السبت، 26 ديسمبر 2020

”ضد إفنوميوس“: هل لله اسم؟

 


يعبِّر الكثيرون من آباء الكنيسة عن تنزيه الله بالتأكيد على أنه ليس له اسم. لأن ما ليس له اسم هو غير مدرك وغير موصوف، ومفارق لكل ما عداه. الاسم هنا بمعنى التعريف، والتعريف هو نوع من التحديد، والله لا حَد ولا حدود له، ولا شيء يكفي للتعبير عن ماهيته. ق هيلاري أسقف بواتييه يقول: ”اللامحدودية هي صفته.. هيئوا عقولكم لإدراكه ككل، وسوف يراوغكم... الكلمات تعجز عن وصفه. دعوا العقل يعترف بأنه هُزم في محاولة الفهم، وكذلك المنطق في محاولة التحديد“ (عن الثالوث 2: 6)،[1] ويؤكد هيلاري أن ”ما يفوق الوصف لا يمكن أن يخضع لقيود وحدود التعريف“ (عن الثالوث 4: 2).[2]

 لكن ماذا عن الأسماء التي تُعطى لله في الكتاب المقدس مثلاً: الخالق، الآب، الصالح، الواحد.. إلخ. هي ليست أسماء تحد الله، بل هي تعبير عن أوصاف لأعماله، ولأفعاله من جهة علاقته بالكون أو الإنسان. كما يرى البعض أن وظيفة الاسم تتمثل في تمييز الأفراد من نفس النوع أو الجنس، والله واحد، وبالتالي ليس محتاجًا لاسم. وهذا ما أشار إليه ق كيرلس السكندري في كتاب ”حوار حول الثالوث“: ”إن تعريفات الجواهر.. إذا ما تمت بطريقة منطقية لابد أن تبدأ من النوع أو الجنس ثم إلى بيان خصوصيات كل نوع وما يميزه عن غيره... هذا يخرج بنا خارج حدود المنطق واللياقة، لأننا نحاول أن نطبق على الله صفة النوع بينما لا يوجد كائن آخر مساوٍ له أو سابق عليه“.[3] بصيغة أخرى، التعريف يُعطى ليميِّز الفرد داخل مجموعة أفراد من نفس النوع، لكن الله ليس كذلك، وبالتالي محاولة تعريفه نوع من الخطأ المنطقي.  

إذا تتبعنا تأكيد الآباء على أن الله ليس له اسم، سنبدأ من فيلون الفيلسوف اليهودي السكندري الذي قال بإن ملاك يهوه رفض أن يقول اسمه ليعقوب (تك 32: 29)، ويعلِّق: ”لقد انتهر الملاك طلب يعقوب وأجابه: لماذا تسأل عن اسمي؟ يكفيك أن تنتفع من بركتي“، والمبدأ العام لفيلون هو ”بالنسبة للأسماء، فإنها رموز الموجودات المولودة، فلا تبحث عنها بين الطبائع غير الفاسدة“،[4] بمعنى أن الأسماء رموز تنطبق على المخلوقات، المتولدات، لتميز شيئًا مخلوقًا عن آخر.

ثم نجد يوسيتن الشهيد الذي يقول: ”ليس لأحد أن يطلق أسماء على الله غير الموصوف، وإذا تجرأ أحد على ذلك فهو يُعتبر مختل العقل“ (الدفاع الأول 61).[5] ويقول أيضًا ”لا يليق أن يُطلق على الله أبي الكل اسمًا مختلقًا لأنه غير مولود“ (الدفاع الثاني 6).[6] والسبب في ذلك ”لأن كل مَن له اسم فقد أُعطي له من شخص يكبره سنًا، إن كلمات الآب والله والخالق والرب والسيد ليست أسماء حقيقية بل ألقاب مستمدة من أعماله الصالحة“.[7] وبالتالي يؤكد ق يوستين أن الأسماء المألوفة لنا عن الله لا تعبر عن ”ماهية الله“ (what God is) ولكنها تعبِّر عن كيفية تفاعله (how God is) مع خليقته. كما يذكر يوستين أن لفظة ”الله“ هي ”ليست اسمًا حقيقيًا بل هو ”تعبير عن شعور مزروع في طبيعة الإنسان يصعب تفسيره“.[8]

ثم نأتي للقديس إكليمندس السكندري الذي يقول في ”المتفرقات“: ”من العسير جدًا التحدُّث عن الله... لذلك هو بلا شكل وبلا اسم. وإذا أسميناه فإننا لا نفعل هذا بشكل صحيح“، وحتى أسماء الله مثل الواحد والصالح والآب ”كل واحد منها في حد ذاته لا يعبِّر عن الله، ولكن كلها معًا تدل على سلطة الله الكلي القدرة.. ليس هناك شيء سابق لغير المولود“ (متفرقات 5: 12، 10).[9] وهنا يظهر التماثل بين إكليمندس ويوستين، كما يشرح إكليمندس أن الله ”كموضوع/ أو محمول عليه“ (subject) لا يمكن أن يُنسب إلى جوهره أي ”محمول“ (predicate) كالتالي: ”لأن المحمولات إما تُستمد من الأشياء نفسها، أو من علاقات بآخر“ (متفرقات 5: 12: 10). النوع الأول يُسمى ”المحمول المطلق“ وهو الذي ينطبق على الشيء ذاته، والنوع الثاني هو ”المحمول النسبي“ بمعنى علاقة الموضوع بشيء آخر. وكلا الطريقيتن لا يليقان بالله.[10] ثم يصيغ إكليمندس على غرار فيلون مبدأً عامًا وهو ”إذن كل شيء يندرج تحت اسم هو مولود“ (متفرقات 5: 13: 1).

مرة أخرى يقول ق غريغوريوس النزيانزي ”الإلوهة لا تُسمى باسم من الأسماء“ (العظات اللاهوتية 30: 17)،[11] والسبب في ذلك أنه ”لم تتمكن لفظة من احتواء حقيقته احتواءً كاملاً“.[12] وبنفس الصياغة تقريبًا يقول ق باسليوس في )ضد أفنوميوس 1: 10): ”لا يوجد اسم واحد فقط يكفي لاحتواء طبيعة الله بالكامل“، ويبرر ق باسليوس هذا بأن الله نفسه أراد ألا يعلن اسمه لشعب الله في القديم، ”لأنه بكل تأكيد لا يمكن للسمع أن يحتمله ويحتويه“ (1: 13). كما يسخر ق باسليوس من إفنوميوس قائلاً: ”من الواضح أنه بالنسبة لهذا (أي أفنوميوس) أن الله لم يكشف له اسمه فقط، بل كشف أيضًا عن جوهره“ (ضد أفنوميوس 1: 13).

من هنا ننتقل إلى مستوى آخر من المشكلة التي تجلت عند أفنوميوس، أن أفنوميوس ادّعى بأنه عرف الاسم وعرف الجوهر أيضًا من خلال هذا الاسم. فقد ركّز أفنوميوس على لفظة ”غير المولود“ واعتبرها تعريفًا لجوهر الله مكونًا من كلمة واحدة. وتعامى عن أي أسماء أو ألقاب أخرى لله. بالطبع بحيلة خبيثة منه، حتى يثبت أن الابن ”المولود“ لا يمكن أن يكون مساويًا للآب ”غير المولود“.

لننقض أولاً فكرة التعريف الجامع المكون من كلمة واحدة. يدحض ق كيرلس هذه الفكرة في حواره الثاني في كتابه ”الحوار حول الثالوث“؛ موضحًا أن أتباع أفنوميوس- دون أن يسميهم- يقولون إن تعريفات الجوهر تتم من خلال ”اسم واحد أو كلمة واحدة“،[13] لذلك تمسكوا بلفظة ”غير المولود“. لكن ق كيرلس دحض رعونة هذه الفكرة بمثال عن مَن هو الإنسان؟ أو ما هو تعريفه؟ فإن قلنا إنه ”حي“ فهناك كائنات أخرى مثل الكلب والبقرة من الأحياء، وإن قلنا الإنسان ”حي زائل“ يشترك أيضًا الكثير من الكائنات في هاتين الصفتين، ولكن إن قلنا ”حي زائل عاقل“ نكون ”قد وفينا التعريف حقه“. وبالتالي يستخلص ق كيرلس الآتي: ”إنه أمر مخالف للعلم- الذين يدعون أنهم يحبونه- أن نحاول أن نعرِّف شيئًا تعريفًا وافيًا بكلمة واحدة“.[14]

إذا تتبعنا آراء أفنوميوس في السياق الفلسفي المعاصر لها، سنجد في محاورة ”كراتيلوس“ لأفلاطون أن كراتيلوس يدافع عن النظرية الطبيعية للمعاني أو الأسماء. فما يُناقش في هذه المحاورة يتلخص في هذا السؤال: هل الأسماء طبيعية أم اصطلاحية؟ أي هل تعبِّر الأسماء عن جوهر وطبيعة الشيء المسمى، أم أن الاسم هو ما اتُفق عليه أو تم التعارف أو الاصطلاح عليه. أصحاب التوجه الأول يُسمون ”الطبيعيون“ (Naturalists)، وأصحاب التوجه الثاني يُسمون ”الاصطلاحيون“ (Conventionalists). يسوق سقراط في هذه المحاورة أمثلة غريبة عن كيف يعبر الاسم عن طبيعة الشيء نفسه. فلفظة ”إله“ (theos) في اليونانية بحسب سقراط تأتي من الحركة الجارية، لأن المعبودات مثل الشمس والقمر والنجوم دائمة الدوارن في مساراتها.[15]

يمكننا تلخيص موقف المدارس الفلسفية من السؤال السابق كالتالي: في محاورة كراتيلوس، كان يحاور سقراط كل من كراتيلوس الذي تبنى النظرية الطبيعية، وهرموجنيس الذي تبنى النظرية الاصطلاحية. وكان أتباع أرسطو (أو المشائيين) يناصرون بشكل عام النظرية الاصطلاحية، بينما أتباع أفلاطون، والأبيقوريين، والرواقيين تبنوا النظرية الطبيعية. الأبيقوريون رأوا أن اللغة تنشأ طبيعيًا بمجرد أن ينطق الإنسان بصوته عندما يتأثر بالأشياء المحسوسة، بطريقة تشبه الحيوانات. بينما الرواقيون رأوا أن الأسماء فُرضت بواسطة شخص له معرفة كاملة، مثل الآلهة. في حين تبنى المسيحيون وفيلو السكندري النظرية الطبيعية، فيلو على طريقة الرواقيين، إذ اعتبر أن الله وبمشاركة آدم هما مَن فرضا الأسماء، وكذلك المسيحيين. ظهر تطبيق المسيحيين للنظرية الطبيعية على أسماء الموجودات دون اسم الله. حتى فيلون الذي قام بتحليل الاشتقاق اللغوي ل 166 اسمًا، لم يكن من بينهم اسم الله. كما قام آباء الكنيسة باستخدم تحليل الاشتقاق اللغوي للأسماء- كأداة تفسيرية- على طريقة الرواقيين وعلى طريقة فيلو السكندري، لاستنباط معاني الأسماء.[16]

ننتقل إلى مستوى آخر. هل صفة ”عدم الولادة“- كما ادعى أفنوميوس- هي مطابقة للجوهر الإلهي أم تابعة أو لاحقة له؟ استغل ق باسليوس التناقض في كلام أفنوميوس في هذه النقطة، وبعد أن اتفق معه في أنه ”إذا كان الله لا يسبق ذاته، ولا أي شيء يسبقه، فإن عدم الولادة تكون لاحقة له“ (1: 5). وبالتالي يرى ق باسليوس أن صفة ”غير المولود“ تالية للجوهر وليست سابقة عليه. هذا ما يؤكده في الكتاب الثاني من ”ضد أفنوميوس“: ”طبيعة الموجودات ليست تالية لأسمائها، لكن الأسماء تُوجد بعد الموجودات“ ( 2: 4). من هنا نصل إلى أن ق باسليوس يرى أن ”الأولية للطبائع، ثم البَعدية للأسماء، ومعنى هذا أن الأسماء لا تتيح لنا دخولاً إلى الجوهر، بل تعبر عنه فقط“.[17]  

ثم ننتقل إلى مستوى آخر. اعترض افنوميوس على أن تكون ”عدم الولادة“ نوعًا من التصور الذهني conceptualization متحججًا أنها لو كانت مجرد ”مفهوم“ داخل الذهن، وبالتالي ليس لها تعيُّن أو مِصداق خارج الذهن، فإنها كلمة ستتبدد بمجرد النطق بها. وبحسب ق باسليوس ”فإن (أفنوميوس) يتظاهر بأنه لا يليق أن نُكرم الله بتصورات ذهنية“ (ضد أفنوميوس 1: 5). يعارض ق باسليوس هذه الفكرة، ويقول ”ماذا لو تنازل وأقر (أفنوميوس) بأن المفهوم يعني شيئًا ويشير لشيء، لكن هذا الشيء كاذب تمامًا وغير موجود مثل الكائنات الخرافة التي تظهر في الأساطير؟ لو كان الأمر كذلك، فكيف للكذبة أن تتبدد بمجرد النطق بها مع صوت اللسان، مع أن المفاهيم الخاطئة تبقى في الذهن“ (1: 6). ومِن ثَم يدافع ق باسليوس على أن ليس كل التصورات الذهنية كاذبة، بل في النهاية تشير إلى فكرة ما، وبالتالي فإن تعبير ”غير المولود“ مثل مصطلحات أخرى مثل ”غير الفاني“، و”غير المائت“، و”غير المرئي“، وهو تعبير لا يشذ عن هذه المصطلحات: ”فهو ينتسب إلى هذا النموذج وهذه الصياغة“ (1: 9)، و”غير المولود“ يعني ”ما لا وجود له في الله“ (1: 10)، أي أن الله لم يأتِ عن طريق الولادة، فهو بلا علة، أو غير معلول، أو بمعنى آخر موجود بذاته.     

خاتمة

بعد كل هذا التحليل الفلسفي الذي انخرط فيه الآباء، طالما أن خصومهم استخدموا المعارف الفلسفية في مهاجمة الحق، نجد الروح المتواضعة لديهم، التي تتحلى بالطابع العملي. خلاصة الأمر يدلنا عليها ق يوحنا ذهبي الفم ”إن الكفر.. يقوم إذن لا على جهل ما هو الله في جوهره، وإنما على جهل أن الله موجود، كذلك يكفي التقوى أن تعرف أن الله موجود“.[18] ونفس الشيء يؤكده ق باسليوس: ”إن البحث في ماهية جوهر الله، لن يخلصنا، بل الإيمان بوجوده والاعتراف بذلك“ (ضد أفنوميوس 1: 14). ربما تظهر في هذا الموضوع تعقيدات فلسفية، خاصة فيما يتعلق بفلسفة اللغة ومعاني الأسماء، لكن ما أبهرني هو انخراط الآباء في هذه المسائل دون الإخلال بالجانب العملي الذي نحتاجه، ألا هو الإيمان بالله وقبول خلاصه.       



[1]  ق هيلاري أسقف بواتييه، عن الثالوث، ترجمة راهب من دير الأنبا أنطونيوس، دير الأنبا أنطونيوس البحر الأحمر، ص 240- 241.

[2]  نفس المرجع السابق، ص 306.

[3]  ق كيرلس السكندري، حوار حول الثالوث، ترجمة د جوزيف موريس فلتس، ص 53.

[4] De Mutatione, 14- 15.

[5] القديس يوستينوس الشهيد والفيلسوف، ترجمة آمال فؤاد، القاهرة، بناريون، ص 88.

[6]  نفس المرجع السابق، ص 111.

[7] نفس المرجع السابق.

[8]  نفس المرجع السابق، ص 112.

[9]  ق إكليمندس السكندري، المتفرقات، ترجمة الأب بولا ساويرس، ص 918- 919.

[10] Barry D. Smith, The Indescribable God: Otherness in Christian Theology, PickWick Publiacations, p. 61.

[11] ق غريغوريوس النزيانزي، العظات اللاهوتية الخمس، المكتبة البولسية، لبنان، ص 125.

[12]  نفس المرجع السابق، ص 126.

[13]  الحوار حول الثالوث، ص 50.

[14]  نفس المرجع السابق، ص 51.

[15]  ديرك جيرارتس، علم الدلالة المعجمي، الأكاديمية الحديثة للكتاب الجامعي، القاهرة، 2012، ص 22- 23.

[16] Mark DelCogliano, Basil of Caesarea’s Anti-Eunomian Theory of Names, p. 50-51, 87.

[17] Ibid, p. 150.

[18]  ق يوحنا ذهبي الفم، في أن الله لا يمكن إدراكه، ترجمة جورج خوام، المكتبة البولسية، لبنان، ص 155.

الخميس، 3 ديسمبر 2020

رحلتي مع الثالوث- 30

 

في المحطة الأخيرة دي، بأحاول أتتبع آثار عقيدة الثالوث، واللي قال عليها كاليستوس وير أنها لازم تغيّر حياتي بشكل هائل، أو بسميها المضامين الانعكاسية، يعني الثالوث بينعكس علينا إزاي، وبيفهمنا إيه عن كيف يجب أن تكون شخصيتنا وكينونتنا، ومجتمعنا، ودولتنا، وأيضًا كنيستنا. هنقرأ التفاصيل دي على الرابط التالي: (https://christopraxy.blogspot.com/2020/06/blog-post_12.html).

 


أخيرًا أشكركم على سماحكم لي بمصاحبتكم في هذه الرحلة الشيقة اللي وقفنا فيها في محطات كتير مع شخصيات كتير جدًا، قديم وجديد، بره وجوه، أرثوذكس ومن طوايف تانية، كلهم اجتمعوا على هدف واحد، وهو إثبات صحة عقيدة الثالوث القدوس. المجد للآب والابن والروح القدس، الآن وكل أوان، وإلى دهر الدهور أمين.

رحلتي مع الثالوث- 29

 

في هذه المحطة سنلتقي مع بعض الكُتاب الغربيين، منهم مثلاً كارل رانر Karl Rahner ، وهو لاهوتي ألماني من اليسوعيين عاش بين ( 1904- 1984). يرى رانر أن الثالوث ”سر مطلق“ فهو من أسرار الدين الذي يُعرف فقط لأن الله أعلنه، ولو لم يُعلن ما كان عُرف على الإطلاق.  كما يرى رانر أن مفهوم ”الشخص person قد تعرض للتغيير عن المعنى المقصود له (الأقنوم) بحسب التعريف الكلاسيكي القديم.. وأصبح يعني ”مركز متمايز للوعي. والله لديه مركز واحد للوعي في الألوهة.. وبالتالي عبارة "three persons" قد تُفهم بأننا نعبد 3 آلهة..  لذلك هتلاقيه بيستخدم تعبير تاني هو (Three relative ways of existing) أو ثلاث طرق نسبية للوجود..  وده يشبه تعبير للاهوتي آخر هو كارل بارث (three ways of being) أو ثلاث طرق للكينونة. لكن الخوف أن هذه التعبيرات شبيهة بالسابلية، وإن كان من المؤكد أن رانر يدرك الفارق.

نأتي للاهوتي مهم هو توماس إف تورانس (1913- 2007) وهو لاهوتي بروستانتي أسكوتلاندي.. نقدر نقول عليه من أهم اللاهوتيين في القرن العشرين..  وكان ليه دور كبير في صياغة اتفاق بين الكنائس الإنجيلية المصلحة والكنيسة الأرثوذكسية الشرقية حول عقيدة الثالوث سنة 1991. لذلك من أهم كتبه (The Trinitarian Faith) واللي ترجمته دار نشر بناريون تحت عنوان ”الإيمان بالثالوث. توماس تورانس يبان أنه ضليع وملم بالكتابات الآبائية، وبيستلهم أفكاره ويصيغ منها أفكاره .. ومثال على كده فيما يختص بالثالوث ما يلي: يقول تورانس إن ق أثناسيوس بيعلمنا أنه ”أكثر تقوى وحق أن نتعرف على الله من خلال الابن وندعوه الآب- من أن نسميه من خلال أعماله فقط وندعوه غير المخلوق“. نتذكر أن أفنوميوس، كان مركز على تسمية الله ”غير المولود“ لأغراض أخرى خبيثة.  

لكن تورانس بيقول إن معرفة الله عن طريق الابن- هي طريقة إيجابية أو ثبوتية (via positiva). أمّا معرفة الله عن طريق مخلوقاته- طرقة سلبية أو نفي (via negativa). لأننا بنعرف من الخليقة إن الله مختلف ومفارق للخليقة- يعني مش زي الخليقة. ويقول تورانس إن الآباء رفضوا فكر باسليدس الغنوصي اللي علّم بأننا منقدرش نقول شيء ثبوتي عن الله لكن الكلام عن الله بالنفي فقط.. (عير مفحوص/ غير زمني/ غير محدود/ غير مبتدئ/ ... إلخ). ويستشهد تورانس ب ق غريوغوريوس النزيانزي اللي قال إنه لو مش هنقدر نقول شيء إيجابي / ثبوتي عن الله يبقى أي كلام سلبي أو نفي هيكون غير دقيق..  وبالتالي يصل تورانس إلى نتيجة أننا علشان نمتحن ونضبط مفاهيمنا عن الله لازم نبدأ من نقطة ما ”داخل الله“ (الابن) مش من نقطة ”خارج الله“ (الخليقة).

نأتي للاهوتي آخر، وهو آر سي سبرول، واللي توفى (2017 م)، واللي قدم 6 محاضرات قصيرة عن سر الثالوث، واللي في الحلقة الأولى بيستنكر أحد أساتذة الفلسفة اللي بيقول إن في تناقض في الثالوث. فبيشرح أن أحد قوانين المنطق وهو ”قانون عدم التناقض“ اللي بيقول: (أ) لا يمكن أنها تكون (ب) و( لا ب) في نفس الوقت وبنفس العلاقة. فالثالوث هو واحد في نفس الوقت لكن مش بنفس العلاقة لأننا نقول ”واحد في الجوهر مثلث الأقانيم“، ولا نقول واحد في الجوهر ومثلث في الجوهر.  


ثم تحدث عما يسمى بالإعلان المتدرج Progressive Revelation وده موجود عند غريغوريوس النزيانزي في عظاته اللاهوتية (لم يذكر هذا)، وأنه في نوع من التوسع في الإعلان عن الله وليس تصحيح إعلانات سابقة.. ثم يشرح كيف نشأت مدرسة في القرن التاسع عشر في فلسفة التاريخ متأثرة بفكرة هيجل عن ”تطور التاريخ“ مع الهوجة اللي أحدثتها النظرية الداروينية في مجال البيولوجية.. اللي خلت بعض الناس تقول إن العهد القديم مكنش فيه مفهوم وحدانية الله Monotheism إلا في وقت متأخر.. (ربما زمن كتابة سفر أشعيا أو ما بعد السبي)، وأنه وفق نظرية تطور التاريخ الديني حدث تطور في المفهوم عن الله من الأبسط إلى الأعقد على النحو التالي:  1- الأرواحية أو الإحيائية Animism  وبتقول إن حتى الجماد أو الحيوان في روح إلهية.. وقالوا خطأً أن إبراهيم كان بيكلم الملائكة في أشجار البلوط، والحية بتتكلم وحمار بلعام اللي بيتكلم،  كل ده بيأكد هذا المذهب المزعوم ده. 2- تعدد الآلهة Polytheism  وده ظهر عند المصريين والبابليين واليونان والرومان.. إله لكل شيء: الخصوبة والحرب.. إلخ. 3- التفريد Henotheism بمعنى أن كل شعب أو أمه بيختار يكون ولائه لإله واحد.. وقالوا إن يهوه إله إسرائيل كان في مقابل آلهة محلية أخرى.. 4- ثم أخيرًا التوحيد Monotheism وده بحسب زعم المدرسة دي وصل ليه اليهود في وقت متأخر..

آر سي سبرول ينتقد هذه المدرسة ويقول إن العهد القديم منذ رواية الخلق في تك 1: 1 يؤكد على التوحيد.. الإله الواحد الذي ليس له نطاق جغرافي محدود بل يملك على السماء والأرض.. وحتى لو قالوا إن إيلوهيم بصيغة الجمع إلا أنه قال النص بيعطي صيغة المفرد للأفعال لهذا اللقب.. وفي سفر الخروج كانت الوصية الأولى ”لا يكن لك آلهة أخرى أمامي“، ممكن تتفهم أن في آلهة آخرين وإن ده نوع من التفريد.. لكنه سبرول بيقول ”أمامي“ هنا غامضة لأن إله العهد القديم كلي الحضور وبالتالي الآية تدعم التوحيد.. على أن يتأكد ذلك في أسفار الأنبياء اللي كانوا بيستهزأوا بمن يعبدون الشجر (أي  animism) أو يعملوها تماثيل (أي  polytheism).

نصل إلى لاهوتي آخر معاصر، وهو الأب كاليستوس وير، واللي ليه كتاب أُعيد طبعه مؤخرًا اسمه ”الطريق الأرثوذكسي، وفي فصل عن الثالوث.. الاب كاليستوس هو أسقف انجليزي أرثوذكسي بيعرف يخاطب المجتمع الغربي بشكل جميل.. بيقول في الفصل ده إن الثالوث سر ولغز Paradox وفيه تناقض ظاهري.. حتى أن فلاديمير لوسكي بيقول إن الثالوث هو ”صليب لطريقة التفكير البشرية. وبيعرف يستشهد من شكسبير اللي قال ”إن العدد في الحب شيء منعدم“. ومن تشارلز وليامز- شاعر انجليزي برضو- إن الله لا يعيش في عزلة وجحيم حب الذات، لأن قمة حب الذات هي نهاية كل فرح وكل معنى... لذلك فالله ليس فردًا منعزلاً بل يعيش في شركة ثالوثية.


ويقول كاليستوس وير إن ”عقيدة الثالوث أبعد من أن نَدفَع بها في ركن بعيد ونعاملها كقطعة عويصة من التنظير الفلسفي الذي لا يُعنى به إلا المتخصصون، بل يجب أن يكون لعقيدة بالثالوث أثرها على حياتنا اليومية، ذلك الأثر الذي ينبغي ألا يقل عن أن يكون أثرًا ثوريًا“..  وأشار إلى من ضمن الآثار دي أننا نناضل ضد كل أشكال القهر والظلم واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان.   

رحلتي مع الثالوث- 28

 

في نهاية القرن العشرين، بنوصل للاهوتيين مهمين، زي البابا شنودة الثالث، واللي تنيح عام 2012 م، واللي في نبذة بعنوان ”التثليث والتوحيد“ نشرت ليه عام 1977، ويقول فيها إن الإسلام فرَّق بين المسيحيين والمشركين، فحرّم الزواج من المشركات، ولم يحرم الزواج من المسيحيات! تعرضنا لأمر شبيه في السابق بشأن الأكل من طعام المشركين.  والنصارى لا يشركون بالله أحد.. لأنه إذا كان لله شريك فلا يكون قادرًا على كل شيء.


وردًا على سورة المائدة 72 ”لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة، يقول نحن كمسيحيين لا نؤمن بأن الله ثالث ثلاثة.. ويلجأ لتشبيه الإنسان: ذات إنسانية واحدة لها عقل ولها روح. ثم يقول إن الإسلام يحارب التثليث الوثني وليس المسيحي، ويتأكد ذلك في سورة الأنعام 100 ”بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة، وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم. ونحن كمسيحيين نحارب هذا مع المسلمين لأن ده هو التثليث الوثني (إيزيس، وأوزوريس، وحورس) أو بعض الهرطقات المسيحية (اللي قالت بثالوث: الله والمسيح ومريم) اللي بيهاجمها الإسلام والمسيحيين أيضًا.

ثم يميز البابا شنودة بين الثالوث الوثني والثالوث المسيحي كالتالي: 1- الوثني 3 ليسوا واحد، المسيحي 3 وهم واحد. 2- الثالوث الوثني فيه تناسل، المسيح ليس فيه تناسل. 3- الثالوث الوثني فيه اختلاف في الزمن، المسيحي لا فارق زمني بين الأقانيم الثلاثة.

نأتي الآن لشخصي مهمة أخرى، هي الأنبا بيشوي مطران دمياط، واللي تنيح عام 2018م، واللي بيقول في كتيب له بعنوان ”شرح الثالوث“ أن الله محبة.. لكنها مش محبة أنانية ولا حصرية بل احتوائية. ويقول الآتي: ”ولكن الحب لا يصير كاملاً إلا بوجود الأقنوم الثالث؛ لأن الحب نحو الأنا، هو أنانية وليس حبًا. والحب الذي يتجه نحو الآخر الذي ليس آخر سواه (المنحصر في آخر وحيد) هو حب متخصص رافض للاحتواء (exclusive love) بمعنى أنه حب ناقص. ولكن الحب المثالي هو الذي يتجه نحو الآخر، وإلى كل مَن هو آخر (inclusive love). وهنا تبرز أهمية وجود الأقنوم الثالث من أجل كمال المحبة“.

لكن للإجابة على ليه ميكنش أربعة أو خمسة أقانيم؟ يقول الأنبا بيشوي: الشيء الناقص ضد كمال الله، والشيء الزائد دون داعي ضد كمال الله أيضًا. المثلث ده مساحته لانهائية، ”مساحة من الحب بين الأقانيم الثلاثة هي ما لا نهاية. ومثلث الحب هذا يتسع حتى يشمل كل الخليقة، فأي كائن يقع داخل نطاق المثلث يشمله هذا الحب. فما الداعي لنقطة رابعة أو خامسة.

اتقابلنا مع فكرة المثلث في شرح الثالوث مع أبو شاكر بن الراهب. أمَّا عن فكرة لا داعي لنقطة رابعة أو خمسة عاوز أقول أنه في العصور الوسطى استُخدم مبدأ ”شفرة أوكام“ منسوب لراهب وفيلسوف فرنسسكاني اسمه وليام الأوكامي ومبدأه بيسمى ”مبدأ البساطة“، وليه صياغات وتطبيقات في مجالات علمية وفلسفية عديدة منها أن ”التفسير الأبسط مُقدَّم على التفسير الأعقد“. وبالتالي تم استخدامه في شرح الثالوث الكافي لفهمنا لله ولأنفسنا.. فما الداعي لرابوع أو خاموس.. لن يقدم شيئًا جديدًا.. بالرغم.. بالرغم أن الثالوث ليس استنتاجًا منطقيًا لكنه إعلاناً إلهيًا.

يُتبع

رحلتي مع الثالوث- 27

 

ما زلنا في القرن العشرين، مع بعض الشخصيات المهمة، ونبدأ مع القمص سرجيوس سرجيوس (1882- 1964)، وهو خطيب ثورة 1919، وأول مسيحي يقف على منبر الأزهر ليخطب المصريين داعيًا للوحدة الوطنية في مواجهة الإنجليز.. في سنة 1933 كتب الشيخ محمد العدوي مقالة في جريدة السياسة يهاجم فيها عقيدة التثليث، فرد عليه القمص سرجيوس في هذا الكتاب.. 


وجَّه القمص سرجيوس للشيخ العدوي اللوم لأنه لم ينتظر حتى ينتهي المسيحيين المصريين من الاحتفال بعيد الميلاد.. خصوصًا وأن هذه العقيدة ثابتة حتى من قبل الإسلام.. فلا داعي للعجلة. ثم رد على اتهام العدوي بأن مَن يؤمن بالثالوث هم مَن ”صغار العقول“ فذكره بأن العلماء المسيحيين قدموا اختراعات غيرت وجه الدنيا.. ثم يرد على آية قرانية استشهد بها الشيخ العدوي، وهي من سورة المائدة (172) ”لن يستنكف المسيح أن يكون عبدًا لله، ويقول إنه لم يوفق في اختيار هذه الآية القرآنية.. لأنه مفيش حد من الأنبياء اتقال عليه أنه ”لم يستنكف أن يكون عبدًا لله“.. كلهم قابلين أنهم يكونوا عبيد لأن طبيعتهم كده.. شيء بديهي! لكن المسيح شيء مختلف. ولكونه روح الله وكلمته الأزلي نراه لم يستنكف (في تجسده) أن يدعى عبدًا.. هذه مناسبة الاستنكاف. ثم يقول إن هذه الآية القرآنية لها مثيلتها في الإنجيل في فيلبي 2: 5 عن المسيح الذي ”لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى ذاته آخذًا صورة عبد“.

نأتي لمحطة مهمة عند الأب متى المسكين (المتوفى عام 2006)، اللي محدض يقدر ينكر أنه لاهوتي مهم، واللي في إحدى مقالاته يقول: ”وحدانية الله ليست عددية، ولكنها طبيعية“ (وده بيفكرنا بكلام نيكولاس دي كوسا وأبو رائطة التكريتي كما سبق وأوضحنا). ثم يقول إن أقرب صورة لذات الله هي النفس البشرية (وده برضو قاله غريغوريوس النيسي وأغسطينوس) لكن الأب متى بياخد اتجاه مختلف قليلاً عنهم وبيقول وجه الشبه إن النفس البشرية بتحافظ على وجودها بالرغم من الموت عن طريق ”الأبوة والبنوة والحياة“، ”فلو كفّت الأبوة أن تعطي الحياة للبنوة، أو كفّت البنوة أن تقبل الحياة، أو كفّت الحياة أن تكون، لكفّ العالم عن الوجود“.

ثم يشرح مستخدما الحوار المرفق في الصورة ويقول:

”سألني سائل: كيف يكون الله آب وابن بآن واحد.

فسألته: هل لك ابن؟

قال: نعم،

قلت له: إذن، أنت أب!!

ثم سألته: هل لك أب؟

قال: نعم،

قلت له: إذن، أنت ابن!! وهكذا أنت أب وابن بآن واحد!!

ثم سألته: هل أنت حي؟

قال: نعم،

قلت له: إذن فيك روح!! وبالنهاية أنت أب وابن وروح في ذات واحدة. فأنت لست ثلاثة بل واحد، وهذه هي عناصر الذات الواحدة.“

ثم يقول: ”الله الآب حيٌ دائم كائن بذاته، الله الابن حي كائن في ذات الله، الله الروح القدس قائم دائم في الآب والابن“. وهذا الكلام قريب الشبه جدًا لكلام ”يوحنا بن زكريا المعروف بابن سبَّاع“ في كتابه ”الخريدة النفسية“ اللي بيقول فيها: ”أقنوم الآب قائم بذاته ناطق بالابن حي بالروح القدس. الله الابن حي كائن في ذات الله. الله الروح القدس قائم دائم في الآب والابن“.

يُتبع