وهل كان لديه من الوقت في خضم حروبه ومشغولياته أن يعلِّم أبناءه وصايا الله وطريق الحكمة والأبرار؟

نأتي إلى حدث فاصل في حياة داود، عندما صعد على سطح منزله لا لينظر نِعم الرب التي ساعدته في بناء مدينة أورشليم، بل امرأة أوريا الجميلة التي كانت تستحم. في نفس الليلة كان الملك العظيم قد سقط في شهوته، وتبع ذلك سلسلة من الأحداث المتوالية. بعد قليل أرسلت إليه المرأة خبر حملها بطفل منه، ويحاول داود معالجة الأمر ويرسل في استدعاء أوريا من المعسكر ليبيت مع زوجته وينتهي الأمر، ولكن موقف أوريا النبيل زاد من خزي الملك، فأرسل بيده رسالة تقضي بوضعه في الصفوف الأمامية ليُقتل، فتحقق لداود ما أراد. كانت جريمة بشعة- زنى وقتل- بكل المقاييس. ولم تكن أقل من جريمة ذلك الرجل الغني الذي ترك خيراته واستولى على نعجة الفقير ليكرم بها ضيفه. قدّم داود توبة عظيمة ولكن نتائج أخطائه كانت مدوية:
"لا يفارق السيف بيتك... أقيم عليك الشر من بيتك، وآخذ نساءك أمام عينيك وأعطيهن لقريبك، فيضجع مع نسائك في عين هذه الشمس"
(2صم 12: 10-12)
هذا هو قانون السبب والنتيجة، وهذا هو الدرس الأعظم: لا تتركوا أبناءكم في عالم افتراضي.. الواقع يقول إن للخطية تبعات مترتبة عليها، ولها ثمن وتكلفة لابد أن تُدفع. الشيء الذي يحسب لداود أنه تحمل هذه التكلفة في صبر واتضاع وبروح التوبة، لذا كانت التبعات بمثابة نار مطهرة له. في كل الأحوال سيغفر لنا الله خطايانا إذا قدمنا توبة صادقة عنها، لكنه اختار أن يترك آثار الخطية لنتحملها حتى نتذوق مرارتها ونتعلم الدرس جيدًا.

بدأ داود يحصد نتائج أفعاله عندما مات الطفل الذي حبلت به امرأة أوريا، وربما يرجع حزن داود عليه إلى إحساسه بأن موت ابنه كان بسبب خطيته كأب. وهذا شعور مدمر لدى أي أب أو أم! تكرر نفس الشيء عند موت ابنه أبشالوم، وربما ايضًا عندما قتل أبشالوم أخاه أمنون.

تربى أمنون في قصر الملك ونشأت لديه عاطفة منحرفة تجاه أخته (من أم أخرى) ثامار.. لم يتعود أمنون على أن يُرفض له طلب، فكل ما يطلبه متاح ومباح له. لذا لم يتعلم الصبر، أو تأجيل إشباع رغباته، وفي ظل عدم وجود معايير سلوكية لديه، لم يكن ليميز بين الصواب والخطأ؛ فتمارض وخدع أباه وطلب منه أن يأكل من يد أخته ثامار. لماذا لم يلاحظ داود أية إيحاءات غريبة من كلام أمنون؟! ضاجع أمنون أخته، وبعد ذلك أبغضها بغضة شديدة، وطردها من بيته، ورفض الزواج منها وحطمها نفسيًا، وتركها في عار بقية عمرها. السؤال أين داود الأب من كل هذا؟ لم يعاقب أبنه أمنون، وترك لأبشالوم أن ينتقم لأخته ويقتل أمنون بعد ذلك، ولم يواسِ ثامار إذ كانت في أمس الحاجة لم يقدِّم لها دعمًا معنويًا.  لاحظ أيضًا أن أمنون خدع أباه عندما تظاهر أمامه بالمرض وطلب زيارة أخته له. لم يحرك داود ساكنًا، وربما أراد تهدئة الأمور منعًا لانتشار الفضيحة أكثر، وبصمته وقف في جانب الجاني وترك المجني عليه (ثامار).

مرة أخرى يُخدع الأب من أحد أبنائه؛ إذ يعمل أبشالوم وليمة لأبناء الملك ويطلب منه أن يسمح بحضور أمنون، وفي نهاية الليلة يقتل أبشالوم أخاه أمنون منتقمًا لأخته، الأمر الذي لم يعد بأدنى فائدة على أخته ثامار المحطمة نفسيًا ومعنويًا. ولو عاقب داود أمنون ما ترتب على ذلك قتله. لماذا لم يعاقبه؟ يجيب "إف. بي. ماير" كالآتي:

"بعد سنتين، فعل أحد أولاده بأخته كما فعل هو بامرأة أوريا. يقولون إن الإنسان لا يسمع صوته إلا عندما يرتد له مرة أخرى من جهاز الفونوجراف، ويقينًا لا يرى المرء شرور نفسه حتى تعاود الظهور في أحد أبنائه. لقد حملت خطية أمنون نفس مواصفات شهوة داود الجامحة، كذلك رأى داود جريمته (في قتل أوريا) عندما قتل أبشالوم أخاه أمنون.. كيف يستطيع أن يوقع داود القصاص على نجاسة ابنه، في حين أعفى نفسه منها. كذلك لم يجرؤ أن يعاقب أبشالوم على قتله لأخيه، إذ تذكر أنه كقاتل كان قد أعفى نفسه من قصاص هذه الجريمة".  
 لا شك أن نتائج خطية داود كانت مروعة، وأنه ظل يدفع ثمنها حتى نهاية أيام حياته. يكفي أنه وهو شيخ لا يجد أحدًا من أبنائه حوله، ويشعر ببرودة الوحدة، ويطلبوا فتاة عذراء تحتضنه لتدفئه. أمام هذه المأساة.. نؤكد أنه ليس الهدف أن نرتدي نظّارة معظمة لنفتش عن خطايا وإخفاقات أب مثل داود، وإنما لنتعظ منها. لذا سأحاول توضيح الدروس المستفادة من قصة داود وعائلته من خلال الصلاة التالية:

يارب.. أعني كأب/ كأم في مسؤولية تربية أبنائي
إني أحتاج بشدة إلى قوتك ومعونتك
يارب.. لا تجعلني أفرح فقط بولادة أبنائي مثل داود،
بل أفرح بالأكثر حينما أسلمهم في يديك، وأراهم ممسكين بك
ساعدني أن أحقق لهم اكتفاءً من الحب قبل أي شيء
ساعدني أيضًا أن أضعهم في المرتبة الأولى في حياتي
ولا تجعل مشغولياتي أو طموحاتي تشغلني عنهم
وإذا أخفقت في شيء.. كمّل أنت بنعمتك
وأعدك يا إلهي بأن أقبل نتائج أخطائي كنار مطهرة لي
ساعدني يارب أن أؤدب أبنائي في شجاعة لمصلحتهم
أظهر نعمتك في حياة أبنائي حتى يستطيعوا أن يكبحوا
جماح شهواتهم وطموحاتهم
احمِ بيتي من نار الشهوة والغرور وحب الانتقام
اجعل أبناءي يتعلمون من أخطائي قبل فضائلي
أنعم عليّ أنا عبدك بدفء أبنائي من حولي
لا تجعلني أعاني من برودة الوحدة في نهاية أيامي
يارب.. لا ترفع يدك ولا تتراجع عني وعن عائلتي
اشملني دائمًا بنعمتك، ولا تعاملتي حسب خطاياي
بل حسب مراحمك الكثيرة
احفظ أبناءي في اسمك ولا تسمح بأن يضيع أحد منهم
محتمين في الدم الغالي
آمين


التربية الكتابية- يوكابد أم موسى



تزوجت يوكابد من عمرام، وكانا كليهما من سبط لاوي في زمن وجود شعب بني إسرائيل في مصر. كانت الظروف وقتها في غاية الصعوبة. وكان الفرعون حينذاك شبه مختل عقليًا. فعندما شعر بالزيادة العددية لشعب بني إسرائيل، أمر بقتل أطفال العبرانيين الذكور، بإلقائهم في النهر.. وربما ظن فرعون أن هذا الإجراء فيه إكرام لإله النيل أو التماسيح المقدسة. من ناحية أخرى، أرهق الشعب جدًا في العمل بالسخرة. وهنا ربما نتخيل يوكابد وقد ذهب زوجها للعمل بالسخرة غائبًا عن المنزل والأولاد لفترة طويلة. وهنا يظهر دور الأم في الظروف الصعبة.

من اللافت للنظر أن الوحي يقول إن النساء العبرانيات كُنَّ يتميزن بالقوة، وكُنَّ يلدن قبل أن تأتي القابلة، وهذه شهادة القابلتين أنفسهما. وإذا افترضنا صحة جانب من هذه الحقيقة، فإننا نستنتج على الفور أن الظروف الصعبة التي مرت بها العائلات في هذا الأثناء جعلت من الأمهات أقوياء، عنيدات.. تحدين طبيعتهن الرقيقة، وأخذت دورًا استثنائيًا. وإننا ننبهر بهذه القدرة المدهشة للمرأة عندما تشتد قسوة الظروف عليها.

لقد قامت يوكابد بدور الأب في غياب زوجها، وشجعت أبناءها حتى ينضجوا ربما قبل الأوان. ففي مثل هذه الظروف الصعبة لا يجب أن يطالب أحد بحقوقه كاملة؛ لأن الجميع يدفع ثمن أوضاع غير طبيعية. ومن هنا نظن أن شخصية مريم ابنتها نضجت قبل الأوان.. حيث أقدمت مريم لتنفيذ الخطة التي رسمتها أمها، والتي أرسلها الله لها بعد صلوات وتضرعات على مدار أسابيع في محاولة لوقف عقارب الساعة؛ لأن الطفل كلما كان يكبر، كان صوته يزداد قوة، وتزيد احتمالية اكتشاف الأمر.

من الطبيعي أن كل أم في هذه المرحلة كانت تصلي لأن يرزقها الله بنتًا وليس بولد. لأنه كم من الصعب أن تتحمل أي أم مقتل أحد أبنائها. ولكن فترة الحمل مرت سريعًا، وإذا بها ترى صبيًا في غاية الجمال أمامها. ومنذ هذه اللحظة صارت حياة جميع أفراد العائلة في مهب الريح.

يوكابد امرأة الإيمان... كانت يوكابد تثق طيلة الوقت في عناية الله لها ولعائلتها. وإن الرب عنده "للموت مخارج" (مز86: 20)، بل والأكثر من ذلك آمنت أن ابنها هذا سيكون له دور في خلاص شعبه لما له من تفرد؛ إذ كان يحبه الجميع بمجرد أن يقع نظرهم عليه. كذلك آمنت أن خطتها ستنجح، وإلا لمّا أقدمت عليها. لأنه في حالة اكتشف القصر الفرعوني هذه الحيلة، لحُكم على جميع أفراد عائلة يوكابد بالموت. ربما حاول أحد أن يقنعها أنه لا مفر من هذا المصير المحتوم، والأفضل لها أن تسلِّم ابنها لتماسيح النهر. ولكن عاطفة الأمومة لديها كانت أكثر من طبيعية إذا امتزجت بالإيمان بالإله الحي.

يوكابد نموذج الشجاعة... وضعت خطة رائعة وانجزتها باتقان، وشجعت ابنتها لتراقب المشهد من بعيد بينما وقفت من بعيد لتصلي. بشجاعتها قاومت العالم المصمم على قتل ابنها. وليتنا ننظر إلى الثقافة المحيطة بهذا المنظور؛ ونقف بشجاعة أمام الثقافة التي تحاول قتل أبنائنا بسموم أفكارها. لا شك أن السنوات القليلة التي ارضعت فيها يوكابد ابنها موسى، كانت كافية لبناء علاقة قوية معها، وبناء ثقة (ربما من خلال النظرات أو اللمسات الحانية) بينها وبين ابنها، هذه الثقة ربما ساعدت كثيرًا في إطاعة موسى لها في السنوات اللاحقة، لذا لا نعجب عندما قيل عن موسى : "بالإيمان موسى لما كبر أبى أن يُدعى ابن ابنة فرعون، مفضلاً بالأحرى أن يُذل مع شعب الله.. " (عب12: 24-25).

وللتوضيح أكثر أتذكر قصة لابن أحد الخدام، إذ مرض هذا الابن مرضًا شديدًا، وأخبر الأطباء والده أن ابنه على وشك الموت. وجد الخادم صعوبة في إخبار هذا الأمر للابن، ولكن عندما قرأ جزءًا من الإنجيل معه، استجمع شجاعته وأخبره بالأمر ثم صمت وقال: "هل تخاف من لقاء يسوع؟" فقال له الابن: "لا، إذا كان يسوع مثلك يا أبي!"

لقد رأى موسى إله العبرانيين في عيني أمه وهو متكئ على صدرها ليرضع. ولقد عوّض الله يوكابد وأقر الله عينيها عندما رأت أبناءها يكبرون وينمون في القامة أمام الله والناس.

