الاثنين، 29 أبريل 2019

ما الذي يجعلني أؤمن بإله يغضب؟



ما الذي يجعلني أؤمن بإله يغضب؟ مع أن إنكار أن الله يغضب ممكن يخليني more cute أو مثقف أكتر.. لكني تعلمت أن أفحص الفكرة مرات كتيرة في حد ذاتها.. بصرف النظر عن ما يريد الناس أن يقولوه.  
1-  الكلام عن الله يكون بطريقتين: اللاهوت الأبوفاتي (apophatic) يصف الله بما ليس فيه فهو غير الموصوف غير المحوي غير المفحوص.. واللاهوت الإيجابي (cataphatic) اللي بيوصف الله بشكل مباشر، زي رحيم، رؤوف، بطيء الغضب.. وفي الإعلان الكتابي نفسه ورد عن الله أنه يغضب.. السؤال هنا: لماذا التوقف والمراجعة والاستدراك عند الآيات اللي فيها غضب ولا يحدث نفس الشيء عن الآيات اللي فيها حب وحنية..  زي مثلا ما يقوله سفر النشيد: ”حَوِّلِي عَنِّي عَيْنَيْكِ فَإِنَّهُمَا قَدْ غَلَبَتَانِي“ (نش 6: 5).. وسفر هوشع: ”قَدِ انْقَلَبَ عَلَيَّ قَلْبِياضْطَرَمَتْ مَرَاحِمِي جَمِيعًا“ (هو 11: 8). لأننا بنؤمن أن الله بيحبنا فعلاً فلماذا لا نؤمن بأن الله يغضب أيضًا فعلاً.
2-  إذا كانت الحُجة أن الله منزه عن الانفعالات، لأن الانفعالات والعواطف تنطوي على تغيير.. فلماذا لا ينطبق الكلام على محبة ورأفة الله أيضًا. لماذا التشكك فقط في انفعالات الغضب.. 
3-  إذا كان التفسير الصحيح لهذا هو أن اللغة رمزية أو تمثيلية أو قياسية.. بالقياس إلى الإنسان. فالسؤال هو رمز لماذا؟ الإجابة لشيء أسوأ. فمثلاً عندما نقول النار الأبدية ليست نارًا مادية.. حسنًا! هل كده ارتحنا؟ لا.. بل هي رمز لنار غير مادية ستكون أسوأ. ق يوحنا ذهبي الفم في الرسالة إلى ثيؤدور يقول: ”عندما تسمع عن النار لا تظنها كنار هذا العالم. لأن نار هذا العالم تحرق وتبيد ما اشتعلت به، أما تلك فتحرق على الدوام أولئك الذين أمسكت بهم.. لذلك دعيت لا تُطفأ".[1]  
4-  وردت في العهد القديم كلمة غضب من (400- 600) مرة- حسب ما قرأت في مراجع مختلفة- ووردت أيضًا في العهد الجديد أقل بكتير.. لكن مفيش في العهد الجديد ما يفيد أن إله العهد القديم مختلف عن العهد الجديد.. وإلا اعتبر الرافضين لغضب الله ماركيونيين جدد. ليه لأن ماركيون فرق بين إله العهد القديم وإله العهد الجديد على أساس أن الأولاني ديّان وغاضب والثاني صالح. يقول ق إيريناؤس: "وماركيون، لأنه قسّم الله إلى اثنين، قائلاً أحدهما صالح، والآخر ديان، وهو في الواقع وضع نهاية لله من الناحيتين. لأن الذي هو ديان، إن لم يكن صالحًا لا يكون إلهًا.. ثم من هو صالح، إن لم يكن له سلطان قضائي، سيصبح مثل السابق، أي محروم من صفة الإلوهية.[2]  
5-  من يقول إن المسيح هو المعيار الكامل للإعلان عن الآب بناء على آية ”اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ“، وأن الابن أظهر حبًا فقط، فهذه صورة ناقصة لأنه في العهد الجديد قيل عن المسيح في مر 3: 5 فَنَظَرَ حَوْلَهُ إِلَيْهِمْ بِغَضَبٍ، حَزِينًا عَلَى غِلاَظَةِ قُلُوبِهِمْ. المسيح نطق بالويلات زي ما نطق بالتطويبات.. المسيح زي ما شفى بلمسة إيديه.. نفس اليد هي اللي مسكت السوط وطردت الباعة وقلبت موائد الصيارفة. المسيح شخصيًا قال: في يو 3: 36 ”الَّذِي يُؤْمِنُ بِالابْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِالابْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ اللهِ“. نفس الكلام في قصة حنانيا وسفيرة (أع 5).. وهيرودس الذي ضربه الدود ومات (أع 12).
6-  أمّا عن الغضب الأخروي فحدث ولا حرج.. هذه بعض الآيات من سفر الرؤيا:
-     ”فَأَلْقَى الْمَلاَكُ مِنْجَلَهُ إِلَى الأَرْضِ وَقَطَفَ كَرْمَ الأَرْضِ، فَأَلْقَاهُ إِلَى مَعْصَرَةِ غَضَبِ اللهِ الْعَظِيمَةِ“ (رؤ 14: 19).
-       ”سَبْعَةَ مَلاَئِكَةٍ مَعَهُمُ السَّبْعُ الضَّرَبَاتُ الأَخِيرَةُ، لأَنْ بِهَا أُكْمِلَ غَضَبُ اللهِ“ (رؤ 15: 1).
