الأحد، 26 نوفمبر 2023

مختارات من كتاب "عن البتولية" للقديس غريغوريوس النيسي

 


"في ضوء قدوة القديسين، فإن الشخص الذي يرغب في أن يثبِّت فكره على الله لا يستغرق في أي من الاهتمامات الحياتية. لأنه من المستحيل على أي أحد ذهنه مشتت في أمور كثيرة أن يتقدَّم مباشرة إلى معرفة الله والاشتياق إليه. وفي رأيي يمكن أن نوضح هذا أكثر بمثال. لنتخيل أن مياه تنسكب من نبع وتتقسَّم عرضًا إلى تفريعات كثيرة. فطالما أنها تجري على هذا المنوال، فلن يكون لها منفعة في الزراعة، لأن التقسيم يجعل كل فرع صغيرًا وضعيفًا وبطيئًا. في المقابل إذا استطاع أحد أن يجمع كل التفريعات غير المنظمة معًا ويجمع ما كان مشتتًا في السابق، فإنه يستطيع أن يستخدم الماء المنجمع ويتحكم فيه من أجل منافع كثيرة وعملية.

يبدو لي أن هذا ينطبق أيضًا على الذهن البشري. فإذا تدفق في كل الاتجاهات، فهو يشتت نفسه بالجري وراء ما هو مسرٌ للحواس، ولا يكون له قوة تدفعه في رحلته نحو الصالحات الحقيقية. لكن إذا تم استدعاؤه، إن جاز التعبير، من كل الاتجاهات، وانجمع في ذاته، وحضر بالكامل، فإنه سيتحرك بفضل طاقته الطبيعية، ولن يمنعه شيء من أن يُحمل عاليًا وإلصاق نفسه بالأمور الحقيقية (السماوية).

كما أن الماء في الأنبوب، عندما يُحصر بالقوة، فإنه عادة ما يرتفع لأعلى، ولا يقدر أن يتدفق في أي مكان، برغم أن حركته الطبيعية تتجه لأسفل، هكذا أيضًا فالذهن البشري حين يُحصر من كل الاتجاهات من خلال ضبط النفس، الذي يعمل كأنبوب، فإنه بطريقة ما سيُرفع لأعلى بفضل طبيعة الحركة إلى رغبة الأمور التي هي فوق، إذ ليس هناك أي مكان آخر يجري إليه.

فمن المستحيل لما وُضِع في حركة أبدية بواسطة خالقه أن يتوقف، وأن يستخدم حركته لأغراض غير نافعة بمجرد أن يتم التحكم فيه وتعجيزه عن عدم الذهاب مباشرة إلى الحق، عندما يُمنع من كل الجوانب عما هو غير مناسب له. نحن نرى مسافرين في رحلات طويلة لا يضلون طريقهم لأنهم تعلموا من الخبرة أن يتجنبوا الطرق الفرعية. ومثل اعتناء رحال محنك يعود إلى الطريق الصحيح، سيركز ذهننا على الحق الصحيح بمجرد أن يتحوّل عن التفاهات (عن البتولية 6).

 

"إذا كانت المعركة ضد الملذات صعبة، فليتشجع الجميع، لأن الاعتياد له قوته في أن يولد بعض اللذة من خلال الثبات فيما يبدو أنه صعب جدًا، ويتضمن أجمل وأنقى الملذات الجديرة بانتباه الذهن، بدلاً من تغريبنا عن ما هو عظيم فعلاً ويتجاوز خيالنا بسبب اهتمامنا البائس بالأمور الوضيعة. 

