الأحد، 29 سبتمبر 2019

الصلاة الربانية- العلامة أوريجانوس



عن كتاب ”عن الصلاة“ ترجمة أبونا موسى وهبة، شبرا، من صفحة (51- 111).  
العلامة أوريجانوس بيسرد نص الصلاة كما جاء في متى ولوقا وبيرصد الاختلافات النصية ومناسبة الصلاة. وبيقول يبدو انه في لوقا التلميذ اللي طلب من المسيح أنه يعلمه الصلاة مكنش موجود ساعت ما قالها المسيح بعد الموعظة على الجبل. (ده شغل النقد النصي). ثم يتحدث عن أدبيات الصلاة قبل الخوض في شرح ”أبانا الذي“.. وبيقول ”الصلاة عند القديس.. ليس مجرد نزعة أو ميل طارئ ولكنها موضوع محبة قلبه“ (صفحة 54).
ثم يتحدث عن غلق الباب بمعنى غلق كل أبواب الحس.. وعن تكرار الكلام باطلاً باطلاً بمعنى أننا "لا نفحص ذواتنا.. ولا ندقق في الكلمات التي نقدمها في صلاتنا" (55). وبيقول حاجة غريبة جدًا: "من يرفع صلاته إلى الرب الساكن في السماء وفوق علو السموات ثم يطلب الأرضيات والماديات، إنما هو من الأمم الذين يكررون الكلام باطلاً" (56). ده معنى تكرار الكلام باطلاً من وجهة نظره.
أبانا الذي.. بيقول اوريجانوس إنه دور في العهد القديم ولم يجد فيها هذه الدالة.. مش بينكر وصف الله كأب.. ده موجود.. لكن ملقاش حد بيصلي بالدالة دي.. وبيقول إننا هنقول كده بس من خلال إيماننا بالابن.. الذي سيعلن لنا الآب.. وبيقول أوعى تظن إن الله في السماء فقط، بل هو يحيط بكل شيء. وهو هنا بيحارب بدعة التجسيم.. وبيشرح أنه في تعبيرات لا تفهم حرفيًا عن الله زي أنه كان بيمشي في الجنة، أو حتى اختباء آدم، أو الأغرب أن ربنا كان بيسأل "أين آدم؟".
ليتقدس اسمك.. بيقول أوريجانوس إزاي إنسان يصلي من أجل تقديس اسم الله وكأنه ليس مقدسًا.. وبالتالي بدأ يفسر الاسم ثم يعني إيه تقديسه. وبيقول في الكتاب المقدس أي حد بيطرأ عليه تغيير كان بيتغير اسمه (ابراهيم/ بطرس/ بولس)- لكن الله لا يتغير لأنه هو الكائن. ولا نعرف عنه سوى القليل أو الأقل من القليل. وبالتالي الصلوة دي معناها "يتقدس إداركنا له ومعرفتنا له وتصوراتنا عنه". ثم يناقش إن أحيانًا صيغة التمنى تُفهم كصيغة أمر. وأورد عن تاتيان اللي فهم عبارة "فليكن نور" على أنه نوع من التمني.. وبيقول إن ده غلط. التفرقة بين صيغة الأمر imperative عن التمنى optative شيء مهم.
ليأتِ ملكوتك.. بيقول لا يأتي ملكوت الله بمراقبة. وبالتالي معناها "لكي يقام في داخله ملكوت الله". والمسيح والآب يملكان في القلب.. زي ما قال إليه نأتي وعنده نصنع منزلاً. طب ليه نواصل الصلاة حتى لو لم تستجاب.. لأنه لو تحققت ستتحقق جزئيًا فقط في هذا العالم. بيقول كمان لا يمكن أن تقوم مصالحة بين مملكة الخطية ومملكة العالم (71).. وبيستشهد بآية "لا تملكن الخطية في جسدكم المائت"، بل نميت أعضاءنا.. "حتى يتمشى الله فينا كما في فردوس روحي". ولما يملك علينا يجعل جميع أعدائه فيناتحت قدميه.. لحد ما المسيح يقول فينا "أين شوكتك يا موت؟".
لتكن مشيئتك.. بيقول إن الطلبة دي مش موجودة في لوقا! (شغل النقد النصي). ومعناها حتى لا تتعارض أفعالنا مع مشيئة الله زي اللي حاصل في السماء. وينفع نقول عبارة "كما في السماء كذلك على الأرض" على بقية الطلبات. وبيقول كمان تفسير رمزي: السماء هي المسيح، والأرض هي الكنيسة. وبيقول صراحة أن في ناس هترفض التفسير ده.. لأن كمان عنده مشكلة إزاي نقول كما في السماء والسماء فيها أجناد الشر الروحية! وبيخرج من المأزق ده بأنه يقول "الأمر لا يتوقف على الحيز والمكان الذي يسكن فيه الإنسان، بقدر ما يتوقف على اتجاهات قلبه وميوله، حتى إن الإنسان وهو مازال على الأرض جسديًا يستطيع أن يكون مواطنًا في السماء" (75). "وما دام قلبه في السماء ويحمل صورة السماوي فهو لم يعد بعد أرضيًا" (76). لما تعمل نعمة الله في الخطاة نتحول جميعًا إلى سماء.
خبزنا الجوهري.. بيدحض أوريجانوس التفسير المادي- عكس ق كيرلس- واعتراضه أن ده عكس الصلوات الروحية اللي فاتت.. وبيقول كمان الكتاب بيقول اعملوا لا للطعام البائد. وان المسيح اتكلم عن نفسه على أنه الخبز النازل من السماء.. ولا يوجد ما يفوق الكلمة كغذاء للروح! أوريجانوس بيفهم كلمة "إيبي أوسيوس" super substantial أي فوق جوهري، بالمناسبة الأب بولس فغالي بيترجمها "فوجوهري"..
بيأكد أوريجانوس أنها كلمة مش دارجة ولم يستخدمها الفلاسفة اليونانيين. وبيقول مفيش غير كلمة قريبة منها في الكتاب المقدس هي "بيري أوسيوس" بمعن خاص.. عن شعب الله الخاص. وبالتالي هو شايف الخبز الجوهري هو الكلمة المتحد بجوهرنا.. بينما "بيري أوسيوس" معناها الشعب الملتصق بالله. ثم ينخرط في الكلام عن جوهر "أوسيا" الكون.. سواء جوهر غير مادي زي ما بيقول البعض (افلاطون)، أو جوهر مادي (ويقصد الأبيقوريين والرواقيين). وبالتالي يصل أوريجانوس إلى أنه الخبز الروحي اللي بيدي قوة ويكسب الروح صحة ونضارة.
الخبز هو شجرة الحياة.. وبيقول إن قصة إبراهيم رمزية لأن الملايكة كش بياكلوا فعليًا! لكن ممكن يشاركوا في الطعام الروحي مع البشر. حتى المسيح قال "أدخل وأتعشى معه". ثم يقول إن متى بيقول "اليوم" (semeron)، ولوقا بيقول "كل يوم" (kath hemeron). والمسيح هو أمس (الماضي كله) واليوم (الزمن الحاضر) وإلى الأبد. وأن الزمن كله عند ربنا زي اليوم الواحد بالنسبة لينا. وبالتالي حتى اللي هيصلي "أعطنا اليوم" فهو لا يطلب من أجل اليوم فقط!
اغفر لنا.. كما نغفر.. وبيعرف إن قراءة متى بتعني الديون وليس الذنوب. وإننا مديونين للناس بالمحبة.. ولو معلمناش نبقى مقصرين. وكمان إحنا مديونين تجاه أنفسنا واستخدام جسدنا.. ومديونين للمسيح اللي فدانا.. وللروح القدس.. وللملاك الحارس. وبيلمح أن نفس المعنى عن الواجبات الزوجية الواجبة بين الزوجين في 1كو7. كمان بيقول إن تعدياتنا منقوشة في عقولنا وهي بمثابة الصك ضدنا. وتُقدم في ساحة القضاء وقت الحساب. حتى قرائته لنص لوقا اللي بمعنى خطايانا بيقول إنها تُسمى خطايانا لأننا "نخطئ حين لا نؤدي ما علينا" (95).
لا تدخلنا في تجربة.. أوريجانوس بيقول كيف نصلي هذا وحياتنا على الأرض "ما هي إلا تجربة متصلة مستمرة"، وبالتالي بيقول لا نطلب عدم التعرض للتجارب على الإطلاق، "بل نطلب ألا نسقط تحت سلطان التجربة وقوتها" (101). هل الله يدخل في التجارب؟ هنا أوريجانوس بيتعرض لبدعة اتباع ماركيون والكلان عن أن فيه إلهين صالح/ وعادل. ثم يذكر قصة بكاء الشعب ورغبته في البرية أنه ياكل لحم.. وربنا بعتلهم المن والسلوى.. لحد ما كرهته نفوسهم. وده معناه لحد ما ماتت شهوتهم للحم. وبيقول إن نفس الشيء عقوبات ربنا هي بهدف التطهير.. حتى عقوبات النار الأبدية (ده فكر أوريجانوس دايمًا.. وكتير من الدارسين بيلقبوه بالمتفائل الأبدي.. وأغسطينوس بيسمي عقيدته "وهم الرأفة السمحاء").
 ثم ينتقل للكلام عن فوائد التجربة في حياتنا..وأنها بتكشف اللي في قلوبنا (تث 8: 3، 15). وبيقول إن تجربة حواء كشفت اللي في قلبها بقاله وقت طويل! وده اللي عرف الحية بأنها ممكن تسمع كلامها.. وكمان تجربة يوسف اظهرت عفته.. علشان كده في أوقات الراحة بين التجابر علينا أن "نعد أنفسنا لما قد يواجهنا منها" (107).  أخيراً واضح إن شرح أوريجانوس هو الأكثر دسمًا وتعقيدًا وتركيبًا في كل النصوص اللي قريتها عن الصلاة الربانية.

الصلاة الربانية- ق يوحنا ذهبي الفم



من كتاب أحد الرفاع- ترجمة جزء من تفسير متى لذهبي الفم بمعرفة د جورج عوض، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، من ص14- 25.
أبانا الذي في السموات... ذهبي الفم بيقول من يدعو الله أبًا ”يقر بالعلاقة الحميمة بالابن.. وعطية الروح القدس“. ولما بيقول في السماويات ”لا لكي نحصر الله هناك بل ليرفع عيني المصلي عن الأرضيات“. ثم يشير إلى صيغة الجمع علشان يعلمنا أن نصلي لأجل الجسد الواحد. كلمة أبانا بتلغي كل الفوارق اللي بين الناس.. مفيش غني وفقير سيد وعبد. فيما بعد بيقول ذهبي الفم ”مَن هو خارج الكنيسة لا يستطيع أن يدعو الله أبًا“.
ليتقدس اسمك.. بيركز على أنه لما يرى الناس أعمالنا الصالحة هيمجدوا آبانا الذي في السموات. وبالتالي ليتقدس معناها ليتمجد.
ليأتِ ملكوتك.. بلاش ننخدع بالأمور المنظورة. من لديه باكورة الروح، ”من لديه هذا الشوق، فلا أمور الحياة الصالحة يفتخر بها، ولا المؤسفة تقلل من قيمته، لكن كأنه يوجد في السماوات وقد تخلص منهما كليهما“.  
لتكن مشيئتك.. ”علينا أن نظهر هنا بما سنكون عليه في السماء“. وبينصحنا ذهبي الفم بأننا نجعل الأرض سماءً.. ودي برضو طلبه بصيغة الجمع، لأن ربنا عاوزنا نسعى ”لتبديد الضلال ونزرع الحق ونقتلع كل شر“.
خبزنا اليومي.. ذهبي الفم بيقول ”حسنًا من أجل خبزنا اليومي، حتى لا ننشغل بخبزنا الذي للغد“. لذلك أضاف أعطنا اليوم.. حتى لا نقلق ذواتنا بالانشغال باليوم التالي، ووصية ربنا لا تهتموا بالغد.
اغفر ذنوبنا.. بيلمح ذهبي الفم لمشكلة تأجيل البعض للمعمودية.. فبيقول إن الطلبة دي معناها إن غفران الخطايا متاح حتى بعد المعمودية. عدم الغفران للآخرين بيعتبرها ذهبي الفم خيانة (نكران) للخلاص اللي خدناه. والنص بيقول الشرير وليس الشرور. علشان يعلمنا ننقل عداوتنا من البشر لإبليس.. بيقول الشر مش طبيعتنا لكنه نتيجة اختيارنا، لكن جه عند إبليس وقال هو دايمًا شرير بسبب شره الزائد! لم يقل من تكوينه.
لأن لك الملك.. بيربطها باللي قبلها ويقول إن الشيطان اللي بيحاربنا هو أيضًا تحت سلطان.. ميقدرش يهاجم أحد من عبيد الله إلا بتصريح منه.. ومش بس سلطان على عبيد الله.. بل حتى الخنازير.
والقوة.. لو كنت ضعيف احصل على الشجاعة منه..  والمجد.. هيخلصك ويمجدك أيضًا.
الصلاة الربانية- ق كيرلس الأورشليمي

في سلسلة اقدم النصوص المسحية من صفحة 408-411 في عظة بعنوان ”عن القداس الإلهي“.. بيشرح كيرلس الأرورشليمي باختصار الصلاة الربانية.
اللافت للنظر أنه بيقول في ليتقدس اسمك أن الخطاة يهينون اسم الله.. وبالتالي معناها ليتقدس اسم الله فينا. وعن خبزنا كفافنا.. بيقرأها ”خبزنا الجوهري“، وبيقول إن الخبز العادي ليس بجوهري. ”الخبز الجوهري هو الخبز المقدس الذي يوزع لغذاء النفس، ولا ينزل إلى الجوف لكنه لفائدة النفس والجسد“.. (406). بيقرأ لا تدخلنا في تجربة بأنها لا تدع التجارب تغمرنا.. وبيستشهد بسيراخ اللي بيقول ”الذي لم يختبر يعلم قليلاً“ (سي34: 10).

الثلاثاء، 24 سبتمبر 2019

الصلاة الربانية - ق. كيرلس السكندري



من عظة 70- 77 من إنجيل لوقا
ترجمة د. نصحي عبد الشهيد من صفحة 340- 385
عظة (70): في البداية يقول كيف يصلي المسيح وهو لديه كل ما للآب، وإحنا بنقول عنه ”من ملئه نحن جميعًا أخذنا“، فكيف يحتاج لشيء. للإجابة على ذلك يقول بحسب التدبير في الجسد فهو يمارس الأعمال البشرية.. المسيح أكمل البر البشري. وليعلمنا ألا نتراخى في هذا الأمر. ”من الصواب أن يكون رأسنا ومعلمنا في كل عمل صالح“، ”إذا رأيته يصلي، فذلك لكي تتعلم أنت كيف تصلي“.
عظة (71): أبانا الذي- يا للجود الفائق! الله يرفع العبيد إلى كرامة الحرية ”واهبًا لنا بنعمته ما لم نكن نملكه بالطبيعة“. ”أدخلنا في مرتبة البنين“ بالولادة الروحية. والمسيح باتخاذه صورتنا وهبنا ما له. ”كما أنه في التدبير نقل إلى نفسه ما هو لنا، هكذا أعطانا أيضًا ما هو له“. هذه الحرية وهذه البنوة أعظم ما أخذنا منه.. ولازم سيرتنا تكون مقدسة وبلا لوم، ”كما يرضي أبانا- ولا نفكر في شيء أو نقول شيء لا يليق أو لا يتناسب مع هذه الحرية“. ثم يربط ق كيرلس مع 1بط 1: 17 ”إن كنتم تدعون أبًا.. فسيروا زمان غربتكم بخوف“، وبالتالي ”عِش الحياة التي ترضيه“.
عظة (72): ليتقدّس اسمك... بيقول إحنا مش بنصلي علشان نضيف المزيد من القداسة لله.. هذا أمر سخيف وغير معقول، لكنه يذكر لا 10: 3 اللي بتقول سأتقدس في أولئك الذين يقتربون مني- وبالتالي معناها: ليت يُحفظ إسمك مقدسًا فينا.. ويقصد كمان أنه يتقدس في التس اللي لم تحصل بعد على نور الحق لأنه لم يظهر لهم بعد أنه قدوس.. ومعناها كمان لنعترف أنه قدوس بالطبيعة.
عظة (73): ليأتِ ملكوتك.. الله ملكوته أبدي.. وبالتالي هل نطلب مجيئه في نهاية العالم كديان لدينونة العالم التي هي مرعبة، نعم حتى لا نحيا بإهمال ولا بانحلال- بل يعيشون بحسب مشيئته.. لكن الأشرار لا يناسبهم أن يصلوا هكذا. في المقابل القديسون يشتهون مجيئه علشان هيتمجدوا في هذه الدينونة؛ لأن عندهم ثقة.
عظة (74): لتكن مشيئتك.. معناها عيشة زي الملايكة اللي بينفذوا مشيئته.. ودي هي الحياة بالإنجيل.. هي صلاة من أجل توقف الخطية. وأن يحيا الجميع في قداسة وتقوى، ويتمثلوا بالجمال الروحي للملائكة.
عظة (75): أعطنا اليوم.. في ناس بتعترض على التفسير الحرفي لكن ق. كيرلس بيقول أنا مع التفسير الروحي ولا لوم عليهم البتة. ثم يقول إن الخبز يوصف بكلمة ”إيبي أوسين“ في اليونانية اللي معناها ”الآتي“ أو ”الذي للغد“ بمعنى الذي سنعطى في العالم الآتي. ولكن إزاي يتفق المعنى ده مع إضافة عبارة ”كل يوم“. وبالتالي ترجمة ”إيبي أوسين“ معناها ما هو ضروري وكافٍ. وبالتالي لما بنقول كفافنا فده معناه تحررنا من شهوة الغنى.. ويشبه المحارب في المعركة اللي مش بيشيل معاه أي شيء فوق الحاجة.
عظة (76): اغفر لنا ذنوبنا.. وبيقول الله يترأف على اللي مش بيتناسى ذنوبه، وعادل على قساة القلوب. مين يقدر يقول أنا بريء من الخطايا- الصلاة فيها اعتراف إنه ديّان.. لكن اللي متلذذ بالبقاء في الشر لا يحق له أن يصلي هذه الصلاة.. لكن تناسب الإنسان اللي بيحارب الغضب وبيغفر للآخرين.
عظة (77): لا تدخلنا في تجربة.. بيقول إن متى يضيف لكن نجنا من الشرير. ثم يسأل: هل الطلبة دي تعبر عن الجُبن وتجنُّب الجهاد للحصول على الإكليل؟ ما معنى تفادي التجربة؟ ده المحارب الشجاع أو الرياضي المحنك لا يُعرف في حالة السّلم بل الحرب.. خاصة إن المسيح نفسه قال: ادخلوا من الباب الضيق. ثم يجيب بأننا لازم نفكر في أنفسنا باتضاع.. المسكنة بالروح.. ”ولا نتصور دائمًا أننا سنتغلب على كل التجارب“، وإن ”عنف التجربة قد يهز أحيانًا عقل أشد الناس شجاعة“، و”لا ينبغي لأحد أن يثق في نفسه بزيادة“، ”ليكن لنا مخافة متزنة“، لما تفرض علينا نقبلها بشجاعة- ثم يذكر أنواع من التجارب، مثل البدع والهرطقات، والاضطهاد والاستشهاد، ثم حرب الشهوات. ثم يختم: ”إذا هاجمتك التجربة، فكن شجاعًا- ولا تقبل الهزيمة.. واقمع الجسد، والجم العقل، واطلب المعونة من الله“.

عدالة الله في مثل الفعلة؟


نص المثل:
فَإِنَّ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ يُشْبِهُ رَجُلًا رَبَّ بَيْتٍ خَرَجَ مَعَ الصُّبْحِ لِيَسْتَأْجِرَ فَعَلَةً لِكَرْمِهِ، فَاتَّفَقَ مَعَ الْفَعَلَةِ عَلَى دِينَارٍ فِي الْيَوْمِ، وَأَرْسَلَهُمْ إِلَى كَرْمِهِ. ثُمَّ خَرَجَ نَحْوَ السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ وَرَأَى آخَرِينَ قِيَامًا فِي السُّوقِ بَطَّالِينَ، فَقَالَ لَهُمُ: اذْهَبُوا أَنْتُمْ أَيْضًا إِلَى الْكَرْمِ فَأُعْطِيَكُمْ مَا يَحِقُّ لَكُمْ. فَمَضَوْا. وَخَرَجَ أَيْضًا نَحْوَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ وَالتَّاسِعَةِ وَفَعَلَ كَذلِكَ. ثُمَّ نَحْوَ السَّاعَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ خَرَجَ وَوَجَدَ آخَرِينَ قِيَامًا بَطَّالِينَ، فَقَالَ لَهُمْ: لِمَاذَا وَقَفْتُمْ ههُنَا كُلَّ النَّهَارِ بَطَّالِينَ؟ قَالُوا لَهُ: لأَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْجِرْنَا أَحَدٌ. قَالَ لَهُمُ: اذْهَبُوا أَنْتُمْ أَيْضًا إِلَى الْكَرْمِ فَتَأْخُذُوا مَا يَحِقُّ لَكُمْ. فَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ قَالَ صَاحِبُ الْكَرْمِ لِوَكِيلِهِ: ادْعُ الْفَعَلَةَ وَأَعْطِهِمُ الأُجْرَةَ مُبْتَدِئًا مِنَ الآخِرِينَ إِلَى الأَوَّلِينَ. فَجَاءَ أَصْحَابُ السَّاعَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ وَأَخَذُوا دِينَارًا دِينَارًا. فَلَمَّا جَاءَ الأَوَّلُونَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أَكْثَرَ. فَأَخَذُوا هُمْ أَيْضًا دِينَارًا دِينَارًا. وَفِيمَا هُمْ يَأْخُذُونَ تَذَمَّرُوا عَلَى رَبِّ الْبَيْتِ قَائِلِينَ: هؤُلاَءِ الآخِرُونَ عَمِلُوا سَاعَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ سَاوَيْتَهُمْ بِنَا نَحْنُ الَّذِينَ احْتَمَلْنَا ثِقَلَ النَّهَارِ وَالْحَرَّ! فَأجَابَ وَقَالَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ: يَا صَاحِبُ، مَا ظَلَمْتُكَ! أَمَا اتَّفَقْتَ مَعِي عَلَى دِينَارٍ؟ فَخُذِ الَّذِي لَكَ وَاذْهَبْ، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُعْطِيَ هذَا الأَخِيرَ مِثْلَكَ. أَوَ مَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَفْعَلَ مَا أُرِيدُ بِمَا لِي؟ أَمْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةٌ لأَنِّي أَنَا صَالِحٌ؟ هكَذَا يَكُونُ الآخِرُونَ أَوَّلِينَ وَالأَوَّلُونَ آخِرِينَ، لأَنَّ كَثِيرِينَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ يُنْتَخَبُونَ“
من أصعب الأمثال بالنسبة لي مَثل الفعلة (مت 20: 1- 16)، وغالبًا الأمثال كلها صعبة (على خلاف المألوف) لأننا لو معرفناش ال focus بتاع المثل هنروح في حتت بعيدة جدًا عن الهدف المقصود من المثل نفسه..
