الاثنين، 16 ديسمبر 2019

كلسوس: من أشهر منتقدي المسيحية- ج5



هناك نقد آخر مهم يعتبر نسخة أخرى من حُجة جالينوس ضد فكرة أن ”كل شيء مستطاع عند الله“. يناقش كلسوس هذه العبارة من حيث اتصالها بالعقيدة المسيحية عن قيامة الأموات. يوجه كلسوس بعض نقده الحاد إلى فكرة أن الله يعكس عملية التحلل الطبيعية التي تحدث للجسد الإنساني أو أن الجسد يمكن أن يُقام ثانية بعد تعفنه: ”لأنه أي نوع من الأجساد، بعدما تفسد تمامًا، يمكن أن تعود إلى طبيعتها الأولى، وإلى نفس الحالة التي كانت له قبل أن يتحلل؟ ولأنه ليس لهم ما يجيبون به على ذلك، فإنهم يهربون إلى أكثر ملاذٍ غريب بقولهم ’كل شيء مستطاع عند الله‘. لكن في الواقع لا يستطيع الله أن يفعل ما هو مخزٍ، ولا يستطيع أن يرغب فيما هو مخالف للطبيعة.“ (ضد كلسوس 5: 14). يظهر موضوع قيامة الأموات في نهاية الزمن وقيامة يسوع بشكل متكرر في كتاب كلسوس. وكما لاحظ أوريجانوس عن كلسوس أنه ”كثيرًا ما وبخنا عن القيامة“ (ضد كلسوس 8: 49)، وهو ما يشير إلى أن النقاد الوثنيين أدركوا أن القيامة تمثل أحد أهم العقائد المسيحية من حيث مركزيتها وتفردها.
لقد رد أوريجانوس على هذه النقطة موضحاً أن الكلمه أخلى ذاته بسبب "حبه للبشر" (ضد كلسوس 15:4)، حتى "يستطيع البشر إستقباله" (ضد كلسوس 15:4)، و لكن الكلمة "لم يتغير من الجيد إلى السيئ، لأنه لم يفعل خطية، ولا [تغير] من الجمال إلى الخزي، لأنه لم يعرف خطية. ولا عبر من السعادة إلى البلية، فعلى الرغم من أنه وضع ذاته إلا أنه كان سعيداً" (ضد كلسوس 15:4)، أخيراً يقول أوريجانوس "فأيضاً الطبيب الذي يرى أموراً رهيبة ويلمس جروحاً بغيضة لكي يشفي المريض، لا يعبر من الجيد إلى السيئ، و لا من الجميل إلى المُخزي، و لا من السعادة إلى البلية، فعلى الرغم من أن الطبيب يرى أموراً سيئة ويلمس جروجاً بغيضة لا يتحاشى كلياً إحتمالية سقوطه في نفس الحالة. و لكن هو من يشفي جروح أنفسنا من خلال الكلمة الإلهية فيه، غير قادر على أي شر. فإذا كان الكلمة الإلهية الخالد قد اتخذ جسداً بشرياً و روحاً بشرياً، ....، فليعلم أن الكلمة بقي [كما هو] كلمة بالجوهر. فهو لم تألم شيئاً من الجسد ومن الروح" (ضد كلسوس 15:4). فحسب اوريجانوس التجسد هو نابع من حب الله للبشر، لكي يستطيع البشر إستقبال الله، ولكن هذا التنازل أو الإتضاع لم يؤثر على صفات الكلمة الإلهي الأزلي، فهو الطبيب الحقيقي الذي يشفي البشرية دون أن يتأثر هو، بل يؤثر على جميع البشرية.

لقد أرجع كلسوس الصعوبة اللاهوتية للقيامة إلى الفهم المسيحي عن الله، وبالأخص في علاقة الله بنظام الخليقة؛ فقد رأى أنه لم يكن للمسيحيين نظرة عقلانية عن الإله. وبدلاً من الاعتراف بأن الله كان خاضعًا لقوانين الطبيعة والعقل، آمن المسيحيون بإله يقف فوق وضد الطبيعة ، وبالتالي كان قادرًا أن يفعل ما يحلو له بصرف النظر عن إلى أي مدى يسبب هذا تخريبًا لنظام العالم. يقول كلسوس: ”بالنسبة للجسد، المملوء بأشياء ليس من اللياقة أن نذكرها... فإن الله لا يرغب ولا يقدر أيضًا على أن يجعله أزليًا بخلاف العقل. لأنه نفسه هو عقل كل الموجودات. لذلك فهو لا يستطيع أن يفعل أي شيء يناقض العقل، أو صفاته“ (ضد كلسوس 5: 14).  الإله الذي يخالف العقل لا يستحق العبادة.
لكن أوريجانوس يرد على هذه الفكرة بالتاكيد على أننا لا نقول بأننا نقوم بنفس الجسد الذي يتحلل ويتعفن، بل بجسد آخر يناسب الحياة الأخرى، أي سيطرأ على الجسد تغيير للأفضل. ثم يقتبس من 1كو 15 مؤكدًا أن الجسد الذي يُزرع يختلف عن الجسد الذي يقوم. كان كلسوس قد قال إن رجاءنا في قيامة نفس الجسد المتعفن هو ”رجاء الديدان“، لأن الديدان تشتهي الجسد المتعفن؛ لكن أوريجانوس أوضح بهذا أن رجاءنا ليس رجاء الديدان لأن نفوسنا تشتهي جسدًا مكرمًا وممجدًا وليس جسدًا متعفنًا.

الجمعة، 13 ديسمبر 2019

العبدة والأم: الأصول الآبائية للثيؤطوكيات القبطية



مرجع الكلام التالي هو كتاب "العبدة والأم" للأستاذ بطرس كرم، وهو عبارة عن رسالة ماجستير كانت مقدمة لمعهد فلاديمير واحد المشرفين عليها كان "جون بير" العميد السابق لمعهد فلاديمير. الناشر: مدرسة الأسكندرية للدراسات اللاهوتية، في 175 صفحة.
كل سنة بننزل تسبحة كيهك ونرتل عن الرموز اللي بتوصف العذراء.. عايزين نبقى فاهمين الرموز اساسها إيه والمنطق اللي اتبنت عليها..
1- سلم يعقوب: يعقوب (تك 28) شاف سلم ملايكة نازلين وطالعين عليه بين السما والأرض. بعد مجمع أفسس 431م بدأ الآباء يشبهوا العذرا بسلم يعقوب، ثيؤتوكية السبت مثلا بتقول "شُبهت بالسلم الذي رآه يعقوب مرتفعًا إلى السماء والرب المخوف عليه". لأن العذرا مريم أصبحت الجسر الذي نزل عليه الله من السماء في التجسد (راجع ص 138- 140).
2- العليقة المشتعلة: في تفاسير آبائية للعليقة المشتعلة على أنها الكنيسة المشتعلة بنار الاضطهاد (141).. لكن في نفس الوقت ق غريغوريوس النيسي بيشبه العذرا بالعليقة .. من حيث دوام بتوليتها، وبيقول: "كما كانت العليقة تحترق لكن لم تستنفذ.. هكذا العذراء ولدت النور ولم تفسد بتوليتها" (142). فيما بعد أخدت العليقة تفسير آخر هو اتحاد ناسوت المسيح ولاهوته بدون أن تتأذى. وهتلاقي ثيؤتوكية الخميس فيها التفسيرين: "العليقة التي رآها موسى.. ولم تحترق أغصانها.. هي مثال مريم غير الدنسة.. ونار لاهوته لم تحرق بطن العذراء".
3- جبل سيناء: ده اللي حل الله عليه أيام موسى في خر 19 بسحابة كثيفة.. والعذراء حل عليها روح الله وظللتها قوة العلي. ق يعقوب السروجي بيقول: "إن رحِمك أكثر مهابة.. من السحابة التي كانت على جبل سيناء" (144). وكذلك ثيؤتوكية الثلاثاء بتقول: "لأن كلمة الله.. نزل ليعطي الناموس على جبل سيناء... هو أيضًا نزل عليكِ أيتها الجبل الناطق بوداعة.." (145).
4- تابوت العهد: في تفاسير بتحاول تربط بين زيارة مريم لإليصابات في لوقا 1، وقصة إصعاد التابوت إلى مدينة داود في 2صم 6: 9. داود بيقول: "كيف يأتي إلي تابوت الرب؟" (2صم 6: 9) ونفس الشيء أليصابات قالت "من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إلي؟". والتابوت قعد في بيت واحد اسمه عوبيد 3 شهور، والعذراء قعدت عند أليصابات 3 شهور (146). (ممكن نضيف إن البعض بيقول زي ما داود كان فرحان ورقص قدام التابوت.. يوحنا المعمدان في بطن أليصابات "ارتكض بابتهاج في بطنها").
ق كيرلس الكبير بيقول "نرى اللوغوس ساكنًا في هيكل العذراء كما لو كان داخل التابوت". في قديس اسمه بركلوس القسطنطيني (في السنكسار 24 هاتور) ده اصبح اسقف القسطنطينية بعد نسطور.. وقاوم بشده تعاليم نسطور.. هنتكلم عنه أكثر بعدين.. بيقول: "مريم تُكرّم لأنها أصبحت.. تابوتًا، لا يحتوي على الناموس، بل تحمل واضع الناموس في أحشائها". في نقطة هنا مهمة قبل مجمع أفسس كان في تفاسير بتربط التابوت بناسوت المسيح أكثر.. والخشب اللي لا يسوس هو ناسوت المسيح الذي بلا خطية.. لكن فيما بعد ظهرت تفاسير عن أن الخشب اللي لا يسوس هو كمان رمز لطهراة العذرا ونقاوتها.. لكن الأجمل أن ثيؤتوكية الأحد بتقول التفسيرين من غير أي مشكلة: "التابوت المصفح بالذهب من كل ناحية المصنوع من خشب لا يسوس.. سبق أن دلنا على الله الكلمة".. ثم في القطعة 15 "صنعوا تابوتًا من خشب لا يسوس وصفحوه بالذهب داخلا وخارجًا.. وأنت أيضًا يا مريم متسربلة بمجد اللاهوت داخلا وخارجًا" (150).  
5- لوحي الشريعة: مؤلف ثيؤطوكية الأحد بيربط بين الوصايا العشررة واسم يسوع المسيح بمهارة عالية كالآتي: "وفيها لوحي العهد والعشر كلمات هذه المكتوبة بأصبع الله. سبق أن دلتنا على اليوطة، اسم الخلاص الذي ليسوع المسيح. هذا الذي تجسد منك بغير تغيير...". طبعًا حرف اليوطا هو رقم 10 في اليوناني وكلمة يسوع (إيسوس) بتبدأ باليوطا برضو.. والعلامة اوريجانوس هو أول من ربط بين الكلمة (اللوغوس) المسيح والناموس المكتوب اللي لن يزول نقطة (يوطا) منه أبدًا (123).
6- قسط المن: من خلال المقارنة بين حواء ومريم يقول ما إفرام السرياني "لقد أعطتنا مريم الخبز المنعش، عوضًا عن خبز التعب الذي قدمته لنا حواء" (70). في ثيؤتوكية الأحد نقول "شبهوا القسط الذهبي بالعذراء وكيلة المن بمخلصنا".
7- عصا هرون: في سفر العدد ناس ادعت الكهنوت لنفسها.. فعمل موسى اختبار أنه أخد عصا من كل عشيرة وعليها اسمها.. في اليوم التالي أفرخت عصا هارون اللي من بيت لاوي.. وأنضجت لوز.. وأزهرت بلا سقي ولا غرس.. ق بروكلس القسطنطيني بيقول: "لماذا يتحيرون أن عذراء قد أنجبت؟ إذا كانوا لا يتحيرون بأن عصا بلا أوراق تزهر بشكل يتعارض مع الطبيعة؟" (154). وبنقول في ثيؤتوكية الأحد "عصا هارون التي أزهرت بغير غرس ولا سقي هي مثال لكِ، يا من ولدت المسيح إلهنا بالحقيقة وبغير رزع بشر وأنت عذراء".
8- كرسي الرحمة (إيلاستيريون): فوق التابوت كان في الغطاء أو كرسي الرحمة، وهناك كان بيحل مجد الرب.. بين اثنين من الكاروبيم مظللان عليه.. لازم ناخد بالنا ان ق كيرلس كان بيفسر الغطاء على انه المسيح الذي صار فداء لنا.. (لأن كلمة إيلاستيريون معناها الغطاء ومعناها الكفارة).. حتى أن ده بيظهر في ثيؤتوكية الأحد كالتالي: "الغطاء المظلل عليه بالكاروبين المصورين أي الله الكلمة الذي تجسد منك.." وبعد شوية يقول "أنت يا مريم ألوف وألوف وربوات ربوات يظلون عليكِ. مسبحين خالقهم وهو في بطنك" (150). يبقى الرمزية هنا للمسيح والعذراء ومفيش مشاكل في كده.
9- الباب الشرقي: وده شافه حزقيال في رؤية وهو في السبي.. "يكون مغلقًا. لا يُفتح ولا يدخل منه إنسان" (حز 44). الآباء بعد مجمع أفسس استخدموا الرية دي للتأكيد على دوام بتولية العذراء. لبش ثيؤطوكية الأربعاء بتقول: "حزقيال النبي يشهد قائلاً إنني رأيت بابًا ناحية المشرق مختومًا بخاتم عجيب. ولم يدخل فيه إلا رب القوات. دخل وخرج وبقي مختومًا على حاله" (154).
10- جبل دانيال: في حلم نبوخذ نصر شاف دانيال حجر قُطع بغير يدين وسحق التمثال، ودانيال فسره على أنه ملكوت الله (دا 2). ق إيريناؤس أبو التقليد قال في ضد الهرطقات "لم يكن دخوله إلى هذا العالم من خلال عمل الأيدي البشرية.. فيوسف لم يشارك في ذلك، لكن مريم وحدها تعاونت مع الخطة الإلهية التي تم ترتيبها مسبقًا. لأن هذا الحجر الذي من الأرض يستمد وجوده من قوة وحكمة الله" (157). ثيؤطوكية الثلاثاء بتقول: "غير المنظور.. ولدته مريم وهي عذراء. لأن هذا هو الحجر الذي رآه دانيال قُطع من جبل. ولم تلمسه يد إنسان البته.. أتى وتجسد بغير ذرع بشر حتى خلصنا".
11- المنارة الذهبية: ودي منارة صنعها موسى بأمر الرب وفيها مصابيح سبعة.. ق كيرلس فسرها على أنها تشير لجمال المسيح.. لكنه كان بيدعو مريم بالمصباح غير المنطفئ. ق بروكلس بيقول إنها منارة لأنها حملت النور غير المادي.. والمنارة من ذهب لأنها ظلت عذراء.. "كما أن المنارة ليست هي مصدر الضوء بل حاملة الضوء، هكذا أيضًا العذراء لست هي نفسها الله، بل هيكل الله" (152). نفس الشيء بيتقال في ثيؤطوكية الأحد "أنت المنارة الذهب النقي الحاملة المصباح.. الذي هو نور العالم".
12- الحمامة الحسنة: ق إيريناؤس هو اللي ربط بين دهاء الحية الذي انتصر عليه وداعة الحمامة (ضد الهرطقات 5: 19: 1).
13- النور والسحابة: العذرا هي ام النور كما اعتدنا وصفها. ثيؤطوكية الاثنين "اشرق جسديًا من العذراء بغير زرع بشر". ق بروكلس قال "اليوم قد أشرق شمس البر من السحابة العذراوية". لان المسيح هو شمس البر (ملا 4). وثيؤطوكية الاثنين بتقول كمان "الله هو النور وساكن في النور.. النور أشرق من مريم.."
14- مشغل أو معمل الطبائع: ده وصف استخدمه ق بروكلس: المعمل أو المشغل.. وبيقول الآتي: "كان الروح القدس هو الحائك، وقميص آدم الجلدي القديم بمثابة الصوف، وجسم العذراء بمثابة الخيط، والنعمة... وشيعة المغزل.." (114) وفي عظة تانية يقول: "من اين أخذتِ الصوف وأعددت الرداء الذي ارتداه رب الخليقة اليوم؟ الطبيعة تجيب بدلاً من العذراء.. أنا لا أعرف كيف أصنع رداء من الجسد بدون جماع البشر. نولي يصنع ملابس غير نقية. لقد ألبست آدم لكنه وجد عاريًا. وفي خزيه ألبس نفسه بأورق شجرة تين.. لذلك.. الحكمة الإلهية ألبس نفسه برداء الجسد بعد نسجه بوشيعة العمل الإلهي في مشغل العذراء" (114). في موضع آخر يقول ق بروكلس في عظه ليه في حضور نسطور نفسه عن العذرا أنها "نول التدبير الإلهي الذي نُسج عليه رداء الاتحاد بشكل لا يعبر عنه". وقال في نفس العظة: "معمل اتحاد الطبائع".
15- حواء الثانية: الملمح ده طوره ق إيريناؤس.. وقال فيما معناه إن حواء كانت سبب الموت، والعذراء سبب الخلاص. والعقدة اللي ربطتها حواء بسبب عصيانها، فكتها العذراء بطاعتها (71).
لمحة تاريخية:
عندنا في الإنجيل قول العذراء نفسها "هوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبني". لكن أقدم ترنيمة للعذراء يرجع تاريخها للقرن الثالث أو الرابع، واكتشفت في البهنسا بتقول: "تحت رحمتك نلتجئ يا والدة الإله. لا تتغاضي عن توسلاتنا في الشدائد. بل نجينا من المخاطر، وحدك النقية، وحدك المباركة" (72).
أوريجانوس أول واحد استخدم لقب ثيؤتوكوس، وبعده ق أثناسيوس، وق كيرلس، وغريغوريوس النزيانزي "من لا يعترف بأن مريم هي والدة الإله.. هو مقطوع من الله" (84). آباء أنطاكية كانوا بيقبلوا اللقب بتحفظ.. حتى نصل لنسطور اللي رفض اللقب ده بحجة أنه بيخلي العدرا إلهة.. وفضل "والدة الإنسان". راحولوه رهبان من القسطنطينية وتحاوروا معه.. ونشات معارضة ضد نسطور وصلت أخبارها إلى مصر.. ووقفله ناس كتير منهم ق بروكلس.
شاف نسطور أن مريم لم تلد سوى الإنسان.. ويعبر لاهوته عن "المصاحبة" أو السكنى أكثر منه "أتحاد أقنومي بين الناسوت واللاهوت. وأقيم مجمع أفسس وتمت إدانة نسطور.. وكان احتفال كبير قوي في مدينة أفسس وكانوا يصرخون "المجد لوالدة الإله". قبل كده بسنة واحدة 430م وقف ق بروكلس يقول عظة حماسية للعذراء قال فيها:
التي استدعتنا اليوم هي القديسة مريم، وعاء البتولية الذي لا يشوبه شائبة..
الفردوس الروحي آدم الثاني، معمل اتحاد الطبائع..
السوق الذي كتب فيه عقد الخلاص، الخدر الذي أخذ الكلمة فيه الجسد في زواج..
العليقة الحية.. ، السحابة السريعة.. جزة الصوف المنقوعة بالأمطار التي نزلت من السماء..  
العبدة والأم.. الجسر الوحيد بين الله والبشرية، نول التدبير الإلهي.. الذي نُسج عليه رداء الاتحاد. (92-93)
 والناس صقفت جامد.. بعدها قام نسطور وطالب الناس بعدم تكريم العذراء مريم. وبعد كده بروكلس بقى بطريرك القسطنطينية.. مرة تانية بيقول في إحدى قصائده:
إنها ليست إهانة للمهندس أن يسكن في الأماكن التي بناها..
بنفس الطريقة الولادة من الرحم العذري لا تدنس الطاهر..
أيها الرحم الذي نُسخت فيه وثيقة الحرية للجميع..
أيها البطن الذي شُكل فيه السلاح الموجه ضد الموت..
أيتها الأرض التي أزهر فيها المسيح، فلاح الطبيعة، بغير زرع بشر.. (101)
 كانت عظات ق بروكلس اللي بيعتبر أبو علم الماريولوجي ليها الأثر الكبير في تعبيرات الثيؤطوكيات والمدائح في كنيستنا وكنايس أخرى..   
بيختم الكتاب ببعض أهم النقاط الواجب علينا نفهمها وإحنا بنقدم التكريم للعذراء مريم: 
1-           معندناش خطاب مريمي بمعزل عن الخطاب الخريستولوجي.. يعني مش بنمجد العذرا لذاتها بمعزل عن سر التجسد.. "وهي ليست طقوس عبادة لمريم، بل تسابيح عبادة للكلمة المتجسد الذي أتى إلينا من خلالها". (159)
2-              عندما نقول "والدة الإله" لا نعني أنها إلهة.. بل لأنها ولدت الله المتجسد.
3-           لما بنقول "كلية القداسة" لا نعني هذا بالمعنى المطلق.. لم تكن قداستها قداسة مطلقة ثابتة (ستاتيكية) بل قداسة دينامكية بحزم وجهاد الأبطال. مش قداسة ال single event لكن مشوار العذرا مشيته.. العلامة أوريجانوس قال فيما معناه إن قوة العلي لم تمنحها حصانة مطلقة من جهة الخطيئة. وإنها كانت في رحلة روحية تصاعدية نحو الكمال مثلها مثل بقية التلاميذ. (36)
4-              دور العذراء كشفيعة (أو كوسيطة).. ق كيرلس بيقول "من خلالها كل نفس مؤمنة تكتسب الخلاص". مع العلم أن كل المنجزات الخلاصية أنجزها المسيح الوسيط الوحيد بين الله والناس.. لكن العذار ساهمت بواسطة لا غنى عنها. (76)

كلسوس: من أشهر منتقدي المسيحية- ج4



سأناقش ثلاثة فقط من أهم أرائه النقدية اللاهوتية. أولاً: الادعاء المسيحي بأن الله جاء من السماء ليعيش على الأرض بين الناس. يصف كلسوس هذا الادعاء بأنه: ”الأكثر خزيًا ولسنا بحاجة إلى حُجة مطولة لدحضه.“ (ضد كلسوس 4: 2)؛ فالله ليس ذلك النوع من الكائنات الذي يتعرض للتغيير أو التبديل. ولا يمكن أن يتحول من نقاء وكمال الألوهة إلى حالة البشر المعيبة والناقصة: ”الله صالح وجميل وسعيد، ويحيا في أجمل حالة. فإذا نزل إلى البشر، لابد أن يعتريه تغيير، من الحالة الفضلى إلى ما هو أكثر بؤسًا... إن طبيعة الكائن الفاني فقط هي التي تتعرض للتغيير وإعادة التشكيل، لكن طبيعة الكائن الخالد تبقي على حالها دون تبديل. وبناءً على ذلك، لا يمكن لله أن يعتريه هذا التغيير.“ (ضد كلسوس 4: 14). لكن الغريب في هذا النقد أن المسيحيين أيضًا يدعون أنهم يؤمنون بأن الله كائن روحاني غير قابل للاستحالة أو التغيير، وأنه ”غير مخلوق، أزلي، غير مرئي، لا يتـألم، غير مدرك، غير محدود، يحيطه النور والجمال والروح، وقوة غير موصوفة.“[1] في واقع الأمر يسأل كلسوس: إذا كنتم تزعمون حقًا أنكم تؤمنون بنفس الإله الذي نؤمن به، فكيف تقولون إن الله اتخذ شكلاً بشريًا؟ كيف للإله، الذي بحسب التعريف لا يخضع للتغيير والتبديل، أن يعيش كإنسان؟
يسأل كلسوس: إذا سلَّمنا أن الله كلي القدرة وكلي العلم، ويحكم العالم من عرشه العلوي في السماوات ”فما هو الهدف من هذا التنازل من جانب الله؟ هل كان ليعلم ماذا يجري بين البشر؟“ (ضد كلسوس 4: 2) كذلك يضيف إذا كان الله كلي القدرة، فلماذا يحتاج إلى النزول إلى الأرض ليحقق إصلاحًا أخلاقيًا في الجنس البشري؟ ألم يكن قادرًا على فعل هذا ”بقدرته الإلهية“بدون هذا النزول (ضد كلسوس 4: 3)؟
يفترض هذا السؤال ضمنياً أن هناك سبباً قهرياً أجبر الله على التجسد، وهو بالنسبة للاهوت المسيحي مقدمة أو فرضية خاطئة وكل ما سوف يأتي بعدها هو خطأ بالتبعية.  فاللاهوت المسيحي يعلن بوضوح أن  الله قد تجسد بدافع حريته، يصف القديس إيريناؤس الخلق، تدبير التجسد بأنهم "في إتساق"، ويصف اللاهوتي توما الأكويني تدبير التجسد قائلاً: "فكان من المناسب أن كل شيء خُلق من خلال كلمة الله (مثلما يقول يوحنا 3:1 مثلاً)، لذلك أيضاً من خلاله، كمثل طريق لله القدير كل شيء سوف يُسترد، كما يُصلح الحرفي المنزل بنفس الطريقة التي بناه بها"، فالتجسد ليس حتمية على الله ولكن كما يراه اللاهوت المسيحي هو أمرا متسق، ومناسب وملائم لله الثالوث المُحب للبشر. وقد قد وضح أوريجانس سببين لتجسد الله، الأول ليرد الخروف الضال، والثاني ليعطي ملكوت الله للمسيحيين بدلاً من اليهود (ضد كلسوس3:4).[2] أما بشأن فكرة القدرة الإلهية، فيرد أوريجانوس: "ماذا عن حرية الإرداة؟" (ضد كلسوس 3:4)، ويوجه سؤالاً إلى كلسوس قائلاً "ألم يكن مُستطاعاً على الله بقوته الإلهية، أن يجعل البشر المحتاجين للإصلاح، [أن يصيروا] جيدين أو كاملين هناك وبذلك فلا يكون هناك وجوداً للشر من الأساس؟" (ضد كلسوس 3:4).

هذه الفكرة تقود كلسوس أيضًا إلى حجة أخرى تتكرر بعد ذلك في المجادلات مع الوثنيين على مدار القرون التالية. إذا أصرَّ المسيحيون على أن الله ظهر في شكل بشري في زمن محدد في التاريخ، فماذا حدث للأجيال التي لا حصر لها التي عاشت قبل يسوع؟ ”الآن فقط بعد طول كل هذا الزمان تذكّر الله أن يدين الجنس البشري؟ ألم يكن يهتم قبلاً؟“ (ضد كلسوس 4: 8)؟ كيف يهتم الله بمجموعة فقط من البشر يعيشون في زمن محدد في التاريخ؟ يرى كلسوس أن النظرة المسيحية تقدم إلهًا نزويًا اعتباطيًا يتصرف كما يحلو له بغض النظر عن مصلحة الخلائق كلها. ومن ثم يصل كلسوس إلى الاستنتاج بأن المسيحيين ”يثرثرون عن الله بدون توقير أو طهارة“، والغافلون فقط هم مَن ينجذبون إلى المعتقدات المسيحية (ضد كلسوس 4: 10) . أمّا مَن هم مثقفون بالأسئلة اللاهوتية والفلسفية يرون عدم معقولية العقيدة المسيحية.
لقد رد أوريجانوس على كلسوس قائلاً "لأن هناك أسباباً منطقية ومتلائمة للطرق المختلفة التي بها ترعى العناية الإلهية أرواح البشر، والتي لا يمكن التعبير عنها  لا شرحها بالتفصيل" (ضد كلسوس 8:4). قد يبدوا هذا الرد كما لو كان محاولة ماهرة للهروب من السؤال ولكن في الواقع هذا الرد يعبر عن إيمان أوريجانوس بان الله أمين للبشر أجمعين، فهو لا يسعى فقط أن يقدم إجابة تبدو لكلسوس كما لو كانت منطقية ولكنه يعلن إيمانه أيضاً بأن العناية الإلهية هي سرَ لن يستطيع الإنسان أن يسبر غوره بشكل كامل.
جدير بالذكر أن السؤال عن لماذا جاءت المسيحية في هذا الزقت بالذات، هي مسألة كانت مثارة من بدايات المسيحية، كما نرى في الرسالة إلى ديوجينيتس "لماذا لم يظهر هذا الشعب الجديد، بل قل هذا السلوك الجديد إلا في هذه الأيام فقط، وليس في الماضي؟"، في موضع آخر يستخدم أوريجانوس القدمية ضد كلسوس الذي قال بإن المسيحيين سرقوا فكرة الحياة الابدية وأفكار أخرى عن نشأة الكون من هوميروس وأفلاطون- لكن أوريجانوس في دفاعه قال إن كلسوس نسي أن موسى أقدم من ظهور الأبجدية نفسها. نفس الشيء عند ق كيرلس الكبير في رده على يوليان الجاهد يقول: "موسى، من ناحية التاريخ، يمتاز بالأقدمية الشاسعة. روى اقوم رواية عن خلق العالم،... اليونانيون ولدوا بعده بزمن مديد، وسرقوا تراثه لينسجوا منه نسيج أعمالهم" (ضد يوليان 1: 4) ويشرع ق كيرلس في إثبات ذلك من المؤرخين المشهورين.


[1] Athenagoras, Leg. pro Christ. 10.
[2] Oliver D. Crisp, Incarnation without the fall, Journal of reformed theology 10 (2016), P. 227, God sent his son, a contemporary Christology, Christoph cardinal Schonborn, p.16-17, The Trinitarian Christology of St Thomas Aquinas Dominic Lege , p. 71.

كلسوس: من أشهر منتقدي المسيحية- ج3



نقد كلسوس للعقيدة المسيحية
لم يقرأ كلسوس الكتابات المسيحية فحسب، لكنه فهم ما قرأه أيضًا. وعرف أن المسيحية نشأت كحركة داخل اليهودية، وأن المسيحيين استمروا في استخدام الأسفار اليهودية المقدسة. وعرف أن معظم اليهود لم يقبلوا هذه الحركة الجديدة، وأن علاقتها باليهودية كانت مثار إحراج للمسيحيين. وكان على دراية بما ورد في الأناجيل عن حياة يسوع، وتعاليمه، وصلبه، وموته. وأدرك أهمية القيامة في تعاليم المسيحية، وكان لديه بعض المعرفة بالعبادة والممارسة المسيحية.
كما يبدو مرجحًا أن كلسوس تعرّف على كتابات المدافعين الأوائل عن المسيحية، وخاصةً أعمال يوستين الشهيد، الذي ظهرت دفاعاته قبل عشرين عامًا تقريبًا من كتابة كلسوس لكتابه ”العقيدة الصحيحة“. يعتقد بعض الدارسين أن كلسوس كتب كتابه كرد على أعمال يوستين، وأن الشكل الخاص الذي صاغ به حجته يرجع إلى معرفته بيوستين.[1] من الواضح أن كلسوس استطاع أن يفرز ويرتب الكثير من الأمور التي سمعها وقرأها عن المسيحيين حتى يركز على النقاط الأهم، والنقاط الأضعف من وجهة نظره في التعليم المسيحي.
القراءة الأولى لكتاب كلسوس ربما توحى، كما أوحت تعليقات جالينوس على العقيدة المسيحية، بأن المسيحية لم تقدم الجديد، وأن تعاليمها تعكس ببساطة ما قاله الأسبقون ولكن بشكل أقل تعقيدًا. قال كلسوس نفس الشيء عندما لاحظ أن الكثير من الأمور التي يعلّم بها المسيحيون: ”كانت مشروحة بشكل أفضل عند اليونانين، الذين امتنعوا عن التصريح بمزاعم مبالغ فيها، وعن التأكيد بأنها أُعلنت لهم بواسطة إله أو ابن إله.“ (ضد كلسوس 6: 1). كما يذكر كلسوس فيما بعد في كتابه عددًا من التعاليم التي ينطبق عليها هذا الوصف، وعلى سبيل المثال، فكرة الخير الأسمى (ضد كلسوس 6: 4-5)، وبعض الأفكار عن نشأة العالم (6: 49-50)، وأفكار عن الخلود: ”الرجال الموحى لهم من الله في الأزمنة القديمة تعلموا عن حياة سعيدة للأنفس المحظوظة. بعضهم دعوها جزيرة المطوبين، وآخرون دعوها حقول إليسيون؛[2] لأنها كانت خالية من شرور العالم. لذلك يقول هوميروس: ’لكن الخالدين سيرسلونك إلى حقول إيليسون، وإلى أطراف الأرض حيث الحياة سهلة للغاية‘. وأفلاطون، الذي يعتقد بخلود النفس، يدعو بصراحة كبيرة أن هذه المنطقة التي تُرسل إليها النفس أرضًا،[3] عندما يقول:...“ (ضد كلسوس 7: 28). لكن من الواضح من خلال القراءة المتمحصة لكتاب كلسوس أنه أقر مثل جالينوس بأن المسيحية قدمت بعض التعاليم الدينية الجديدة التي لا مثيل لها في مكان آخر، وهذه التعاليم كانت الهدف الأول لهجومه وجداله.
لقد كان رد أوريجانوس على هذه الفقرة في غاية الروعة وهو يعبر عن عنصر هام جداً للمسيحية وهي أن هدفها هو "ربح الكل للحق" (ضد كلسوس 1:6)؛ فهي ليست دعوة للنخبة أو "للاذكياء فقط بل ولكن للأغبياء [أيضاً]، وأيضاً ليست لليونانيين فقط ولكن تشمل البرابرة أيضاً" (ضد كلسوس 1:6)، فتحول "الأكثر غباءً، و الفلاح الغير متعلم" (ضد كلسوس 1:6) هو بالأمر "الحسن جداً" (ضد كلسوس 1:6)، ويقارن بين أسلوب الأنبياء، ويسوع والرسل، وبين أسلوب أفلاطون. فأفلاطون كتب بأسلوب جميل ولكن للبعض فقط، أما اسلوب الأنبياء، يسوع والتلاميذ فبجانب إحتواءه على الحق إلا أنه استطاع أن يكسب الجماهير (ضد كلسوس 2:6). أخيراً يذكر أوريجانوس آخر جانب من حجته وهو جانب قوة الله المصاحبة للكلمة، فلا تكفي أن تكون الكلمة حق ومُقنعة لكي تؤثر في حياة البشر (ضد كلسوس 2:6)، و لكن يجب أن يعطي الله نعمة للمتكلم. فحتى لو تشابهت بعض العقائد بين الفلاسفة اليونانيين والمسيحية، فهم لا يمتلكون نفس القوة ليكسبوا الأنفس ولا لكي يؤكدوا على مصداقية تعاليمهم (ضد كلسوس 2:6).[4]