أي مقالة يمكنها أن تصف مدى فداحة وعقوبة السقوط عن الجمال الحقيقي؟ أي لغة مفخمة يمكن للمرء أن يستخدمها؟ كيف يمكن وصف وتحديد الأمور غير الموصوفة وغير المدركة؟ إذا كان لأي أحد مثل هذه النقاوة في الرؤية الذهنية بحيث يقدر أن يرى إلى حد ما ما وعد به الرب في التطويبات، فإنه سيحتقر كل صوت بشري لا قوة له على عرض معانيها. في المقابل إذا كان أي أحد لايزال منغمسًا في الماديات وقد تشوشت الرؤية الواضحة لنفسه بسبب حالة من الغشاوة، فإن أي مقالة ستكون بلا جدوى من وجهة نظره. لأنه في حالة من فقدوا الحس، فإن التهوين أو التهويل من الأعاجيب سيكون بنفس المقدار في الحديث، كما في حالة أشعة الشمس. أي شرح لفظي للنور هو بلا نفع وباطل لشخص أعمى بالولادة، لأنه ليس من الممكن أن نتصور بهاء الشمس بالأذن. بنفس الطريقة، يحتاج كل فرد لعينيه ليرى جمال النور الحقيقي الروحاني. والذي يراه فعلاً من خلال نعمة إلهية وإلهام غير مفحوص فإنه ينذهل في أعماق ضميره. والذي لا يستطيع أن يراه لن يدرك ما فاته" (عن البتولية 9، 10).

"كل خليقة الله جميلة، ولا يجب أن تُحتقر، وأي شيء صنعه الله هو جميل بإفراط. لكن حين أفسدت نتائج الخطية حياة الإنسان، اندفع من بداية صغيرة تيارٌ لانهائي من الشر على الإنسان، وذاك الجمال الإلهي للنفس التي خلقت بمحاكاة الأصل قد تسود مثل الحديد بصدأ الشر، ولم تعد النفس تحتفظ بنعمة صورتها الطبيعية، لكنها تحولت إلى قذارة الخطية. ومثل الإنسان، ذاك المخلوق العظيم والمكرم... إذ سقط من كرامته مثل الذين ينزلقون ويسقطون في الوحل، وقد لطخوا أنفسهم بالطين، قد صار من الصعب التعرف عليه حتى لرفقائه، هكذا مَن يسقط في وحل الخطية لا يعد فيما بعد صورة الله غير الفاسد، ويُغطى بسبب الخطية بصورة فاسدة ملطخة... ومع ذلك إذا تطهر بالماء إن جاز التعبير من طريق حياته، يمكن للطبقة الطينية أن تُزال، ويمكن لجمال النفس أن يعاود الظهور من جديد.

إن رفض ما هو غريب يعني العودة إلى ما هو أصيل وطبيعي للذات، لكن هذا لا يمكن تحققه إلا إذا خُلق المرء من جديد. لان التشبُّه بالله ليس من صنعنا، ولا هو نتاج القدرة البشرية، لكنه جزء من الكرم الإلهي الذي أعطى بسخاء لطبيعتنا عند ميلاد الإنسان الأول شبهًا بذاته. لكن الجهد البشري يمتد إلى هذا الحد فقط: إزالة القذارة التي تراكمت من خلال الشر، والكشف عن الجمال الذي في النفس الذي تغطى.

هذا التعليم في رأيي علَّمه الرب في الإنجيل للقادرين على سماع الحكمة حين قال في سر ”ملكوت الله داخلكم“ (لو 17: 21). هذا القول يبين كما أعتقد أن صلاح الله لا ينفصل عن طبيعتنا، وهو ليس بعيدًا عن الذين يختارون السعي إليه، بل يظل حاضرًا في كل فرد، غير معروف ومنسي حين يختنق الإنسان بهموم وملذات الحياة، لكنه يُكتشف من جديد حين نحوّل انتباهنا إليه مرة أخرى.

