الأحد، 26 نوفمبر 2023

مختارات من كتاب "عن البتولية" للقديس غريغوريوس النيسي

 


"في ضوء قدوة القديسين، فإن الشخص الذي يرغب في أن يثبِّت فكره على الله لا يستغرق في أي من الاهتمامات الحياتية. لأنه من المستحيل على أي أحد ذهنه مشتت في أمور كثيرة أن يتقدَّم مباشرة إلى معرفة الله والاشتياق إليه. وفي رأيي يمكن أن نوضح هذا أكثر بمثال. لنتخيل أن مياه تنسكب من نبع وتتقسَّم عرضًا إلى تفريعات كثيرة. فطالما أنها تجري على هذا المنوال، فلن يكون لها منفعة في الزراعة، لأن التقسيم يجعل كل فرع صغيرًا وضعيفًا وبطيئًا. في المقابل إذا استطاع أحد أن يجمع كل التفريعات غير المنظمة معًا ويجمع ما كان مشتتًا في السابق، فإنه يستطيع أن يستخدم الماء المنجمع ويتحكم فيه من أجل منافع كثيرة وعملية.

يبدو لي أن هذا ينطبق أيضًا على الذهن البشري. فإذا تدفق في كل الاتجاهات، فهو يشتت نفسه بالجري وراء ما هو مسرٌ للحواس، ولا يكون له قوة تدفعه في رحلته نحو الصالحات الحقيقية. لكن إذا تم استدعاؤه، إن جاز التعبير، من كل الاتجاهات، وانجمع في ذاته، وحضر بالكامل، فإنه سيتحرك بفضل طاقته الطبيعية، ولن يمنعه شيء من أن يُحمل عاليًا وإلصاق نفسه بالأمور الحقيقية (السماوية).

كما أن الماء في الأنبوب، عندما يُحصر بالقوة، فإنه عادة ما يرتفع لأعلى، ولا يقدر أن يتدفق في أي مكان، برغم أن حركته الطبيعية تتجه لأسفل، هكذا أيضًا فالذهن البشري حين يُحصر من كل الاتجاهات من خلال ضبط النفس، الذي يعمل كأنبوب، فإنه بطريقة ما سيُرفع لأعلى بفضل طبيعة الحركة إلى رغبة الأمور التي هي فوق، إذ ليس هناك أي مكان آخر يجري إليه.

فمن المستحيل لما وُضِع في حركة أبدية بواسطة خالقه أن يتوقف، وأن يستخدم حركته لأغراض غير نافعة بمجرد أن يتم التحكم فيه وتعجيزه عن عدم الذهاب مباشرة إلى الحق، عندما يُمنع من كل الجوانب عما هو غير مناسب له. نحن نرى مسافرين في رحلات طويلة لا يضلون طريقهم لأنهم تعلموا من الخبرة أن يتجنبوا الطرق الفرعية. ومثل اعتناء رحال محنك يعود إلى الطريق الصحيح، سيركز ذهننا على الحق الصحيح بمجرد أن يتحوّل عن التفاهات (عن البتولية 6).

 

"إذا كانت المعركة ضد الملذات صعبة، فليتشجع الجميع، لأن الاعتياد له قوته في أن يولد بعض اللذة من خلال الثبات فيما يبدو أنه صعب جدًا، ويتضمن أجمل وأنقى الملذات الجديرة بانتباه الذهن، بدلاً من تغريبنا عن ما هو عظيم فعلاً ويتجاوز خيالنا بسبب اهتمامنا البائس بالأمور الوضيعة. 

أي مقالة يمكنها أن تصف مدى فداحة وعقوبة السقوط عن الجمال الحقيقي؟ أي لغة مفخمة يمكن للمرء أن يستخدمها؟ كيف يمكن وصف وتحديد الأمور غير الموصوفة وغير المدركة؟ إذا كان لأي أحد مثل هذه النقاوة في الرؤية الذهنية بحيث يقدر أن يرى إلى حد ما ما وعد به الرب في التطويبات، فإنه سيحتقر كل صوت بشري لا قوة له على عرض معانيها. في المقابل إذا كان أي أحد لايزال منغمسًا في الماديات وقد تشوشت الرؤية الواضحة لنفسه بسبب حالة من الغشاوة، فإن أي مقالة ستكون بلا جدوى من وجهة نظره. لأنه في حالة من فقدوا الحس، فإن التهوين أو التهويل من الأعاجيب سيكون بنفس المقدار في الحديث، كما في حالة أشعة الشمس. أي شرح لفظي للنور هو بلا نفع وباطل لشخص أعمى بالولادة، لأنه ليس من الممكن أن نتصور بهاء الشمس بالأذن. بنفس الطريقة، يحتاج كل فرد لعينيه ليرى جمال النور الحقيقي الروحاني. والذي يراه فعلاً من خلال نعمة إلهية وإلهام غير مفحوص فإنه ينذهل في أعماق ضميره. والذي لا يستطيع أن يراه لن يدرك ما فاته" (عن البتولية 9، 10).

