الأربعاء، 28 أبريل 2021

أسبوع الآلام: الاحتفال بالمسيح العريس

 


أحد الملامح التي لا يُسلط عليها الضوء، هو الاحتفال بالمسيح كعريس في أسبوع الآلام، وهذا من شأنه أن يغيّر نظرتنا لأسبوع الآلام من اعتباره أسبوع للنوح إلى أسبوع للفرح بالمسيح العريس. يؤكد هذا الملمح أيقونات للصلبوت يُكتب عليها الكلمة اليونانية (nemphios) أي ”العريس“، وبعض قراءات البصخة، مثل مت 22 ”مَثل عُرس ابن الملك“، ومَثل العشر عذارى، ونبوات كثيرة. 

(ملحوظة: استخدمت أفكارًا كثيرة وردت في الكتاب السابق Jesus the Bridegroom). 


لنبدأ جذور الحكاية، العهد القديم يصور الرب يهوه كعريس. كيف؟

1- فكرة العهد مرتبطة بأمانة الله تجاه شعبه، وعدم انجرار الشعب وراء آلهة أخرى. والكتاب بيوصف خطية الشعب لعبادتهم آلهة أخرى ”الزنا الروحي“، أي خيانة زوجية.

2- النبي هوشع بيوصف لينا ما حدث في البرية وقت الخروج كالتالي ”أَخْطُبُكِ لِنَفْسِي إِلَى الأَبَدِ“ (هو 2: 19). ولما ترجعي من عبادة الأوثان هتدعونني ”بعلي“. ربنا قال لهوشع اتجوز من جومر، المرأة الزانية، ليبين استعداد الله أن يعيد زوجته الخائنة مرة أخرى لعهد الزواج.

3- في إرميا ربنا بيقول روح ونادي أورشليم وقولها ”ذَكَرْتُ لَكِ غَيْرَةَ صِبَاكِ، مَحَبَّةَ خِطْبَتِكِ، ذِهَابَكِ وَرَائِي فِي الْبَرِّيَّةِ“ (إر2: 2).

4- سفر النشيد، المفسرين اليهود كلهم بيقرأوا سفر النشيد على أنه رمز لزواج الله بشعبه، وليس قصيدة غزلية، ولا رمز أليجوري عن علاقة النفس البشرية بالله، لأن العهد القديم يبقدم إسرائيل كشعب على أنها زوجة يهوة. الرابي عقيبا بيرفض أي تفسيرات جنسية للسفر، وقال ”مَن يغني نشيد الأنشاد في وليمة، ويجعله أنشودة عادية، ليس له مكان في العالم الآتي“ (Tosefta, Sanhedrin 12: 10). وقال أيضًا ”كل العصور لا تساوي اليوم الذي أعطي فيه نشيد الأناشيد لإسرائيل. لأن كل الأسفار مقدسة، أما نشيد الأناشيد فهو قدس الأقداس“ (Mishnah Yadayim 3: 4). وبالتالي أصبح الحلم هو رجوع الشعب لله، في شكل وليمة عرس، هتحصل في العصر المسياني. وأصبح مشهد وليمة العرس مشهد مسياني أساسي.  

إذا تحولنا إلى العهد الجديد سنجد الآتي:

1- تلاميذ يوحنا سألوا يوحنا عن هويته، فأجاب ”مَنْ لَهُ الْعَرُوسُ فَهُوَ الْعَرِيسُ، وَأَمَّا صَدِيقُ الْعَرِيسِ الَّذِي يَقِفُ وَيَسْمَعُهُ فَيَفْرَحُ فَرَحًا مِنْ أَجْلِ صَوْتِ الْعَرِيسِ“ (يو 3: 29). وإذا ذهبنا إلى سفر إرميا سنجد أن دينونة الله للشعب كانت كالتالي ”وَأُبَطِّلُ مِنْ مُدُنِ يَهُوذَا وَمِنْ شَوَارِعِ أُورُشَلِيمَ صَوْتَ الطَّرَبِ وَصَوْتَ الْفَرَحِ، صَوْتَ الْعَرِيسِ وَصَوْتَ الْعَرُوسِ، لأَنَّ الأَرْضَ تَصِيرُ خَرَابًا“ (إر 7: 34). نفس الشيء يتكرر في إر 16: 9، إر 25: 10، لكنه في إر 33: 10، 11 في وعد برد السبي كالتالي ” هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: سَيُسْمَعُ بَعْدُ فِي هذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي تَقُولُونَ إِنَّهُ خَرِبٌ بِلاَ إِنْسَانٍ وَبِلاَ حَيَوَانٍ، فِي مُدُنِ يَهُوذَا، وَفِي شَوَارِعِ أُورُشَلِيمَ الْخَرِبَةِ... صَوْتُ الطَّرَبِ وَصَوْتُ الْفَرَحِ، صَوْتُ الْعَرِيسِ وَصَوْتُ الْعَرُوسِ، صَوْتُ الْقَائِلِينَ: احْمَدُوا رَبَّ الْجُنُودِ لأَنَّ الرَّبَّ صَالِحٌ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ“. ويوحنا كأنه بيقول هذه الزيجة على وشك الإتمام في المسيح، وهو صديق العريس الأشبين، الذي يشرف على تجهيز العروس والشاهد الأساسي على هذه الزيجة.