التربية الكتابية- الركابيون وغرس القناعات



مَنْ هو أعظم أب في الكتاب المقدس، بخلاف الله؟ لقد ذكر لنا الكتاب المقدس العديد من الشخصيات العظيمة في المجالات المختلفة. على سبيل المثال، كان داود وسليمان من الملوك العظماء، وصموئيل و إشعياء وإرميا من الأنبياء الكبار، حتى إبراهيم- الذي كان على استعداد أن يقدِّم ابنه ذبيحة-  أثنى عليه الكتاب المقدس من جهة إيمانه، وليس كأب قدّم نموذجًا أسطوريًا في التربية؟ إن الأب العظيم الذي سنتحدث عنه لم يكن في شهرة هؤلاء، لكنه استطاع أن يحمي أبناءه من مجتمع تسوده الرزيلة وعبادة الأوثان، واستطاع أن يرسخ قناعات لدى أبنائه، فظلوا متمسكين بوصايا أبيهم ما يقرب من 300 عام- أي ثلاثين قرنًا من الزمان. حتى أن الله أراد أن يوبِّخ بهم شعبه الذي كان غارقًا في العصيان. الأب هو "يوناداب بن ركاب"، وأبناؤه هم "الركابيون"، ونقرأ عنهم في سفر إرمياء النبي والأصحاح 35:

" الكلمة التي صارت إلى إرميا من قبل الرب.. اذهب إلى بيت الركابيين وكلِّمهم.. وادخل بهم إلى بيت الرب إلى أحد المخادع (الغرف) واسقهم خمرًا. فأخذت.. كل بيت الركابيين.. وجعلت أمام بني بيت الركابيين طاسات ملآنة خمرًا وأقداحًا، وقلت لهم: "اشربوا خمرًا". فقالوا: "لا نشرب خمرًا، لأن يوناداب أبانا أوصانا قائلاً: لا تشربوا خمرًا أنتم ولا بنوكم إلى الأبد... فسمعنا لصوت يوناداب بن ركاب أبينا في كل ما أوصانا به... ثم صارت كلمة الرب إلى إرميا قائلة: "هكذا قال رب الجنود: اذهب وقل لرجال يهوذا وسكان أورشليم: أما تقبلون تأديبًا لتسمعوا كلامي (ألا تفهمون الدرس؟)، يقول الرب؟ قد أقيم كلام يوناداب بن ركاب الذي أوصى به بنيه.. وأنا قد كلمتكم مبكرًا ومُكلمًا (فعلت الكثير حتى ألفت انتباهكم مرارًا كثيرة) ولم تسمعوا لي. وقد أرسلت إليكم كل عبيدي الأنبياء مبكرًا ومرسلاً.. ولا سمعتم لي"
(إرميا 35: 1-15، مع بعض الاختصار)
إنه لأمر مبهر حقًا أن يوصي أب أبناءه ويظلوا لأجيال طويلة طائعين ومتمسكين بوصايا أبيهم! أليس أعظم شيء في الحياة هو أن نربي أبناءً لا يمكن لشيء مهما كان أن يثنيهم أو يرغمهم على مخالفة ما يؤمنون به؟! إنهم يستحقون حقًا أن يكونوا مثالاً لتوبيخ شعب يهوذا. لقد أوصاهم أبوهم أيضًا –بخلاف الامتناع عن الخمر-بأن يعيشوا حياة زاهدة في الخيام خارج المدن، وربما فعل ذلك لمقاومة ثقافة المدينة التي كانت قد بدأت تسلب عقول الأبناء وتبعدهم عن الله- ونحن نواجه نفس الشيء الآن. وعند غزو البابليين اضطروا إلى البحث عن مكان آمن داخل أورشليم، فظلوا على ما تربوا عليه. ومع أن الأمر جاء من الله شخصيًا بأن يشربوا الخمر، وعلى لسان نبيه إرميا الذي أعد لهم الخمر بنفسه، وداخل إحدى غرف الهيكل حيث لا يراهم أحد، فإن الشيء المبهر أنهم لم يتحولوا سريعًا وظلوا على استقامتهم وعهدهم مع أبيهم. تتلخص القصة في الآتي:

·        الركابيون أطاعوا أبًا أرضيًا، وبنو يهوذا عصوا أبًا دهريًا وإلهًا سرمديًا.
·        أوصاهم يوناداب مرة واحدة/ أو لفترة قصيرة ومات، لكن الله أوصى يهوذا مرارًا وتكرارًا، وأرسل لهم أنبياءً كثيرين.
·        أطاع الركابيون وصية أبيهم لما يقرب من 300 عام، بينما ظل شعب الله في العصيان.
·        وفاء الركابيين لابد أن يكافأ مكافأة خاصة (انظر ع19)، وعصيان يهوذا لا بد أن تكون نهايته الدينونة والعقاب.

إن كلمة السر في هذه القصة هي "ترسيخ القناعات لدى الأبناء". إن أمنية كل الآباء والأمهات أن يرسخوا قناعات لدى أبنائهم فيسيروا وفقًا لها طوال حياتهم دون تململ أو تغصب. ما ضرورة القناعات؟ إنها تشكل نظرتهم العامة عن الحياة، وتحكم تصرفاتهم ومواقفهم، وتساعدهم على اتخاذ قرارات صائبة، ومقاومة ضغط الأقران، وتجعلهم لا يتشكلون بسهولة بالتيارات الثقافية المعادية لله ، وهي دليل على نضجهم وثباتهم.. " كي لا نكون فيما بعد أطفالاً مضطربين ومحمولين بكل ريح تعليم.." (أفسس4: 14). إن الثقافة الخارجية أقوى وأسرع في تأثيرها على أبنائنا، ومن ثَم نجاحنا في عملية التربية يتمثل في مدى نجاحنا في ترسيخ قناعات فكرية (كتابية) لديهم. كيف نفعل ذلك؟
·      القناعات تُبنى على الحق، فمن أين نحصل على الحق. يسوع يجيب: "قدسهم في حقك. كلامك هو حق" (يوحنا 17: 17). لنبدأ في دراسة متعمقة في كلمة الله مع أبنائنا منذ صغر سنهم. في البداية عن طريق حفظ الآيات، ثم بعد ذلك تأملات شخصية، وتطبيقات عملية، حتى نصل إلى علاقة شخصية مع كلمة الله.
·       ربما تحتاج كأب أو أم أن تتأكد أولاً من قناعاتك، وهذا يفترض أنك تعرف ما هي قناعاتك! وربما تحتاج أن تسأل نفسك السؤال الآتي: ما هي الأشياء التي أود أن أغرسها في نفوس أبنائي؟
·        احرص على بناء علاقة قوية قبل أي شيء؛ لأن أبناءك سيقبلون أفكارك لأنهم يقبلونك أنت، وسيرفضونها إذا رفضوك أنت.
·        اشرح قناعاتك لهم، ولا تكتفِ بأن تقول أن القدوة التي أقدمها لا تحتاج إلى شرح.

