الأحد، 30 يناير 2022

تعليم الموعوظين- ق غريغوريوس النيسي

 


ترجمة د جورج فرج بمعرفة المركز الأررثوذكسي للدراسات الآبائية، في 250 صفحة تقريبًا

في البداية بنعرف إن كتاب النيسي ده موجّه لمعلمي الموعوظين ”المعنيين بسر التقوى“ (ص 99)، وللموعوظين بشكل غير مباشر، وبيتضمن منهجية لشرح الإيمان، في خلفية الكرازة لكل من اليونانيين واليهود، واللي بيأكد النيسي على احترام ”الافتراضات العقلية المسبقة“ (ص 101) لكل منهم، واللي هيتحدد بناءً عليها المدخل للحوار معاهم. فالحديث مع اليونانيين يبدأ الأول بتفنيد تعدد الآلهة، حتى نفسح الطريق للإيمان بالإله الواحد، ثم بعد ذلك نناقش كمالات وصفات هذا الإله الواحد. لكن الحوار مع اليهود ينطلق من إيمان اليهود أنفسهم بالإله الواحد إلى ”الطبيعة الإلهية العاقلة“ (ص 106)، ثم الحديث عن كلمة الله اللي بتختلف عن كلامنا البشري الفاني، لكن ”كلمة الله فلا يجب أن تُفهم كينونته في التلفظ باندفاع الكلام، أو أنه مثل كلمتنا قد أتى من العدم... الطبيعة غير الفانية والكائنة على الدوام لها كلمة أبدية وغير فانية“ (ص 107).

الفكرة الخاصة بالفرق من ناحية والتشابه من ناحيةأخرى بين كلمة الله وكلامنا، ليها تقليد غربي وشرقي كبير، فنجد إيريناؤس (اللي شايفه مصدر آخر اعتمد عليه النيسي بالإضافة إلى أوريجانوس وأثناسيوس، كما أورد المترجم) بيقول إننا وإحنا بنفكر بتخرج أو بتتولد الكلمات ”بجهود متتالية بقدر ما يستطيع اللسان أن يخدم ذلك“. لكن بيقول ده مينفعش بالنسبة لله الكلمة.. لأن ”الله إذ هو عقل كله، ولوغوس كله“ (ضد الهرطقات 2: 28: 4). كذلك هيلاري أسقف بواتييه بيقول: ”الكلمة واقع وليس صوتًا، كيانٌ وليس كلامًا، إلهٌ وليس خيالاً“ (عن الثالوث2: 15). والنيسي بيقول نفس الكلام إنه مينفعش نقول على الله الكلمة أنه بلا كيان/ أقنوم unhypostatic (ص 108).  

النيسي بيقول إن الكلمة ”تأتي من الذهن بدون أن تتطابق معه، وبدون أن تختلف معه بالكلية“ (ص 111)، عاوز يشير إلى وحدة الجوهر وتمايز الأقانيم. ونفس الكلام هتلاقيه عند ترتليان في ضد براكسياس، لكن الكلمة ليها hypokemenon والكلمة دي مترادفة مع كلمة هيبوستاسيس بمعنى أقنوم (ص 112). نفس الشيء بالنسبة للروح القدس، في تشابه مع نَفس الإنسان المرتبط بالكلام، لكن الروح القدس ”لا نتصوره كالنَّفَس الذي نتنفسه... بل نتصوره قوة ذات جوهر قائم بذاته في كيان/ أقنوم خاص به“ (ص 115). وزي هيلاري، بيرفض النيسي التطابق بين كلمتنا وكلمة الله، ونَفسنا والروح القدس لأن ”أولئك الذين يهبطون باللاهوت إلى مشابهة كلمتنا فإنهم يجعلون الكلمة والروح بلا فعل وبلا كيان unhypostatic“ (ص 119). وفي النهاية الثالوث بيقدم علاج لكل من اليونانيين واليهود، لأن ”عدد الثالوث بمثابة شفاء لمن ضلوا بشأن الوحدانية، والوحدانية بمثابة علاج لمن تشتت فكرهم في تعدد الآلهة“ (ص 117).