2- في مت 9: 14- 17 ذهب إليه تلاميذ يوحنا وسألوه ليه إحنا بنصوم وتلاميذك مش بيصوموا فقال لهم ”هَلْ يَسْتَطِيعُ بَنُو الْعُرْسِ أَنْ يَنُوحُوا مَا دَامَ الْعَرِيسُ مَعَهُمْ؟ وَلكِنْ سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ الْعَرِيسُ عَنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ“. أصل الكلام ده إن العرس اليهودي كان بيستمر 7 أيام، وخلال الأسبوع ده بيكونوا معفيين من أي التزامات دينية حتى إتمام الزواج. وفي آخر الأسبوع يدخل العريس غرفة الزيجة (الخدر) والتي بحسب كتابات يهودية تشبه القدس في الهيكل من خلال المقاسات والديكورات (Mishnah Baba Bathra). ثم لا يخرج إلا في الصباح التالي. لذلك كاتب المزمور يشبه الشمس في شروقها في الصباح ”مثل العريس الخارج من خدره، يتهلل مثل الجبار المسرع في طريقه“ (راجع مز 19). لذلك نجد ق أغسطينوس يقول ”مثل العريس خرج المسيح من خدره.. فقد جاء إلى الصليب فراش زيجته، وعندما اعتلاه أتم زواجه“.

3- في عرس قانا الجليل، المسيح بيبدأ خدمته في عرس، والعذراء بتقوله ”ليس لهم خمر“. ويقولها لم تأتِ ساعتي بعد، لأنه على الصليب ستتم الزيجة. ورئيس المتكأ لما بيذوق بيسأل عن ”العريس“ لأنه المسؤول عن الخمر، لكن الخمر كانت هي خمر المسيح.


4- السامرية قصة مليانة بالأسرار. المقابلة عند البئر فيها سر، راجل غريب مع امرأة عند البئر، مشهد بحث عن عروسة. كما حدث مع عبد إبراهيم ورفقة، ويعقوب وراحيل. السامرية متزوجة من قبل 5 أزواج، وهي بالتالي أبعد واحدة تُرشح كزوجة مناسبة، زي سارة امرأة طوبيا، لكن المسيح الزوج الحقيقي للنفس جاء يطلب نفسها ويعدها بالماء الحي. ميثوديوس الأوليمبي قال إن السامرية هي رمز للكنيسة التي تركت آلهة كثيرة وتزوجت بالمسيح.

5- نأتي ليوم خميس العهد ليؤسس المسيح عهد الزيجة الجديدة، والمهر هو دمه الكريم. ”اشْرَبُوا مِنْهَا كُلُّكُمْ، لأَنَّ هذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا.وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي مِنَ الآنَ لاَ أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ هذَا إِلَى ذلِكَ الْيَوْمِ حِينَمَا أَشْرَبُهُ مَعَكُمْ جَدِيدًا فِي مَلَكُوتِ أَبِي“ (مت 26: 28، 29). حين تأخذ العروس الكأس من يد الراغب في زواجها، فهي تعلن موافقتها. ثم يقول أنا ذاهب لأعد لك مكانًا، في بيت أبي منازل كثيرة، للمدعوين. لا ننسى أن اليهود رفضوا المجيء إلى عرس ابن الملك (مت 22) ومن لم يكن عليه ثياب العرس طُرد إلى الخارج.

6- نأتي إلى الجمعة العظيمة. كيف تتفق دموية هذا اليوم مع مشهد العُرس؟ تظهر صورة الزفاف في الأمور الآتية: 1- إكليل الشوك: الإكليل مش للملك فقط، لكن للعريس أيضًا، العريس ملك ليوم واحد! 2- القميص غير المخيط، من ملابس الكاهن، والعريس كاهن عائلته. 3- الدم والماء المتدفقين من جنبه. وزي آباء الكنيسة ما علمونا إن كما تشكلت حواء من جنب آدم بمعجزة، تشكلت الكنيسة من جنب المسيح بمعجزتين (المعمودية والافخارستيا).  

الأربعاء، 14 أبريل 2021

دفاع الصفات في الميزان - ج5

 

8- هل المحبة جوهر الله أم صفته؟

هذا السؤال ينطوي على مفارقة غريبة! فدكتور جورج استدعى كل أسلحته ليجعل من ”دفاع الصفات“ بمثابة تفريغ لكل العقائد التي جاءت مع المسيحية. حتى أنه قال إن الوعظ بثالوث الصفات هو بمثابة تفريط في الإيمان بعد 1600 سنة من المعاناة.[1] فضلاً عن أن هذا الفهم للثالوث ينزع سر الثالوث، ويجعل الله وثنًا قابلاً للفحص، ويمثل إضاعة لأبوة الله ولأخوتنا للمسيح.[2] كل هذا لأن هذا الشرح للثالوث يخلط بين الأقنوم، الذي هو الشخص، والصفة مثل العقل والحياة. وها هو بنفسه يقع في نفس الشيء الذي يفنده، ألا وهو الخلط في مسألة المحبة. والسؤال الهام هو: هل المحبة جوهر الله أم صفة من صفاته؟!

يقول د جورج ”ولكن هؤلاء الوعاظ يقولون إن الآب كائن بذاته، وناطق أو عاقل بالابن، وحي بالروح القدس! ونقول مرة ثانية إننا لم نجد هذا الشرح عند الآباء، وعلينا أن نتأمل المحبة كائنة بذاتها ناطقة أو عاقلة بالابن وحية بالروح القدس“.[3] هل يريد د جورج المحبة كائنة بذاتها؟ إنه يؤكد مرات كثيرة إن ”المحبة هي جوهر الله وطبيعته“.[4] وأنا أقول إن هذه لغة شعرية peotic وليست لغة لاهوتية أو أكاديمية منضبطة. كل كتب اللاهوت النظامي تشرح إن ”الله محبة“ (1يو4: 8) باعتبار المحبة هي إحدى صفات الله الأدبية أو الأخلاقية والتي يمكن أن تندرج أسفلها صفات أخرى مثل الصلاح، ورحمة الله ونعمته، وطول أناته. وهي صفة، حتى وإن تجلت بأكثر إشراقًا في العهد الجديد، إلا أن صفات الله جميعها كاملة. ومن هذا الجانب لا يمكن تمييزها عن قداسة الله وعدله وأي صفات أخرى.

القديس كيرلس الأورشليمي يؤكد هذا المعنى إذ يقول: الله ”يُظهر طاقات لاهوته بألف كيفية.. لا زيادة فيها ولا نقص.. فهو ليس عظيمًا في الصلاح فقط مع بقائه قليل الحكمة، ولكن قدرته متساوية في الحكمة والصلاح“. ثم يقول ”هو كامل في القوة.. كامل في العظمة.. كامل في الصلاح.. كامل في العدل... كامل في الرحمة“.[5]


وبالتالي المحبة ليست ”جوهر“ الله بمعنى ”الأوسيا“؛ لأن الأوسيا، أو الحقيقة الميتافيزقية هي أن الله ”روح“ (يو4: 24). لكن د جورج يتحدث عن المحبة كأنها جوهر الله الأوسيا أو حتى كأقنوم شخصي، فيقول ”المحبة التي لا تفهم ولا تدرك ليست محبة بالمرة“.[6] ويقول أيضًا ”المحبة تحتاج إلى وجود وحياة وإرادة وحرية“. والحقيقة أن المحبة واحدة من بين الصفات الإلهية، والله كشخص هو مَن يحتاج لمثل هذا الصفات حتى يكون الله؛ ليس المحبة فقط بل القداسة والعدل أيضًا.

الحديث عن المحبة يدغدغ مشاعرنا فنتصور كأن المحبة شخص لابد أن يكون لها عقل يفهم! ما يفعله د جورج هنا أنه جعل المحبة، التي هي صفة، شخصًا على طريقة الأنثربومورفيزم أي التجسيم في صورة شخص. والأمر خلاف ذلك تمامًا. المحبة ليست سوى صفة، بجوار صفات أخرى من صفات الله كالقداسة والعدل. د جورج يتهم بخصومه بأنهم مهتمون فقط بصفات الوجود والعقل والحية، و”غيرها من صفات هو غير مهم بالمرة بما فيها القداسة والمحبة!!“.[7] وهذا اتهام خطير فيه تفتيش للنوايا، الجميع يقولون ”قدوس قدوس قدوس“، ويقولون إنه لا شيء يبقى سوى محبة الله. فلماذا هذا الاتهام القاسي؟!

لكن الأخطر هو التحدث بلغة شعرية في مسألة لاهوتية خطيرة كموضوع الثالوث. الصفة ليس جوهر ولا أقنوم، بل هي صفة أدبية من صفات الله المتعددة الأخرى. وأرى في ذلك مفارقة غريبة، إذ إنه يرفض وصف الأقانيم بالصفات، فإذ به يصف الجوهر بالصفات. وإذا كان بحسب زعم د جورج أن وصف الأقانيم بالصفات يحيلنا إلى السابلية، أو القول بأقنوم واحد. فهذا أفضل بكثير من أن يتحول جوهر الله إلى صفة مجرد، ولا يعد الله بعد شخصًا يهتم بنا أو حتى يسمعنا. لكني لن أفترض سوء النيه في د جورج كما فعل في خصومه، وسأكتفي بالقول إنه يتحدث بلغة شعرية تمثيلية قياسية، وليس أكثر.

 

9- هل هو شرح شرقي سكندري أم غربي؟

لطالما نادى د جورج باللاهوت الشرقي وبالأخص السكندري. لكن ما هو الشرح الثالوثي الذي يفضله، وإلى أي تقليد ينتمي هذا الشرح؟ يعتمد د جورج على توحيد الجوهر، ولأن المحبة عنده هي الجوهر، فيسميه ”توحيد المحبة“،[8] وقد أوضحنا من قبل أن هذه لغة شعرية أو صوفية إن شئت، وليست لغة يصح أن تُكتب في دروس العقيدة. لكنه ينطلق في شرح الثالوث من وحدة الجوهر، وهذا معروف أنه ينتمي للتقليد الغربي أكثر من الشرقي! ومن جهتي أحب التقليد الغربي لأن الكنيسة كانت واحدة جامعة رسولية في القرون الخمسة الأولى. فليس لدي مشكلة مع الشرح الغربي، لكني أريد أن أقول لأحباء د جورج، تمهلوا قليلاً د جورج يفضل شرحًا للثالوث ينتمي للتقليد الغربي!

لكن إذا جئنا إلى التقليد الشرقي والكبادوكي فإننا نجده ينطلق من ”مونارخية“ الآب، فهو علة كل من الابن والروح القدس. والطريف أن العبارة المتنازع عليها ”موجود بذاته، ناطق بكلمته، حي بروحه“ هي أقرب للتقليد الشرقي منه إلى التقليد الغربي، فربط الآب بابنه وكلمته أقرب إلى هذه العبارة، من توحيد الجوهر الذي ينتمي إلى التقليد الغربي! لأنه يجعل الثالوث أشبه بسلسلة كما يقول ولفسون، ويمنع من افتراض وجود ”جوهر“ مجرد غير مشخصن تشترك فيه الأقانيم الثلاثة، وبالطبع هذا يمكن الاعتراض عليه بأنه يُدخل رابوعًا إلى الثالوث، لكننا إن أحسنا النية نقول إننا لا يمكن أن نتخيّل الجوهر بمفرده دون تعيُّن في أقنوم.

الطريف أيضًا أن د جورج يرحب بالشرح الأغسطيني ”المحب والمحبوب والحب“،[9] وإذا أسأت الظن به سأقول له المحب والمحبوب شخصان، لكن الحب هنا صفة وليست أقنومًا! فهل نتصور الروح القدس صفة وليس أقنومًا؟! وهل المحب ليس لديه محبة في ذاته، وكذلك المحبوب هل هو مستقبل للحب فقط ولا يعطيه؟! ليس أسهل من تحطيم الحجج وتسفيهها، وإنني لم أكن لأتكبد عناء الرد لولا الاتهامات الصعبة التي وجهها د جورج لخصومه إلى درجة تفريغ المسيحية من كل العقائد التي نعتز بها. إلى درجة اتهمامهم بأنهم حولوا الله إلى وثن! إلى درجة اتهامهم بأنهم أضاعوا الفداء والتجسد والتبني والافخارستيا! إلى درجة اتهامهم بأنهم أثبتوا توحيد السابيلية وليس توحيد المسيحية! إلى درجة اتهام خصومه بأنهم لا يهتمون إلا بصفات الوجود والعقل والذات ولا يهتمون بصفات المحبة والقداسة! الله يغفر للجميع!   

 

10- خاتمة

من خلال العرض السابق نستطيع استخلاص النتائح الآتية: 1- كان اللاهوتيون العرب يعون جيدًا الهرطقة السابيلية ويتجنبونها في شرحهم للثالوث. 2- استخدم اللاهوتيون العرب لفظة ”صفات“ ليس كأعراض بل بالمعنى المستقر لكلمة أقنوم. 3- هذا الاستخدام للفظة ”صفات“ له خلفية ناتجة عن المجادلات بين الفرق الإسلامية وبالأخص المعتزلة الذي أنكروا الصفات تجنبًا للتثليث المسيحي. 4- هذا التفاعل من قِبل اللاهوتيين العرب كان ضرورة تاريخية وحضارية، التقاعس عنها تقصير مشين. 5- تشبيه الابن بأنه نطق/ عقل الله يمتد بجذوره إلى الحقبة الآبائية المبكرة. 6- استمر شرح اللاهوتيين العرب للخواص الأقنومية ب ”الأبوة والبنوة والانبعاث“ كامتداد للحقبة الآبائية، وأضافوا عليها شرحين آخرين أحدهما من الفلسفة ليقوضوا فكرة التوحيد المصمت ويعززوا من الوحدانية الجامعة، والشرح الآخر ناتج عن الجدالات الكلامية الإسلامية. 7- عبارة ”موجود بذاته، ناطق بكلمته، حي بروحه“ استخدمها لاهوتيون كثيرون سابقون مثل ابن المكين، وساويرس بن المقفع، وبولس البوشي، الذين كانوا يدركون جيدًا الفرق بين السابيلية ودفاع الصفات. كما استخدمها كثيرون من علماء العصر الحديث مثل الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي.



[1] د بباوي، الثالوث، ص  11.

[2] د بباوي، الثالوث، ص 20، 21.

[3] د بباوي، الثالوث، ص 7.

[4] د بباوي، الثالوث، ص 5.

[5] ق كيرلس الأورشليمي، العظات، تعريب الأب جورج نصور، بيروت، 1976، ص 94.

[6] د بباوي، الثالوث، ص 6.

[7] د بباوي، الثالوث، ص 15.

[8] د بباوي، الثالوث، ص 45، 47، 48.

[9] د بباوي، الثالوث، ص 50.

دفاع الصفات في الميزان - ج 4

 

6- استراتيجيات ثلاث لشرح الثالوث

اعتاد الكثيرون من اللاهوتيين العرب عرض أكثر من طريقة لشرح الثالوث، وليس فقط الصفات الثلاثة (الذات والعقل والحياة). فكثير منهم أورد الخواص الأقنومية متبعًا الشرح الآبائي وهي الأبوة والبنوة والانبثاق (أو الانبعاث). ثم الطريقة الثانية هي الطريقة الفلسفية التي يُعبر عنها بعبارة ”عقل وعاقل ومعقول“. الطريقة الثالثة هي طريقة بحسب المتكلمين المتقدمين، الذين حددوا الصفات الذاتية: الجود والعقل والحياة.

الطريقة الأولى تبرز الاتصال بالتقليد الآبائي، والثاني نتيجة التفاعل الفلسفي في زمانه، والثالث نتيجة للتفاعل مع السياق الإسلامي، والكلام عن إنكار الصفات كما أسلفنا. مزج اللاهوتيون العرب الاستراتيجيات الثلاث وهم يعون جيدًا السابيلية ويتجنبونها بوضوح في شروحاتهم. هذا الأمر يوضحه لنا شمس الرئاسة ابن كبر الذي يشرح أن بيان تثليث الأقانيم إمَّا من الآيات الكتابية أو من أقول الحكماء الذين وصفوا الثالوث بالعقل والعاقل والمعقول،[1] ويقدم مقالة لشرح هذه العبارة، ثم من أقوال المتكلمين وسماهم الأصوليين الذين شرحوا الثالوث بأنه حي وقادر وعليم.[2]

جدير بالذكر أن وصف ”العقل والعاقل والمعقول“ يُنسب لأرسطو، وقال به ابن سينا، فاستغله اللاهوتيون العرب. والسؤال: لماذا؟ لأن العبارة تدلل بشكل غير مباشر على أن وحدانية الله وحدانية جامعة وليست وحدانية مصمتة، والأمر مستمد أيضًا من السياق، إذ يقول عوض سمعان إن الإمام الغزالي يقول ”مَن ذهب إلى أن الله لا يعقل نفسه، إنما خاف من لزوم الكثرة“.[3]

والآن لنتعرض لأمثلة أكثر على التنوع في استراتيجيات شرح الثالوث، ولنبدأ من موسوعة المؤتمن ابن العسال ”مجموع أصول الدين“، فقد أورد فيها الكثير من الدفوع التي قدمها علماء مسيحيون عن الثالوث. في مقالة لابن الطيب يقول فيها ”وذات الباري (تعالى) أوصافها ثلاثة، لا زائد ولا ناقص: أبوة وبنوة وانبعاث“.[4] وفي مقالة صنفها الشيخ عيسى بن يحيى الجرجاني يؤكد فيها أن الله جوهر قديم أزلي ”ليس هو في موضوع ولا يقبل العرض..“، ثم يقول إن الجوهر الواحد ”موصوف بصفات ثلاث ذاتية قديمة شرعية، ويعبر عنها بالخواص، وهذه الخواص يعبر عنها بالأبوة والبنوة والانبعاث“. ثم يسرد الشرح الفلسفي ”عقل وعاقل ومعقول“ وكذلك ”جواد وحكيم وقادر“.[5]

ثم يقول المؤتمن أننا نصف وحدة الثالوث بصفات ثلاث ”آب وابن وروح قدس، أي عقل وعاقل ومعقول، كما وصفه فلاسفة اليونان: أرسطو وأفلاطون وسقراط“.[6]والجدير بالانتباه أن هذا الشرح وجد طريقه إلى رسائل السيندويقا، فنقرأ في رسالة البابا قزمان، البابا الثامن والخمسين، إلى الأنبا يوحنا الأنطاكي، إدانة واضحة لسابيليوس ومقدونيوس، ثم في رسالة لنفس البطريرك يؤكد على وحدة الثلاثة أقانيم ويستشهد بأفلاطون في كتابه إلى تيماوس الذي يصف فيه الله ب ”العلة الأولية هي الجود بالرأفة... والثانية هي العقل الخالق... والعلة الثالثة هي العلة المحيية للنفس..“.[7]

ولم يُتهم هذا البطريرك بالسابلية! وفي نفس الرسائل نجد استشهادًا بالفيلسوف فرفوريوس (بورفيري) الصوري في مسألة تتعلق باتحاد الطبيعتين،[8] ونجد ذكرًا لفرفريوس أيضًا في موسوعة المؤتمن يشرح عبارة العقل والعاقل والمعقول من أرسطو والأسكندر (الأفروديسي) ثم يحيى بن عدي. ثم يذكر الصفات الشرعية: الأبوة والبنوة والانبعاث. ثم أورد وصف ”علماء الدين وأئمته“ بالصفات ”الجود والحكمة والقدرة“، ثم يشرح من فرفوريوس الصوري ما يؤكد هذه الصفات فهو جواد لا يعترض الشر إحكام صنعته، وهو حكيم لا يعوقه الجهل، وهو قادر لا يعتريه الضعف.[9] ولمَ لا يمزج الآباء في هذه الحقبة كل العناصر الممكنة التي تتيحها ثقافتهم لخدمة شرح العقيدة، وبالأخص طالما أن الآخرين حاربوا العقيدة على نفس الأرضية، وهي الشرح الأرسطي والأفلوطيني والفلسفي بشكل عام.