إذا أردنا المزيد من تأكيد هذه الحجة، في رأيي هذا ما كان يشير إليه الرب في البحث عن الدرهم المفقود. بقية الفضائل التي يشير إليها الرب بالدراهم هي بلا نفع، حتى إذا توفرت كلها في النفس، إذا كانت النفس مفتقرة من الفضيلة المفقودة. لذا فهو يحثنا قبل كل شيء أن ننير سراجًا، وهو بهذا يقصد ربما الكلمة التي تكشف إلى النور ما هو محتجب. ثم يخبرنا بأن نبحث عن الدرهم المفقود في بيتنا، أي في ذاوتنا. من خلال هذا المثل يشير إلى أن صورة الملك لم تُفقد تمامًا، لكنها محتجبة تحت التراب. أعتقد أننا لابد أن نفسر كلمة ”التراب“ على أنه وسخ الجسد. وبمجرد أن يُكنس هذا ويزال باهتمامنا بحياتنا، فإن ما نبحث عنه يصير مرئيًا، وحينئذٍ يمكن للنفس أن تبتهج وتُحضر الجيران ليشاركوها فرحتها.

 


لأنه في الواقع كل ملكات النفس، وهي ما يشير إليه الرب بالجيران، تعيش معًا، وعندما ينكشف الغطاء عن الصورة الرائعة للملك التي غرسها الخالق في قلوبنا منذ البدء، وتظهر للنور، فحينئذٍ هذه الملكات تتجه نحو الفرح الإلهي والبهجة، إذ تتطلع نحو الجمال غير الموصوف لما تمت استعادته. لأن الكتاب يقول ”افْرَحْنَ مَعِي لأَنِّي وَجَدْتُ الدِّرْهَمَ الَّذِي أَضَعْتُهُ“ (لو 15: 9). فالجيران، أو ملكات النفس التي تسكن معًا، تبتهج عند العثور على الدرهم الإلهي. فالعقل والرغبة والملكة التي تُحفز بالحزن والغضب، وأي ملكات أخرى موجودة، يُنظر إليها على أنها متصلة بالنفس، وتُعتبر منطقيًا بمثابة أصدقاء يبتهجون بالحق في الرب، حين ينظرون جميعهم إلى كل ما هو جميل وما هو صالح وحين يفعلون كل شيء من أجل مجد الله، لأنها لم يعودوا بعد آلات للخطية.

وبالتالي هذا الاهتمام بالبحث عما هو مفقود هو الاستعادة إلى الحالة الأولى من الصورة الإلهية التي أصبحت الآن مغطاة بقذر الجسد. دعنا نصير على ما كنا عليه قبلاً خلال الفترة الأولى من وجودنا (عن البتولية 12(.

لكن إذا اعتبر أي أحد أنه من غير الهام لعناصر حياة الإنسان أن تكون في تناغم مع بعضها البعض، فلينظر إلى مقتنياته في بيته ويتعلم هذا التعليم. يبدو لي أنه كما في منزل خاص فإن السيد لا يسمح للأشياء التي فيه أن تكون غير مناسبة وغير متوافقة: السرير مقلوب، والمائدة مليئة بالتراب، والمقتينات الثمينة ملقاة في الزوايا المتسخة، والأواني التي تخدم احتياجات الطبيعة على مرأى من الداخلين، وإنما يجعل كل شيء مرتبًا وفي تنسيق جيد، وكل شي ءفي مكانه الصحيح، حتى يستقبل الضيوف في ثقة، ولا يخشى من أي انتقاد إذا شاهد الناس الأشياء التي في بيته.

هكذا في رأيي يجدر بالسيد والوكيل على مسكننا، وأعني بالمسكن الذهن، إذ يحرص على أن يجعل كل شيء ملائمًا، وأن تُستخدم كل ملكة من ملكات النفس، التي وهبنا إياها الخالق عوض أواني أو أدوات، بشكل صحيح ولأغراض الجمال. لكن إذا قال أحد بازدراء إن هذه الحجة حمقاء وتافهة، فدعه يشرح تفصيليًا كيف سيدير حياته الخاصة لمصلحته باستخدام ما عنده (عن البتولية 18(.

وبالتالي نحن نقول من الضروري أن يترسخ الشوق على طهارة النفس كما لو على باكورة أو تقدمة نذور مختارة للرب، يطهر النفس ويجعلها محصنة وغير ملوثة بأي من قذر الحياة. الغضب والسخط والكراهية يجب أن يُثاروا مثل كلاب لحراسة البوابة، فقط لمقاومة الخطية، وتُستخدم فقط ضد السارق أو العدو الذي يدخل ليفسد الكنز الإلهي، ويأتي ليسرق ويمزق ويدمر. وبدلاً من السلاح في اليد، يجب أن يتحلى المرء بالشجاعة والإقدام بحيث لا يوجد ضرورة للخوف، ويمكن للمرء أن يتحمل هجمات الأشرار. كما يجب أن يتكئ المرء ليس على عصا بل على الرجاء والمثابرة، إذا أعيته التجارب. وإذا جاءت لحظة التوبة عن الخطايا، يجب على المرء أن يُظهر الندم، ونحرص أن نستخدمه لهذا القصد فقط. العدالة يجب أن تكون معيار الاستقامة، وتُظهر في كل كلمة وفعل كم من الضروري للأشياء أن تترتب في نفسه وكيف يجب أن يدير كل عنصر بحسب قيمته. الميل نحو المزيد الذي يكمن بلا حدود في نفس كل إنسان ينبغي أن يُطبق فقط على الشوق إلى الله، وهكذا نهنئ المرء من أجل طمعه، لأنه يستخدم الغصب حيث يصح أن يُستخدم الغصب. ينبغي أن يتحلى بالحكمة والتدبر كمشيرين في كل الأحوال وكشركاء حياته، لكيما لا يتأذى بالجهل والتهور.

في المقابل ، إذا لم يستخدم المرء الملكات التي تحدثنا عنها بحسب ما هو طبيعي ولائق، لكنه يفسِد استخدامها بتطبيق الرغبة على الأشياء المشينة، مثل توجيه الكراهية ضد أقربائه، ومحبة الظلم، واستعراض العضلات ضد والديه، والتجاسر في غير محله، وترجي الأباطيل، ورفض التدبر والحكمة كرفقاء الحياة، ويصير رفيقًا للنهم والحماقة، وهكذا، فإنه سيكون عبثيًا ووحشيًا بحيث إنه لن يوجد من يقدر أن يصف سخافته. ألن يبدو الأمر مثل جندي يغطي وجهه بخوذة مقلوبة، ويضع قدميه في الدرع، ويلبس الشنكار على صدره، ويقلب اليسار يمينًا واليمين يسارًا؟ ماذا سيحدث لمثل هذا الجندي في الحرب هو مثل ما سيختبره الشخص الذي يفسد حكمه على الأمور واستخدامه لقوى النفس (عن البتولية 18(. 

الثلاثاء، 24 أكتوبر 2023

شرح رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية: شذرات للقديس كيرلس السكندري

 

هذا الكتاب ترجمة ودراسة وتحليل للدكتور ليديا عادل حنا، ومن إصدار دار نشر جذور، ويقع في 180 صفحة تقريبًا  القطع المتوسط. تذكر المترجمة أنها اعتمدت على النص اليوناني الذي أصدره العالم Pusey، والترجمة الإيطالية للنص. اللغة العربية إلى حد كبير سليمة ومفهومة. في المقدمة تقول المترجمة إنها أول ترجمة عربية للنص، لكن منذ أيام فقط قبل صدور ترجمتها صدرت ترجمة لنفس النص بمعرفة القس بولا رأفت عن اللغة الإنجليزية والمقارنة بنفس النسخة اليونانية التي أصدرها Pusey. وقد صدر للتو ترجمة ثالثة للنص ذاته بمعرفة مركز النور الحقيقي! 3 ترجمات لنص واحد في شهر واحد. نشكر ربنا! لم أتمكن إلا من قراءة الترجمة الصادرة عن دار نشر جذور.  

  



المقدمة الدراسية سلسة وبسيطة ومعبرة بشكل كبير عن محتوى النص. وإن كنت أختلف مع فكرة اتباع ق كيرلس للمنهج الأوريجاني الرمزي (الأليجوري) في هذا النص بالذات. هذا النص ليس به أي تفسير رمزي أليجوري، بل يتبع ق كيرلس التفسير الرمزي التيبولوجي، أو ما يسيمه البعض ”النماذجي“. وأوريجانوس كان heavy allegorist أما ق كيرلس فليس كذلك على الإطلاق.   