[1] Andresen, Logos und Nomos, 308 ff.
[2] هي جزيرة الخالدين في الميثولوجيا اليونانية، بها حدائق غناء وخضراء وكثيرة الورود، ويجري فيها أنهار ماء كالرحيق، ومن يشرب من مائها ينسى كل أنواع الهموم والعذاب. (المترجم)
[3] يرد العلامة أوريجانوس على اتهام كلسوس بأن المسيحيين اقتبسوا فكرة الأرض الأخرى السماوية من أفلاطون أو غيره بالقول إن كلسوس نسي أن موسى أقدم من ظهور الأبجدية اليونانية نفسها. (المترجم)
[4] Celsus “on the True Doctrine: A Discourse against the Christians”, P. 317, Translated by: R. Joseph Hoffmann.

الأحد، 8 ديسمبر 2019

كلسوس: من أشهر منتقدي المسيحية- ج2



كان كلسوس أول ناقد يصف المسيح بأنه ساحر، ويتهم المسيحيين بممارسة السحر. ربما بدأ هذا الرأي عند سوتينيوس Suetonius الذي وصف المسيحية بأنها ”خرافة جديدة ومجرمة (maleficus)“. كلمة (maleficus) قد تعني ”ساحرة“، وإذا استخدمت كاسم فإنها تعني ساحر.[1] إذا صح هذا الأمر، يكون سوتينيوس هو من ألقى بظلال ما سيصير تهمة شائعة فيما بعد.[2] ومع ذلك، فكلسوس أكثر وضوحًا وصراحة: ”بالسحر كان يسوع قادرًا على عمل المعجزات التي بدا أنه عملها.“ (ضد كلسوس 1: 6). كما إنه يقول إن ”المسيحيين حصلوا على القوة التي يبدو أنهم يمتلكونها بنطق أسماء بعض الشياطين والتعاويذ.“ (ضد كلسوس 1: 6).
لقد عُرف عن يسوع أنه كان يقوم بآيات و عجائب. فبجانب شهادة العهد الجديد المؤيدة لذلك، نجد شهادة محايدة من يوسيفوس حيث يقول "في ذلك الوقت عاش يسوع، رجلاً حكيماً. فهو كان يقوم بأعمال مبهرة ..." (تاريخ اليهود 18: 63-64). و لكن يبقى السؤال الذي أدى إلى نزاع وهو "مَن" أو "ما" هو مصدر هذه العجائب؟ في الأناجيل نجد هذا النزاع بدأ أثناء خدمة يسوع المسيح نفسه، فالكتبه و الفريسيين لا ينكرون حقيقة حدوث هذه الآيات، و لكنهم ينسبوها إلى بعلزبول (مرقس 22:3، متى 24:12)، على الجانب الآخر يرد يسوع قائلاً أن هذه الآيات هي "بروح الله" (متى28:12) أو "بأصبع الله" (لوقا 20:11). نجد يوستينوس الشهيد يكتب في كتابه الحوار مع تريفو قائلاً: "فمسيحنا شفى... وأقام رجالاً من الموت... وبأعماله دفع الناس في ذلك اليوم إلى الإعتراف به. على الرغم من ذلك فحينما رأوا هذه الأمور أتت لتعبر [أمامهم]، قال الناس أن هذا عرض لفنون السحر، حتى أنهم تجاسروا أن يقولوا أن يسوع هو ساحر ومخادع للناس" (الحوار 6:69-7) . التلمود أيضًا –رغم أن شهادته متأخره نسبياً فهي ترجع للقرن الثاني الميلادي – يُقر أيضاً بحقيقة المعجزات و لكنه يفسرها مثل كلسوس، فنقرأ في سنهدرين 43أ "سيُرجم (يشو [يسوع] الناصري) لأنه مارس السحر فأغوى إسرائيل و ضلله". يتضح من الشهادات السابقة أن هناك تقليد مبكر ومنتشر ينسب ليسوع أنه قام بعجائب سواء كان مصدرها هو روح الله/ إصبع الله كما يقول هو عن نفسه، أو ببعلزبول كما يقول الكتبة والفريسيين، أو بالسحر كما نجد عند يوستينوس، وكلسوس والتلمود اليهودي، أو حتى بدون تحديد لمصدر هذه الآيات مثل يوسيفوس. ويُعلق العالم كريج كينر على تفسير كلسوس والتلمود قائلاً: "العديد من تلك المصادر غير المسيحية المتأخرة تنسب العجائب [التي قام بها يسوع] للسحر، وهو على الأرجح التفسير المناهض للمسيحية الأقدم لظاهرة العجائب المسيحية". بالإضافة إلى ما سبق، فبسبب كثرة وتنوع المصادر التي تتحدث عن معجزات يسوع المسيح، يعتقد غالبية العلماء المتخصصين في دراسات "يسوع التاريخي" –بصرف النظر عن رؤيتهم الفلسفية المختلفة- أن معاصرو يسوع رأوا فيه يسوع أنه شافٍ للأمراض ومُخرج للشياطين، وبذلك فعلى الرغم من أن تفسير كلسس هو معادٍ للمسيحية إلا أن شهادته حفظت تقليدًا مسيحيًا مبكرًا.[3]