في الجزء الثاني، بيتكلم النيسي عن خلق الإنسان لمشاركة صلاح الله (ص 123)، بدافع من محبة الله الفائقة لجنس البشر، وإن فيض صلاح الله لابد أن يُشارك (ص 123)، فخلق الله الإنسان على صورته، هذه الصورة وصفها النيسي بأنها نوع من ”القرابة kinship“ مع اللاهوت، وهي اللي بتخلي الإنسان ينزع/ يتوجه نحو الله، ويتمتع بالصلاح الإلهي (ص 124). أفضل شيء وأكرم شيء أعطاه الله للإنسان هو ”الاستقلالية وحرية الإرادة“ (ص 128)، والشيطان حسد الإنسان لأنه لم يحتمل أن يجد مخلوق في نطاق سلطانه (العالم الأرضي) ”شبيهًا بالكرامة السامية لله“ (ص 132). بعد السقوط انجرف الإنسان بكل ثقله زي حجر مقطوع من قمة جبل نحو أقصى درجات الشر (ص 134).

تتلخص حجة النيسي عن أصل الشر في أن الشر ليس له جوهر أو كيان، وبالتالي هو ليس من صُنع الله لأن ”الله هو جابل الموجودات وليس اللاموجودات“ (138)، لكن الشر هو حركة الإرادة الحرة. المهم إننا بالسقوط ”ارتبطنا بشركة مع الشر... ونمزج الشر بطبيعتنا، كمثل السم المحلى بالعسل“ (139)، وأصبح الشر مندمجًا ”مع الجزء المحسوس.. أي الجسد“ (141).

الجزء الثالث بيتحدث فيه النيسي عن السوتيريولوجي، والجزء ده في رأيي مفاجأة لكتير من الناس، لأسباب سوف أذكرها. في البداية بيأكد النيسي أنه لا شيء عار سوى الشر، لكن الاتحاد بجسد إنساني ليس فيه أي شر أو عار (150، 161)، من ناحية  تانية الجسد لا يمكن أن يحصر اللاهوت، فالنفس في الجسد تستطيع أن تصير في أي مكان، فما بالك باللاهوت (151)، ذهبي الفم بيوظف نفس الفكرة! وبالتالي الجسد مش هيحصر اللاهوت، ولا الولادة ولا الموت هيشكل مشكلة للاهوت، لأن ”الإنسان يبدأ وجوده بالشهوة وينتهي بالضعف، أما ذاك (المسيح) فلا ميلاده بدأ بشهوة، ولا موته انتهى بالضعف. فلا ولادته صاحبها لذة ولا تبع موته فساد“ ( 155). دوافع التجسد هي كالآتي: 1- محبة الله للبشر، 2- احتياج البشرية للفادي المحرر، 3- تجديد الإنسان بالقيامة ومنحه نصيب الحياة الأبدية غير المتغيرة. في إشارة أخرى لإيريناؤس في كلام النيسي عن ”اجتياز المسيح كل مراحل العمر“ ( 160) بدون تكهنات إيريناؤس عن عمر المسيح بالجسد. ليه الله مخترش طريقة أخرى غير التجسد؛ لأن ”المرضى لا يملون على الأطباء طريقة العلاج“ (168).      

الشيء الجميل هو حرص النيسي على أن تظهر صفات الله في الفداء بدون أي تناقض فيما بينها، والعدل والعدالة بين هذه الصفات، حتى وإن كان دورها مختلف عن بعض الشروحات الأخرى عن الخلاص. العدالة تظهر فيما يُسمى بالكفارة غير العنيفة non-violent atonement، ودي كمان إشارة لإيريناؤس اللي بيقول ”إن الارتداد (الشيطان) طغى علينا ظلمًا.. فإن كلمة الله.. ليس ناقصًا من جهة عدله، قام ضد هذا الارتداد بطريقة عادلة، وافتدى خاصته منه، لا بوسائل عنيفة.. كما يليق بإله المشورة، الذي لا يستعمل وسائل عنيفة ليحصل على ما يريد، حتى لا تُنتهك العدالة من ناحية، ولا يهلك صنعة يد الله من ناحية أخرى“ (ضد الهرطقات 5: 1: 1). نفس الشيء يؤكده النيسي عندما يقول: ”ما هو العدل؟ .. في عدم استخدام الله أي سلطة استبدادية ضد الشيطان المسيطر علينا“ ( 177). يعني إحنا بعنا نفسنا بإرادتنا لإبليس فلن يستخدم الله قوة البطش القاهرة لاستردادنا.