·      في بعض الأحيان تحتاج أن لا تفرض عليهم قناعاتك الشخصية، وهذا خطأ يقع فيه كثير من الآباء والأمهات. لكي تترسخ قناعة ما يحتاج الابن/ الابنه أن يرى الحق بنفسه ثم يمتلك هذا الحق. نحن نفرض معايير أخلاقية وسلوكية ونشجع أبناءنا على اتباعها، ولكن لا نفرض عليهم قناعاتنا. وهذا مبدأ كتابي أصيل؛ إذ يقول الرسول بولس: "واحد يعتبر يومًا دون يوم، وآخر يعتبر كل يوم. فليتيقن كل واحدٍ في عقله" (رومية14: 5).

·       إن عملية اكتشاف الحق تحتاج عمل روح الله الذي ينير البصيرة ويزيل الغشاوة، فلا ننسَ أن نطلب عمل الروح القدس في حياة أبنائنا.
·        اخلق لديهم الرغبة والشغف في اتباع كلمة الله، وبعد ذلك امنحهم حرية الاختيار، وهذا من شأنه أن يقوي قناعاتهم. ربما تحتاج أن تقول لهم: "إذا شعرت أن ما أقوله لك- أو أي شخص آخر- يتنافى مع كلمة الله- اتبع كلمة الله وليس أنا أو أي أحد آخر".
·       أبرز المواقف التي تعبر عن قناعات، وألقِ الضوء على بعض النماذج التي دافعت عن قناعاتها حتى النهاية. تكتظ صفحات الكتاب المقدس بأمثلة من هؤلاء. ولعل عبرانيين 12 أو أصحاح أبطال الإيمان هو خير دليل على ذلك.

تذكر أن عملية ترسيخ القناعات ذاتها أهم من النتيجة النهائية. 

التربية الكتابية- تأديب الله وتأديب الوالدين



تحدثنا في المرة السابقة عن الأسلوب المتساهل في التربية، وتطرقنا إلى قصة عالي الكاهن وابنيه، وكيف أن عالي قصّر في تربية أبنائه عندما "لم يردعهم".. بمعنى أنه تقاعس عن اتخاذ إجراءات تأديبية مع أبنائه. ربما الأجدر الآن أن نحاول أن ننقِّب في كلمة الله لنعرف ماذا يقول الله لنا عن التأديب، وكيف مارس الله التأديب مع أبنائه، وما هي وسائل التأديب وغايته، وهل هناك فرق بين تأديب الله لنا وتأديبنا نحن لأولادنا. لنقرأ معًا بعض الأعداد من رسالة العبرانيين والأصحاح الثاني عشر.

" لم تقاوموا بعد حتى الدم مجاهدين ضد الخطية، وقد نسيتم الوعظ الذي يخاطبكم كبنين: "يا ابني، لا تحتقر تأديب الرب، ولا تخُرْ إذا وبَّخك. لأن الذي يحبه الرب يؤدبه، ويجلد كل ابن يقبله". إن كنتم تحتملون التأديب يعاملكم الله كالبنين. فأي ابن لا يؤدبه أبوه؟ ولكن إن كنتم بلا تأديب، قد صار الجميع شركاء فيه (في التأديب)، فأنتم نغول (أبناء غير شرعيين) لا بنون. ثم كان لنا آباء أجسادنا مؤدبين، وكنّا نهابهم. أفلا نخضع بالأولى جدًا لأبي الأرواح (يترجمها البعض: أبونا الروحي أو السماوي)، فنحيا؟ لأن أولئك أدبونا أيامًا قليلة حسب استحسانهم، وأمّا هذا فلأجل المنفعة، لكي نشترك في قداسته. ولكن كل تأديب في الحاضر لا يُرى إنه للفرح بل للحزن. وأمّا أخيرًا فيعطي الذين يتدربون به ثمر بر للسلام"
(عبرانيين12: 4-11)
كتب الرسول هذه الكلمات إلى العبرانيين الذين كانوا يتعرضون لموجة من الاضطهادات، وأراد أن يوضح لهم أن الآلام التي يتعرضون لها هي الوسيلة التي يستخدمها الله لتأديبهم. إن كلمة تأديب في اليونانية تتضمن شقين: العقاب، والتوجيه (أو التثقيف)؛ وبالتالي يمكن تعريف التأديب كالتالي: الألم الذي نتعلَّم من خلاله شيئاً مهمًا. إن أشد ما يدهشك في الكتاب المقدس أنه قيل عن السيد المسيح نفسه، وهو المذخر فيه كل ينابيع المعرفة: " لكونه ابنًا تعلّم الطاعة مما تألم به" (عب5: 8).. شدد الكاتب على صفة البنوة أولاً، وكأن مصير الأبناء أن يتألموا ليتعلَّموا.

لنتأمل معًا في بعض الكلمات والعبارات التي وردت في النص الكتابي السابق:
ضد الخطية.. هنا نرى ضرورة التأديب.. محاربة الخطية بمعناها الذي يفيد الانحراف عن الصواب والاعوجاج. ليس المستهدف من التأديب هو شخص الابن/ الابنة، وإنما الخطية "الساكنة فيهم" (انظر رومية7: 20).

نسيتم الوعظ.. كلمة الوعظ في اليونانية تعني: التشجيع. ولدينا برنابا الرسول الذي قيل عنه "ابن الوعظ"، أي ابن التشجيع. والعجيب أن أشد ما تميّز به برنابا هو تشجيع الآخرين، والاختفاء وراء الستار.. وبعد أن كانت الأصحاحات الأولى من سفر أعمال الرسل تقول: " برنابا وبولس"، تصدَّر بولس المشهد سريعًا، مع أن بولس كان اكتشاف برنابا بالأساس. كل ذلك دون أن تهتز ثقته بنفسه. وبالتالي عندما نؤدب أبناءنا لا يجب أن ننسى أن نذكرهم بمكانتهم كأبناء لكيما يتشجعوا.

لا تخُرْ.. ليس المقصود من التأديب أن يشعر الأبناء بالاستياء والإحباط والظلم جراء تأديبنا، بل إن نجاح عملية التأديب يتحقق إذا شعر ابنك/ ابنتك بالمعنى والمغزى من وراء التأديب. لقد تألم السيد المسيح "من أجل السرور الموضوع أمامه" (عب12:2).
إذا وبَّخك.. يؤكد الرسول بولس هنا أن عملية التأديب لا تتضمن كلمات التوبيخ فقط، ولكن الأفعال التأديبية أيضًا. ولا نكتفي بالتوبيخ والمحاضرات المطوّلة مثلما فعل عالي الكاهن.
مَنْ يحبه.. وهنا يأتي دافع التأديب، ألا وهو إظهار الحب.