-       ”سَبْعَةَ جَامَاتٍ مِنْ ذَهَبٍ، مَمْلُوَّةٍ مِنْ غَضَبِ اللهِ الْحَيِّ“ (رؤ 15: 7)
-       ”قَدْ جَاءَ يَوْمُ غَضَبِهِ الْعَظِيمُ. وَمَنْ يَسْتَطِيعُ الْوُقُوفَ؟“ (رؤ 6: 17)
-     اللي هيسجد للوحش ”سَيَشْرَبُ مِنْ خَمْرِ غَضَبِ اللهِ، الْمَصْبُوبِ صِرْفًا فِي كَأْسِ غَضَبِهِ“ (رؤ 14: 10).  
- بولس كمان بيقول أنك: ”مِنْ أَجْلِ قَسَاوَتِكَ وَقَلْبِكَ غَيْرِ التَّائِبِ، تَذْخَرُ لِنَفْسِكَ غَضَبًا فِي يَوْمِ الْغَضَبِ وَاسْتِعْلاَنِ دَيْنُونَةِ اللهِ الْعَادِلَةِ... (رو 2: 5). يوحنا ذهبي الفم بيقول في الآية دي غضب غير ناتج عن بغضة، وإنما عن دينونة عادلة.
-    هذا عن الغضب الأخروي.. هل يوجد غضب دنيوي؟ بولس بيقول: غَضَبَ اللهِ مُعْلَنٌ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى جَمِيعِ فُجُورِ النَّاسِ وَإِثْمِهِمِ“ (رو 1: 18).
ماذا قال الآباء عن غضب الله؟
الآباء بشكل عام كان عندهم اتجاهين في تفسير لغة الكتاب المقدس عن غضب الله. المقاربة الأولى شخصية (subjective) أي تتعلق بشخص الله، والثانية موضوعية (objective) أي تتعلق بالموضوع نفسه.[3] بحسب المقاربة الشخصية، الله لا يختبر مشاعر الغضب لكن البشر يختبرون تبعات العقوبات الإلهية كما لو كان الله غاضبًا منهم. وبالتالي حسب المقاربة دي بتركز على منظورنا إحنا من طرفنا إحنا كبشر.. لكن بتعتبر اللغة دي مجازية وكنوع من التكيف مع لغة البشر بغرض غرس التقوى فيهم. وبتركز على أنه لا يجب تفسير الغضب ده بشكل بشري.. لأن الله غريب تمامًا عن كل أنواع الاضطرابات. تبنى المقاربة دي آباء زي يوحنا كاسيان وأوريجانوس وأكليمندس.
المقاربة الموضوعية في المقابل بتقول الله بيشعر فعلاً بالغضب، لكن هذا الغضب لا يشبه الغضب البشري. لأن ربنا بيتحكم في انفعالاته وعمرها ما بتخرج عن السيطرة. هنا في تنزيه مش عن الانفعالات وإنما الضعف أمام هذه الانفعالات. غضب الله يليق بالله.. غضب ناتج عن حق.. عن بر.. عن قداسة.. ليس مفرطًا.. ليس فوق الحد.. ليس انتقاميًا.. ليس ساديًا.. حتى أنه بيقولنا "اِغْضَبُوا وَلاَ تُخْطِئُوا" (أف 4: 26)، وهو أيضًا يغضب ولا يخطئ. فهو لا يغضب أبدًا على إنسان بريء، وغضبه لا يخرج عن السيطرة مثلما يحدث معنا، وغضبة له غايات مقدسة وليس عن أسباب أنانية مثلنا.
تبنى المقاربة دي آباء زي أغسطينوس ولاكتانتيوس وذهبي الفم.. وفي تقاطعات كثيرة بين الفريقين فمثلاً: يقول ق أغسطينوس في (Enchridon): ”عندما نقول أن الله يغضب، فنحن لا ننسب إليه ذلك الشعور المضطرب كالذي يوجد في ذهن الإنسان الغاضب، لكن نسمي استياءه العادل ضد الخطية بالغضب، وهي كلمة منقولة بالمماثلة للمشاعر البشرية“. ويؤكد أن غضب الله هو نفور الله المستمر من الخطية والشر..
- لاكتانتيوس عنده مقاله بعنوان ”غضب الله“ بيرد فيها على النظرة الأبيقورية بأن الله في حالة "الأباثيا" أو الخلو من الانفعالات.. وفي نفس الوقت بيقاوم الرواقية اللي بتقول الله عنده انفعالات حلوة زي الحب ومعندوش انفعالات عنيفة زي الغضب. وبيقول الاثنين غلط. وبيقول عن الله ”حتى يكبح أخطاء الآخرين.. لابد أن يغضب، لأنه من الطبيعي لمن هو صالح أن يثور لخطأ الآخرين“. وبينادي لاكتانتيوس بالاثنين وبيقول مينفعش يبقى إله لو عنده واحدة من الاثنين. بل إن حبه ورأفته هي اللي بتخليه يتأثر ويتحرك عندما يرى الظلم.
هنا أتوقف عند موقف لاكتانتيوس ”من الطبيعي لمن هو صالح أن يغضب“.. غضب الله هو تعبير عن موقف الله من الشر.. وإذا قلنا أن هذه لغة تمثيلية أو قياسية.. فأقول بكل ثقة أن موقفه من الشر مخيف لأبعد درجة ممكنة  "مُخِيفٌ هُوَ الْوُقُوعُ فِي يَدَيِ اللهِ الْحَيِّ" (عب 10: 31). لأننا عندما نقول دي لغة رمزية فنحن لا نهون من الأمر.. الغضب البشري مهما كان مقدور عليه.. لكن الغضب الإلهي من يقدر عليه.

كوستي بندلي في كتاب (الله والشر والمصير) بيقول في ”نوعين من الشطط لا يقلان خطرًا أحدهما عن الآخر.. شطط تجاهل واستبعاد غضب الله من هواجسنا مما يؤول إلى تمييع صورة الله وبالتالي علاقتنا به، وشطط تأويله تأويلاً بشريًا بحتًا لا يقيم الوزن الكافي لجدة كشف المسيح لنا عن طبيعة الله الحق“.[4] (ص 170). نفس الشيء نرى الشطط الأول عند حد زي شلايرماخر اللي بيقول الله لا يغضب مطلقًا.. والشطط الثاني عند واحد زي جوناثان أدوادرز اللي بيقول ربنا بيمقتك وهيمسكك زي الحشرة على فوهة نار جهنم.. هذا شطط وهذا شطط.. بل يقول كوستي بندلي ”يجب أن ننقى الصورة من الإسقاطات البشرية العالقة بها دون التخلي عنها“.[5] انظر إنه يقول ننقي الصورة وليس التخلي عنها تمامًا. ويقول إن النظر للغضب الإلهي زي الغضب البشري لا يقيم الوزن الكافي لجدة كشف المسيح لنا عن طبيعة الله الحق.



[1] يوحنا ذهبي الفم، ستعود بقوة أعظم، صفحة 17.
[2] إيريناؤس، ضد الهرطقات، ج 2، الكتاب الثالث، فصل 25، ترجمة د نصحي عبد الشهيد، صفحة 120.
[3] Robin Parry, Lamentations, p. 194- 195.
[4] كوستي بندلي، الله والشر والمصير، صفحة 170.
[5] نفس المرجع، صفحة 148.