"كل خليقة الله جميلة، ولا يجب أن تُحتقر، وأي شيء صنعه الله هو جميل بإفراط. لكن حين أفسدت نتائج الخطية حياة الإنسان، اندفع من بداية صغيرة تيارٌ لانهائي من الشر على الإنسان، وذاك الجمال الإلهي للنفس التي خلقت بمحاكاة الأصل قد تسود مثل الحديد بصدأ الشر، ولم تعد النفس تحتفظ بنعمة صورتها الطبيعية، لكنها تحولت إلى قذارة الخطية. ومثل الإنسان، ذاك المخلوق العظيم والمكرم... إذ سقط من كرامته مثل الذين ينزلقون ويسقطون في الوحل، وقد لطخوا أنفسهم بالطين، قد صار من الصعب التعرف عليه حتى لرفقائه، هكذا مَن يسقط في وحل الخطية لا يعد فيما بعد صورة الله غير الفاسد، ويُغطى بسبب الخطية بصورة فاسدة ملطخة... ومع ذلك إذا تطهر بالماء إن جاز التعبير من طريق حياته، يمكن للطبقة الطينية أن تُزال، ويمكن لجمال النفس أن يعاود الظهور من جديد.

إن رفض ما هو غريب يعني العودة إلى ما هو أصيل وطبيعي للذات، لكن هذا لا يمكن تحققه إلا إذا خُلق المرء من جديد. لان التشبُّه بالله ليس من صنعنا، ولا هو نتاج القدرة البشرية، لكنه جزء من الكرم الإلهي الذي أعطى بسخاء لطبيعتنا عند ميلاد الإنسان الأول شبهًا بذاته. لكن الجهد البشري يمتد إلى هذا الحد فقط: إزالة القذارة التي تراكمت من خلال الشر، والكشف عن الجمال الذي في النفس الذي تغطى.

هذا التعليم في رأيي علَّمه الرب في الإنجيل للقادرين على سماع الحكمة حين قال في سر ”ملكوت الله داخلكم“ (لو 17: 21). هذا القول يبين كما أعتقد أن صلاح الله لا ينفصل عن طبيعتنا، وهو ليس بعيدًا عن الذين يختارون السعي إليه، بل يظل حاضرًا في كل فرد، غير معروف ومنسي حين يختنق الإنسان بهموم وملذات الحياة، لكنه يُكتشف من جديد حين نحوّل انتباهنا إليه مرة أخرى.

إذا أردنا المزيد من تأكيد هذه الحجة، في رأيي هذا ما كان يشير إليه الرب في البحث عن الدرهم المفقود. بقية الفضائل التي يشير إليها الرب بالدراهم هي بلا نفع، حتى إذا توفرت كلها في النفس، إذا كانت النفس مفتقرة من الفضيلة المفقودة. لذا فهو يحثنا قبل كل شيء أن ننير سراجًا، وهو بهذا يقصد ربما الكلمة التي تكشف إلى النور ما هو محتجب. ثم يخبرنا بأن نبحث عن الدرهم المفقود في بيتنا، أي في ذاوتنا. من خلال هذا المثل يشير إلى أن صورة الملك لم تُفقد تمامًا، لكنها محتجبة تحت التراب. أعتقد أننا لابد أن نفسر كلمة ”التراب“ على أنه وسخ الجسد. وبمجرد أن يُكنس هذا ويزال باهتمامنا بحياتنا، فإن ما نبحث عنه يصير مرئيًا، وحينئذٍ يمكن للنفس أن تبتهج وتُحضر الجيران ليشاركوها فرحتها.

 


لأنه في الواقع كل ملكات النفس، وهي ما يشير إليه الرب بالجيران، تعيش معًا، وعندما ينكشف الغطاء عن الصورة الرائعة للملك التي غرسها الخالق في قلوبنا منذ البدء، وتظهر للنور، فحينئذٍ هذه الملكات تتجه نحو الفرح الإلهي والبهجة، إذ تتطلع نحو الجمال غير الموصوف لما تمت استعادته. لأن الكتاب يقول ”افْرَحْنَ مَعِي لأَنِّي وَجَدْتُ الدِّرْهَمَ الَّذِي أَضَعْتُهُ“ (لو 15: 9). فالجيران، أو ملكات النفس التي تسكن معًا، تبتهج عند العثور على الدرهم الإلهي. فالعقل والرغبة والملكة التي تُحفز بالحزن والغضب، وأي ملكات أخرى موجودة، يُنظر إليها على أنها متصلة بالنفس، وتُعتبر منطقيًا بمثابة أصدقاء يبتهجون بالحق في الرب، حين ينظرون جميعهم إلى كل ما هو جميل وما هو صالح وحين يفعلون كل شيء من أجل مجد الله، لأنها لم يعودوا بعد آلات للخطية.