 وبرغم إن البعض بينادي بأن الله لا يخضع لأي قانون.. وليس مجبر بالالتزام لأي شريعة.. لكن في النهاية هو ده اللي أعلنه لينا.. في أعماله وفي فدائه.. وبالتالي تعبير ”مطالب العدالة“ اللي بيتقال ليس خطأ في المطلق. من ناحية تانية، العدل في ذاته في أحد تعريفاته هو ”إعطاء كل ذي حق حقه“، وليس الشفاء فقط أو البر فقط هو العدل، يقول النيسي ”إعطاء المالك ما يطلبه من فدية“ (178)، وأن الشيطان رأى في المسيح ”شيئًا أعظم للمبادلة (سينالجماتا) مقابل الإنسان الذي كان يمتلكه“ (180). هنا بيظهر العدل في الفداء ليس بمعنى العدل الشفائي بل المعنى القضائي، فالنيسي يرى في تدبير الفداء شهادة على صلاح الله ”إذ أن عمل تبادُل (سينالجماتكين) لأجل فداء الإنسان المقبوض عليه يبرهن على عدله“ (181). وهذه طريقة شرح تجارية واضحة للفداء (أقول طريقة شرح للسر الذي لا يُوصف).  

كان لازم اللاهوت يتخفى في الناسوت حتى يصير ”مقبولاً بسهولة من قِبَل طالب العِوض ντάλλαγμα لأجلنا“ (183)، طبعًا المفاجأة هي في ترجمة كلمة ”العِوض“ والتي يرفضها الكثيرون، ومنهم الراحل د جورج بباوي في كتابه ”موت المسيح على الصليب“ والذي أيد ترجمة ابن كاتب قيصر لكلمة ”كفارة“ بأنها ”غفران“، لكنه لم يلتفت إلى أن ابن كاتب قيصر استخدم كلمة ”عِوض“ (تفسير رومية حسبما ذهبت إليه علماء الكنيسة ص 27). كما رفض د بباوي مصطلح المبادلة ντάλλαγμα والذي ظهر بوضوح في كلام النيسي. (للمزيد راجع هذه التدوينة  https://christopraxy.blogspot.com/2021/09/blog-post_28.html). يقول النيسي: ”تتجلى العدالة في تقديم العوض المستحق... لأن من سمات العدل أن يُرد لكل واحد نتيجة ما سبق فوضع جذوره وأسبابه“ (188). القدرة بدون عدل في نظر النيسي هي ”توحش وطغيان“ (172). مرة أخرى تعريف العدل عند النيسي هو ”أنه يمنح كل واحد ما يستحقه“ (187)، لابد أن ”يُرد العِوض بالمثل“، و”وفقًا لمبدأ العدالة سوف يحصد المخادع نفس ما زرعه“ (188).

أما فكرة خداع إبليس والصنارة والطعم، فأصلها أوريجانوس، وظهرت عند ساويرس بن المقفع أيضًا، ومكسيموس المعترف، وهناك عظة بعنوان ”حول آلام الرب وصليبه“ منسوبة للقديس أثناسيوس فيها فكرة خداع إبليس بشكل متطور جدًا يجعلنا نتشكك في نسب هذه العظة لأثناسيوس. يجيب النيسي على أسئلة هامة متعلقة بالفداء زي ليه الفداء أتأخر لأنه ”لم يقدم العلاج في بداية الداء بل عند اكتماله“ (202)، وليه الفداء موصلش لكل العالم وقبله البعض فقط، فيجيب النيسي بسبب حرية الإرادة!!