الثلاثاء، 23 أبريل 2019

عظة عن سبت الفرح- ق إبيفانيوس




دي عظة "عن سبت الفرح" للقديس إبيفانيوس أسقف قبرص
ترجمة د جوزيف موريس فلتس (حوالي 30 صفحة)
ق إبيفانيوس في شكل درامي يتأمل فيما فعله اليهود بالمسيح الصخرة.. ”رفعوا حجر الحياة على خشبة، فتدحرج عليهم وقتلهم“. قيدوه كمن يريدون تقييد شمشون. يوم الصليب كان يوم خلاص العالم بأسره: المنظور وغير المنظور. يوم double في كل حاجة: في محبة ربنا وفي افتقاده لينا.. نزل للأرض وما تحت الأرض. البعض بيستشهد بنص نزول المسيح للجحيم (1بط 3: 19) على أنه فرصة لخلاص الناس اللي في الجحيم (قال بهذا الرأي قليل من الآباء مثل إكليمندس السكندري)، لكن ق أبيفانيوس بيقول: ”أبنزول الإله إلى الجحيم يخلص الجميع بلا استثناء؟ لا، لأنه كما على الأرض، هكذا أيضًا هناك يخلص الذين آمنوا به“.
ق إبيفانيوس بيذكر عدد كبير من المفارقات في اليوم ده.. المسيح رفضه اليهود وقبله الأمم.. ولد في مزود بين حيوانين (ربما الإشارة هنا إلى حبقوق 3 "في وسط حيوانين عرفت")، وجمع شعبين، وكرز به في الناموس والأنبياء، وظهر بين موسى وإيليا على الجبل، وصلب بين لصين، وولد من العذراء والروح القدس، وملاك يبشر العذراء وآخر يبشر المجدلية، يُلف بالأقمطة ويُلف بالأكفان، يوسف النجار يخدمه ويوسف الرامي يدفنه، ولد من عذراء بتوليتها مختومة، وقام وأختام القبر لم تُفك.
ثم في حوار درامي جميل يوجه كلامه ليوسف الرامي الذي طلب من بيلاطس جسد يسوع ليدفنه.. ويقول: ”دخل المائت (يوسف الرامي) إلى المائت (بيلاطس) ليطلب الإله المعطي الحياة“. ”جبلة تطلب من جبلة أن تأخذ جابل الكل.. كأن قطرة ماء تطلب من قطرة أخرى أن تعطيها المحيط كله“. يتخيل ق إبيفانيوس حوار الرامي مع بيلاطس قائلاً له: ”أعطني جسد هذا الغريب.. الذي جاء من كورة بعيدة ليخلص الإنسان المتغرب.. لأننا لا نعرف بلده.. ولا أباه.. ولا طريقة ولادته.. الغريب الذي ليس له أن يسند رأسه.. الذي تغرب في مصر“.
ويقول له: هل تعرف بالحقيقة يا يوسف ”من تسلمته.. ومن كنت تسمك بيديه.. ألم ترتعد.. أي خوف اعتراك.. كيف كان خشوعك.. هل دفنت ناحية الشرق وهو أصل كل شروق.. هل أغلقت عينيه؟؟؟“. ثم يتأمل الجحيم حيث هناك أدم وهابيل ونوح والآباء البطاركة والأنبياء.. وبيتخيلهم بيقولوا من المزامير مثلا: "من جوف الهاوية صرخت"، "من الأعماق صرخت.."، "أظهر وجهك علينا فنخلص"، "أخرج من الحبس نفسي". والمسيح سمع التضرعات دي وتحنن عليهم وحررهم.. تقدمه جبرائيل قائلاً: "ارفعوا أيها الرؤساء أبوابكم" ويصرخ ميخائيل "لتسقط الأبواب الدهرية". فاقتلعت الأبواب من أساستها.. وتحطمت الأقفال.. و”في تلك الساعة قطع المسيح رؤوس الطغاة“، وأخذوا يتساءلون "من هو هذا ملك المجد؟" من هذا الذي قهر سلطاننا، فيجيب الملائكة "الرب العزيز القوي.. في القتال".
أول ما شافه آدم داخل الجحيم بسلاح الظفر وهو الصليب قال لجميع الراقدين "ليكن ربي معكم جميعًا"، فأجابه المسيح "ومع روحك أيضًا". فالمسيح يقوله "استيقظ أيها النائم من بين الأموات.. أنا هو إلهك الذي صرتُ أبناً لك من أجلك.. هلم لنخرج من هنا.. انهض من نومك الدهري..“ ثم يقول له: ”انظر البصاق.. قبلته من أجلك لكي أعيدك إلى مجدك الأول. انظر اللطمات.. قبلتها لكي أصلح شكلك الذي تشوه.. انظر أثر الجلد.. انظر إلى يدي الممدوتين.. لقد ذقت المر من أجل أن أشفيك من اللذة المرة.. الحربة التي وجهت لجنبي رفعت السيف الموجّه عليك (تك 3: 24).