لما تقرأ المثل هتلاقي حاجات بتأكد حرص صاحب الكرم على العدل:
1- المجموعة الأولى خالص من الصباح .. "اتَّفَقَ مَعَ الْفَعَلَةِ عَلَى دِينَارٍ فِي الْيَوْمِ".. يعني نوع من ال contract عقد عمل مشروط.. ويحق للفعلة دول أنهم يطالبوا بحقهم الطبيعي.. مش على سبيل صدقة ولا حسنة.. لأ.. لأن ده حقهم..
وأعتقد أن ده اللي قاله بولس في نص معقد جدًا في رومية لما قال: "أَمَّا الَّذِي يَعْمَلُ فَلاَ تُحْسَبُ لَهُ الأُجْرَةُ عَلَى سَبِيلِ نِعْمَةٍ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ دَيْنٍ" (رو4: 4). لكن للأمانة نص رومية محتاج توضيح كتير.. لكن بشكل عام فكرة الأجرة في بقية الكتاب المقدس موجودة.. فمثلا:
- مر9: 41 قال لتلاميذه اللي هيسيقكم كأس ماء بارد "لن يضيع أجره"
- رؤ22: 12 "هَا أَنَا آتِي سَرِيعًا وَأُجْرَتِي مَعِي لأُجَازِيَ كُلَّ وَاحِدٍ كَمَا يَكُونُ عَمَلُهُ"
أما الناحية التانية عن أجرة الخطية وأجرة الإثم.. فهتلاقي آيات كتيرة.
2- المجموعة الثانية من الفعله... حرص صاحب الكرم أنه يقول لفعلة الساعة الثالثة: "اذْهَبُوا أَنْتُمْ أَيْضًا إِلَى الْكَرْمِ فَأُعْطِيَكُمْ مَا يَحِقُّ لَكُمْ" (ع4)، وبتوع الساعة 6، 9 نفس الشيء.. وحتى بتوع الحادية عشر.. قالهم نفس التعبير "اذْهَبُوا أَنْتُمْ أَيْضًا إِلَى الْكَرْمِ فَتَأْخُذُوا مَا يَحِقُّ لَكُمْ" ..
تعبير ما يحق لكم.. معناه هتاخدوا ما تستحقون.. هتاخدوا حقكم.
يبقى المثل لحد دلوقت بيراعي العدل.. لكن إحنا كنا عايزين إيه.. يدي أصحاب الساعة الأولى: دينار واحد (وساعتها محدش كان هيفتح بوقه حسب الاتفاق المشروط)، واللي بعديهم مثلاً (نص دينار)، والأخرنيين خالص (حاجة بتاعة ربع دينار) حاجة زي كده.. وساعتها كانت القصة تبقى طبيعية جدًا..
لماذا كان تصرف صاحب الكرم مختلفًا (عن توقعاتنا)؟
في البداية عاوز أقول زي ما في أمثال بتركز على الرحمة وصلاح الله (زي المثل ده وزي مثل الابن الضال) في أمثال تانية بتركز على عدل الله ودينونته (العذارى الحكيمات والجاهلات، ومثل عرس ابن الملك).. وبالتالي الخروج باستنتاج ان التركيز على الرحمة معناه إلغاء العدل.. دي طريقة مش تمام في تفسير الكتاب.
في المقابل ليس المقصود من الكلام عن الأعمال أننا نمجد استحقاقنا كبشر لنعمة وعطية الله.. اللي هي أساس وجودنا في الحياة بالأساس. دي كمان طريقة مش تمام في فهم فكر الكتاب المقدس.
الواضح في المثل إن ربنا أعطى اصحاب الساعة الأولى حقهم.. ”يَا صَاحِبُ، مَا ظَلَمْتُكَ! أَمَا اتَّفَقْتَ مَعِي عَلَى دِينَارٍ؟“، وبالتالي تذمرهم لا يُبنى على أن في انتهاك للعدالة.. ولكن يُفسر على أنه طمع أكتر في كرم السيد صاحب الكرم. هذا قاله صاحب الكرم نفسه: ”أَوَ مَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَفْعَلَ مَا أُرِيدُ بِمَا لِي؟ أَمْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةٌ (حسودة) لأَنِّي أَنَا صَالِحٌ؟
المثل فعلاً فيه تركيز على نعمة ربنا... وعند الكلام عن النعمة مينفعش نتكلم عن النسبة والتناسب بمفهموم "عين بعين وسن بسن".. اللي هو 5= 5.. مثلاً.. في النهاية احنا هنروح السما ومفيش كمية من الأعمال الصالحة اللي توازي أو تعادل من حيث القيمة هذه العطية.
لكن خلي بالك أنا قريت جملة خطيرة جدًا هي (disproportion does not equal absence of proportion)، ومش عارف اترجمها ازاي.. بس فيما معناه أن عدم التساوي في النسبة لا يعني غياب التناسب من حيث المبدأ.. ده واضح في كلام المسيح لبطرس لما قاله تركنا كل شيء وتبعناك.. قاله تاخد مية ضعف هنا وفي الآتي. واضح ان العطية كبيرة جدًا بما لا يقارن بالتضحيات اللي عملها بطرس. لكن هذا لا يعني ان بطرس لم يضحي بأي شيء! نفس الشيء دخول السما.. منقدرش نشتريه بأعمالنا.. وهو نعمة من ربنا.. لكن ده مبيلغيش الأعمال.. والأكثر من كده أن نجم يمتاز عن نجم في المجد.. أكيد الفوارق دي مبنية على اساس مش ضربة حظ.
وإلا في المقابل هيكون ربنا معندوش أي معايير للي يكللهم بالكرامة.. لكن الكتاب بيتكلم عن الجهاد القانوني.. وبولس بيتكلم عن السعي وتكميل الإيمان.. وتمموا خلاصكم بخوف ورعدة.. وبالتالي في تفاسير رابينية بتقول: إن عدل الله مش عكس رحمته.. عدل الله ده عكس فكرة أنه يكون إله نزوي معندوش معايير (capricious).
Justice is not the opposite of mercy.... Justice, rather, is the opposite of caprice.  