وفي العصر الحديث نجد الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي، والذي أظن أن  د جورج يعتز به، يستخدم نفس الشرح مَحل الجدل. فيرد على سؤال من أحد القراء يتضمن اعتراض د جورج بالضبط تقريبًا، ويقول ”الله وجود عاقل حي، أو هو ذات حية ناطقة، أو هو كائن بذاته، حي بروحه، ناطق بكلمته، فالوجود والنطق (العقل) والحياة صفات ذاتية“.[10] ويشرح الأنبا غريغوريوس أن الصفات الذاتية ”قائمة في الله قيامًا ذاتيًا لا عَرضيًا... فلو انعدمت صفة الوجود عن الله لم يعد بعد إلهًا، ولو انعدمت صفة العقل، فلا يمكن أن يُعد إلهًا من لا عقل له؛ إذ أن الله هو العقل الأعظم وعلة جميع العقول، ولو انعدمت صفة الحياة عن الله، لما أمكن أن يُحسب إلهًا“.[11] ثم يشرح أيضًا ”ليس صحيحًا أن للكلمة ذاتًا وروحًا، وإنما الصحيح أن الكلمة هو العقل، قائم أو كائن في الذات حي بالروح“.[12] ونحن نقول إن الابن والروح كائنان بالآب حتى نتجنب تعدد الذوات، الأمر الذي ينفي التوحيد عن المسيحية.

7- قياس النفس أو الإنسان

كثير من الآباء اتخذوا الإنسان نموذجًا لشرح الثالوث، من بينهم ق غريغوريوس النيسي في مقالته ”خلق الإنسان على صورة الله“، وتشبيه ولادة النفس للكلمة كتشبيه لولادة الآب لكلمته. وكذلك العلامة ترتليان في ”ضد براكسياس“، وق أغسطينوس أحب تشبيه الثالوث بالنفس البشرية. لكن د جورج يهزأ بأحد الإكليروس الذي يشرح الثالوث بقوله ”أنا حليت المسألة بمخي“، ويميز بين مكونات معينة في الإنسان الواحد. والحقيقة إن كل التشبيهات التي استخدمها الآباء تحتوي على أخطاء لا يصح نسبها للثالوث القدوس، لكنهم استخدموها كوسيلة لتقريب المعنى، وخاصة للبسطاء. كما أن معظم التشبيهات التي نستخدمها تحاول أن تثبت التوحيد أكثر مما تثبت التثليث. وهذا أمر بديهي لأن المناخ الذي نعيش فيه يتهمنا باستمرار بتعدد الآلهة، لذا صار لزامًا علينا أن نثبت التوحيد.

من الصعوبة الشديدة أن نطلب من الجميع أن يشرحوا الثالوث بتشبيهات معينة دون أن يخطأوا في شيء، أو يجنحوا يمينًا أو يسارًا. حتى إننا نجد ق غريغوريوس النزيانزي وهو يجد صعوبة في استخدام أية تشبيهات عن الثالوث ويقول ”لم أعرف كيف وبأي شيء من الأشياء الأرضية أستطيع أن أشبه الطبيعة الإلهية. حتى لو وجدت بعض التشابه، فإن القسم الأكبر يفوتني“،[13] وينتقد تشبيهات مثل الينبوع والنهر والشمس والشعاع، وهي تشبيهات استخدمها الآباء بكثرة. فوجب التماس العذر خاصة وأن صاحب تشبيه ”حليت المسألة بمخي“ يثبت الوحدانية، وليس التثليث، من خلال الإنسان.

يُتبع



[1] يشرح ابن المكين في موسوعته المعروفة بالحاوي أن الله هو خالق العقول، والعقول من جملة مخلوقاته، فسموه ”عقلاً مجردًا.. فهذا العقل عاقل لذاته. وذاته معقوله له“ (ابن المكين، الموسوعة اللاهوتية الشهيرة بالحاوي، دير المحرق، ج2، ص 234).

[2]  ابو البركات بن كبر، مصباح الظلمة في إيضاح الحكمة، ص 10، 11.

[3] عوض سمعان، الله: وحدانية ثالوثه وثالوث وحدانيته، مكتبة الأخوة، شبرا مصر، ص 12.

[4]  المؤتمن بن العسال، مجموع أصول الدين، ص 275.

[5]  المؤتمن، مجمول أصول الدين، ص 294.

[6]  المؤتمن، مجمول أصول الدين، ص 312.

[7]  اعتراف الآباء، دير المحرق، ص 294.

[8]  اعتراف الآباء، ص ص367.

[9]  المؤتمن بن العسال، مجموع أصول الدين، ص 375- 377.

[10] الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي، اللاهوت العقيدي ج1 لاهوت السيد المسيح، ص 580.

[11] غريغوريوس أسقف البحث العلمي، اللاهوت العقيدي ج1، ص 580.

[12] غريغوريوس أسقف البحث العلمي، اللاهوت العقيدي ج1، ص 581.

[13] ق غريغوريوس النزيانزي، الخطب اللاهوتية، منشورات المكتبة البولسية، لبنان، ص 168، 169.

الثلاثاء، 13 أبريل 2021

دفاع الصفات في الميزان- ج 3

 

4- هل ثمة اتصال بالحقبة الآبائية؟

الاتصال بالحقبة الآبائية يظهر في حفاظ اللاهوتيين العرب على شرح الخواص الأقنومية بـ الأبوة والبنوة والانبثاق (الانبعاث)، الذي يتفق تحديدًا مع شرح الآباء الكبادوك كما سنرى لاحقًا. لكن إذا نظرنا إلى مضمون عبارة ”الله موجود بذاته، ناطق بكلمته، حي بروحه“، وهل هذا المضمون خطأ برمته أم به شيء من الصواب، سنجد أن وصف الأقنوم الثاني بالنطق، وأنه نطق الله، يمتد بجذوره إلى القرن الثاني الميلادي.

فنجد العلامة ترتليانوس الأفريقي، الذي له إسهامات عظيمة في شرح الثالوث، يقول: ”لأن الله عاقل، والعقل كان فيه من البداية... هذه الحكمة هو فكره الذاتي، الذي يدعوه اليونانيون اللوغوس، ونحن نترجمها إلى الكلمة أو النطق“.[1] ثم يقول ”عندما تتكلم، فأنت تنطق بما قد تحدثت به إلى نفسك.. وهكذا تكون الكلمة بمفهموم ما هي مُخاطب second person داخلك، وهذا الكلام ينطبق على الله، الذي له عقل داخله... وكلمته متغلغل في عقله هذا، ومن هذا أقول... أنه حتى قبل خلق الكون لم يكن الله بمفرده، إذ كان له في ذاته عقل، ومتأصل في هذا العقل كلمته“.[2]

كما نجد يوستين الشهيد، أحد الآباء المدافعين، يقول عن ولادة الابن ”عندما ننطق بكلمة نستطيع أن نقول إننا نلد الكلمة“.[3] والبابا ألكسندروس يرد على أريوس قائلاً: ”إذا كان الابن هو كلمة الله وحكمته وعقله، فكيف وجد زمن لم يوجد فيه؟ هذا كمَن يقول بأنه وجد زمن كان فيه الله بلا عقل وحكمة“.[4]

لكن د بباوي يقول ”كيف يولد الابن من ذات جوهر الآب إذا كان هذا الجوهر لا يملك صفة العقل؛ لأن صفة العقل -حسب شرحكم- خاصة بالابن؟[5] هذا ليس شرحنا، بل شرح الآباء أيضًا، ولم يقل أحد إن الآب غير عاقل، حاشا! بل نقول إنه عاقل بالابن. ثم يقول في موضع آخر إننا بهذا الشرح نجعل التجسد ”إخلاءً للعقل“ وبولس لم يقل ”أخلى عقله“! فكيف تحقق التجسد؟ والسؤال هو: مَن قال إنه في التجسد صار الآب بلا عقل، أو انفصل الابن عن الآب أصلاً، أو انفصل العقل عن الآب؟ هذا افتراء.

يفترض د جورج أن مَن يقول إن الابن هو عقل الله أو نطق الله أن الله الآب بلا عقل وأخرس بلا نطق. لكن هذا الافتراض صحيح فقط إذا سمحنا بوجود انفصال بين الآب والابن. فالآب يلد الابن سرمديًا، وولادة الله بحسب هذا الشرح هي نطقه، ونطقه سرمدي. وقد رأى الآباء منذ البدايات أن الفكر والنطق هو أفضل تشبيه لولادة الابن. وكما رأينا من غير المتصور أن الآباء الذين وصفوا الابن بأنه عقل/ نطق/ حكمة الله كانوا يرون الآب بلا عقل وبلا نطق وبلا حكمة. وهل يمكننا بنفس القياس أن نتهم الرسول بولس نفسه عندما وصف المسيح بـ”قُوَّةِ اللهِ وَحِكْمَةِ اللهِ“ (1كو 1: 24) أنه كان يفترض في الآب أنه بلا قوة وبلا حكمة؟ مَن يقبل أو يصدق هذا؟ إذن عبارة أن الآب عاقل أو ناطق بالابن ليست خاطئة، وقد استخدمها الآباء في القرون الخمسة الأولى بعكس ما قاله د بباوي في كتابه.

5- آخرون استخدموا نفس العبارة

القارئ لكتاب د جورج يفهم بسهولة أنه يقصد في نقده المتنيح البابا شنودة الثالث، لأن البابا شنودة كثيرًا ما استخدم هذه العبارة، لكن البابا شنودة الثالث لم يكن أول مَن استخدمها في شرح الثالوث. فالأنبا ساويرس بن المقفع، أسقف الأشمونين (ق 10) يشرح أن الله ناطق، ونطقه غير مستحيل (متغيّر) بل أزلي، كقوام ذاته، لذا ”فالآب قائم بذاته، ناطق بابنه، حي بروحه“.[6] فهل يمكن اتهام الانبا ساويرس بالسابلية وإنكار التجسُّد والخلاص؟! لندعه يجيب عن نفسه: ”الثالوث القدوس ليس هو جوهر واحد فقط، بل روح واحد أيضًا، وإذا كان روحًا واحدًا فحياته واحدة وقوته واحدة وفعله واحد، ويجوز أن يُسمى كل واحد من أقانيمه إلهًا حقًا، وليس هم ثلاثة آلهة... وذلك إنّا قد علمنا أن الآب حي ناطق، وكذلك إذا ذكرنا الابن نعلم أنه حي ناطق... ولسنا نعتقد أن لكل واحد منهم كلمةً وروحًا ينطق بها ويحيا دون الآخر، لأنهم لو كانوا كذلك لم ندعهم ثلاث خواص، بل تسعًا، ولكننا نحقق ونؤمن أن هذه الثلاث خواص قائمة ناطقة حية بعضها ببعض غير محتاجة إلى غيرها“.[7]


