الأربعاء، 30 نوفمبر 2022

عظة على مت 3: 13 بشأن الثالوث، ق أغسطينوس

 


في هذه العظة المهمة يحاول ق أغسطينوس الإجابة على سؤال صعب مفاده: إذا كان الثالوث القدوس غير منفصل، فلماذا تُنسب بعض الأعمال لأحد الأقانيم فقط دون الأقنومين الآخرين؟ فالتجسد والصلب والقيامة يبدو أنهم يُنسبون للابن فقط، فأين دور الآب والروح القدس في هذه الأعمال؟ ومع اعترافه بالصعوبة الشديدة لهذا السؤال فإنه يقدم محاولة حذرة يراعي فيها عدم القول بوجود ثمة انفصال بين الأقانيم الثلاثة من جهة وعدم نسب الولادة أو الصلب أو القيامة للآب أيضًا من جهة أخرى. لأن ق أغسطينوس كان على دراية بالهرطقة التي رفضتها الكنيسة والتي عُرفت بمؤلمي الآب
patripasstianism.

استعان ق أغسطينوس ببعض النصوص الكتابية لكي يثبت أن ولادة الابن هي عمل كل من الآب والابن، لأن الآب هو من أرسل وجعل ابنه مولودًا من امرأة (فقرة 11)، وبرغم أن الابن هو الذي تألم فإن أغسطينوس يأتي بشهادات كتابية تقول إن الآب أسلم ابنه كما أن الابن أسلم ذاته، وبالتالي يقول إن الصلب هو عمل كل من الآب والابن (فقرة 12). نفس الشيء عن القيامة، فالآب أقام ابنه، والابن لديه السلطان ليضع نفسه ويستردها أيضًا (فقرة 13).

ثم يحاول أغسطينوس حث قرائه أو سامعيه على البحث في المخلوقات عن 3 أشياء تظهر منفصلة ويكون عملهم غير قابل للانفصال. ويستنتج أن البحث يكون أكثر واقعية في الإنسان، ذات الإنسان، لأن الإنسان بخلاف البهائم أو السماء أو النجوم، هو المخلوق على صورة الله ومثاله. وبالتالي لابد أن يكون في الإنسان أثر شبهٍ بالثالوث. هذه المقاربة اتبعها ق غريغوريوس النيسي في مقالة له بعنوان ”خلق الإنسان على صورة الله ومثاله“. فقد رأى ق غريغوريوس النيسي مثل ق أغسطينوس أن النفس هي أقرب تشبيه للثالوث، وأن الإنسان إذا تأمل نفسه سيصل إلى سر الثالوث، وأن النفس تمثل شهادة للثالوث ويقول إنها ”شهادة مؤكدة وجديرة بالثقة أكثر من أي شهادة أخرى للناموس والكتاب“!. 

لكن ق أغسطينوس مع اعترافه بأن النفس أقرب تشبيه للثالوث مثل النيسي، إلا أنه يأخذ منحى سيكولوجيًا آخر، وهو ثالوث ”الذاكرة، والفهم، والإرادة“، مع اعتراف أغسطينوس أن هذا الثالوث هو مجرد نموذج تشبيهي ولا يتطابق تمام الانطباق مع الثالوث القدوس، ولم يستطع أن يصرح بأيهم ينطبق على الآب أو الابن أو الروح القدس. وأكد على أن غاية بحثه هي أن يبحث في عالم المخلوقات عن أشياء ثلاثة تظهر منفصلة مع أن عملهم غير قابل للانفصال، مشددًا على سمو الله وتعاليه عن أي شبه بالمخلوقات.

نسأل المسيح إلهنا أن تكون هذه الترجمة لمجد الثالوث القدوس ولخدمة الكنيسة، وأن يحفظ لنا حياة أبينا البطريرك أنبا تواضروس الثاني.. آمين.

 يمكنك تحميل ترجمة العظة من الرابط التالي: 

https://drive.google.com/file/d/1DYRO6O85TxJpeWKqjignC606r1jvjoKh/view?usp=share_link


الجمعة، 11 نوفمبر 2022

الرسالة رقم (120): إلى كونسينتيوس

 


هذه الرسالة كتبها القديس أغسطينوس حوالي عام 410م، ردًا على طلب شخص يُدعى كونسينتيوس الذي أرسل له مستفسرًا عن أمور متعلقة بسر الثالوث، فآثرت أن أترجم الرسالة كاملة حتى تكون في متناول القارئ المهتم بدراسة الثالوث بشكل عام، وبفكر القديس أغسطينوس في ذات الموضوع بشكل خاص. وفي نظري ترجع أهمية هذه الرسالة إلى النقاط التالية:

1- أنه كما يتضح من هذه الرسالة أن أغسطينوس لا يعطي أولوية للجوهر الإلهي بحيث يوجد بشكل ما كسابق على الأقانيم. وهذه تهمة كثيرًا ما تُوجّه للشرح الغربي أو اللاتيني للثالوث. فيقول أغسطينوس: ”في هذا الوقت لابد أن نتمسك بإيمان لا يهتز بأن الآب والابن والروح القدس هم الثالوث، لكنهم إله واحد فقط. ليس بمعنى أن الأولوهة التي يتشاركون فيها هي أقنوم رابع بشكل ما، بل هي ذاتها الثالوث غير الموصوف وغير قابل للانفصال“ (رسالة 120: 3: 13).