وفي فرق إنك تقول ”هذا أعظم جدًا مما استحق يارب"، وانك تقول "أوكيه، طالما الموضوع معتمد على النعمة وليس الاستحقاق.. فلن أفعل شيء.. طالما في النهاية سأحصل على أجرة متساوية للجميع." في النهاية صاحب الكرم مرحش وزع فلوس في السوق.. وقالهم خليكوا هنا وهاديكم من نعمتي.. بل الجميع ذهبوا واشتغلوا حتى ولو بدرجات متفاوتة. وبالتالي المثل أنا شايفه بيصالح بين عدل ربنا ورحمته.. وأن عطية النعمة تبدأ بعد أن يتحقق العدل!

الخميس، 19 سبتمبر 2019

الكتاب المقدس والتعددية الدينية



مقدمة
لا أحدَ ينكر التعددية الدينية من جهة كونها ظاهرة طوبوغرافية؛ فلدينا أرقام وحقائق عن توزيعات سكانية تنتمي لأديان مختلفة. كذلك لا أحدَ ينكر أن التعددية الدينية مشرعنة في دساتير الديمقراطيات العلمانية الحديثة. لكننا حين نتكلم من الناحية اللاهوتية، من الصعب أن نقبل أن كل الأديان صحيحة في النهاية وبنفس الدرجة. يصف Keith Yandell الأديان بلغة طبية ويقول: ”كل دين يقترح تشخيصًا لمرض روحي عام وعميق ومُعطِّل لخبرة إلهية من نوع ما.. كما أنه يقترح علاجًا. على أن أي دين يكون صحيحًا إذا كان التشخيص صحيحًا والعلاج فعالاً“.[1] التشخيص المسيحي هو الخطية، والعلاج المسيحي هو الموت الكفاري للمسيح الإله المتأنسن. بالطبع هذا الاقتراح تراه أديانٌ أخرى تجديفًا أو كفرًا أو شركًا. وبالتالي لكل دين تشخيصه الخاص وبرنامجه العلاجي الذي يتعارض بشكل صريح مع أديان أخرى. فلا يمكن أن تكون كل التشخيصات والعلاجات صحيحة بآن واحد. ماذا يقول الكتاب المقدس؟ بشكل عام، هناك شواهد كتابية تبدو حصرية Exclusivistic بشكل مطلق وواضح، وشواهد أخرى قد يُستشف منها أنها شمولية Inclusivistic أي تشمل الآخر المختلف أيضًا. كيف نقرأ هذه وتلك ونستخرج موقفًا تجاه الآخر المختلف دينيًا في ضوء الإرسالية العظمى والوصية العظمة أيضًا.
شواهد كتابية حصرية
يقول السيد المسيح: ”أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي“ (يو14: 6). فهو لا يقول إنه يعلِّم الطريق بل يدعو نفسه الطريق الوحيد. يؤكد بطرس أيضًا هذا القول: ”لَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ الْخَلاَصُ“ (أع4: 12). وكذلك الرسول بولس: ”يُوجَدُ إِلهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ: الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ“ (1تي 2: 5). أي مؤسس لدين آخر قد يقول ”اتبعوا تعاليمي“، أمَّا يسوع فيضع نفسه كتجسيد للحق ذاته. هناك شواهد كتابية أخرى، تشير إلى تفرد شخص المسيح والمسيحية، على سبيل المثال، قال يسوع لنقوديموس: ”إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ“ (يو3: 5). ومِن ثم تزعم المسيحية أن معجزة التجسد هي السبيل الوحيد لعلاج بشرية فاسدة وساقطة ومتفككة الأوصال.
شواهد كتابية شمولية
يشير بعض الدارسين إلى وجود قديسين قبل اختيار الله لشعب بني إسرائيل كشعب خاص له، مثل هابيل وأخنوخ ونوح وأيوب وملكيصادق. كان هؤلاء أبرارًا وبعضهم رموزًا للمسيح من جوانب متعددة[2]. يشير Dupuis أن لاهوت اللوغوس عند آباء الكنيسة المبكرة يفسر وجود أبرار سواء من المؤمنين أو من الوثنيين قبل المسيح؛ إذ قالوا بإن اللوغوس يتجاوز ظهوره التاريخي في شخص يسوع المسيح؛ لأنه في التجسد صار اللوغوس بشريًا ومرئيًا، لكن هذا لا يعني أن اللوغوس لم يكن موجدًا قبل ذلك.[3] نرى مثلاً عند يوستين الشهيد (أحد الآباء المدافعين في القرن الثاني) فكرة بذار اللوغوس أو اللوغوسات البذرية (logos spermaticus ) ويقول: ”إن الذين عاشوا بالحكمة هم مسيحيون حتى ولو اعتبروا من الملحدين مثل سقراط وهيراقليدس ومن اليونانيين وغيرهم، ومن غير اليونانيين مثل إبراهيم وإيليا وحننيا وعزريا وميصائيل[4]. وبالتالي يربط يوستين بشكل ما بين المسيحية وبين كل باحث عن الحق في كل العصور السابقة على مجيء المسيح.
في العهد الجديد نجد قصة كرنيليوس في سفر الأعمال، وهو قائد مائة روماني وثني لكن قيل عنه إنه: ”تَقِيٌّ وَخَائِفُ اللهِ مَعَ جَمِيعِ بَيْتِهِ، يَصْنَعُ حَسَنَاتٍ كَثِيرَةً لِلشَّعْبِ، وَيُصَلِّي إِلَى اللهِ فِي كُلِّ حِينٍ“ (أع10: 2). وشهد بطرس على تقواه قائلاً: ”بِالْحَقِّ أَنَا أَجِدُ أَنَّ اللهَ لاَ يَقْبَلُ الْوُجُوه. بَلْ فِي كُلِّ أُمَّةٍ، الَّذِي يَتَّقِيهِ وَيَصْنَعُ الْبِرَّ مَقْبُولٌ عِنْدَهُ“ (أع 2: 34- 35). البعض يؤيد نظرة شمولية لكل مَن يتبع البر من أي دين، وآخرون يرفضون هذه القراءة لأنهم يرون أن قصة كرنيليوس لم تنتهي عند هذا الحد، بل في النهاية تعمّد كرنيليوس هو وأهل بيته. ولذلك القصة أصبحت حصرية في النهاية.