وهنا تأتي الإشارة الأخرى لإيريناؤس في هذا النص وهو كلام النيسي عن حرية الإرادة اللي بيقول فيه إنه بدون حرية إرادة لا توجد فضيلة، ونصير كالعجماوات لأننا بدون حرية الإرادة نفقد ملكة التفكير. إزاي؟ ”الطبيعة العاقلة والمفكرة عندما تفقد إرادتها الحرة، فإنها تفقد معها نعمة التفكير“. السبب في ذلك: في أي شيء سيستخدم المرء عقله طالما أن قدرة اتخاذ القرار أصبحت تحت تصرف شخص آخر“ (205). وبدون حرية إرادة لا قيمة للحياة، و”لن يُعد للخطية خطر“، ومش هيبقى في فرق بين أي نمط حياة والتاني، ولا معنى لمدح المنضبط، ولا معنى لتوبيخ المنفلت (206). هذا صدى كلام إيريناؤس في ضد الهرطقات لمّا قال: ”لو أن البعض خلقوا أشرارًا بالطبيعة وآخرون خلقوا صالحين، فإن هؤلاء الآخرين لن يكونوا مستحقين للمديح لكونهم صالحين، لأنهم خلقوا هكذا، ولا الأولون مستحقون للتوبيخ لأنهم هكذا خلقوا“ (4: 37: 2)، ويقول إيريناؤس أن المجبرين على الصلاح ”لن يفهموا.. أن الخير هو شيء جميل، ولن يجدوا فيه أي متعة“ (4: 37: 7). بل إن الصلاح في حد ذاته يصبح اختيارًا غير منطقي. لكن الاختلاف أن إيريناؤس بناءً على حرية الإرادة نادى بدينونة أبدية عادلة، في حين ذهب النيسي إلى اتجاه آخر هو عقيدة المطهر والأبوكتاسيتاسيس.


نشرت العام الماضي ترجمة لنص للنيسي بعنوان ”عن النفس والقيامة“، وأرفقته بدراسة موجزة عن الإشكاليات الخاصة بالأبوكتاسيتاسيس أو الخلاص الشامل وخلاص إبليس في النهاية. يمكن الرجوع إليها.. لكن لخصت 7 إشكاليات لعقيدة الأبوكتاستاسيس كالآتي:

1- لها طابع نخبوي غنوصي سري (لأنه لا يمكن إذاعتها في العلن)

2- عمليًا تجعل حرية الإرادة بلا قيمة

3- عمليًا تجعل التاريخ البشري بلا قيمة.

4- عمليًا تجعل الجهاد الروحي والنسك والاستشهاد والكرازة بلا قيمة.

5- تظهر التضارب بين صفات الله (هو شيء لا يوافق عليه النيسي)

6- تتضمن عقيدة المطهر (لا نؤمن بها كأرثوذكس)

7- لم تقرها أي من المجامع بل على العكس أدينت.

اللافت إن النيسي بيؤكد على حرية الإرادة، لأن حرية الإرادة دي شوكة في حلق عقيدة الأبوكتاستاسيس.. واللافت إن النيسي يكرر كلام يوحنا ذهبي الفم إن نار الجحيم لا تطفئ (لكن بحسب الأبوكتاستاسيس لازم في النهاية هتنطفئ!!) والدود لا يموت (المفروض يموت في النهاية!!). فكيف يتسق هذا مع الأبوكتاسيتاسيس؟! الكلام ده موجود في آخر فقرة في الكتاب (256- 257) واللي بيقول فيها أن الحكم العادل لله سيكون على ”نتاج حياة كل فرد وفقًا لإرادته الحرة“، وده يخلينا نعيش هنا مبتعدين عن الشر في هذه الحياة القصيرة والعابرة!

(الترجمة ممتازة، والحواشي اليونانية حلوة وإن كانت زائدة عن الحد في بعض الأحيان. والكتاب كله ممتع. يستحق القراءة).

أجمل عبارة قرأتها ”ألا تعلم أن الإنسان لا يصير مدهشًا بأي طريقة أخرى سوى أن يصبح قديسًا“ (255).        

الثلاثاء، 11 يناير 2022

القارئ والنص –أبونا سارافيم البراموسي

 


(إصدار مدرسة الأسكندرية للدراسات المسيحية، في 95 صفحة من القطع المتوسط)

من بداية الكتاب بنفهم إن الكاتب (أبونا سارافيم) بيشتبك مع النتائج المترتبة على الحداثة/ وما بعد الحداثة على قراءتنا وفهمنا للنص الكتابي. ويريد منا أن نتفاعل مع هذه التطورات حتى يكون الكتاب المقدس ذو صلة بحياتنا، كل واحد في موقعه، لأن الكتاب المقدس بتاع كل الناس، فهو إنجيل مسلوبي الحقوق.. والباحثين عن سكن جديد.. والفيزيائيين.. والأركيولوجيين.. والنساء الباحثات عن الإنجاب.. أو الزواج.. وسكان العشوائيات.. والمساجين.. والرهبان.. ومَن لم يرزقوا بأطفال أو بأطفال معاقين.. وللتجار والعمال والشحاتين والمعطائين.. واللاهوتيين والباحثين. هو إنجيل الجميع. ”وإن كل محاولة لفصل إنجيل يسوع عن الواقع الإنساني الممزق هو خيانه لنداء الإنجيل الأول“ (ص 13).