كانت ممارسة السحر جريمة في الأمبراطورية الرومانية، وكانت كلمة ساحر تعبّر عن سلوك استغلالي مخزٍ. واجه أبوليوس Apuleius، وهو مؤلف رواية مثيرة بعنوان الحمار الذهبي  (The Golden Ass[4] تهمة ممارسة السحر. كان قد تزوج من أمرأة تُسمى Pudentilla كانت مخطوبة لشخص آخر. وعند سمع أحد أقرباء الرجل الذي يُفترض أن يتزوج منها، اتهمه بأنه فاز بحبها عن طريق استخدام التعاويذ والأدوية السحرية. وبالرغم أنه أُطلق سراحه فيما بعد، لكنه أجبر على الوقوف أمام المحكمة والدفاع عن نفسه من هذه التهمة الكاذبة.
الكثير من الأمور الواردة عن المسيح في الأناجيل تشابهت مع أمور يفعلها السحرة. على سبيل المثال، في إنجيل يوحنا يُقال عن يسوع أنه شفى عيني رجل أعمى منذ ولادته بأن تفل على الأرض، ثم صنع طينيًا من التفل، وطلى به عيني الأعمى (يو 9). بعض القصص صورت يسوع وهو يطرد الأرواح الشريرة (انظر مر 1: 23، 34؛ 3: 11). بجانب هذه التشابهات الواضحة مع أمور يفعلها السحرة، هناك نصوص أخرى في الأناجيل تتوازى بشكل واضح مع قصص عن السحرة في البرديات السحرية اليونانية في ذلك الوقت مثل: تهدئة العواصف (مر 4: 35)، توفير الطعام بشكل معجزي (مر 6: 35)، أن يختفي الشخص عن الرؤية (يو 8: 59)، ومعرفة أفكار الآخرين (مر 2: 8).[5]
أختلف جزئياً مع هذه الفقرة. لأنها تُغفل السياق والإشارات اليهودية الموجودة في قصص معجزات الرب يسوع المسيح. فمثلاً حادثة تهدئة العاصفة الوارد ذكرها في (متى 23:8-27، مرقس 35:4-41 و 22:8-25)، نجد بها ستة عناصر كالتالي: التلاميذ في المركب، الرياح والأمواج مرتفعة، التلاميذ خائفين، التلاميذ يصرخون ليسوع لينقذهم، يسوع يُهدئ العاصفة، وأخيراً ساد هدوء عظيم. تتشابه هذه العناصر الستة مع ستة عناصر موجودة في مزمور (23:107-30) ولكن مع اختلاف الشخصيات، نجد أن هناك بحارة في السفينة، وهناك رياح وأمواج شديدة، و كل حكمة البحارة قد اُبتلعت، وصرخ البحارة للرب، والرب هدأ العاصفة، وهدأت العاصفة. وبذلك نجد أن كتاب الاناجيل صاغوا معجزة تهدئة العاصفة في نفس الشكل والإطار الخاص بإحدى مزامير العهد القديم، والذي كان يتحدث على عمل يهوه مع البحارة، ويوضح العالم جون بي. ماير قائلاً "باختصار، ما يقوم به يهوه لينقذ طاقم المركب في البحر في مزمور 107، قام به يسوع لتلاميذه في بحر الجليل". أما بخصوص معرفة أفكار الآخرين الواردة في (مرقس 8:2 ولوقا 22:5)، فالقصة لا تهدف أن تُشير أن يسوع هو مثل السحرة ولكنها تعلن عن هوية يسوع، فيسوع المسيح لا يتوقف عند معرفة أفكار الجموع كما أنه يغفر الخطايا أيضاً، وغفران الخطايا طبقاً للاهوت العبراني هو حق حصري لله وحده، وهو ما نجده في في تعليق الكتبة والفريسيين حين قالوا "من يقدر أن يغفر الخطايا إلا الله وحده" (لوقا 21:5، مرقس 7:2)، فصياغة كتاب الأناجيل للآيات التي قام بها يسوع تُشير ضمنياً لهويته الإلهية وليس كما لو كان ساحراً. هناك عنصر آخر يميز معجزات يسوع المسيح وهي ارتباطها بملكوت الله الذي بشر به، فالآيات التي قام بها هي علامة عن حضور هذا الملكوت المنُتظر. بالإضافة إلى ذلك نضيف حجة أوريجانوس والتي فيها يرفض المقارنة بين معجزات يسوع و السحرة فيقول "كانوا من الممكن مقارنتهم  إذا كان يسوع قد قام بمعجزاته مثل السحرة فقط لُيظهر قواه. ولكن في الواقع لا نجد أي ساحر يستخدم حيله ليدعوا المشاهدين إلى إصلاح أخلاقي، ولا يعلمهم مستخدماً مخافة الله [ل]لناس الذي دُهشوا بما رأوه، ولا حاول أن يقنع المتفرجين أن يحيوا كأناس سيدانون من الله" (ضد كلسوس 69:1)، و يوضح أن السحرة لا يمتلكون القدرة و لا الرغبة في ذلك.[6]

لم تقدم الأناجيل يسوع في شكل يشبه الساحر فحسب، أي كمَن يصنع الأعاجيب، لكن بعض المسيحيين بدأوا في استخدام اسم المسيح في التعويذات والرقيات أيضًا. ويظهر هذا مثلاً في ممارسة طرد الأرواح الشريرة باسم المسيح[7] . ويدعي كلسوس أنه على دراية ببعض الطوائف المسيحية التي كانت تمارس السحر صراحة، ويزعم أنه شاهد كتبًا مسيحية ”تتضمن وصفات سحرية“ (ضد كلسوس 6: 40 ).[8] فضلاً عن ذلك، فإن المدافعين الأوائل عن المسيحية، قبل المدافعين الفلاسفة من أمثال يوستين الشهيد وأثيناغوراس، قد جعلوا من معجزات المسيح في صدارة مجهوداتهم لإقناع الناس بحقيقة المسيحية. كان كوادراتوس، وهو أحد المدافعين خلال حكم الإمبراطور هادريان، يحثُّ الناس على الإيمان بالمسيح؛ لأن تأثير معجزاته مستمر حتى ذلك الحين؛ فالناس يُشفون، ويقومون من الموت، وبعضهم -حسب كلامه- ”باقون حتى يومنا هذا“ (يوسابيوس، التاريخ الكنسي 4: 3 : 2). وكان يُضاف إلى معجزات المسيح معجزات الرسل، كما يشهد بذلك سفر أبوكريفي يُسمى أعمال الرسل“. لذلك فإن رأي الجيل الجديد من المثقفين بأن يسوع كان بالأساس معلمًا أخلاقيًا ذا طابع فلسفي لم يكن سائدًا في الكنيسة الأولى، وهو رأي وجد مقاومة من عامة الشعب.
نادى المسيحيون بأن معجزات المسيح تثبت أنه ابن الله. وكانت أسهل طريقة لكلسوس في تجاوبه مع هذا الادعاء هو إنكار أن المسيح قد فعل العجائب المنسوبة له. لكنه لم يتخذ هذا الموقف. كان كلسوس مستعدًا ليسلِّم بأن يسوع قد فعل الأمور التي يسجلها الأناجيل: ”معجزات شفاء، أو قيامة، أو شبع جموع كثيرة بأرغفة قليلة، ويتبقي منها كسر كثيرة، أو أي حكايات غريبة.. يحكيها عنه تلاميذه.“ (ضد كلسوس 1: 68).
لا يجادل كلسوس في فكرة أن المسيح فعل هذه المعجزات، لكن ما أراد أن يعرفه هو بأي قوة استطاع أن يجري هذه العجائب! من خلال قرائته للأناجيل عرف أن يسوع قضى بعض الوقت في مصر. ومن هنا استنتج أن يسوع: ”نشأ خفية وأجر نفسه كعامل في مصر، وبعد أن جرب يده في بعض القوى السحرية عاد من هناك، وبسبب هذه القوى لقب نفسه ابن الله“ (ضد كلسوس 1: 38). (الجدير بالذكر أن الكتبة والفريسيين المُعاصرين ليسوع اتهموه بكل أنواع التهم، حتى أنهم نسبوا إخراجه للشياطيين إلى بعلزبول. و لكننا لا نجد إتهام أو تلميح في العهد الجديد أن يسوع الناصري قد تعلم السحر في مصر، ولا أنه استخدمه. وهو الأمر الذي يؤكده جراهام  تويفلي قائلاً "لم يتم إتهام يسوع قط أنه ساحراً في أثناء حياته و معجزاته تختلف بوضوح عن السحر").[9]
هنا يثير كلسوس فكرة ستصبح محورية في هجومه على المسيحية. هل كانت قدرة يسوع على عمل المعجزات تعني أنه كان ابن الله، أم أنه ببساطة ساحر ذكي آخر مثل الآخرين الذين كان يمكن أن تجدهم في مدن وقرى الأمبراطورية الرومانية؟ كانت الإجابة واضحة بالنسبة لكلسوس. كان يسوع ينتمي إلى ”السحرة الذين يدعون بإنهم يجرون معجزات عجيبة... الذين من أجل دريهمات قليلة يكشفون سحرهم المقدس في وسط الأسواق، ويخرجون الشياطين من الناس، ويطردون الأمراض ويستحضرون أرواح الأبطال.“ (ضد كلسوس 1: 68).
لم يكن اتهام كلسوس للمسيح بأنه ساحر منفصلاً عن نقده العام الذي وجهه للمسيحية.[10] لقد تمنى أن يثبت أن المسيحيين ليس لهم أي أساس أو مبرر للادعاء بأن يسوع هو ابن الله. فلم يكن الوحيد الذي فعل الأعاجيب، آخرون كان لديهم قوة مشابهة. لم يكن الموضوع هو هل فعل يسوع معجزات أم لا، ولم يكن الأمر هل أتباعه باستخدام اسمه فعلوا نفس الشيء أم لا. كانت القضية تتلخص في الآتي: هل هناك أي سبب، بناءً على معجزات يسوع، أن يُدعى ابن الله؟ لكي تفهم كيف يتعامل كلسوس مع هذه المسألة لابد أن نتجه الآن إلى شرح مفصل عن رأيه في التعليم المسيحي.  (يُتبع)




[1] Morton Smith, Clement of Alexandria and a Secret Gospel of Mark (Cambridge, 1973), 234; also Jesus the Magician (NewYork, 1978), 45-67.
[2] See, for example, the writing of Hierocles, governor of Bithynia, comparing Jesus to Apollonius of Tyana. Hierocles' treatise is lost, but a good idea of the work can be gained from Eusebius's response. Text and English translation in · F. C. Conybeare, Phihstratus: The Life of Apollonius of Туana (Cambridge: Loeb Classical Library, 1969), 2: 484-605.
[3] The Historical Jesus of the Gospels, Craig Keener, P. 67, 241, 525n. 43, The Gospel and Jesus, Graham Staton, 2nd Edt., P. 149-150, 235.
يسوع التاريخي، محاضرات و مقالات نسقها و قدم لها الأب أيوب شهوان، ص 213.

[4] هو لوكيوس أبوليوس (125- 180 م)، كاتب وخطيب وفيلسوف وروائي ومسرحي، تحكي روايته "الحمار الذهبي" عن شاب تحول إلى حمار كامل باستثناء عقله، وتحدث مغامرات كثيرة، حتى تنجح الإلهه إيزيس المصرية في إعادته مرة أخرى إلى هيئته البشرية.
[5] Smith, Clement of Alexandria, 224-26.
[6] The origin of divine Christology, Andrew Ter Ern Loke, P.191, The Case for Jesus, Brant Pitre, P. 125, Jesus and the thoughts of many hearts: implicit Christology and Jesus’s Knowledge in the gospel of Luke, By Collin Blake Bullard, P. 95.
[7] رد أوريجانوس على  هذه الإتهامات قائلاً "وبالنظر إلى أننا غير مشتبه بخصوص تلك الممارسات لأي مدى [حتى لو كان] ضئيل، فالمنطق لا يُطالبنا بالرد على هذه الأمور" (39:6 ضد كلسوس)، فمن الواضح أن هذه التهمة تحمل الكثير من التحامل من كلسوس. بالإضافة إلى ذلك فأنا لا أعتقد أن هذا توصيف د. روبرت لويس هو توصيف دقيق لموهبة إخراج الشياطين في المسيحية المبكرة، فكما سبق و أشرنا لقد عُرف عن يسوع المسيح أنه أخرج الشاطيين، و قد آمن الرسل و الكنيسة بعد ذلك أن هذه الموهبة قد اُعطيت لهم. فنلاحظ مثلاً في طقس المعمودية هناك صلاة لجحد الشيطان يذكرها ق. ذهبي الفم، ق. باسيليوس، المراسيم الرسولية، ق. كيرلس عمود الدين، ق. كبريانوس. و هناك أيضاً المسحة بزيت الأكسورسزم أو زيت طرد الشيطان و الذي يذكرها ق. كيرلس الأورشاليمي قائلاً "بهذا الزيت للاكسورسزم أي لإخراج الأرواح النجسة". 
[8] يرد العلامة أوريجانوس على هذا قائلاً بأنها من أسهل التهم في تفنيدها لأن جموع كثيرة بالخبرة عاشوا مع المسيحيين ولم يسمعوا بهذا الكلام مطلقًا. 
[9] Who Do My Opponents Say That I Am?: An Investigation of the Accusations Against the Historical Jesus, P. 34 n.29.
[10] See Eugene V. Gallagher, Divine Man or Magician? Celsus and Origen on Jesus, Society of Biblical Literature, Dissertation Series, no, 64 (Chico, CA: Scholars Press, 1982).