يعلق ذهبي الفم (أحد آباء الكنيسة في القرن الرابع) على قصة كرنيليوس كالتالي: ”المقصود بعبارة ‘يَتَّقِيهِ وَيَصْنَعُ الْبِرَّ‘ أي أن مَن له معتقد سليم عن الإله الواحد الحقيقي وله سيرة صالحة فإنه يكون ’ مَقْبُولٌ عِنْدَهُ‘.. لكن ربما من يقول: فماذا لو وُجِد أناس لهم صفات طيبة ولكن غير مؤمنين؟ حسنًا، هوذا أنت قلت بنفسك إنهم غير مؤمنين، لذلك لا نصيب لهم![5]. نستطيع أن نستنتج من هذا أن النمط السائد في العهد الجديد هو سماع رسالة الإنجيل ثم قبول الإيمان.
بعض الدراسين يخرجون عن هذا النمط الحصري ويشيرون على سبيل المثال إلى عهد الله مع نوح باعتباره عهدًا مع كل البشرية (تك 9: 10) حتى قبل اختيار الله لشعبه. يري Irving Greenberg  وهو لاهوتي يهودي أن عهد الله مع نوح يؤسس لعلاقة بين الخالق وخليقته مبنية على الحب وحفظ الحياة لجميع البشر وليس لشعب بعينة أو ديانة بعينها.[6]
من ناحية أخرى يقدِّم Theodore Hiebert قراءة جديدة لقصة برج بابل. ويزعم أن التشتت لم يكن عقوبة ولكن تحقيقًا لرغبة ووصية الله من البداية للبشر. ويقول إن التعددية ليست نتيجة لخطية الكبرياء أو تحدي الله كما اعتدنا أن نفهم.[7]  لأن الله أوصى في البداية آدم، ثم نوح، بأن يثمروا ويكثروا ويملأوا الأرض. هذه القراءة تقترح أن عهد الله مع نوح لايزال ساريًا حتى الآن ويمكن اعتباره أساسًا لخلاص أي أحد في أي مكان بأي ديانة أو ثقافة مختلفة!
لاهوت الإبدال Supersessionism
وهنا نأتي إلى سؤال مُلح: هل كل عهد يؤيد أم يبطل العهد الذي يسبقه؟ بعض آباء الكنيسة يتفقون بشكل ما على فكرة الإلغاء أو الإبطال، لأن عهد المسيح بدمه أعظم بكثير في تأثيره من كل العهود السابقة. إيريناؤس (أحد الآباء المدافعين في القرن الثاني) على سبيل المثال يذكر أربعة عهود أُعطيت للجنس البشري: الأول مع آدم، والثاني مع نوح، والثالث مع موسى، والرابع ”يجدد الإنسان، ويجمع في ذاته كل الأشياء بواسطة الإنجيل، رافعًا وحاملاً البشر على أجنحته نحو الملكوت السمائي“.[8] لا يستطع إيريناؤس أن يقول هذا الوصف عن العهود السابقة.
أفراهات الحكيم الفارسي (لاهوتي سرياني عاش في القرن الرابع) يقولها بصراحة في كتابه ”المقالات“: ”تبدلَّت الشريعة والعهد في كل شيء. أولاً بدَّل الله عهد آدم، ووهب عهدًا آخر لنوح. وأعطى أيضًا عهدًا لإبراهيم. وبدَّل عهد إبراهيم ووهب عهدًا آخر لموسى، وإذ لم يُحفظ عهد موسى، أعطى عهدًا آخر في جيل آخر، عهدًا لا يتبدَّل[9]. هذا العهد الأخير بدم المسيح لا يفوقه أي عهد آخر، بل يبدو أنه يجبُّ كل العهود السابقة.
أخيرًا يوستين الشهيد في حواره مع تريفو اليهودي يقول بإيجاز: ”وكما أن أي قانون جديد إذا تعارض مع قانون القديم فهو يُبطِل القديم، هكذا أيضًا العهد الجديد يحل مَحل القديم[10]. يوستين يتحدث بلغة قانونية ومصطلحات دستورية بدون لبس ويدعم ما يُسمى بلاهوت الإبدال أو الاستبدال replacement theology. على أننا نجدى صدى ذلك في رسالة العبرانيين: ”فَإِذْ قَالَ «جَدِيدًا» عَتَّقَ الأَوَّلَ. وَأَمَّا مَا عَتَقَ وَشَاخَ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الاضْمِحْلاَلِ“ (عب 8: 13).
الخلاص دون معرفة واعية بالمسيح
نأتي إلى اللاهوتيين المعاصرين، وتحديدًا إلى وليام لين كريج، في كتابه ”مستعدين لمجاوبة“ الذي يقول إن القديس بولس كتب في رسالة رومية أن الله وعد بأن يعطي حياةً أبدية للذين ”بِصَبْرٍ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ يَطْلُبُونَ الْمَجْدَ وَالْكَرَامَةَ وَالْبَقَاءَ“ (رو2: 7). هذه المكافأة تعتمد على تجاوب هؤلاء الناس مع الإعلان العام في الطبيعة وشهادة ضمائرهم بأنهم خطاة. يشرح كريج أن هذا ”عرض صحيح وحقيقي بالخلاص a bona fide offer “.[11]
ثم يواصل كريج ويقول: ”فإذا شعر شخصٌ ما بواسطة ضميره الشاعر بالذنب بأنه يحتاج للغفران؛ واندفع بنفسه نحو رحمة الله المعلنة في الطبيعة، فقد يجد هذا الإنسان خلاصًا. ولا يعني هذا القول إن الناس يستطيعون الخلاص بعيدًا عن المسيح، بل إن فوائد موت المسيح الكفاري يمكن تطبيقها على أناس دون معرفتهم الواعية بالمسيح“.[12] وفقًا لكريج فإن هذا يمثل خلاصًا بالمسيح بدون معرفة واعية بالمسيح. وهذا يمكن تطبيقه بأثر رجعي على رجال ونساء العهد القديم مثل أيوب وملكيصادق، وبأثر متقدِّم على أي إنسان لم يسمع بالمسيح لكنه شعر باحتياجه للغفران.