يجلد كل ابن يقبله.. بالطبع يؤخذ المعنى هنا على المعنى المجازي، فليس المقصود أبدًا أن نضرب أبناءنا بهذه القسوة. ولكن المجتمع الروماني وقت كتابة الرسالة كان يعطي السلطة المطلقة للأب على أبنائه.. فالأب لدية الحق في معاقبة أبنائه بأي وسيلة وفي أي وقت، وبالتالي الجلد هنا دليل على شرعية هذا الابن، الأمر الذي لا ينطبق على الأبناء غير الشرعيين، ولم يكن ينظر لهذا كامتياز لغير الشرعيين، بل احتقار وذلة ومكانة أقل من مكانة الابن الشرعي. من هنا لا يتصور كاتب رسالة العبرانيين أن هناك أبًا يتقاعس عن تأديب أبنائه، وإلا اعتبرهم "نغولاً" (أي أبناء غير شرعيين).

آباء أجسادنا.. هؤلاء أباؤنا بالجسد، ماذا عنهم؟ كانوا لنا مؤدبين، ومع ذلك كنا نهابهم. أي أن الهدف هنا أن يصل الأبناء إلى مستوى من المهابة والتوقير لآبائهم، هذا هو الشعور الذي نبتغيه، ومن ثم يعد مؤشرًا آخر لنجاح عملية التأديب.
أدبونا أيامًا قليلة.. وهذا ما توافقه كثير من الدراسات التربوية: أن التأديب بالضرب لا يأتي بفائدة إلا في السنوات المبكرة من عمر الأبناء، أمّا بعد ذلك، فغالبًا ما يأتي بنتائج عكسية.

حسب استحسانهم.. والعبارة تشير أنه ربما تضمنت عملية التربية بعض الأخطاء. وهذا ليس مستبعدًا؛ لأن التربية هي عملية بشرية يقوم بها عناصر بشرية؛ فلابد من حدوث أخطاء. ولكن العبارة تفيد أيضًا أن هؤلاء الآباء قد فعلوا ما يعتقدون أنه الأفضل، وفي هذا تأكيد على صدق الدوافع. ربما يفيدنا ذلك ويفيد أبناءنا إذا تبقى لديهم أي شعور بالاستياء أو الظلم جراء التأديب، وربما سيساعدهم بالأكثر على ذلك حينما يتأملون تأديب الله الذي لا يخطئ في دوافعه "من أجل المنفعة، ومن أجل حياة على مثال قداسته" أو في آلياته المختلفة.
ربما يشجعنا هذا أيضًا حتى لا نشعر بالإحباط واليأس إذا ارتكبنا بعض الأخطاء في التربية؛ فهذا ليس نهاية المطاف. لنضع في اعتبارنا تعاملات الله مع أبنائنا، فتقصيراتنا ليست نهاية العالم؛ لأن الله حتمًا سيعمل عمله.

لنشترك في قداسته.. إن القداسة جزء لا يتجزء من شخصية الله، وبالتالي فإن الهدف من تأديبنا وتربيتنا في المقام الأول هو أن نتعاون مع الله في تنشئة أبناء على مثال شخص ابنه (انظر رومية 8: 29).

ثمر بر للسلام.. لقد وصلنا للنتيجة: ألم على المدى القريب؛ إذ في وقته لا يُرى للفرح، وثمر على المدى البعيد. مرة أخرى لا يهدف التأديب إلى توتير العلاقة مع الأبناء، بل يهدف إلى خلق سلام في البيت. ولكن الأبناء لا يحبون التأديب، وبالتالي لن يحدث هذا إلا إذا تم "التدريب" على ذلك؛ إذ يعُطى الذين يتدربون على ذلك حصاد وفير من البر والسلام. مرة أخرى يتأثر الكاتب بمجتمعه الروماني ويعطينا صورة عن "الجيمنزيزم" الذي يتدرب فيه الرياضيون باستمرار وجدية. وهذا لا يعني قبول الأبناء للتأديب من حين إلى آخر، وإنما قبوله كمنهج حياة كلما دعت الضرورة في أية مرحلة من حياتهم، إذ يرون في التأديب علاجًا لاعوجاجهم مهما بلغ بهم العمر، ومن ثَم ينمون من مجدٍ إلى مجدٍ.   

التربية الكتابية- عالي الكاهن



هل يمكننا كآباء وأمهات أن نتعلَّم التربية من شخص الله كأب؟ نعم بكل­­ تأكيد. لقد دعانا الله أولاده، وأمرنا يسوع أن نصلي هكذا "يا أبانا". كذلك يحمل الله بصمة الأمومة في شخصيته، فنجده يقول: "كإنسان تعزيه أمه هكذا أعزيكم أنا" (إشعياء 66:33). فالأمومة والأبوة نابعان في الأصل من الله الذي خلق الإنسان –ذكرًا وأنثى- على صورته ومثاله. على أرض الواقع، نجد أن الله في القديم كان له شعب اتسم بالعند والتعنت والتذمر، فحاول الله كثيرًا، ومن خلال أنبيائه، أن يعلمهم الطاعة. والسؤال هنا.. هل يمكن أن نتأمل في الأسلوب التربوي الذي انتهجه الله للوصول لهذه الغاية؟ بلا شك، إن فعلنا ذلك سنخرج بدروس عميقة ليست عن التربية فحسب، وإنما في كل مناحي الحياة.

في هذه السلسلة من المقالات نقدّم المبادئ الكتابية في التربية، وتحليلاً لنماذج من العائلات التي ورد ذكرها في الكتاب المقدس لنتعلم من سلبياتها قبل أن نتعلم من إيجابياتها. في البداية دعونا نشرح ببساطة أربعة أساليب للتربية يمكن تلخيصها في الرسم المقابل.

الأسلوب المتساهل: وفيه يخشى الآباء والأمهات فرض أي نوع من العقاب أو التبعات على أولادهم حتى لا يتعرضون للألم. يمكننا بسهولة أن نتخيّل هؤلاء الأبناء في بدايات الشباب، فنجدهم لا يعترفون بسهولة بنتائج أفعالهم، ويتجنبون تحمل المسؤولية، ويتوقعون دائمًا أن تسير الأمور وفقًا لرغباتهم.

الأسلوب المهمل: وفيه تغيب مظاهر الحب ومظاهر الحزم على حدٍ سواء. وتكون علاقة الأبناء بوالديهم ضعيفة جدًا للغاية، لأنهم لا يشعرون بمحبتهم أو خوفهم عليهم. هذا الأسلوب التربوي هو الأشد وطأة على نفوس الأبناء، إذ يُتركون بإحساس من العزلة والغربة.

الأسلوب المتسلط: وهنا يُشبَّه البيت بالثكنة العسكرية. لا يتحرك الأبناء يمينًا أو يسارًا إلا وفقًا لقواعد صارمة في ظل غياب مظاهر الحب. يشعر الأبناء بالاضطهاد والتعسف، وحينما يشتد عودهم يتلمسون أية فرصة للتمرد والعصيان، وربما الهروب من البيت الذي يمثل سجنًا بالنسبة لهم. 

أخيرًا الأسلوب المتوازن الذي يجمع بين الحب والحزم. هنا يشعر الأبناء بالقيمة والقبول بسبب المحبة غير المشروطة التي ينعمون بها، ويكبرون بإحساس عميق باحترام لرموز السلطة في حياتهم. وبالتالي ستجدهم يحترمون معلميهم في المدرسة ومديريهم في العمل وشرطي المرور في الشارع.

ربما أبرز مثال واضح عن الأسلوب المتساهل في الكتاب المقدس يظهر في قصة عالي الكاهن وأولاده. لقد كان ابنا عالي الكاهن أشرارًا جدًا. وربما أدرك ذلك عالي وقرر ألا يبذل الكثير في إصلاحهما. لقد استهان ابنا عالي الكاهن بالذبيحة التي وضع الله شروطًا لتقديمها، وبدلاً من أن يدعوا الناس إلى القداسة، كانا يضاجعان النساء اللاتي كن يخدمن في خيمة الاجتماع. ولا يمكننا بأي حالٍ من الأحوال أن نحمّل عالي الكاهن كل المسؤولية فيما وصل إليه ابناه من شرور عظيمة؛ فهناك عوامل أخرى، وهناك استعداد الأبناء ومدى تجاوبهم مع عمل نعمة الله. ولكن ما هو الشيء الذي كان عالي الكاهن مقصرًا فيه؟ لنقرأ جزءًا من القصة:

"وشاخ عالي جدًا، وسمع بكل ما عمله بنوه... (أو تحقق من سلوكياتهم المشينة). فقال لهم: لماذا تعملون مثل هذه الأمور؟ (ربما كان من الأفضل أن يقول لهم: "هل تدركون بشاعة أخطائكم؟"؛ لأن معرفة السبب لن تفيد شيئًا) لأني أسمع بأموركم الخبيثة من جميع الشعب. لا يا بنيّ، لأنه ليس حسنًا الخبر الذي أسمع. تجعلون (بقدوتكما السيئة وبحكم وظيفتكما) شعب الرب يتعدون (أي يتجاسرون على فعل الشر). إذا أخطأ إنسان إلى إنسان يدينه الله. فإن أخطأ إنسان إلى الرب فمن يصلي لأجله؟ (وهنا بيّن لهما أن قبح خطيتهما يتمثل في أنها موّجهة لشخص الله مباشرة)"
(1صموئيل2: 22-25)
ولكن ابنيّ عالي كانا قد تماديا في العصيان، وبالتالي لم يسمعا لأبيهما، وكأنه لم يقل شيئًا. وربما نقول ماذا كان بإمكان عالي أن يفعل؟ هل كان بإمكانه أن يمسكمهما على ركبتيه ويضربهما على مؤخرتيهما؟ لقد فات أوان هذا؛ فقد كبرا ولن يفيد هذا بشيء. ونتساءل أيضًا.. لماذا لم يستجب ابنا عالي لكلمات التوبيخ القوية والواضحة التي وجهها لهما عالي؟ وماذا كان بإمكانه هو أن يفعل أكثر من ذلك؟

إننا نجد عتابًا من الله لعالي على لسان رجل الله؛ إذ قال له: "وتكرم بنيك عليّ..." (1صموئيل2: 27).. وهذا معناه أن الله لم يكن راضيًا على موقف عالي من أبنائه، ورأى أن ما فعله لم يكن كافيًا. ثم نأتي إلى كلام الرب للطفل صموئيل عن مصير عائلة عالي لنعرف وجه التقصير لدى عالي. يقول الرب لصموئيل: "وقد أخبرته (عالي) بأن أقضي على بيته إلى الأبد، من أجل الشر الذي يعلم أن بنيه قد أوجبوا به اللعنة على أنفسهم، ولم يردعهم" (1صموئيل3: 13).

من هنا نعرف أن تقصير عالي هو عدم اتخاذ إجراء رادع مع أولاده، واكتفى فقط بكلمات التوبيخ. كان بإمكانه أن يفصلهما من الخدمة ويأتي بلاويين آخرين، وكان هذا في نطاق سلطته. ولكن أغلب الظن أن عالي استمر في الطريق أو النهج الذي تعوّد عليه مع أبنائه، واكتفى بكلمات التوبيخ، ولم يتخذ معهم أية إجراءات رادعة. هذه الإجراءات الرادعة يسميها البعض "العقاب"، ويسميها البعض الآخر "التأديب". ما الفرق بينهما، وما هو الأسلوب الأمثل للتطبيق؟