يتحدث الكاتب عن إن المعنى اللي بنبحث عنه في الكتاب المقدس هو عبارة عن ”دائرة“، وليس عبارة عن فكرة أو تعريف حصري، وإن ”عدم إحاطتنا بالمعنى لا يعني أننا مخطئون ما دمنا في دائرة المعنى الصحيح“ (ص 22). وبيقول إن طالما كنا داخل هذه الدائرة نقدر نقول إننا في ”دائرة اليقين“ (ص 23). وهذا موقف يتفادي نوعين من التطرف: 1- الادعاء بامتلاك الحقيقة الكاملة، أو 2- عدم التيقن من أي شيء. ”الدائرة تحافظ لنا على حدود المعنى، وفي الوقت ذاته لا تختزل غنى المعاني الإلهية“ (ص 23).

ثم يعتمد الكاتب على فيلسوف كوبي اسمه جورجي غارسيا Gorge Gracia اللي قسم أنواع المعاني اللي بنبحث عنها في النص الكتابي كالآتي:

1- المعنى كدلالة significance، ومثال كده تعبير ”ابن الإنسان“ اللي ليه دلالة مسيانية وإسخاطولوجية لدى المتلقي الأول.

2- المعنى كمرجعية referenec، وهنا بتكون الكلمة أو العبارة لها إشارة مرجعية معينة مفهومة في وقتها.

3- المعنى كقصد intention، وده مرتبط بقصد/ نية الكاتب، ومن الصعب التيقن منه، لكن بنقدر نقرب من المعنى بالسياقات المختلفة.

4- المعنى كفكرة idea، زي كلمة ”هاجر“ اللي أصبحت مرتبطة بفكرة العبودية. يشير الكاتب إن هذا النوع يتفق عليه كل من الرمزيين والليبراليين، ولكنه فرق إن الرمزيين بيراعوا الأساس التاريخي. وفي رأيي أن هذا الكلام صحيح إذا كان يقصد بالرمزيين الأليجوريين، لكن الرمزية التيبولوجية تراعي الأساس التاريخي، بحسب الآباء وبحسب دارسي الكتاب المقدس مثل G. Beale. وأنا أعتبر أوريجانوس باستغراقه في الأليجورية هو رائد الليبراليين الحداثيين. لا شي جديد، كله قديم!

5- المعنى كأثر effect، ومثال على كده كلام المسيح عن السيف مع بطرس، ولكن لما قطع بطرس أذن العبد وانتهار المسيح له وشفاء العبد، فهمنا من هذا التصرف أو الأثر المعنى المقصود بالسيف.

بعد ذلك يتعرض الكاتب لنقد سي إس لويس الكاتب الإنجليزي لبولتمان اللاهوتي الألماني، لأن الأخير نزع الأساس التاريخي للقصة الإنجيلية. إذ رفض لويس ”دعوة بولتمان لقراءة ما بين السطور، لا كشيء خاطئ، ولكنه رأى أنه قبل قراءة ما بين السطور، علينا قراءة السطور أولاً“ (ص 35- 36). رفض لويس أن تكون الكاريجما (محتوى البشارة الإنجيلية) بديلاً عن التاريخ. وقال ”إن تجاهل الحقيقة التاريخية يحوِّل المعنى الموضوعي إلى معنى شخصي فقط، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه لنسبية لا حدود لها“ (ص 36). كما أشار الكاتب إلى أن نزع الأساس التاريخي يدخلنا دائرة التفسير الدوسيتي (نسبة إلى هرطقة الخيالية) (حاشية 14 ص 37). ويدعم إن تي رايت العالم الكتابي المعروف نقد لويس للمدرسة الليبرالية الألمانية؛ إذ أن هذا التيار الأخير يعمل على خلق المعنى وليس البحث عن المعنى (ص 43).