جون ستود أيضًا، اللاهوتي الإنجيلي، يقترح نفس الفكرة السابقة لمن لم يسمعوا ببشارة الإنجيل؛ فهو يقرُّ أولاً بأنه لا خلاص بدون المسيح، ثم يقول: ”في العهد القديم كان الإنسان يتبرر بالإيمان حتى وإن كانت له معرفة قليلة أو توقع غير كبير للمسيح. ربما اليوم هناك أيضًا مَن هم في وضع مشابه، ممن يعرفون أنهم مذنبون أمام الله، وأنهم لا يقدرون أن يفعلوا أي شيء ليحصلوا على نعمته، لكنهم في يأس من ذواتهم يدعون الله الذي يدركونه بشكل غامض ليخلصهم. إذا كان الله يخلص بهذه الطريقة.. فإن خلاصهم لا يزال من خلال المسيح وبالإيمان فقط.“[13]
 ما أستطيع أن أستخلصه مما سبق هو أن ما فعله آباء الكنيسة بأثر رجعي على الحقبة السابقة لمجيء المسيح، فعل بعض اللاهوتيين المعاصرين شيئًا شبيهًا به على الحقبة التالية لمجيء المسيح. يوستين وآخرون وظفوا فكرة بذار اللوغوس وقالوا من يعيشون وفقًا للحكمة يعتبرون مؤمنين بالمسيح حتى وإن كانوا ملحدين، لكنهم من ناحية أخرى لم يسحبوا هذه الفكرة على مَن يعيشون بعد انتشار المسيحية. بالطبع قد نتفق أو نختلف مع هذا الطرح أو ذاك، لأن المسألة ليست سهلة على الإطلاق.    
الإرسالية العظمى والوصية العظمى
أوصى يسوع تلاميذه بأن يذهبوا ويتلمذوا جميع الأمم (مت 28: 18)، وأوصانا أيضًا ”تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ“ (مت22: 39). في مجتمع تعددي كيف نطيع الوصيتين؟ الإجابة هي: أننا مطالبون بالشهادة للمسيح والتأكيد على مركزية المسيح وتفرده، ولكن في نفس الوت نعامل أي شخص مختلف عنا دينيًا بكرامة واحترام كرفيق لنا في الإنسانية وكحامل أيضًا للصورة الإلهية التي خلقنا الله عليها. في المقابلا، الحق مطلق، وإذا ما جعلناه نسبيًا انساب من بين أصابعنا.
خاتمة
الكتاب المقدس يقدم شواهد كثيرة حصرية تؤكد على فرادة شخص وذبيحة المسيح. لكنه في نفس الوقت يدعونا بطرق كثيرة إلى معاملة أي إنسان بالطريقة التي نحب أن نُعامل بها. المساواة بين الناس أمر ثابت في الكتاب المقدس. آباء الكنيسة، وبالأخص المدافعون الأوائل، حاولوا إثبات قدمية وتجذر الإيمان المسيحي في التاريخ الإنساني. واعتبروا أن أبرار العهد القديم عاشوا بحسب الإيمان المسيحي حتى وإن لم يعوا ذلك، أو بحسب معرفتهم القليلة جدًا بالمسيح المنتظر. من ناحية أخرى، وجدنا بعض اللاهوتيين الذين يطبقون منهجية مشابهة ولكن على أناس يعيشون بعد مجي المسيح ولم يسمعوا أبدًا برسالة الإنجيل. غير أن هذا الطرح ينطوي على صعوبة في تحديد المستفيدين منه وظروفهم خاصةً وأن رسالة الإنجيل أصبحت معروفة بفضل انتشار وسائل التواصل الحديثة. في كل الأحوال يعبر اللاهوتيون عن هذه المسألة بحذر وتواضع شديدين.  
(نشر هذا المقال على موقف sawtonline بتاريخ 26 أبريل 2019 تحت عنوان "هل كل الأديان تصف نفس المرض والعلاج؟" 





[1] Keith Yandell, “How to Sink in Cognitive Quicksand: Nuancing Religious Pluralism,” in Contemporary Debates in Philosophy of Religion, edited by Michael L. Peterson and Raymond J. Van Arragon (Oxford: Blackwell, 2004), 191.
[2] Jacques Dupuis, "Toward a Christian theology of religious pluralism", MaryKnoll, N. Y: Orbis Books 2001, chapter 1, pp. 29- 52. 
[3] Dupuis, "Toward a Christian theology”, pp. 60, 65.
[4] يوستين الشهيد، الدفاع الأول فصل 46،يوستينوس الشهيد والفيلسوف، ترجمة آمال فايز، بناريون، صفحة 74.  
[5]  يوحنا ذهبي الفم، شرح أعمال الرسل، ج1، ترجمة أنجيلوس البراموسي، مكتبة المحبة، 2011، صفحة 295.
[6] Cynthia M. Campbell, A Multitude of Blessings: A Christian Approach to Religious Diversity (Louisville, Ky: Westminster John Knox Press, 2006), 24.
[7] Cited in Cynthia M. Campbell, A Multitude of Blessings, p 20.
[8]  إيرناؤس، ضد الهرطقات، الكتاب الثالث فصل 11: 8، ترجمة د نصحي عبد الشهيد، المركز الأرثوذكسي لدراسات الآباء، صفحة 49.
 [9] أفراهات، المقالات 11: 11، ترجمة الخوري بولس الفغالي، دار المشرق بيروت، صفحة  179.
[10]  يوستين الشهيد، الحوار مع تريفو فصل 11، بناريون، صفحة 148.
[11]  وليام لين كريج، مستعدين لمجاوبة، أوفير، صفحة 315.
[12]  نفس المرجع السابق.
[13] John Stott, The Authentic Jesus (Basingstoke: Marshalls, 1985), 83.