الخميس، 13 يوليو 2017

أفكار عن فلسفة التاريخ- ج2


في هذه التدوينة سأتعرض لفلسفة التاريخ حسب مناهج لرؤى كونية كبرى كالتالي[1]:
1- الرؤية الكونية المسيحية: في المسيحية تُعتبر القيامة حدثًا تاريخيًا، بل إن تاريخية القيامة هي أساس لصحة الديانة المسيحية كلها، كما يُستخلص من كلام الرسول بولس في 1كو 15. القيامة حدث مهم لدى المسيحيين في فهمهم للتاريخ، لأنها دليل على تدخل الله في التاريخ، وعمل الله في التاريخ، وأن الله يقود التاريخ نحو نهاية منتصرة تُعتبر القيامة البروفة التمهيدية لها. لقد اقتحم الله التاريخ في شخص يسوع المسيح، وانتصر على إبليس وقوى الشر في معركة الصليب، وستشهد نهاية التاريخ انتصارًا نهائيًا يكمّل ما أُنجز على الصليب. هذا يجعل المسيحيين مطمئنين على النهاية، فنجدهم يتحملون الاضطهاد دون مقاومة، متوقعبن الانتصار في النهاية؛ لأن تقدم الزمن دائمًا في صالحهم. فالتاريخ يتقدم نحو ذروة محددة: يوم الدينونة (انظر أع17: 31؛ رو 2: 11-16).  
2- الرؤية الكونية الإسلامية: يؤمن المسلمون بأن لله إشرافًا كاملاً على مسار التاريخ، الذي يكشف أو يعلن المشيئة الإلهية، لدرجة قد تصل إلى الحتمية أو الجبرية. لكن مع هذه الحتمية التاريخية يرجو المسلم أن يسود الإسلام العالم كله، وهو ما يعني أسلمة الأفراد والمجتمعات. من هنا ترى بعض الفرق الإسلامية أن الوصول إلى هذا الهدف المنشود يفرض عليهم "الجهاد المقدس"- ربما بكل الوسائل المتاحة. وذلك من أجل انتشار الإسلام في دار الحرب (البلاد غير المسلمة) أو للدفاع عن الإسلام إذا ما تعرّض لأي نوع من الأخطار. وهناك بالطبع أصوات معتدلة ترجو أن يعرف البشر الله- من منظور إسلامي- طواعية وليس باستخدام القوة. في المقابل هناك دائمًا أصوات أخرى ترى الحرب ضرورة.. وأن سقوط الكفار إيذان برفعة الإسلام.
3- المذهب الإنساني العلماني Secular Humanism: أنصار هذا المذهب دائمًا متفائلون في نظرتهم للتاريخ، وهذا بناءً على سببين: أولهما: إيمانهم الشديد بنظرية التطور والارتقاء؛ فهم يؤمنون أنه طالما أن الحياة تطورت كلها من المادة عير الحية، فإن التاريخ الإنساني حتمًا سيتطور إلى الأفضل. يقول أحد أنصارهم يُدعى جون ديترش: "لم يكن هناك جنة عدن، ولا سقوط.. بل نهوض مستمر.. كان الإنسان ولا يزال يتسلق تدريجيًا عبر العصور من الحالة البدائية حتى الحضارة الحالية."[2] السبب الثاني لتفائلهم هو إنكارهم لله؛ يصرُّ جوليان هاكسلي أن قيام وسقوط الامبراطوريات والحضارات هو محض ظاهرة طبيعية.. مثل التطور البيولوجي.[3]
أنصار المذهب الإنساني العلماني يرون أن الأيديولوجية هي محرك التاريخ؛ فالمسيحية لديهم هو نوع من الأيديولوجية ويرون أنها لم تصبح ملائمة للحاضر وقد عفا عليها الزمن. لا يهتمون بالماض بقدر ما يهتمون بخلق سماء هنا على الأرض. ويؤمنون أن البشرية ستفتدي نفسها وستحقق نظامًا اجتماعيًا مثاليًا، وسيكملون أنفسهم. مذهب العلمانية الإنسانية هي خطة الخلاص لضمان خلق سماء على هذه الأرض في المستقبل. يشاركهم بعض أفكارهم أنصار المذهب الإنساني الكوني cosmic Humanism الذين يرون أن التطور هو مخلص البشرية.. تطور الوعي بشكل خاص.
4- مذهب ما بعد الحداثة: يرى أنصار ما بعد الحداثة أن التاريخ ليس له معنى عام، ولا رواية ماورائية meta-narrative، وفي بعض الأحيان التاريخ عندهم هو محض خيال أدبي fictions ولا يمت للحقائق facts بصلة. ويرون أن الأخبار التاريخية تخضع إلى حد كبير لتحيزات كاتبيها. هذا التحيز لا مفر منه سواء في كتابة التاريخ أو في قرائته. وأن البشر اعتادوا ذلك لخدمة هدف معين. من أهم المصطلحات التي يتبناها أنصار ما بعد الحداثة مصطلح "المراجعة التاريخية" Historical Revisionism أو إعادة كتابة التاريخ لخدمة أهداف معينة.
من أمثلة هذه المراجعة التاريخية إنكار البعض للهلولوكوست اليهودي على يد النازيين، وفي عالمنا العربي نرى أحد تجليات هذه الفكرة في فيلم "الناصر صلاح الدين" الذي أنتجته آسيا وأنتجه يوسف شاهين عام 1963م. الفيلم يستلهم من شخصية صلاح الدين الأيوبي ليس أكثر من اسم الفيلم، وكان الفيلم برمته ترويجيًا للحركة القومية العروبية التي قادها الرئيس جمال عبد الناصر. بل أن صلاح الدين الذي ترسمه أحداث الفيلم هو أقرب لشخصية أحمد مظهر- وقد كان أحد الضباط الأحرار الذين قاموا بثورة يوليو- منه إلى شخصية صلاح الدين الحقيقية.[4] يقول صلاح الدين (أحمد مظهر) في أحد المشاهد: "أعز أمنياتي أن يرفرف علم الوحدة على الوطن كله ... بهذه الوحدة, الوحدة فقط, نستطيع ان نحرر بيت المقدس من أيد الفرنجة المغتصبين." هذه الجملة لا تمت بصلة لصلاح الدين الحقيقي. وفي المقابل هي تعبير بليغ عن قومية جمال عبد الناصر، وتلخيص للأوبريت الشهير "وطني حبيبي.. الوطن الأكبر".
مع أن  الثابت تاريخيًا أن صلاح الدين لم يستطع هزيمة الصليبيين ولم يأخد أورشليم إلا صلحًا.. بل أن الأيوبيين أعادوا أورشليم للصليبيين كهدية بعد ذلك. والبعض يقول أن صلاح الدين سرق أموال الأزهر، ولم يكن يؤمن بالتعددية الفكرية والتسامح الديني كما يروج الفيلم، وربما شخصية عيسى العوام خير دليل على ذلك، لأن عيسى العوام الحقيقي لم يكن مسيحيًا أصلاً. كل هذا التزييف لخدمة أيديولوجية جديدة.   



[1] اعتمدت في هذا المقال على كتاب "Understanding the Times" للمؤلف ديفيد إيه نوبيل، صفحات 391- 425.
[2] Cited in "The Best of Humanism", Roger E. Greeley, 174.
[3] Huxley, "Essays of a Humanist", 33. 
[4] انظر سلسلة مقالات للدكتور يوسف زيدان بعنوان "أوهام المصريين" بجريدة المصري اليوم. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق