السبت، 23 أبريل 2022

سر التجسُّد وقيود الزمكان: مقاربة آبائية





كانت ولا تزال عقيدة التَّجسُّد عُرضة للانتقادات والاعتراضات التي تطعن في مِصداقيَّتها أو إمكانيَّة حُدوثها بالأساس أو في تفاصيلها الدقيقة. فالنقادُ يسألون على سبيل المثال لا الحصر: هل اللهُ الكلمةُ أثناء فترة تجِّسده كان محتفظًا بوجوده الكلي أم صار مُقيدًا بحدود المكان؟ هل تنازلَ عن أزليَّته وعن سرمديَّته أم صار مُقيدًا بحدود الزمان؟ هل كان يمارس عنايته وسيادته على الخليقة في هذه الفترة؟ هل جَرىَ أيُّ نوعٍ من التغيُّر على الله الذي يُفترض أن يكون غير متغيِّر immutable؟ وهل تألم فعلاً والمفترض أنه غير قابل للتألم impassable؟ وهل مات فعلاً وهو غير قابل للفساد immortal؟ هل تجرَّب فعلاً وكان عُرضةً للإذعان للتجربة، أم هذا الافتراض غير متصوَّر عن الله المتجسِّد غير القابل للسقوط impeccable؟ دعوني أصطحبكم في الرد هذه الأسئلة بإجابات خَطَّها آباء الكنيسة في القرون الأولى من تاريخ المسيحية، ونحاول أن نستشف من إجاباتهم كيف كانت نظرتهم لهذا السِّر العجيب.

1- سر التجسُّد وعدم تغيُّر الله

دافع الآباء عن عدم تغيُّر الله، وعدم تغيُّر الابن الكلمة، وذلك في سياق مُعارضتهم للأريوسيَّة التي تبَّنت ابنًا مخلوقًا، مجبولاً ومصنوعًا من العدم، فيقول ق أثناسيوس (ت 373م) في مقالاته ”ضد الأريوسيين“: ”إنَّ الأشياء المخلوقة بما أنها نشأت مِن العدم، ولكونها لم تكن كائنة قبل أن تُخلق، لذلك فإنَّ لها طبيعة متغيِّرة حيث إنها عمومًا قد خُلقت من العدم. أمّا الابن فإنه كائنٌ في الآب، وهو مِن ذات جوهر الآب، لذلك فهو غير متغيِّر أو متبدِّل مثل الآبِ نفسه“.[2] وشدَّد أثناسيوس أن المولود من الآب غير المتغيّر لابد أن يكون هو أيضًا غير متغيِّر، وقد قالَ المسيحُ عن نفسه ”أنا هو الحقُ“ فكيف يكون المتحوِّل والمتغيِّر وغير الثابت حقيقيًا؟![3] نفس الشيء قال به ق إيريناؤس (+200م) عندما أشار إلى الفجوة الأنطولوجية بين الخالق والمخلوق؛ قائلاً ”إنَّ اللهَ يختلفُ عن الإنسان؛ إذ إن الله يخلق، أمّا الإنسانُ فهو مخلوقٌ.. والذي يخلق هو دائمًا كما هو، أمَّا المخلوق فإنه يقبل بدايةً ووسطًا وإضافةً وزيادةً... لكن الله هو كاملٌ في كلِّ شيء، وهو بقدر ذاته“.[4] هذه حُجة كلٍّ مِن ق أثناسيوس وإيريناؤس وغيرهم من الآباء في الإقرار بعدم تغيُّر الله، فماذا عن ابن الله في حدث التجسُّد تحديدًا؟

إن الكلام عن عدم تغيُّر الله الكلمة اشتعل مع تفسير الهراطقة لكلمة ”صَارَ“ في آية ”الْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا“ (يو 1: 14)؛إذ أصرَّ هؤلاء أن كلمة ”صَارَ“ تعني التحول والتغيُّر. وهنا انبرى الآباء ومنهم ق كيرلس السكندري (ت 444م) في الرد عليهم متسلحًا بنص فيلبي 2: 5- 8 عن أن الذي كان في صورة الله ”صار إنسانًا دون أن يتحوَّل إلى جسد، ولا خضع للامتزاج أو الاختلاط“، لكنه أخلى ذاته ”ولم يزدرِ فقرَ الطبيعة الإنسانيَّة. فهو كإله أراد أن يجعلَ هذا الجسد المُمسَك به في قبضة الخطية والموت في وضعٍ أسمى من الموت ومن الخطية، وأعاده مرة أخرى إلى الحالة الأولى جاعلاً هذا الجسد خاصًا به“.[5] يظهر في الاقتباس السابق فكرة عدم الاختلاط والامتزاج بين الطبيعتين، وكذلك فكرة أخرى في منتهى الأهمية هي ”الاستملاك“appropriation ، أي أن الابن أتخذ جَسدًا بَشريًا أصبح خاصًا به، يجوز بعد ذلك أن نقول عن هذا الجسد ”جسد الله“، ويصح أن نقول هنا إنَّ اللهَ أو ابن الله صَار مرئيًا، وصَار إنسانًا وغير ذلك، والمبرر أن هذا الجسدَ صار مِلكًا له، وليس مِلكًا لآخر.

مرة أخرى ق كيرلس السكندري يقول إذا تأملنا كيفية تأنسه، ماذا سنرى؟ سنرى ”طبيعتين اجتمعتا إحداهما مع الأخرى، في اتحادٍ لا يقبل الانفصام، وبدون اختلاطٍ، وبدون تغييرٍ، لأن جَسده هو جَسدٌ وليس لاهوتًا، رغم أنَّ جَسده قد صَار جَسدَ الله. وبالمثل الكلمةُ هو اللهُ وليس جَسدًا، رغم أنه جَعل الجسدَ خاصًا به بحسب التدبير“.[6] في هذا الاقتباس تظهر مع فكرة الاستملاك فكرة ”الاتحادunion؛ إذ رفض الآباءُ أن يكون هذا الاجتماع بين اللاهوت والناسوت أقل من المستوى الكياني حتى يتم شفاء البشريَّة مِن فسادها الناتج عن السقوط. فرفضوا المصطلحات التي تعبِّر عن مجرد المصاحبة association بين الطبيعتين كما ادعى نسطور؛ إذ رأوا أنَّ لغة المصاحبة لا تعبِّر عن الفوائد التي ضَخَّها الابنُ في صَميم كياننا البشري في حالته المزرية التي وصل إليها.[7]

الفكرة الثالثة التي شدَّد عليها الآباء ومنهم ق كيرلس هي ”وحدةunity شخص المسيح بعد الاتحاد. فنحن عندما نقول إنه كان من طبيعتين فنحن ”لا نجرح الوحدةَ، ولكن بعد الاتحاد لا نفصل الطبيعتيّن... كما قال الآباء: طبيعة واحدة متجسدة لكلمة الله (μία φύσις το θεο λόγου σεσαρκωμένη)“.[8] في هذا الاقتباس تظهر الصيغةُ الخريستولوجية الشهيّرة للقديس كيرلس السكندري، والتي يقول إنَّه استلمها بالتقليد من الآباء: ”ميا فيسيس تو ثيؤ لوجو سيساركوميني“، ولا يعني تعبير ”طبيعة واحدة“ أن إحدى الطبيعتين قد تلاشت، بل إنَّ الأفعالَ الصادرةَ عن الابن المتجسِّد هي أفعالٌ تُنسب إلى شخصٍ واحد one subject، وهو ما ينفي عن كنيستنا القبطيّة التهمة التاريخية بالمنوفيزية. يظهرُ إصرار آباء الكنيسة على ”وحدة“ شخص المسيح حتى يكون هناك فعلٌ إلهيٌّ/ إنسانيٌّ واحدٌ one theandric activity، كما يقول ديونسيوس الأريوباغي ”ليس بكونه إلهًا فعلَ الأمورَ الإلهيَّة، وليس بكونه إنسانًا فعلَ الأمورَ الإنسانيَّة، لكن بالأحرى يكون اللهَ الذي صارَ إنسانًا حقق شيئًا واحدًا في وسطنا: الفعل الإلهي/ الإنساني“.[9]

المفهومُ الآخر الذي يحفظ لله عدم تغيُّره في حَدث التجسُّد، هو ما يُسمى بـ ”تبادل الصفاتcommunicatio idiomatum، وربما يظن البعضُ أنَّ تبادل الصفات بين الطبيعتيّن، اللاهوتيّة والناسوتيّة، قد سبَّب تغيُّرًا في اللاهوت، لكنَّا نجد يوحنا الدمشقي (ت 749م) يقول ”الاختراقُ واقعٌ من قِبل الطبيعة الإلهيَّة؛ لأنها تملك أن تنفذَ وتخترقَ الكل كما تشاء. بينما لا يمكن لشيء أن ينفذَ فيها. بل هي تمنح الجسدَ أمجادها الخاصة وتبقى هي بلا تأثُّر“.[10] ويقدِّم الدمشقي تشبيهًا لهذا الأمر بالشمس التي تقدر أن تعطي مِن طاقتها، لكنها تبقى غير متأثرة، فكم بالحري صانع الشمس وربها“.[11] ومِن ثَم من خلال المفاهيم الأربعة السابقة ندركُ أنَّ اللهَ لم يفقد خاصية عدم قابليته للتغيُّر في حدث التجسُّد.

2- سر التجسُّد وعدم تحيُّز الله

أقرَّ الآباءُ أيضًا بالحضور الكلي لله omnipresence وعدم تحيُّزه بمكان. فالقديس أغسطينوس (ت 430م) في كتابه ”مدينة الله“ يقول عن الله ”هو الحاضرُ في كل مكانٍ، وغير المُحتوى في مكانٍ، والحرُ من كل قيدٍ، غير المنظور وغير القابل للتغيُّر، المالئ السموات والأرض لا بكيانه اللامحدود بل بحضوره الكلي القدرة“.[12] فماذا عن حدث التجسُّد؟ نجد هذا الاعتراض منذ بدايات المسيحية. فلدينا كلسوس، وهو أحد المثقفين اليونانيين، الذي افترض أنَّ نزول الله إلى البشرِ يعني تخليه عن عرشه.

فإذا بالعلامة أوريجانوس (ت +253م) يتصدى للرد عليه كالتالي: ”بعد ذلك قدَّم المحترم جدًا كلسوس لسببٍ غير معروف اعتراضًا ضدنا يقول بإننا ننادي بأنَّ اللهَ ينزلُ إلى البشرِ. وهو يظنُ أنَّ هذا يتبَعه أنه يترك عرشه. وهو لا يفهم قوةَ الله، وأنَّ ’روح الله يملأ الكونَ وبالأشياء كلها يحيط‘ (حك 1: 7)، ويعجز عن فهم كلام (النبي) ’أَمَا أَمْلأُ أَنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، يَقُولُ الرَّبُّ؟‘ (إر 23: 24). ولا يرى أنه بحسب العقيدة المسيحية أننا جميعًا ’بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ‘ (أع 17: 28) مثلما يعلِّم بولس في خطبته العَلنيَّة أمام الأثينيين. وبالتالي حتى إذا نزل إله الكون مع يسوع إلى الحياة البشرية بقدرته... فهو لم يبتعد عما كان قبلاً، وكذلك لم يترك عرشه، كما لو كان هناك مكانٌ محرومٌ منه، ومكانٌ آخر لم يكن فيه قبلاً قد امتلأ به. إنَّ قوةَ الله ولاهوته يأتيان ليسكنا بين البشر من خلال الإنسان الذي يريد الله أن يختاره، والذي فيه يجد مساحةً بدون انتقالٍ من مكانٍ إلى آخر، أو ترك مكانه السابق فارغًا، وملء مكان آخر“.[13] كما نرى أوريجانوس يفهم أن الله لم يترك مكانًا، لأنه فوق المكان، وكذلك ليس غريبًا عن كوننا هذا؛ لأنه حاضر فيه دائمًا بقدرته.

مرة أخرى ق أثناسيوس في الفصل السابع عشر من كتابه العمدة ”تجسُّد الكلمة“ يقول: ”لأنه لم يكن محصورًا في الجسد كما يتوهم البعض، أو أنه بسبب وجوده في الجسد كان كلُّ مكان آخر خاليًا منه، أو أنه بينما كان يحرِّك الجسد كان العالم محرومًا من أفعال قدرته وعنايته. غير أن الأمر العجيب والمدهش جدًا هو أنه مع كونه هو الكلمة الذي لا يحويه شيء، فإنه هو نفسه يحوي كلَّ الأشياء. وبينما هو موجود في كل الخليقة، فإنه بحسب جوهره متميزٌ عن كل الخليقة. فهو حاضرٌ في كل الأشياء بقدرته فقط وليس بجوهره... ومع أنه يحوي كل الأشياء ولا يحتويه شيء، إلا أنه كائن كليةً في أبيه وحده. وحتى مع وجوده في جسد بشري معطيًا الحياة له، فقد كان من الطبيعي أن يمنح الحياة للكون كله في الوقت نفسه، ومع كونه حاضرًا في كل جزء (من الخليقة بقدرته) فهو خارج كل شيء بقدرته“.[14]

لا يمكننا إغفال إسهام اللاهوتي الاسكوتلاندي، توماس إف تورانس (ت 2007م)، في هذه النقطة؛ فلقد استطاع أن يستخرج من إيمان نيقية ما يؤكد نظرة آباء الكنيسة للكون بأبعاده، ومخالفتهم للعُرف العلمي السائد في وقتهم، والقائل بأن الكون أشبه بوعاء مغلق يحوي ما بداخله، لصالح عنصر نسبي للمكان. وهذا جعل تورانس يقول بجرأة كبيرة فيما معناه أنَّ نيوتن وفيزياء نيوتن متسقةٌ مع لاهوت أريوس، بينما أينشتين وفيزياء أينشتين متسقة مع لاهوت آباء نيقية.[15]  

3- سر التجسُّد وعدم تزمُّن الله

أقرَّ الآباء أيضًا بسرمديَّة الله، فأغسطينوس يقول في اعترافاته مناجيًا الله: ”الأزمنة ُمنك تستمدُ وجودها... الوقتُ هو أيضًا من صُنعك، وما أمكن أن يكون وقتٌ قبل أن تصنعَ أنتَ الزمنَ!.. سنوك لا تروح ولا تجيء... يومك لا يتجدد كل يوم، أنه ’اليوم‘... يومك هو الأزلُ... أنتَ صنعتَ كلَّ الأزمنة، وأنتَ فوق الأزمنة“.[16] ويقول عن الله في كتابه ”عن الثالوث“: ”سرمديٌّ خارج نطاق الزمن، يخلقُ الأشياءَ المتغيِّرة دون تغيُّر في ذاته“،[17] فماذا عن حَدث التجسُّد؟

تظهر إشكالية الزمن في التعبير الكتابي عن الطفل يسوع الذي كان ”ينمو“ و”يتقدَّم“ في الحكمة والقامة والنعمة أمام الله والناس (لو 2: 52). هذا التقدُّم يحتاجُ إلى زمن، إلى تدرُّج، فكيف نفهم ذلك في ضوء لاهوت المسيح؟ ق كيرلس السكندري في شرحه على هذا النص في إنجيل لوقا يقول إنَّ هذا الكلام ينطبقُ على الطبيعة البشرية بالتأكيد ”فالكلمة تحمَّل وقَبِل أن يُولد في صورة بشريّة، برغم أنه في طبيعته الإلهيَّة ليس له بداية وليس خاضعًا للزمن“.[18] ويقول هنا نجد أعجوبة التجسُّد في أنَّ الكاملَ مِن كل ناحية ”يخضع للنمو الجسدي، وغير الجسدي صارت له أطراف تنمو مع نمو بشريته، والذي هو نفسه الحكمة كلها نجده يمتلئ بالحكمة“.[19] ثم يتساءل ق كيرلس ماذا نقول عن هذا؟ ”الذي كان في صورة الآب قد صَارَ مثلنا، والغنيُّ أخذ صورةَ الفقير، والعاليُّ أخذ صورةَ الاتضاع، والذي له الملء يُقال عنه إنه ينال ويأخذ“. ثم يقول كان باستطاعته أن يخرج من بطن العذراء رجلاً ناضجًا دفعة واحدة، لكنه ”جعلَ جَسده يخضع لعادات وقوانين الطبيعة البشريَّة“.لاحظ هنا كيف يحافظ أثناسيوس على عدم تغيُّر الله، ونسب التغيُّر للجسد الذي استملكه.   

ق كيرلس في كل هذا يسير على درب ق أثناسيوس، في كتابه ”ضد الأريوسيين“؛ إذ يؤكد أثناسيوس أنَّ المسيح ثابتٌ في الآب إلى الأبد، ”إذن التقدُّم هو خاص بالبشر“، ويواصل قوله بإن الإنجيلي (لوقا) يتكلم ”بدقة وحذر؛ فقد ذكر القامة عندما تحدث عن التقدُّم، ولكن لكونه هو الكلمة وهو الله فهو لا يُقاس بالقامة التي تخص الأجساد. إذن فالتقدُّم هو للجسد. لهذا في تقدمه كان يزداد ظهور اللاهوت لأولئك الذين رأوه“.[20]

4- سر التجسُّد وعدم تألم الله

يؤكد ق أثناسيوس في كتابه ”ضد أبوليناريوس“ أنَّ اللهَ لا يتألم، فهو بطبيعته اللاهوتيَّة غير قابلٍ للألم impassible فيقول: ”إذا تألم لاهوت الكلمة، فقد تألم معه الآب والروح، بل قد مات الآب والروح القدس أيضًا. وهذا يجعلكم أكثر كفرًا من جميع الهراطقة... في نفس الوقت نؤمن بأن الكلمة نفسه غير متألم ولا متحول. وإنما هو تألم دون أن يتألم، لأنه غير المتغير وغير المتألم كإله، ولكنه ’تألم في الجسد‘ (1بط 4: 1)، وأراد أن يذوق الموت، لأنه صار وسيطًا“.[21] لاحظ أن ق أثناسيوس يقول أنه ”تألم دون أن يتألم“ ويستعين بذلك بآية 1بط 4: 1، ليؤكد أنه تألم في الجسد، جسده الخاص، فكرة الاستملاك مرة أخرى، ولأنه ”عندما تألم الجسد، لم يكن الكلمة خارجًا عنه، ولهذا السبب يُقال إن الآلام خاصة بالكلمة“.[22] وهنا تظهر فكرة تبادل الصفات مرة أخرى.  

سيشرح ق كيرلس في كتابه ”شرح تجسد الابن الوحيد“ هذا الأمر أكثر وهو يعتمد أيضًا على نفس الآية 1بط4: 1 ”فإذ قد تألم المسيح بالجسد لأجلنا“. ثم يتساءل ”كيف ننسب إليه الآلام، وفي نفس الوقت، كإله، لا يتألم؟“. ثم يجيب قائلاً: ”الآلام تخص التدبير. واالله الكلمة جعل ما يخص جسده، يخصه هـو نفسه بسبب الاتحاد الفائق الوصف. لكنه ظل فوق الآلام حسب مقتضى طبيعتـه؛ لأنَّ اللهَ لا يتألم. ولا غرابة َفيما نقول؛ لأن نفس الإنسان تظل فوق الآلام عندما يتألم جسدها. ونحن لا نعتبر النفسَ بعيدةً عن الآلام، أو أنَّ الآلام عندما تحدث للجسد لا تخص النفس.. لأن الجسدَ الذي يتألم هو جسدها، وعنـدما يتألم الجسدُ، فـالنفسُ المتَّحدة به، وهـي مِن طبيعـة بسيطة لا تُلمس، لا تظل بعيدةً عن الألم“.[23] في هذا الاقتباس نجد كيرلس يوظف أفكار الاستملاك، والاتحاد، وعدم الاختلاط من خلال تشبيه النفس والجسد، الجوهرين المتحدين دون اختلاط، بالطبيعتين الناسوتية واللاهوتية. 

ولذلك نستطيع أن نفهم أنه من الخطأ أن نقول إنَّ اللهَ تألم من جهة لاهوته، لأن هذا أسوأ من جميع الهرطقات كما قال أثناسيوس، وكذلك من الخطأ أن نقول إنَّ الجسد فقط هو الذي تألم، وهذا موقف نسطور، وإلا بهذا نكون قد فرَّغنا التجسُّد من فاعليته الخلاصية. لكن ق كيرلس وآباء آخرين من خلال توظيف مفاهيم الاستملاك والاتحاد الأقنومي وتبادل الصفات، استطاعوا ببساطة أن يقولوا إنَّ غير المتألم قد تألم.

أمَّا قابلية الابن المتجسد للتأثر، والأهواء والانفعالات التي ورد ذكرها في العهد الجديد، من حزن، واكتئاب، ودهش، واضطراب. فماذا يقول الآباء بشأنها؟ يقول ق كيرلس السكندري ”كما أنَّ إبادة الموت لم تتم بطريقة أخرى غير موت المخلص، هكذا أيضًا مِن جهة كل ألم من آلام الجسد؛ فلو لم يشعر بالخوف، لما أمكن للطبيعة البشرية أن تتحرر من الخوف، ولو لم يكن قد اختبر الحزنَ، لما كان هناك تحرُّر مِن الحزن على الإطلاق؛ ولو لم يكن قد اضطرب وانزعج، لما وجد أي مهرب من المشاعر. ومن جهة كل انفعال من الانفعالات التي تتعرض لها الطبيعة البشرية، فإنك ستجد المقابل لها بالضبط في المسيح. فانفعالات الجسد كانت تتحرك، لا لكي تكون لها السيطرة كما يحدث في حالتنا نحن، بل لكي حينما تتحرك، فإنها يتم إخضاعها كليةً بقوة الكلمة الساكن في الجسد، وهكذا فإنَّ طبيعةَ الإنسان تجتاز تغيرًا نحو الأفضل“.[24] ق كيرلس في موضع آخر يقول ”إن لم يخف ... لما تحررت الطبيعة البشرية من الخوف. وإذا لم يحزن لما تحررت أبدًا من الحزن“.[25] وعن بكائه على قبر لعازر، فكيرلس يقول إن المسيح ”بكى رغم أن الطبيعة الإلهية عديمة البكاء.. إنه بكى، وذلك لكي يجعلنا نحن لا نبكي.. سمح لجسده أن يبكي، رغم أنه بطبيعته الإلهية لا يخضع لأية انفعالات حزينة“.[26] كما نرى هنا، لقد قَبِل الابن المتجسِّد كلَّ أوجاع الإنسان، دون خطية، ودون أن تسود أو تطغى عليه. وكان الغرض من ذلك أن ينتصر هو على هذه الأوجاع لصالح البشرية جمعاء.

5- سر التجسُّد وعدم قابلية الله للموت

ق كيرلس يقول كما تحدث سابقًا عن تألم ابن الله يقول: ”بنفس النسق نفكِّر أيضًا في موته. إن كلمة الله حسب الطبيعة غير مائت وغير فاسد لكونه هو الحياة ومعطي الحياة. ولكن بسبب أنَّ جسده الخاص ذاقَ بنعمة الله الموتَ لأجل الجميع كما قال بولس، لذلك يُقال إنَّه هو نفسه قد عانى الموت“.[27] أعتقد أننا الآن أصبحنا على دراية بفكر الآباء واستراتيجياتهم في فهم ما حدث في التجسُّد تحديدًا.

من الشخصيات المهمة أيضًا ق إسحق الأنطاكي الأول (ت 491م)، والذي حارب النساطرة. واجه الأنطاكي سخرية البعض من فكرة أن يقول المسيحيُّون إنَّ الله مات. لذا نجده في إحدى قصائده يقول: سمعتُ الناسَ يتساءلون: أمات الله أم لم يمت؟ يا للجهل! .. فلولا أنه إله فكيف أظلمت الشمس؟ .. ولولا أنه إنسان فمَن الذي احتمل السياط..؟ حقًا لم يكن الجسدُ وحده مُعلقًا على خشبة الصليب بدون الله، ولم يكن الله يتألم في الجلجلة بدون الجسد. فافتخار البيعة العظيم هو أن ربنا له لاهوت وناسوت معًا، ليس في فرصوفين (شخصين) أو طبيعتين. فهو ابن واحد كامل.. فافتخار الكنيسة هو أن الله مات على الصليب لا بطبع أزليته بل بجسد ناسوتنا“.[28]

يواجه أيضًا مار فليكسينوس المنبجي (ت 523م) سخريةً في محيطه تقول ”كيف مات إن كان غير مائت؟“، ”مَن الذي كان يدبِّر العالمَ خلال الأيام الثلاثة..؟“، ”حتى الشياطين نفسها لا تموت، فكيف تنسبون الموت إلى الله“. فيشرح المنبجي أنَّ إنكارنا بأنَّ اللهَ قد صُلب، سيقودنا إلى الاعتراف بأن الذي صُلب هو إنسان. ”وكيف يقدر موت إنسان أن يحيي العالم؟ بل كيف كان يقدر أن يغلبَ الموتَ مَن كان خاضعًا للموت“.[29] ثم ينتقل إلى الكلام حول أنه مات جسدانيًا  وهو حي بلاهوته. وينتهي إلى القول بإنالصليبُ هو الكاروزُ بموت الله وبعدم مماته في آنٍ واحد. إنَّه أبطلَ الموتَ بموته، ومن المحال أن يَبطُل سلطان الموت بمائت. إنَّ عدم ممات الله لا يمنعنا من الإيمان بموته، كما أنَّ موته لا يضطرنا إلى أنكار عدم مماته.. لا نضع طبع الإله الكلمة تحت الألم، ولا نقول بموت إنسان غريب عنه“.[30]

6- سر التجسُّد وتجربة ابن الله

ننتقل لقضية أخرى كثيرًا ما أثارت الجدل، وهي أنَّ البعضَ يعتقد أنه لكيما يشابهنا الابن المتجسد في كل شيء، فلابد أن يخوض صراعاتنا بشكل حقيقي، وهذا صحيح، ولكن لا يكتفي البعض بهذا، بل يريدون أن يكون المسيح عُرضة للسقوط في الخطية أيضًا. والحقيقة أن الله يدرك عمق صراعاتنا بعلمه الكلي حتى قبل أن يتجسَّد. لكن يبقى السؤال، هل كان ممكنًا أن يسقط المسيح في الخطية؟ وهل تجربته من إبليس كانت حقيقية أم مسرحية؟

في واقع الأمر، واجه الآباء هذا الاعتراض مع الهرطقة الأريوسيَّة؛ إذ احتج الأريوسيون بآية مز 45: 7 ”أَحْبَبْتَ الْبِرَّ وَأَبْغَضْتَ الإِثْمَ، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ مَسَحَكَ اللهُ“، وقالوا إن الابن أخذ مكافأة الارتقاء لمرتبة ابن الله نتيجة اختياره البر، ومن ثم من وجهة نظرهم له طبيعة متغيرة، تنتقل من بغضة الإثم إلى محبة البر. يدحض ق أثناسيوس هذه الفكرة قائلاً ”فهي (الآية) ليست مثلما تفهمونها أنتم أنها تبيِّن أنَّ طبيعة اللوغوس متغيِّرة، بل بالأحرى فإنها تعني أنَّ اللوغوس غير متغير. لأنه بما أنَّ طبيعة المخلوقات متغيِّرة والبعض تعدوا الوصية والبعض الآخر قد تمردوا... كان هناك احتياجٌ إلى واحدٍ غير متغيِّر، لكي يحصل البشر على عدم تغيُّر بر اللوغوس“،[31] ويقول أيضًا وجب أن يكون آدم الثاني غير متغيِّر... فلكونه غير متغيِّر وثابت، تصير الحية عاجزة عن مساعيها ضد الجميع“. وبالتالي تنتقل هذه القوة إلى البشر. وبالتالي بينما رأى الآباء أنَّ البشرية تحتاج إلى الثابت في البر وغير المتقلقل في الصلاح، فإن احتمالية سقوط المسيح في الخطية لم تكن واردة أبدًا على ذهن الآباء.  

كما أننا نجد بعض التأكيدات على هذا من خلال شروحات الآباء على آية رومية 8: 3 ”شِبْهِ جَسَدِ الْخَطِيَّة“. أغسطينوس يقول ”جاء في الجسد، أي في في جسد شبه الخطية، لكنه ليس في جسد خاطئ“.[32] وأمبروسيوس نفس الشيء ”أخذ جسدنا لكن ليس له سقطات الجسد“.[33] كذلك ق باسليوس الكبير (ت 379م) تعرَّض لنفس الآية في معرض رده على أناسٍ قالوا بأنَّ الأهواء الشريرة مُررت إلى شخص الكلمة في تجسُّده. فقسَّم باسليوس الأهواء إلى نوعين: أهواء طبيعية ضرورية Natural Pathe وأهواء شريرة Evil Pathe ناتجة عن الإرادة المنحرفة. وقال إن المسيح اتخذ النوع الأول دليلاً على حقيقة ناسوته، ولكنه لم يأخذ النوع الثاني الذي لا يليق بألوهيته. ثم يقول ”لقد اتخذ جسدنا بانفعالاته الطبيعية، لكنه لم يخطئ. ومع ذلك كما أنَّ موتَ الجسد الذي انتقل إلينا من خلال آدم قد ابتُلع باللاهوت، كذلك الخطية أيضًا دُمرت تمامًا بالبر الذي في المسيح يسوع، بحيث نستعيد في القيامة جسدنا غير قابل للموت وغير خاضع للخطية“.[34]

ق كيرلس في شرحه لتجربة المسيح من إبليس يتحدث على أن المسيح كان ”ذاهبًا ليحارب لحسابنا“،[35] حتى تنتصر فيه -باعتباره آدم الثاني- طبيعتنا التي هُزمت في آدم الأول. كما صُعق ق كيرلس ممَن قالوا باحتمالية سقوط المسيح في الخطية، مطالبًا إياهم أن يبحثوا فيه عن أي مظاهر للضعف البشري. وأكَّد أنَّ المسيح كان لابد أن يدخل التجربة منتصرًا ليداوي آثار سقوط آدم، لكيما يسد ”فوهة الخطية، ويبطل معها قوة الموت كما لو كان قد يبس مِن جذره“.[36]  

جدير بالذكر أن هذا الموقف الرافض لاحتمالية سقوط المسيح في الخطية يتبناه صاحب ”اللاهوت النظامي“ واين جرودم الذي يقول ”لو كانت طبيعة يسوع البشرية قائمة بذاتها (لوحدها) لتواجدت الإمكانية النظرية المجردة بأنه كان ممكنًا أن يخطئ... لكن طبيعة المسيح البشرية ما وجدت قط بمعزل عن الاتحاد بطبيعته الإلهية“.[37] ماذا يعني هذا؟ جرودم يقول إنَّ أفعالاً مثل الجوع والعطش تخص ناسوته فقط، لكنَّ السقوط في الخطية يخص شخص المسيح بالكامل، وبالتالي مِن غير المتصور أن يسقط المسيحُ في الخطية؛ لأن الخطية فعلٌ أدبيٌّ يخص الشخص بأكمله. وكانت طبيعته الإلهية بمثابة ”مصد خلفي“ تمنعه من أن يخطئ، برغم من حقيقة التجربة التي دخلها وانتصر فيها.

 

خاتمة

هكذا فهمَ الآباءُ ما يمكن أن يُفهم مِن سِر التجسُّد العجيب، واستطاعوا بوعي وإيمان ثابتٍ وبلا تردد أن يقولوا: إنَّ غير المنظور صَار منظورًا، غير المحسوس صَار محسوسًا، غير المحوي صار جنينًا في البطن ومشي على الأرض، غير الزمني صار زمنيًا، غير المتألم تألم، غير المائت ومنبع الحياة مات على الصليب. كل هذا بجسده الخاص، ناسوته الذي استملكه، واتحد به أقنوميًا، بلا انفصام، وبلا اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير. فعلٌ إلهي/ إنساني واحدٌ، ناتجٌ عن شخصٍ واحدٍ، هو المسيح يسوع، ابن الله الكلمة المتجسِّد. له حمدنا وشكرنا وتمجيدنا وعبادتنا، إلى الأبد آمين.

(نُشر في مجلة النسور، عدد يناير 2022)

 



[1] باحث قبطي أرثوذكسي، حاصل على ماجستير الدراسات اللاهوتية، جامعة أجورا، الولايات المتحدة الأمريكية، وله العديد من الترجمات في مجال الدراسات الكتابية والآبائية.

[2]  ق أثناسيوس، ضد الأريوسيين، المقالة الأولى، الفصل العاشر، فقرة 36. حسب ترجمة المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، طبعة ثانية 2017، ص 100.

[3]  نفس المرجع السابق، ص 101.  

[4] ق إيريناؤس، ضد الهرطقات 4: 11: 2.  

[5] ق كيرلس السكندري، المسيح واحد، ترجمة د جورج عوض، ص 65.

[6] رسائل القديس كيرلس السكندري، الرسالة رقم 45، فقرة 6. حسب ترجمة المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2020، ص 183- 184.  

[7] Christopher A. Hall, Learning Theology with the Church Fathers, IVP, p. 90.

[8]  مرجع سابق، الرسالة رقم 45، فقرة 6.

[9] بطرس كرم صادق، التعاليم الخريستولوجية عند ديونسيوس الأريوباغي المنتحل، دورية مدرسة الأسكندرية عدد 26، ص 44.

[10] John of Damascus, De Fide Orth. III, 7.  

[11] Ibid.

[12] ق أغسطينوس، مدينة الله، الكتاب 7: 29.

[13] أوريجانوس، ضد كلسوس، الكتاب 4: 5، كما ورد في ترجمة هنري شادويك (Contra Celsum) ص 187، 188. بنفس المعنى يقول يوستين الشهيد نفس الفكرة تعليقًا على آيات في سفر التكوين يُقال فيها أن الله ”نزل“، فيقول ”لا ينبغي أن تظنوا أن الله الآب ذاته هو الذي نزل وصعد... رب الكل لا يأتي إلى أي مكان... بل يظل على الدوام في مكانه أينما كان.. وهو أيضًا لا يتحرك؛ إذ لا يحويه مكان“ (الحوار مع تريفو اليهودي، فصل 127).

[14] ق أثناسيوس، تجسد الكلمة، الفصل 17، ترجمة د جوزيف موريس فلتس، المركز الأرثوذكسي، 2017، ص 52، 53.

[15]  يمكننا التعرف على هذه الدراسة الشيقة لتوماس تورانس في كتابه (Space, Time and Incarnation) والذي تم ترجمته تحت عنوان ”حدث التجسد: قراءة فلسفية لحدث التجسد من منظور الزمان والمكان“ بمعرفة مدرسة الأسكندرية للدراسات المسيحية.

[16] ق أغسطينوس، الاعترافات، الكتاب 11: 13.

[17] ق أغسطينوس، عن الثالوث، الكتاب 5: 1: 2.

[18] ق كيرلس السكندري، تفسير إنجيل لوقا، عظة 5، ترجمة المركز الأرثوذكسي، ص 51، 52.

[19]  نفس المرجع السابق.

[20] ق اثناسيوس، ضد الأريوسيين، مقالة 3: 28: 52.

[21] ق أثناسيوس، ضد أبوليناريوس، ترجمة د جورج بباوي، 2016، ص 36، 37.

[22] ق أثناسيوس، ضد الأريوسيين، مقالة 3: 26: 32. 

[23] ق كيرلس، شرح تجسد الابن الوحيد، فصل 36، ترجمة د جورج حبيب بباوي، ص 50.

[24]  ق كيرلس، شرح إنجيل يوحنا، على يو 12: 28، ترجمة المركز الأرثوذكسي، ج2، ص 78.

[25] ق كيرلس، الكنوز في الثالوث، ترجمة المركز الأرثوذكسي، ص 367.

[26] مرجع سابق، شرح إنجيل يوحنا، ج 2، ص 50.

[27] ق كيرلس، الرسالة إلى نسطور 4: 5.

[28] تادرس يعقوب ملطي، نظرة شاملة لعلم الباترولوجي، ص 183.

[29]  الراهب روجيه أخرس، الرسائل العقائدية لمار فليكسينوس المنبجي، ج1، 2007، ص 101.

[30] أغناطيوس يعقوب الثالث، الأحاجي في جهاد مارفليكسينوس المنبجي، ص  38.

[31] أثناسيوس، ضد الأريوسيين، مقالة 1: 51.

[32] تادرس يعقوب ملطي، تفسير رومية، ص 152.

[33] نفس المرجع السابق، ص 153.

[34] St Basil, Letter 261.

[35] مرجع سابق، ق كيرلس، تفسير إنجيل لوقا، ص 75.

[36]  ق كيرلس، ضد الذين يتصورون أن لله هيئة بشرية، فصل 23، ترجمة د جورج عوض، 2013، ص 103.   

[37] واين جرودم، بماذا يفكر الإنجيليون في أساسيات الإيمان المسيحي، ج2، دار نشر إيجيلز جروب، ص 95- 96.