الأنبا ساويرس هنا يرد على د بباوي، ويقول له إن كل أقنوم هو الله وليسوا صفات مجردة. وإذا أراد  د جورج أن يجعل للآب كلمة أو عقل وروح أو حياة مستقلين عن الآب، فهل نتحدث هنا عن 9 أقانيم؟! الأنبا ساويرس يقول لدكتور جورج ”هذه الثلاث خواص/ أقانيم قائمة ناطقة حية بعضها ببعض غير محتاجة إلى غيرها“.

يريد د جورج أن يكون الآب عاقلاً حيًا بمفرده، والابن عاقلاً حيًا بمفرده، والروح القدس عاقلاً حيًا بمفرده. ولو أسأت الظن به لقلت إنه ينادي بثلاثة آلهةTritheism .  لم يقل اللاهوتيون العرب بأن المسيح وجَّه صلاته لآب بلا عقل كما يقول د بباوي،[8]ولم يقولوا إن الآب أرسل عقله إلى العالم وصار هو بلا عقل، ولم يقولوا بتجسُّد الصفة بل بتجسُّد الإله، وكذلك لم يقل البابا شنودة الثالث مثل هذه الترهات. يتهم د جورج علماء العصور الوسطى، هكذا بالإجماع، بأنهم أثبتوا توحيد سابليوس وليس توحيد المسيحية.[9] وهذا اتهام خاطئ وخطير، لم يكن يصح أن يصدر من شخص لا يكف عن تكرار أنه عانى من مرارة الاتهامات المريرة بالهرطقة.

نأتي لعالم وأسقف جليل آخر من العصور الوسطى، وهو الأنبا بولس البوشي، والذي طالما نفتخر أنه نهل من الآباء، فهو يقول: ”فإن قلتم فيما وصفتم به الله من أنه حي متكلم: إنما اشتقت له اشتقاقًا من أجل فعله، لمّا أحدث البَرية بالفعل. يقال هل يجوز أن يقال: إن الله قد كان بلا حياة له ولا علم، حتى صار إذًا الحياة والكلمة لديه موجودين؟ وهذا محال من الكلام أن يُقال إن الله كان طرفة عين خُلوًا من حياة وكلمة! لأنه حي متكلم لم يزل.“[10] من الواضح أن البوشي لا يقول إن الله بلا حياة وبلا كلمة، وهو يقول إن هذه الصفات غير مفترقة. ويقول ”لأنه لو كان الله غير متكلم، ولا حي، لكنّا نحن أفضل منه لأنَّا متكلمين أحياء“.[11]

يتبع البوشي في نفس الوقت الآباء في الكلام عن ثلاث صفات أقنومية، هي الأبوة والولادة والانبثاق. وذلك في نفس المقالة الواحدة، ولا يجد تعارضًا بين الاثنين: الشرح بالصفات والشرح التقليدي الآبائي. لا يجد البوشي غضاضة بين الاثنين. ليست الطريقة الأولى سابيلية أضاعت الإيمان كله في مقابل الطريقة الأخرى الصحيحة وحدها من وجهة نظر د جورج، الذي لا يكف عن قول إن القائلين بهذه العبارة الآن، وقائلوها في العصر الوسيط، قد أثبتوا توحيد سابيليوس وليس توحيد المسيحية. وهذا فيه تجنٍّ وسوء ظن، وترصد، وعدم اتباع لمبدأ الإحسان كما شرحنا في البداية.

يُتبع

 



[1] ترتليانوس الأفريقي، ضد براكسياس 5، ترجمة أمجد رفعت، مدرسة الأسكندرية، ص 90.  

[2] ترتليانوس، ضد براكسياس 5، ص 91.  

[3]  يوستين الشهيد والفيلسوف، الحوار مع تريفون اليهودي 61، ترجمة آمال فؤاد، بناريون للنشر، ص 216.

[4]  https://www.newadvent.org/fathers/0622.htm .

[5]  د بباوي، الثالوث، ص 12.

[6]  ساويرس بن المقفع، الدر الثمين في إيضاح الدين، إصدار أبناء البابا كيرلس، ص 24.

[7]  ابن المقفع، الدر الثمين، ص 24

[8]  د بباوي، الثالوث، ص 24.

[9]  د بباوي، الثالوث، ص 33.

[10]  الأنبا بولس البوشي، مقالة في التثليث والتجسد وصحة المسيحية، تحقيق الأب سمير خليل، لبنان، 1983، ص 144- 145.

[11]  البوشي، مقالة في التثليث، ص 161.