وبالتالي هذا الاهتمام بالبحث عما هو مفقود هو الاستعادة إلى الحالة الأولى من الصورة الإلهية التي أصبحت الآن مغطاة بقذر الجسد. دعنا نصير على ما كنا عليه قبلاً خلال الفترة الأولى من وجودنا (عن البتولية 12(.

لكن إذا اعتبر أي أحد أنه من غير الهام لعناصر حياة الإنسان أن تكون في تناغم مع بعضها البعض، فلينظر إلى مقتنياته في بيته ويتعلم هذا التعليم. يبدو لي أنه كما في منزل خاص فإن السيد لا يسمح للأشياء التي فيه أن تكون غير مناسبة وغير متوافقة: السرير مقلوب، والمائدة مليئة بالتراب، والمقتينات الثمينة ملقاة في الزوايا المتسخة، والأواني التي تخدم احتياجات الطبيعة على مرأى من الداخلين، وإنما يجعل كل شيء مرتبًا وفي تنسيق جيد، وكل شي ءفي مكانه الصحيح، حتى يستقبل الضيوف في ثقة، ولا يخشى من أي انتقاد إذا شاهد الناس الأشياء التي في بيته.

هكذا في رأيي يجدر بالسيد والوكيل على مسكننا، وأعني بالمسكن الذهن، إذ يحرص على أن يجعل كل شيء ملائمًا، وأن تُستخدم كل ملكة من ملكات النفس، التي وهبنا إياها الخالق عوض أواني أو أدوات، بشكل صحيح ولأغراض الجمال. لكن إذا قال أحد بازدراء إن هذه الحجة حمقاء وتافهة، فدعه يشرح تفصيليًا كيف سيدير حياته الخاصة لمصلحته باستخدام ما عنده (عن البتولية 18(.

وبالتالي نحن نقول من الضروري أن يترسخ الشوق على طهارة النفس كما لو على باكورة أو تقدمة نذور مختارة للرب، يطهر النفس ويجعلها محصنة وغير ملوثة بأي من قذر الحياة. الغضب والسخط والكراهية يجب أن يُثاروا مثل كلاب لحراسة البوابة، فقط لمقاومة الخطية، وتُستخدم فقط ضد السارق أو العدو الذي يدخل ليفسد الكنز الإلهي، ويأتي ليسرق ويمزق ويدمر. وبدلاً من السلاح في اليد، يجب أن يتحلى المرء بالشجاعة والإقدام بحيث لا يوجد ضرورة للخوف، ويمكن للمرء أن يتحمل هجمات الأشرار. كما يجب أن يتكئ المرء ليس على عصا بل على الرجاء والمثابرة، إذا أعيته التجارب. وإذا جاءت لحظة التوبة عن الخطايا، يجب على المرء أن يُظهر الندم، ونحرص أن نستخدمه لهذا القصد فقط. العدالة يجب أن تكون معيار الاستقامة، وتُظهر في كل كلمة وفعل كم من الضروري للأشياء أن تترتب في نفسه وكيف يجب أن يدير كل عنصر بحسب قيمته. الميل نحو المزيد الذي يكمن بلا حدود في نفس كل إنسان ينبغي أن يُطبق فقط على الشوق إلى الله، وهكذا نهنئ المرء من أجل طمعه، لأنه يستخدم الغصب حيث يصح أن يُستخدم الغصب. ينبغي أن يتحلى بالحكمة والتدبر كمشيرين في كل الأحوال وكشركاء حياته، لكيما لا يتأذى بالجهل والتهور.

في المقابل ، إذا لم يستخدم المرء الملكات التي تحدثنا عنها بحسب ما هو طبيعي ولائق، لكنه يفسِد استخدامها بتطبيق الرغبة على الأشياء المشينة، مثل توجيه الكراهية ضد أقربائه، ومحبة الظلم، واستعراض العضلات ضد والديه، والتجاسر في غير محله، وترجي الأباطيل، ورفض التدبر والحكمة كرفقاء الحياة، ويصير رفيقًا للنهم والحماقة، وهكذا، فإنه سيكون عبثيًا ووحشيًا بحيث إنه لن يوجد من يقدر أن يصف سخافته. ألن يبدو الأمر مثل جندي يغطي وجهه بخوذة مقلوبة، ويضع قدميه في الدرع، ويلبس الشنكار على صدره، ويقلب اليسار يمينًا واليمين يسارًا؟ ماذا سيحدث لمثل هذا الجندي في الحرب هو مثل ما سيختبره الشخص الذي يفسد حكمه على الأمور واستخدامه لقوى النفس (عن البتولية 18(.