2- لا يهمل أغسطينوس تمامًا قيمة العقل في فهم الأمور الإيمانية، فبينما وضع كونسينتيوس مبدأً لنفسه بأن يتبع الإيمان ولا يتبع إعمال العقل في الأمور الإلهية، نجد أغسطينوس يعطي قيمة للعقل ولا يرفضه كليةً. يقول أغسطينوس: ”حاشا لله أن يكره فينا المَلكة (أي العقل) التي جعلنا بها أرقى من كل الكائنات الحية الأخرى“، فنحن ”لا نستطيع أن نؤمن على الإطلاق لو لم يكن لدينا نفس عاقلة“ (رسالة 120: 1: 3). في المقابل إذا سألت أغسطينوس: أيهما يسبق: الإيمان أم العقل؟ ستجده يقول لك: من المعقول أن يسبق الإيمانُ العقلَ؟ لا يلغي أغسطينوس الإيمان أبدًا، وكذلك لا يلغي العقل، وإذا كان دور العقل صغيرًا قبل الإيمان فإن دوره يمكن أن يكون كبيرًا بعد الإيمان.  

3- لا يجوز مقارنة الله بالمحسوسات، ولا بتمثلات هذه المحسوسات في العقل، لأن أغسيطنوس يقول: ”فإذا جاءت على ذهنك أي صورة مادية عندما تفكر في هذه الأفكار، فلتستنكرها وترفضها وتلقي بها عنك وتشجبها ولتُكرهها على الفرار“ (رسالة 120: 3: 13). فلا يجوز أن نتصور الأقانيم الثلاثة كثلاثة أشياء ضخمة مقيدة بالمكان أو متلامسة أو متراصة في أي شكل مثل المثلث (انظر 2: 7).

 

أرجو أن تكون ترجمة هذه الرسالة للبركة بصلوات صاحب الغبطة البابا تواضروس الثاني الساهر على كنيسة المسيح أدام الله حياته. آمين


عادل زكري

11/ 11/ 2022م

يمكنك تحميل الكتيب من خلال هذا الرابط: 

https://drive.google.com/file/d/1ZsBAqDVFb2kzD7UEUHj7izSjNXqY_oS4/view?usp=share_link

الأحد، 21 أغسطس 2022

ماذا عن اتهام أغسطينوس بالمانوية؟

 


عاش أغسيطنوس ما يقرب من 10 سنوات كعضو في الديانة المانوية، ويحكي في كتابه الاعترافات كيف عجز قادة المانوية في الإجابة عن تساؤلاته، الأمر الذي دفعه لترك هذه العقيدة، ولكن بمرور الزمن أصبح أغسطينوس من أشد وأعنف نقاد المانوية نفسها. إلا أن بعد اعتناقه المسيحية ظل يلاحقه اتهام بأنه مانوي متخفٍ. وظهر هذا الاتهام من شيعة الدوناتيين عند رسامة أغسطينوس أسقفًا على قرطاج عام 411م، لكن الاتهام الأكبر كان على يد جوليان من أوكلانوم (تلميذ بيلاجيوس)، الذي قال له صراحة: ”أنت وماني لكما نفس الإيمان“، كما اتهمه جوليان بأن عقيدته في الخطية الأصلية تلخص العقيدة المانوية في التناسل والزواج وأصل الشر.

من المستحيل أن نغفل بعض التوازيات بين فكر أغسطينوس والفكر المانوي، وبالأخص نظرته التشاؤمية تجاه الطبيعة البشرية الفاسدة بكليتها (في رأيه) والإرادة الإنسانية المستعبدة للشر (في رأيه أيضًا). كما أننا لا نستطيع تبرئة أغسطينوس بشكل كامل إذ أنه بعد عام 396م ومن خلال كتابه إلى سمبلشيانوس خليقة ق أمبروسيوس، قد تعرض لتغيير نوعي في أفكاره، وهو الذي حتى هذا التاريخ كان متفقًا مع آباء الكنيسة الجامعة كلهم في الاعتقاد بحرية الإرادة والاختيار الإلهي المبني على سابق علمه وليس سابق تعيينه.[1]

وبالتالي لا يمكن إنكار بعض التشبهات بين فكر أغسطينوس وفكر ماني، إلا أنني أود أن أقول إن منظومة العقيدة المانوية لها أعمدة ثابتة لابد من التعرف عليها أولاً حتى نحدد مدى تبني أغسطينوس لأفكار المانوية. والأهم من ذلك تعالوا لنسمع من أغسطينوس نفسه كيف يحاول أن يبرئ نفسه من هذه التهمة، حتى نعرف بالأحرى ما هي الأفكار التي يرفضها في المانوية، تلك الأفكار التي يعتبر إيمانه المسيحي الجامع لا يتفق معها.

في عمل له بعنوان ”عن الزواج والشهوانية“ (On Marriage and Consupiscence) وفي الكتاب الثاني فصل 9، وتحت عنوان ”أتباع الكنيسة الجامعة ينادون بعقيدة الخطية الأصلية، وهم بذلك بعيدون عن كونهم مانويين“، يقول الآتي:[2]

أتباع الكنيسة الجامعة يقولون إن الطبيعة البشرية خُلقت صالحة بواسطة الله الصالح والخالق، لكن بعد أن فسدت بالخطية، فهي تحتاج إلى المسيح الطبيب. بينما يؤكد المانويون أن الطبيعة البشرية لم يخلقها الله صالحة ولكنها فاسدة بالخطية، بل إن الإنسان قد جُبل بواسطة رئيس الظلمة الأزلي من مزيج من طبيعتين وجدتا منذ الأزل؛ طبيعة صالحة وأخرى شريرة. بينما يقول أتباع بيلاجيوس وكليستيوس بأن الطبيعة البشرية خُلقت صالحة بواسطة الله الصالح، لكنها في نفس الوقت لا تزال سالمة وسوية في الأطفال عند ولادتهم، ومن ثَم بلا حاجة في هذا العمر لدواء المسيح.

ستلاحظ هنا أن أغسطينوس يرفض أحد الأعمدة الأساسية في العقيدة المانوية، ألا وهي الثنائية dualism؛ فالمانوية تنادي بمبدأيين أزليين؛ مبدأ الخير الأزلي ويسمونه آب العظمة Father of greatness، ومبدأ الشر الأزلي ويسمونه ملك الظلمة King of darkness. وبالتالي بينما يقول المانويون إن الشر أزلي في خليقة الله، يقول أغسطينوس مثل كل آباء الكنيسة بأن خليقة الله صالحة والشر دخيلٌ عليها. ثم يقول أغسطينوس:

لأن الحق يرفض كلا الحزبين: حزب المانويين وأنتم (البيلاجيين). ويقول للمانويين:”أَمَا قَرَأْتُمْ أَنَّ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْبَدْءِ خَلَقَهُمَا ذَكَرًا وَأُنْثَى؟ وَقَالَ: مِنْ أَجْلِ هذَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ الاثْنَانِ جَسَدًا وَاحِدًا“ (مت 19: 4- 6). وهنا يبين المسيح في هذا النص أن الله هو خالق الإنسان وأيضًا هو الموحِّد في الزواج بين الزوج والزوجة. بينما المانويون ينكرون كلتا الحقيقتين. في المقابل يقول لكم (البيلاجيين): ”لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ“ (لو 19: 10). لكنكم تقولون للمسيح: ”إذا كنت جئت لتطلب وتخلص ما قد هلك، فإنك لم تأتِ للأطفال، لأنهم ليسوا هالكين، لكنهم ولدوا في حالة الخلاص (a state of salvation). اذهبوا إذن للكبار في السن، نحن نقدم لكم قاعدة مستقاة من كلامكم أنتم: ”لا يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ الْمَرْضَى“ (مت 9: 12). لذلك فالمانويون الذين يقولون إن الإنسان امتزج الشر بطبيعته، عليهم أن يترجوا لنفسه الصالحة أن تخلص بأي حال بواسطة المسيح. لكنكم (البيلاجيين) قانعون بأنه لا يوجد شيء في الأطفال حتى يلدهم المسيح، لأنهم بالفعل في أمان.

يرى أغسطينوس إن الله الصالح هو الخالق وهو واضع تصميم سر الزواج، وهذا عكس المانويين. بل إن أغسطينوس برغم كل شيء يعتبر الزواج من تصميم الله، وكان يُمارس قبل السقوط دون غلبة من الشهوة. وإذا قارنا هذا الرأي بما يقوله أحد الآباء الشرقيين مثل غريغوريوس النيسي بأن التكاثر الجنسي هو من نتائج السقوط!،[3] سنجد أن أفكار أغسطينوس أفضل نسبيًا. سنلاحظ أيضًا في السطور الأخيرة أن أغسطينوس يقارن بين المانويين والبيلاجيين. المانويين ينادون بأن الجسد هو الشر بينما النفس هي من جزئيات النور وهي من إله الخير، لكنها محبوسة داخل سجن الجسد. لذلك فإن الخلاص عند المانويين هو تحرير هذه النفس من سجن الجسد. فعلى الأقل يريد المانويون خلاص النفس، في المقابل البيلاجيون يرون إن الأطفال ليس لديهم ما يحتاجون إلى الخلاص منه. وكأن أغسطينوس بشكل سخرية يقول إن المانويين أفضل من البيلاجيين في هذا النقطة. 

أما عن اتهام أغسطينوس بأن نظرته للزواج تتطابق مع المانويين فيقول:

نحن نعلن إن الزواج صالح وليس شرًا... البيلاجيون يتهموننا بأننا مانويون، بالرغم أننا لا نقول بإن الزواج شر، كما يزعم المانويون، بل نؤكد أن الشر حُسب للرجل والمرأة الأولين، أي أول زوجين، ومنهما اجتاز إلى جميع الناس، كما يؤمن أتباع الكنيسة الجامعة.[4]  

في عمل آخر لأغسطينوس بعنوان (A Treatise Against Two Letters of the Pelagians) وفي الكتاب الثاني، فصل 2 يقارن بين المانويين والبيلاجيين وبالتالي يوضح إيمان الكنيسة الجامعة من وجهة نظره.

فيما يخص صلاح خليقة الله يقول الآتي:[5]

يقول المانويون إن الله الصالح ليس هو خالق كل الطبائع، في حين يقول البيلاجيون إن الله ليس هو المطهِّر، والمخلص، والمنجي في كل الأزمنة.. والكنيسة الجامعة تدين كليهما. وتنادي بالخلق الإلهي على عكس المانويين.. وتنادي على عكس البيلاجيين بأنه في كل العصور لابد أن يُنظر للطبيعة البشرية بأنها فاسدة.

وفيما يخص الشهوانية يقول:

المانويون يشجبون الشهوانية في الجسد، ليس كما لو كانت رذيلة عارضة، بل كما لو كانت طبيعة شريرة منذ الأزل. أما البيلاجيون فيصدقون عليها كما لو كانت ليست رذيلة، بل خيرًا طبيعيًا. والإيمان الجامع يدين كليهما. إذ يقول للمانويين: ”ليست طبيعة، بل رذيلة“، ويقول للبيلاجيين: ”ليست من الآب، بل من العالم“. حتى يسمح لها كلٌ منهما بأن تكون كمرض شرير يحتاج إلى علاج- الأولون (المانويون) بالتوقف عن الاعتقاد بأنها كما لو كانت مستعصية على الشفاء، والآخرون (البيلاجيون) بالتوقف عن الادعاء بأنها شيء جدير بالثناء.

وفيما يخص الإرادة يقول:

المانويون ينكرون أن بداية الشر لدى الإنسان الصالح تأتي من حرية الإرادة، والبيلاجيون يقولون حتى الإنسان الشرير لديه حرية إرادة كافية ليتمم الوصية الصالحة. والكنيسة الجامعة تدين كليهما، إذ تقول للأولين (المانويين): ”أَنَّ اللهَ صَنَعَ الإِنْسَانَ مُسْتَقِيمًا“ (جا 7: 29)، وتقول للآخرين (البيلاجيين): ”إِنْ حَرَّرَكُمْ الابْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَارًا“ (يو 8: 36).

وفيما يخص النفس يقول:

المانويون يقولون إن النفس، كجزء من الله، لديها خطية بسبب امتزاجها بطبيعة شريرة. والبيلاجيون يقولون إن النفس مستقيمة، وليست جزءًا من الله بل من خليقة الله، وليست لديها في هذه الحياة أية خطية. والكنيسة الجامعة تدين كليهما، إذ تقول للمانويين: ”اِجْعَلُوا الشَّجَرَةَ جَيِّدَةً وَثَمَرَهَا جَيِّدًا، أَوِ اجْعَلُوا الشَّجَرَةَ رَدِيَّةً وَثَمَرَهَا رَدِيًّا، لأَنْ مِنَ الثَّمَرِ تُعْرَفُ الشَّجَرَةُ“ (مت 12: 33)، وهو ما لا يمكن أن يُقال لإنسان لا يستطيع أن يخلق طبيعته، إلا إذا كانت الخطية ليست طبيعة وإنما رذيلة. وتقول للبيلاجيين: ”إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ لَنَا خَطِيَّةٌ نُضِلُّ أَنْفُسَنَا وَلَيْسَ الْحَقُّ فِينَا“ (1يو 1: 8).

وفيما يخص النعمة يقول:

المانويون يؤكدون أن المعونة الإلهية تُعطى لاستحقاقات الطبيعة الصالحة، في المقابل يقول البيلاجيون إنها تُعطى لاستحقاقات الإرادة الصالحة. الأولون يقولون: الله مدين بهذا لأتعاب أعضائه، والآخرون يقولون: الله مدين بهذا لفضائل عبيده. لذا في كلتا الحالتين فإن المكافأة تُحسب لا على سبيل نعمة بل على سبيل دَين.

وفيما يخص المعمودية يقول:

المانويون ينادون.. بأن غُسل التجديد.. بلا نفع. لكن البيلاجيين ينادون بأن ما يُقال في المعمودية المقدسة عن غفران الخطايا بلا نفع للأطفال، لأنهم بلا خطية. وبالتالي بالنسبة لمعمودية الأطفال من جهة مغفرة الخطايا، فإن المانويين يبطلون العنصر المنظور (الماء)، بينما البيلاجيون يبطلون السر غير المنظور أيضًا (الغفران).

وفيما يخص جسد المسيح يقول:

المانويون يهينون جسد المسيح بالتجديف على ولادته من عذراء. لكن البيلاجيين يجعلون جسد مًن يحتاجون إلى الفداء مساويًا لجسد الفادي. لأن المسيح ولِد بالطبع ليس في جسد خاطئ، بل في شبه جسد خاطئ، بينما الجسد عند بقية البشرية يولد خاطئًا. ولذلك فالمانويون الذين يمقتون كل جسد، يبطلون الحقيقة الواضحة لجسد المسيح، بينما البيلاجيون الذين ينادون بأنه لا يولد أي جسد بخطية، يبطلون في جسد المسيح كرامته المتميزة والخاصة به.

نستخلص مما سبق، أن هناك بعض الأعمدة الأساسية في المانوية يرفضها أغسطينوس وأهمها الثنائية وأزلية الشر. في نفس الوقت ربما هناك نتائج توصَّل إليها أغسيطنوس متشابهة إلى حد بعيد مع أفكار موازية في العقيدة المانوية. لكن من خلال ما سبق من كلام أغسطينوس نفسه يتضح أنه:

-       من جهة الطبيعة يعتبرها صالحة ومن خلق إله صالح (عكس المانويين)

-       من جهة الزواج يعتبره صالحًا وليس شرًا والله واضعه (عكس المانويين)

-       من جهة الشهوانية يعتبرها رذيلة يمكن علاجها، وليست طبيعة مستعصية على العلاج (عكس المانويين)

-       من جهة أصل الشر يعتبره ناتج عن حرية الإرادة (عكس المانويين)

-       من جهة النعمة يعتبرها مجانية وليست دَينًا.

-       من جهة المعمودية يعتبرها نافعة للكبار والصغار.

وفي النهاية لا يمكن اتهام أغسطينوس بشكل مطلق، ولا يمكن تبرئته بشكل مطلق. ولذا يجب على الدارسين أولاً أن يقرأوا ما يقوله أغسطينوس بلسانه، حتى يدركوا في أي شيء خالف أغسطينوس العقيدة المانوية، قبل أن يدركوا في أي شيء اتفق أغسطينوس مع المانوية. وفي رأيي حين نتكلم في سياق الجدل حول الخطية الأصلية عند أغسطينوس لا يجب أن نتعجل برفع لافتة اتهامه بالمانوية في ظل التباين الواضح بين نظرة أغسطينوس ونظرة المانويين لمنشأ الشر والخطية. أو على الأقل نحدد بدقة أوجه التشابه وأوجه الاختلاف فيما بينهما، أو نحدد بدقة أكثر العناصر التي تسربت من المانوية إلى فكره.  



[1] Paul Rhodes Eddy, Can a leopard change its spots?: Augustine and the crypto-Manichaeism question, SJT 62(3): 316–346 (2009), p. 337.

[2] NPNF, series 1, vol 5, St. Augustine: Anti-Pelagian Writings, On Marriage and Consupiscence, book 2, ch. 9 p. 286 (822).

[3] راجع ق غريغوريوس النيسي، خلق الإنسان، ترجمة د سعيد حكيم، الفصل 17، 18. جدير بالذكر أيضًا أن غريغوريوس النيسي قال في كتابه تعليم الموعوظين (8- 3) الآتي:  بواسطة حركة من الإرادة الحرة (نفس اعتقاد أغسطينوس بالمناسبة) قد ارتبطنا بشركة مع الشر، ومن خلال لذة ما نمزج الشر بطبيعتنا".  كما يتحدث النيسي في نفس الكتاب (16- 7) عن ”الشر الممتزج بطبيعتنا“، ومع ذلك لم نسمع أحد يتهم النيسي بالمانوية! (راجع غريغوريوس النيسي، تعليم الموعوظين، ترجمة د جورج فرج، ص 139، 140، 166).

[4] NPNF, series 1, vol 5, St. Augustine: Anti-Pelagian Writings, On Marriage and Consupiscence, book 2, ch. 38, p. 298 (857).

[5] NPNF, series 1, vol 5, St. Augustine: Anti-Pelagian Writings, A Treatise Against Two Letters of the Pelagians, book 2, ch. 2, p. 392 (1094).

 

الخميس، 18 أغسطس 2022

هل فهم أغسيطنوس رومية 5: 12؟

 


في ظل الجدل الدائر حول مفهوم ”الخطية الأصلية أو الجدية“، وفي ظل الكلام عن أن ق أغسطينوس فهم آية رو 5: 12 بشكل خاطئ، لأنه اعتمد على ترجمة خاطئة للآية، أحاول أن أستوضح هل فعلاً لم يفهم أغسطينوس هذه الآية في سياق لغتها الأصلية كما كتبها بولس الرسول، وكيف فهم العبارة المثيرة للجدل ”إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ“ أو ”فيه أخطأ الجميع“.

يقول أغسطينوس في عمل له بعنوان (A Treatise Against Two Letters of the Pelagians) وفي الفصل السابع تحديدًا وتحت عنوان: ”ما معنى "فيه أخطأ الجميع"“[1] يقول الآتي:

هؤلاء يتحدثون وهم يريدون أن يبعدوا الناس عن كلام الرسول (بولس) إلى فكرهم الخاص. لأنه حين يقول الرسول: ”مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ، وَهكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ“ (رو 5: 12)، فهم يريدون أن يفهموا ليس أن ”الخطية“ هي التي اجتازت، بل ”الموت“. فما معنى الكلمات التالية إذن: ”إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ“؟

سنلاحظ هنا أن ق أغسطينوس في ظل مواجهته للبيلاجيين والمانويين، هو على دراية جيدة بمحاولة تفسير رو 5: 12 على أنها تفيد ”وراثة“ الموت وليس وراثة الخطية. ومن هذا المنطلق سيحاول تفسير العبارة الغامضة التي تقع في نهاية الآية والتي تُفسر بأنها إما تتضمن ضمير وصل relative pronoun يعود على كلمة سابقة في الآية، وإمَّا رابط يفيد السببية causality بمعنى (لأن أو because). نجد فيما يلي من كلام أغسيطنوس أنه لا يتطرق إلى المعنى الثاني، بل يتناقش حول عبارة الوصل (φ πάντες μαρτον). يكمل أغسطينوس قائلاً:   

 لأنه إمَّا أن الرسول يقول إنه في هذا ”الإنسان الواحد“ قد أخطأ الجميع، الذي قال عنه ”بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ“، أو أنه ”في الخطية“ أو بالتأكيد ”في الموت“.

هنا يستعرض أغسطينوس كل الاحتمالات التي يمكن أن تعود عليها عبارة ضمير الوصل (φ)؛ وهي 3 احتمالات: إما تعود على الإنسان أو الخطية أو الموت. يكمل أغسيطنوس:  

لأنه لا يجب أن يزعجنا أنه لم يقل ”فيه“ (in which) أخطأ الجميع (مستخدمًا الصيغة المؤنثة للضمير)، بل قال ”فيه“ (in whom) أخطأ الجميع (مستخدمًا الصيغة المذكرة). لأن كلمة ”الموت“ في اللغة اليونانية هي من النوع المذكر. وبالتالي دعهم يختارون كيفما يشاءون؛

ندرك هنا أن أغسيطنوس يعي جيدًا أن جملة ضمير الوصل تعود على اسم مذكر، كما يدرك أن كلمة ”خطية“ هي كلمة مؤنثة ( μαρτία)، ويدرك أن كلمة ”موت“ هي كلمة مذكرة في اليوناني ( θάνατος). وبالتالي ما معنى الكلام عن أن أغسيطنوس لا يفهم اليونانية، ولا يعرف أن يقرأ أو يفهم الآية في لغتها اليونانية الأصلية. واضح أن هذا الكلام عارٍ عن الصحة. عندما حكى أغسطينوس عن تجربته الصعبة في تعلُّم اللغة اليونانية، كان يدرس أشعار هوميروس في المدرسة! فمثل أي شخص يتعلم لغة ثانية لا يتحدث بها في محيطه، هكذا كان الأمر مع أغسطينوس، لكنه كان يعرف قدرًا كافيًا من اللغة اليونانية. وفي بعض الأحيان كان يرجع إلى الترجمات المختلفة وكان لديه الأصل اليوناني لرسالة رومية كما نقرأ في (Contra Faustum bk 11: 4).

يكمل أغسيطنوس مستعرضًا الاحتمالات التفسيرية لهذه العبارة:

لأنه إمَّا أنه ”في الإنسان“ أخطأ الجميع، وهكذا قيل هكذا لأنه حين أخطأ كنا جميعًا فيه. أو ”في الخطية“ أخطأ الجميع، لأن هذا كان الفعل الذي يختص بالجميع بشكل عام، الذي كان سيكتسبه جميع الذين وُلِدوا. أو يتبقى لهم أن يقولوا ”في الموت“ أخطأ الجميع. لكن بأي طريقة يمكن أن يُفهم هذا، فأنا لا أرى هذا بوضوح.

يستعرض أغسيطنوس هنا 3 احتمالات تفسيرية؛ فإمّا أن تعود جملة الوصل على الإنسان الواحد (آدم)، أو الخطية، أو الموت. ونجده يتعجب من التفسير الأخير، أي ”في الموت“، فيما يلي سيبين مبرراته لاستبعاد هذا التفسير:

لأن الجميع يموتون في الخطية، ولا يخطئون في الموت. لأنه حين تسبق الخطية فإن الموت يتبعها، وليس حين يسبق الموت فإن الخطية تتبعه. لأن الخطية هي شوكة (لدغة) الموت- بمعنى اللدغة التي بضربتها يحدث الموت، وليس اللدغة التي بها يضرب الموت. مثل السُّم إذا شُرب يُسمى كأس الموت. لأن الموت يحدث بسبب هذا الكأس، وليس لأن الكأس يوجد بسبب الموت أو أن الموت يقدمه.

من المعروف أن رومانيدس ومايندورف ينادون بأن التفسير الصحيح هو ”في الموت“ أخطأ الجميع، فيجعلان الموت سببًا في انتشار الخطية، فيقول رومانيدس في كتابه ”الخطية الجدية“: بسبب الموت ”أصبح الإنسان يهتم بضروريات الحياة لكي يبقى حيًا... وتصير قوة الخوف من الموت الأصل الذي منه ينبع تعظيم الذات والأنانية والكراهية والحسد وغيرها من الأهواء المماثلة“.[2] نلاحظ أن رومانيدس يقول إن الخوف من الموت هو أصل كل الأهواء الخاطئة. نحن هنا أمام مسألة تتعلق بالترتيب ordering أيهما يسبق من؟ ومن الواضح أن أغسطينوس يرفض أن يكون الموت هو سبب الخطية، لكنه يقول إن الخطية هي سبب الموت، ويؤيد كلامه بتشبيه الكأس والسم وأيضًا بشاهد كتابي ”أَمَّا شَوْكَةُ الْمَوْتِ فَهِيَ الْخَطِيَّةُ“ (1كو 15: 56)، وكأنه يعتبر العكس بمثابة وضع العربة أمام الحصان. وقبل أن نقيِّم رأي أغسطينوس، نكمل بقية كلامه:

لكن إذا كان لا يمكن أن نفهم أن ”الخطية“ هي المقصودة في كلام الرسول عن أنه فيها أخطأ الجميع، وذلك لأن اللغة اليونانية التي تُرجمت منها الرسالة، يُعبر عن ”الخطية“ بالنوع المؤنث، فيتبقى أن نفهم أن كل الناس قد أخطأوا ”في الإنسان الأول“، لأن كل الناس كانوا فيه عندما أخطأ. ومنه تُستمد الخطية بالولادة، ولا تُمحى إلا بالولادة الثانية. لأنه هكذا فهم القديس هيلاري عبارة ”فيه أخطأ الجميع“؛ لأنه يقول ”فيه، أي في آدم، أخطأ الجميع“، ثم يضيف: ”من الواضح أن الجميع أخطأوا في آدم، كما لو كان في الجبلة، لأنه هو نفسه قد فسد بالخطية، فكل مَن يلدهم ولدوا تحت الخطية“. فعندما كتب هيلاري هذا بدون أي غموض، فقد أوضح كيف ينبغي أن نفهم عبارة ”فيه أخطأ الجميع“.

مرة أخرى تظهر معرفة أغسطينوس باللغة اليونانية التي كُتبت بها الآية، ويدرك أن كلمة ”الخطية“ في اليونانية من النوع المؤنث. وهنا تتضح حقيقة مهمة أن قراءة أغسيطنوس للآية بمعنى ”في آدم“ ليس ناتجًا عن قراءة خاطئة أو ترجمة خاطئة، وإنما لأسباب هرمنيوطيقية أو تفسيرية؛ فهو لم يجد معنى منطقيًا مفهومًا في قراءة الآية بمعنى ”في الخطية“، وذكر السبب أن اللغة اليونانية لا تسمح بذلك، وفي قراءة ”في الموت“ لأن هذا من وجهة نظره يعكس الترتيب ordering الذي يفهمه في سياقات أخرى في الكتاب المقدس.

في واقع الأمر فإن فرضية رومانيدس وغيره بأن الموت هو سبب الخطية، هو أمر يمكن أن تفسره نظريات علم النفس، وكيف يؤثر الخوف على الإنسان ويجعله يخطئ. لكني أقول إن الموت يمكن أن يكون رادعًا عن الخطية أيضًا، فيقول ق يوحنا ذهبي الفم: ”لأنه بالحقيقة حين يكون الموت حاضرًا، وعندما ننتظره، فإنه يقنعنا أن نكون متواضعين، ومتعلقين، وبسطاء، وأن نتخلص من كل شر“.[3]

أمّا في مسألة الترتيب ordering أي الخطية أولاً ثم الموت، وليس الموت ثم الخطية. فنلاحظ سويًا بعض من أقوال ق كيرلس الكبير. يقول ق كيرلس في تفسر إنجيل لوقا: ”وهكذا ذنب المعصية الذي بواسطة آدم قد غُفر، وهكذا توقفت قوة اللعنة، وسلطان الموت تم إحالته إلى الإضمحلال. وهذا ما يعلمه بولس أيضاً قائلاً "لأنه كما بمعصية واحد أصبح الكثيرون خطاة هكذا أيضاً بطاعة الواحد أصبح الكثيرون أبراراً" (رو5: 19) لأن طبيعة الإنسان كلها أصبحت خاطئة في شخص الذي خُلق أولاً، ولكنها الأن قد تبررت كلية من جديد في المسيح“.[4] وفي نفس التفسير يقول أيضًا: ”وإذ قد حمل خطية العالم فإنه يبطلها، ويبطل الموت أيضًا الذي نتج عنها، والذي جلبناه على أنفسنا بواسطة الخطية“.[5] ويقول إن الخطية هي ”أم الموت ومربيته“.[6]

ونقرأ في عظات القديس مقاريوس الكبير: ”إن العالم الذي تراه حولك، ابتداء من الملك حتى الشحات، جميعهم في حيرة واضطراب وفتنة، وليس أحد منهم يعرف السبب في ذلك، مع أن السبب هو ظهور الشر الذي دخل داخل الإنسان عن طريق معصية آدم، وأعني به "شوكة الموت" (1كو 15: 56)“.[7] الواضح هنا أن المعصية أولاً ثم الموت؛ لأن الخطية هي شوكة الموت وليس العكس.

لم أهدف إلى استعراض بحث متكامل عن نظرة أغسطينوس والآباء الآخرين عن الخطية الأصلية/ أو الجدية، لكني أردت فقط أن أثبت أن أغسطينوس كان على دراية كافية بنص رومية 5: 12 وما ينتج عنه من احتمالات تفسيرية. وأن اختياره لتفسير ”في آدم“- وليس ”في الموت أو الخطية“- هو نتيجة لنشاطه التفسيري، ومحاولته الخروج بمعنى منطقي ومعقول من السياق الأشمل للكتاب المقدس.



[1] NPNF, series 1, vol 5, St. Augustine: Anti-Pelagian Writings, A Treatise Against Two Letters of the Pelagians, book 4, ch. 7, p. 420 (1170).

[2] يوحنا رومانيدس، الخطية الجدية، تعريب أنطوان ملكي- وائل مكرم، ص 168- 169.

[3] ق يوحنا ذهبي الفم، تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية، ترجمة د سعيد حكيم،مؤسسة القديس أنطونيوس، ص 252.

[4]  ق كيرلس الكبير، شرح إنجيل لوقا، عظة 42.

[5] نفس المرجع السابق، عظة 46.

[6] نفس المرجع السابق.

[7]  عظات القديس مقاريوس الكبير، ترجمة د نصحي عبد الشهيد، عظة 15: 49، ص 164.

الاثنين، 16 مايو 2022

عن (عدم) قابلية الله للتألُّم- ق غريغوريوس العجائبي

 



هذه ترجمة[1] لمقالة للقديس غريغوريوس صانع العجائب بعنوان On The Impassibility and Passibility of God أو ”عن (عدم) قابلية الله للتألُّم“، وهي في شكل يشبه المحاورة بدرجة قليلة مع شخص يُدعى ثيؤبومبوس، والذي وجَّه سؤالاً للقديس غريغوريوس صانع العجائب حول إمكانية أو قابلية الله للتأثُّر أو التألُّم.  

ق غريغوريوس صانع العجائب

يقول عالم الآبائيات كواستن إن ق غريغوريوس صانع العجائب (213- 270م) ولد من عائلة وثنية ذات مقام رفيع في قيصرية الجديدة عام 213م، وقد درس الخطابة والقانون، وحضر بعضًا من محاضرات العلامة أوريجانوس مثلت تحولاً في حياته، وكان إعجابه الشديد بأوريجانوس سببًا في ترك دراساته وعائلته، وسيم أسقفًا على بلدته قيصرية الجديدة، واعتبره آباء القرن الرابع مؤسسًا لكنيسة كبادوكية.[2]

مضمون المقالة

كما ترون تتعرض هذه المقالة بشكل محدد ربما للمرة الأولى لموضوع حساس جدًا وهو عن قابلية أو عدم قابلية الله للتألُّم أو التأثُّر، أو ما يُعرف بصفة ال impassibility، بمعنى مدى إمكانية أن يتقبل الله في ذاته تأثيرًا خارجيًا يغير من حالته. لذلك فإن صفة ال impassibility أو عدم قابلية الله للتأثر مرتبطة بصفة أخرى هي عدم قابلية الله للتغيُّر immutability. وترتبط أيضًا بصفة أخرى هي الأزلية أو عدم التزمن timelessness، فطالما يحيا الله في ”الآن“ دائمًا فهو لا يخضع لمؤثرات تغير من حالته الوجودية أبدًا. لذلك فإن صفة الـ impassibility تعني أيضًا خلو الله من الانفعالات والمشاعر، فضلاً عن الأهواء الشريرة. لكن هل الله بهذه المواصفات يكون كالجبل الجليدي iceberg، جامدًا، وخاملاً، وسلبيًا، واستاتيكيًا، وساكنًا؟ هل يشعر بنا ويتجاوب معنا بشكل حقيقي، أم أنه المحرك الذي لا يتحرك immovable mover كما يصفه أرسطو؟ هنا تكمن أهمية هذه المقالة المخصصة بجملتها لهذه الفكرة الصعبة والحساسة.

غير أن القارئ لمقالة القديس غريغوريوس العجائبي سيجده يقر بأن الله غير متألم وغير متغير في جوهره، لكن هذا لا يجعله خاملاً أو سلبيًا، بل إنه يتجاوب مع احتياجات خلائقه ويعتني بهم. ومِن ثَم فإنني أرى أنه يتبني فكرة مخففة أو معدلة من عدم قابلية الله للتأثر أو ما يُعرف بـ qualified impassibility. لا أرغب في تقديم عرض شامل لأفكار هذه المقالة، لكني أكتفي بتجيمع الأمثولات analogies أو التشبيهات التي استخدمها القديس في تأكيد فكرته عن أن الله يدخل دائرة الألم ولا يتألم، ويقف في بوابات الموت ولا يموت، بل كما أنه بموته أمات الموت، فهو بألمه جعل الألم نفسه يتألم.

1- الطبيب: يتحدث ق غريغوريوس عن أن الطبيب يتخلى مؤقتًا عن كرامة مهنته ويقوم بدور الخادم أو العبد، كل هذا من أجل الأخبار السارة لشفاء المريض، فهو ”لم يُنتقص بأي حالٍ من الأحوال خلال الفترة الزمنية التي أذل فيها نفسه ونفذ واجب الخدمة المطلوبة لشفاء الجسد (فقرة 6). وفي هذا إشارة إلى الله في تجسده كيف أخلى ذاته بغية أن يشفي البشرية المريضة، لكن ق غريغوريوس يذهب إلى أبعد من هذا واصفًا إن الله في آلامه لم يؤذَ بل كان سببًا في تألُّم الألم ذاته (الفقرة 6).

2- طرق الألماس بالحديد: الألماس لا يتأثر بضربة الحديد، بل على العكس ترتد الضربة على الضارب، وبالتالي فإن الله غير المتألم صار سببًا في تألمُّ الألم ذاته (فقرة 6).

3- دخول الملك إلى سجن المجرمين: عندما يدخل الملك أو أحد المسؤولين إلى سجن المجرمين لكيما ينفذ الأحكام ضدهم، فهو يتحمل الروائح الكريهة لهذا المكان، ومع ذلك لا نسمي الملك مثلما نسمي هؤلاء المجرمين: ”هكذا يجب أن نفكر في الله. لأنه بسبب عدم قابليته للتألُّم ليس له نصيب في الفناء، وبسبب عدم فنائه يقدر أن يطأ الموت بلا خوف تحت قدميه، وبسبب قدرة لاهوته، فهو بلا تألُّم، فلا ينفذ إليه الموت (فقرة 8).

4- حيوان السلمندر (السمندل): حيوان السلمندر أو السمندل Salamander هو من البرمائيات، التي يمكنها تحمل النار والتحرك فيه. ويرجع ارتباط السلمندر بالنار إلى بليني الكبير الذي تحدث عن أنه يتميز بالبرودة الشديدة وتحمله للاتصال بالنار (Natural History, book 10. 86)، وتحدث عنه ق أغسطينوس في سياق الحديث عن إمكانية عذاب الأجساد إلى الأبد في النار (مدينة الله، كتاب 21: 4). يستخدم ق غريغوريوس العجائبي هذا الحيوان ليؤكد أن الله اقترب من الموت ولم يُمسك به الموت، دخل دائرة الآلام ولم يؤذَ، فيقول: ”إذا كان السلمندر،  وهو حيوان فانٍ خاضع للفساد، يجعل قدرة الحرق التي للهب بلا فاعلية بفضل القدر الكبير من البرودة التي لديه، فكيف ننكر أن الله الذي هو أعلى من الموت والفساد كان يملك صفة عدم التألُّم عندما واجه الموت؟ (فقرة 9).

5- السيف الذي يجتاز في النار دون أن يقطعها: يمكنك أن تجيز السيف في النار، لكن لأن النار جوهر لطيف متماسك، فالنار لا تتقطع جراء حركة السيف فيها. كذلك جوهر الله لا يمكن أن يُمزق بالآلام (فقرة 9).

6- نفاذ نور الشمس من خلال الزجاج: يقول ق غريغوريوس العجائبي: ”نحن نرى أن أشعة الشمس تخترق الزجاج الشفاف. ويمر ضوء الشمس، والأجسام لا تعاق من المرور بلطافة عبر أجسام أخرى من طبيعة متخالفة. فإذا كان نوع معين من المادة لا يمنع قوة نوع آخر من المادة من العبور من خلالها، بفضل لطفاتها، ألا يجب أن نسلِّم بأن جوهر الله، الذي هو أعلى وأقوى من كل شيء، يمر بدون مقاومة عبر كل الأجسام الأخرى التي تقابله، وذلك بفضل لطافته، بحيث إنه لا تعاني الألوهة من الآلام بأي وجه (فقرة 10).   

7- اجتماع النور والظلمة: حين تدخل أشعة النور على الظلمة فهي تبددها، لكننا لا نقول إن النور أصابه العتامة. هكذا نفكر في الله. يقول ق غريغوريوس: ”لأن مزج الظلمة بالنور لا يُعتم النور، وإنما ينير النورُ الظلمةَ بأشعته، التي كشيء ضعيف يُبتلع بشيء أكبر وأكثر سموًا وأقوى منها... هكذا الأمر مع الله: فعندما دخل طواعية في الموت... ظلت طبيعة الله بلا فساد حتى في الموت، وبقدرة عدم تألمه أخضع الآلام، على طريقة النور حين يجتمع مع الظلمة“ (فقرة 12).

8- مادة الإسبستوس الواقية من النار: الأسبستوس أو الأسبست Asbestos، أو الأمينت، هو الحرير الصخري، ويُستخدم كمادة عازلة للحرارة وفي الملابس الواقية لرجال المطافئ. ولقد استخدم ق أثناسيوس نفس التشبيه في سياق حديثه بأن الموت فقد تأثيره بموت المسيح، مثلما تفقد النار فعل الإحراق بواسطة مادة الإسبستوس (راجع تجسد الكلمة فصل 28). نفس الفكرة يستخدمه ق غريغوريوس ويشرح كيف أن ”الأسبستوس  أيضًا يبقى على حاله إذا وضع عليه النار، ولا يعاني من أي أذى بسبب اجتماعه بالنار“، ”فلماذا من المنفر أو الصعب علينا أن نتحدث عن جوهر الله غير الفاسد الذي يبقى أيضًا كما هو في حالة عدم التأثر، حتى حين يتقابل مع الأشياء التي تسبب الآلام؟ (فقرة 12).

بالإضافة إلى كل هذه الأمثولات والتشبيهات، يحاجج ق غريغوريوس العجائبي أن الله الذي يعيش في غبطة كاملة divine blessedness، لا يعني أنه يستنكف أن يعتني بالإنسان المحتاج إلى مساعدته، لأن الفلاسفة اليونانيين والأبطال اليونانيين ضحوا بذواتهم من أجل شعبهم، ولا يمكن أن يكونوا أفضل من الله الذي يمنح جوده وصلاحه ومعونته عن خليقته. 


يمكنك تحميل الكتاب من هنا: 

https://drive.google.com/file/d/1CabqP3AInCxd4fG8jJ9MWW9Gpip4gfHW/view?usp=sharing 



[1] اعتمدت في هذه الترجمة على الترجمة الإنجليزية الواردة في سلسلة The Fathers of the Church مجلد 89 الصادر عن الجامعة الكاثوليكية في أمريكا، من الصفحات من 152- 173.  

[2] كواستن، علم الآبائيات ”باترولوجي“، المجلد 2، بناريون، ص 133- 134.