بعد ذلك يتحدث الكاتب عن 4 عناصر في قراءة النص: (الحدث- الكاتب- النص- القارئ)، ويقول إن الروح القدس هو ”الخيط الرابط“ بينها. وحين يتحدث عن القارئ يقول الكاتب إن ”القارئ في عصرنا الحالي كثيرًا كما يجنح لخلق المعنى وليس فقط اكتشاف المعنى“ (ص 54). ويجب أن نميز بين ”التفاعل الخلاق“ مع الكلمة و”التفاعل الخالق“ للمعنى. وقدم أمثلة عملية لهذا الأمر بقراء يأتون بفرضيات مسبقة لديهم ثم يأكدونها بالكتاب المقدس مثل مؤيدي المثلية الجنسية والإجهاض. وقال إنه في هذه الحالات فإن القارئ ”يخشى على سمعته الحداثية/ ما بعد الحداثية ولكن على حساب حق الإنجيل“ (ص 55).

يعتمد الكاتب بعد ذلك على إن تي رايت N T Wright في تقديم عدد من أنواع القراء مع التطبيق على نص مت 2: 13- 15 وقصة هروب العائلة المقدسة إلى مصر كالتالي:

1- القارئ البسيط الواقعي naïve realistic، والذي قد يرى في النص السابق حماسًا زائدًا لفكرة الهروب أو الاعتماد على الأحلام دون النظر إلى تفاصيل أخرى.

2- القاري الظاهراتي phenomenalist واللي بيفصل النص عن الحدث التاريخي نفسه، ويعمل ترميز أو روحنة للحدث لاهوتيًا.

3- القارئ التقوي devout، وده لا هيلتفت للنص ولا الكاتب ولا الحدث، ويجري ناحية التطبيق المباشر للنص على حياته الشخصية وقد يقع في أخطاء كبيرة بحسن نية.

ثم يناقش الكاتب فكرة ”القراءة المثالية“ وبالأخص حين تعترضنا إشكالية في النص، هل سنذهب إلى القراءة الاختزالية المبسطة، أو القراءة الظاهراتية، وأحيانًا كل قارئ بيلجأ لنوع القراءة اللي بتحافظ على إحساسه بالأمان من جهة النص. يشير الكاتب إلى عالم كتابي إنجليزي يُدعى ريتشارد ألان بوريدج Burridge واللي بيقدم فكرة ”الزجاج الملون“. اللي هو مش زجاج شفاف فأقدر أشوف ما وراء النص، ولا هو مرآة بشوف فيها انعكاس صورتي كقارئ للنص، لكن بقدر أشوف ما وراء الزجاج (النص) وصورتي (القارئ) لكن بلون النص وبحسب الصورة المركزية المرسومة على الزجاج، واللي هي المسيح (كلمة الله المتجسد). (ص 75- 76).

آخر فكرة يختم الكاتب بها هي فكرة ”البوتقة الكنسية“، وأهمية أن نقرأ الكتاب كخبرة جماعية، وليس قراءة فرادنية منعزلة، وبيعزز القراءة دي الليتورجيا وشروحات الآباء السابقة. هذه البوتقة الكنسية ”ليست بوتقة حصرية تحجر على حرية التفاعل الشخصي مع الكلمة، ولكنها تمنح القارئ المعاصر رؤية آفاق أكثر رحابة في النص“ (ص 82). هذه البوتقة الكنسية تضمن عدم الانحراف عن ”المرتكزات المسيحية“ الأساسية حتى نتحرك بأمان في مساحات التفاعل الخلاق مع كلمة الله. فهناك فرق بين القراءة الشخصية personal، والقراءة المنفردة individualistic (ص 84). الأولى صحيحة والثانية غير صحيحة.

ملاحظة عامة

الكاتب مهدَّف ومباشر، وبحثه مترابط منطقيًا، سلس القراءة، يصل إلى غايته بأقصر الطرق. يحسب للكاتب الأمثلة والتطبيقات لتوضيح الأفكار، والاشتباك مع scholarship حديثة ومعاصرة مع الحفاظ بالروح المحافظة لكنيستنا الأرثوذكسية، والاتكاء على تقليدنا الآبائي والليتورجي كلما أمكن ذلك. الكتاب يستحق القراءة.