السبت، 12 مايو 2018

المدينتان بحسب أغسطينوس



في بوستات سابقة تحدثنا عن فلسفة التاريخ عند أغسطينوس، والمقصود بفسلفة التاريخ: تفسير مجريات التاريخ في ضوء نظرية عامة. وهي محاولة لمعرفة العوامل الأساسية التي تتحكم في سير الوقائع التاريخية، ثم استنباط قوانين عامة عن تطور الأمم والدول. فلسفة التاريخ تسعى لإيجاد وحدة عضوية للأجزاء المتفرقة.
تحدثنا ايضًا أن البحث في فلفسة التاريخ عادة ما يأتي في أعقاب نكبات كبرى. يقول الفيلسوف الروسي نيكولاي بيرديائيف: ”النكبات في التاريخ الإنساني كانت دائمًا حافزًا على التفكير في الماضي وفي المصير، ومثيرة للاهتمام بتفسير التاريخ وتعليله.“[1] فأغسطينوس كتب في أعقاب سقوط روما، وهيجل مع فتوحات نابليون، وتوينبي في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
فيما يلي ترجمة لشرح بعض الأفكار عن نظرية المدينتين:[2]
يتتبع أغسطينوس تاريخ الجنس البشري من بداياته عند آدم وحواء، ويوفق هذا التاريخ في قالب روايته الكلية، أي فكرة المدينتين. خلق الله البشر من إنسان واحد ليحقق الوحدة الأخوية بينهم.. وانتشرت الأمم وتنوعت المعتقدات.. لكنهم في النهاية بيشكلوا مجتمعيين بشريين: مدينة تعيش بحسب الجسد.. ومدينة تعيش بحسب الروح.[3] الأولى شيدت بمحبة الذات، والثاية بمحبة الله. الاولى تمجد نفسها، والأخرى تستمد مجدها من الله. الأولى في النهاية مصيرها مع إبليس، والأخرى مصيرها مع الله والقديسين. يبدأ الانقسام بين المدينتين وتظهر العداوة مع قايين وهابيل، ”إن ما حدث بين قايين وهابيل يشير إلى العداوات الفاصلة بين المدينتين.“[4]
في الكتاب 15، 16 يتتبع أغسطينوس التاريخ المبكر لمدينة الله، متبعًا رواية سفر التكوين لأنه رأى المدينة مجسدة في الآباء البطاركة عبر نوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب ويوسف وموسى. في الكتاب 17 يسعى لإظهار المدينة في كتابات الأنبياء والمزامير. هناك نبوات تمجد مملكة داود والكهنوت اليهودي وتتنبأ ببقاءهما إلى الأبد، وبالتالي هذا يشير إلى تحقيق في مكان آخر، لأن المؤسسات اليهودية لم تعد موجودة.
نعود إلى التاريخ الدنيوي في الكتاب 18 الذي يحكي فيه عن قياك وسقوط ممالك وامبروطوريات وثنية مثل مصر واشور وروما. يحرص أغسطينوس على التوفيق بين التواريخ الكتابية والدنيوية، فجعل خروج موسى في عهد الملك كيكروبس أو سيكروبس أول الملوك الاسطوريين لأقليم أتيكا، وجعل سقوط طروادة في فترة عصر القضاة. وخراب أورشليم في أثناء حكم تاركيونس بريسكوس لروما. كما انتهى السبي البابلي مع تأسيس روما. وهو بهذا يهدف إلى التأكيد على أن تعاليم الأنبياء العبرانيين سبقت جهود الفلاسفة الأغريق.[5]
حسب أغسطينوس أورشليم رمز لمدينة الله، وبابل رمز لمدينة العالم. بابل مدينة البلبلة.. في مدينة الأرض يتحدث الفسلفة بألسنة مختلفة كثيرة كالبنائين في قصة بابل (تك 11). أحدهما يقول إنه لا يوجد إلا عالمًا واحدًا، وآخرون يقولون توجد عوالم متعددة. البعض يقول إن العالم أزلي، وآخرون يقولون أنه سيزول. البعض يقول أن العقل الإلهي يحكم العالم، بينما آخرون يقولون أن الصدفة تحكمه. البعض يقول إن النفس خالدة، وآخرون يقولون زائلة. البعض يثق في الحواس، وآخرون يزدرون بها.
في مدينة العالم لا توجد مرجعية ثابتة لتفصل بين هذه الآراء المتعارضة. بابل تجمعها كلها على حد سواء دون تفرقة.[6] لكن مدينة الله مختلفة تمامًا لأن الجميع فيها يقبلون مرجعية الأسفار القانونية.
في كل هذا لا نستطيع أن نقول أن بابل هي الأمبراطورية الوثنية واورشليم هي الأمبراطورية المسيحية. مدينة الله موجودة من قبل المسيح، ولم تبدأ بتحول قسطنطين إلى المسيحية. كذلك الامبراطورية المسيحية تضم الخطاة والقديسين.. وبيضرب مثل الأمبراطور ثيؤدسيوس الذي أجبره ق أمبروسيوس على التوبة بسبب وحشيته في إخماد تمرد حدث في تسالونيكي عام 391.
ولا نقدر أن نقول أن أورشليم هي الكنيسة على الأرض، بالرغم أنه في العصور اللاحقة لأغسطينوس كان هذا أحد التفاسير.. لا نستطيع ان نميز بشكل كامل بين طبيعة المدينتين إلا في آخر 3 كتب من كتاب مدينة الله. حيث سيملك الله مع قديسيه- مواطني مدينة السماء.
بالرغم أن كتاب ”مدينة الله“ يعتمد على الكتاب المقدس، إلا أنه يحتل مكانة هامة في تاريخ الفلسفة لأن أغسطينوس يحاول أن يدمج رؤيته الدينية مع التقليد الفلسفي اليوناني والروماني. ويحاول التوفيق بين الكتاب المقدس وشيشرون وأفلاطون كلما أمكن ذلك، ويفند أراءهم عندما يتعذر ذلك.


[1] أحمد محمود صبحي، في فلسفة التاريخ، صفحة 130.
[2] Anthony Kenny, Medieval Philosophy, p. 9- 16.
[3] انظر مدينة الله، ج2، 14: 1.
[4]  مدينة الله 15: 5.
[5]  مدينة الله 18: 37.
[6] مدينة الله 18: 42.

السبت، 5 مايو 2018

لاهوت التاريخ عند القديس أغسطينوس



ترجع أهمية القديس أغسطينوس إلى أنه انفرد بالسيطرة على العقل الغربي لقرون طويل حتى مزاحمة المدرسة الأرسطية العربية، وألبرتو الكبير، وتوما الأكويني في القرن الـ 13.
س: لماذا كتب أغسطينوس فلسفة أو الأدق لاهوتًا عن التاريخ؟
ج: الإجابة هي الأحداث التاريخية هي التي دفعته لكده.. سقطت روما على يد البربر بعد أن كانت قوية ومزدهرة في وقت الوثنية.. والآن سقطت وهي مسيحية. كان في اتهامات للمسيحية من وقت مبكر كلسوس، ورد عليه أوريجانوس في كتابه ”ضد كلسوس“.  كلسوس كان بيقول للمسيحيين لازم تساعدوا الإمبراطور.. تعلموا معه من أجل ما هو عادل.. وأن تحاربوا من أجله إذا لزم الأمر.. هاجم كلسوس مفهوم الملكوت السماوي.. لأنه شاف أن ده يؤدي إلى اغتراب المسيحيين عن المجتمع.. والعزوف عن المشاركة في الحياة الاجتماعية- وخاف أنهم يكونوا جماعة سلبية تؤدي إلى انهيار المجتمع.. ويبدو أن تنبؤاته تحققت في عصر أغسطينوس.[1] ومع سقوط روما حصل ”احياء لاتهامات كلسوس.“[2]
يتلخص دفاع أغسطينوس لتبرئة المسيحية من مسؤولية سقوط روما في النقاط التالية:
-   عن طريق أنه ميَّز بين كيانين (الإمبراطورية الرومانية، ومدينة الله) لهما تاريخين مختلفين جوهريًا.. متزامنين متداخلين بشدة.. في إطار زمني واحد.. وبالتالي زمن واحد وتاريخان (اثنين في واحد).. تاريخ مدينة الله، وتاريخ مدينة الأرض. تاريخ إلهي.. وتاريخ دنيوي..
-   مدينة الأرض لها تاريخ دنيوي، تاريخ ظاهري متعلق بوقائع وأحداث زمنية متعلقة بتاريخ الشعوب. في المقابل مدينة الله اللي ليها تاريخ باطني له دلالات روحية حقيقية للوقائع والأحداث اللي بتحصل في التاريخ الدنيوي. الأولى وليدة حب العالم، والأخرى وليدة حب الله.
-  يُرمز لمدينة الأرض ببابل أو روما، بينما يُرمز لمدينة الله بأورشليم. السلام في مدينة الأرض مؤقت.. السلام في مدينة الله أبدي. التقدم في مدينة الأرض .. تقدم تقني.. في أدوات ووسائل لها قيمة ثانوية. بينما التقدم في مدينة الله تقدم روحي.. له قيمة أسمى. لذلك ”عندما نسعى لهذه الخيرات الدنيا دون الإيمان بالخيرات الأخرى، فإننا نهوى في البؤس.“ (مدينة الله 15: 4)
-  الدنيوية تزهو بذاتها، والأخرى بالله. الأولى تستجدي البشر مجدًا لها، والأخرى تجد مجدها الأعظم في الله.. الأولى تعتمد على مجدها الذاتي فتشمخ رأسها، والثانية تقول لإلهها: مجدي ورافع رأسي.. الأولى تضغى عليها شهوة الحكم.. وفي الثانية الجميع يخدمون القريب بمحبة. الأولى معجبة بقوتها الذاتية في شخص رئيسها، الثانية تقول لإلهها: احبك يارب يا قوتي... (نظرة شاملة لعلم الباترولوجي، تادرس يعقوب، صفحة 374. 
لاهوت أغسطينوس عن التاريخ هو انعكاس لفكرته عن الله والإنسان.. وانعكاس لرأيه في مواجهة الهرطقة البيلاجية -بيلاجيوس شاف إن الإنسان لوحده- بدون نعمة الله- قادر أنه يخلص بنفسه.. (الله مجرد متفرج). فجاءت نظرة أغسطينوس مثل رده على الهرطقة البيلاجية. إذا سألته مَنْ يحرك التاريخ؟ الله أم الإنسان؟ الإجابة: الله ...... ووسيلته في ذلك.. النعمة. ماذا عن دور البشر؟ النعمة مينفعش تُبنى على استحقاق.. الله يفعل ما شاء عما يشاء في الوقت الذي يشاءه.  ”التاريخ لو صنعه البشر بمفردهم لما حقق خيرًا..“
ده بيقضي تمامًا على أي دور بيلعبه الإنسان في تحديد مصيره. ربنا أعد خطة مرسومة بشكل مسبق لكل شيء (blue print theory). هذا يعني.. أن إرادة الله إرادة مطلقة صارمة لا تقبل شريكًا.. وهو ما يعني أن سيطرة الله على التاريخ سيطرة مطلقة.. يقول أغسطينوس: ”إن المكان والزمان اللذين يعمل فيهما هو سر حكمته الأزلية التي تأمر المستقبل وكأنه حاضر. الله لا يتغير في الزمن بل يحرك الأشياء الزمنية.. ولا فرق عنده في معرفة ما تم عمله وما سوف يتم.. وأخيرًا فإنه يملي في الزمن الأوامر الصادرة عن شريعته في الأزل.“ (مدينة الله 10: 12).
بماذا يساهم البشر؟ تقول د. زينب الخضيري إن أغسطينوس استعار فكرة أرسطية عن الوجود بالفعل والوجود بالقوة، وبالتالي ”البشر أدوات تحوِّل القوة (الكامنة) إلى الفعل.“[3]  
وبناء على ذلك- الله هو مَنْ يمنح السلطة لمَنْ يريد ويسلبهما ممَنْ يريد.. ”للإله الحقيقي وحده القدرة على التصرف بالممالك وقاداتها.. أعطى الرومان.. ساعة شاء وكيفما شاء.. وأعطى الأشوريين والفرس.. وهو أعطى قيصر وأغسطينوس ونيرون.. وهو الذي توج قسطنطين الملك المسيحي وجوليان الجاحد.. لله الواحد الحق في أن يرتب الأمور ويدبرها كما يشاء، وإذا كانت أسباب فعله خفية علينا فهل يعني هذا أنها ظالمة؟“ (مدينة الله 5: 21 )
إذا سألنا أغسطينوس: كيف تبرر الأحوال السياسية المريرة من آن لآخر؟ لأجاب: ”على أن هذه القدرة.. لا تُعطى لأمثال هؤلاء الناس (المستبدين) إلا بعناية من الله العلي عندما يستحق العالم، في نظره، أمثال هؤلاء الأسياد.. وكلمة الله واضحة في هذا.. ’بيَّ تملك الملوك بيَّ يترأس الرؤساء..‘ أم 8: 15 و16“ (مدينة الله 5: 19(
أغسطينوس واللاهوت السياسي
في دفاع أغسطينوس عن المسيحية والتسامح في المسيحية كسبب في انهيار الإمبراطورية.. ذكر تقدير بعض الملوك الرومان وفلاسفة رومان زي شيشرون للتسامح.. لكنه شرح أن أسباب السقوط هي في الابتعاد عن أسباب القيام.. وقال إن روما قامت على حب الحرية وطلب المجد.. ”روما التي أصبحت سيدة حرة راحت تنمو، بسرعة لا توصف، لشدة ما سيطرت شهوة المجد على القلوب! فالعطش إلى المديح والتوق إلى الشرف، كان في أصل المآثر الرائعة والبطولية بحسب رأي الناس. (مدينة الله 5: 12(
 ماذا حدث إذن؟ أن روما أصابها فساد الدعائم التي قامت عليها.. سادت العبودية وانحدرت الفضيلة.. وهذا الانهيار كان سيحدث سواء ظلت روما على وثنيتها أو اعتنقت المسيحية. كما ذكر أغسطينوس أن روما تعرضت لهزائم وهي وثنية، وحازت على انتصارات وهي مسيحية.
يقول أغسطينوس: إني أذكِّر بهذه الأحداث لأن كثيرين ممن يجهلون تاريخ الماضي وبعضهم يتظاهر بالجهل، ويتخذون من كل حرب تستمر طويلاً، سببًا لمهاجمة ديانتنا، بكل وقاحة.. فيذكروا كم كانت تلك الحروب التي قام بها الرومان الأقدمون طويلة، عرفوا فيها النصر والهزيمة، إضافة إلى الكوراث الدموية الرهيبة، .. فليكفوا عن خداع الجهال وتصويب ألسنتهم ضد الله تعالى. (مدينة الله 5: 22)

كيف يتعامل المسيحيون مع الدولة: طالما أن المدينتين متداخلتان فإننا نفيد أيضًا من سلام بابل، بابل التي تحرر منها شعب الله نهائيًا، بالإيمان، ويمر فيها مسافرًا فحسب. (مدينة الله 19: 26) ثم يقتبس من إرميا 29: 7 صلوا من أجل بابل، فإنه بسلامها يكون لكم سلامًا. في حالة الاستبداد ماذا نفعل؟ الخضوع للنظام في كل شيء يرضي الله، بعكس ذلك يكون العصيان السلبي بدون مقاومة. (يُتبع)


[1]  د. زينب الخضيري، لاهوت التاريخ عند أوغسطين، صفحة 136- 137.
[2]  نفس المرجع السابق، صفحة 141.
[3]  نفس المرجع السابق، صفحة 109.