أما عن ترجمة النص فلدي بعض الملاحظات الشخصية على بعض الجمل المترجمة، وهذا بالطبع لا يقلل من الجهد المبذول. في المعتاد يتحمل المترجم عبئًا كبيرًا في الترجمة، لكن الكمال لله وحده.

المسيح هو ابن الله بالطبيعة (لاهوتيًا)

نقرأ ”هو ابن الله الذي بسبب ناسوته، حُسب كواحد منا. فمن جهة الطبيعة ]طبيعته البشرية[ هو ابن الله في القدرة وبالحق“ (ص 44). هو ليس ابن الله في القدرة من جهة طبيعته البشرية، الإضافة بين القوسين غير صحيحة. إنه بسبب ناسوته واحد منا، وبسبب (طبيعته اللاهوتية) هو ابن الله بالقدرة. تكرر نفس الخطأ في السطور التالية: ”إذا قارنا أنفسنا بالابن، الذي بسبب طبيعته ]البشرية[ يشهد له الآب بأنه ابن بالطبيعة بالقدرة وبالحق، نكون نحن مثل صور مقارنة بالأصل“ (ص 44، 45). الصورة التالية من التفسير المسيحي القديم:



اختلاف الأقانيم ليس في الجوهر

في الفصل 17 تأتي الترجمة ”بسبب أسماء الأقانيم وجوهرهم وتمايزهم، يُظهر كل أقنوم اختلافه الخاص“ (ص 71). في الواقع النص اليوناني ليس به كلمة ”جوهرهم“. الكلمتان الواردتان في النص اليوناني هما هيبوستاسات، التي تترجم أقانيم، وبرسوبونات προσώπων والتي تترجم أشخاص. كما أنه من المعروف أن الجوهر ليس سببًا في اختلاف الأقانيم، فالجوهر واحد.  

مفهوم المبادلة ντάλλαγμα 

ورد مفهوم المبادلة مرتين في هذا النص، أولاً في الفصل 5 في الشرح على رو 3: 21- 26 حيث يتحدث عن أن المسيح قدم كفارة، و”وجعل من دمه الخاص ثمن فداء حياة الجميع“ (ص 51)، لكن الترجمة هنا غير دقيقة. التعبير اليوناني هو ντάλλαγμα  وهو يعني البدل والعوض، وبه معنى المبادلة والمقايضة، وليس هناك معنى ”الثمن“ على الإطلاق.

المرة الثانية في الفصل 85 على رو 15: 7- 9 حيث الكلام عن الآب الذي بذل ابنه الوحيد من أجلنا ”لقد بُذل كثمن عتق حياتنا أجمعين“ (ص 175). مرة أخرى النص يحتوى على لفظة ντάλλαγμα ولا يوجد معنى الثمن أو العتق. والترجمة الأدق أن الآب ”قدمه عوضًا عن حياة الجميع“. للمزيد عن أهمية هذا المصطلح في الجدل السوتيرولوجي راجع المدونتين الواردتين في الهامش.[1]    

هل الخطية موجهة ضد الله أم في حق الطبيعة البشرية؟

في المقدمة (ص 33) تقول المترجمة إن الخطية في حكم الناموس القديم تكون ”مخالفة ضد الله وموجهة ضده“، أمّا في المفهوم المسيحي فالخطية ”مخالفة ترتكب في حق الطبيعة البشرية“. فمن أين جاء هذا التقسيم؟ في فصل 37 تأتي الترجمة التالية: ”لكني أقف في مكان المتَّهم بالخطية، التي هي مخالفة تُرتكب في حق الطبيعة البشرية، وتسود على أذهاننا“ (ص 91). أولاً في الترجمة الإنجليزية هذا التعبير ”مخالفة في حق الطبيعة البشرية“ غير موجود بالمرة، وبالرجوع إلى النص اليوناني واستشارة أحد المتخصصين لا وجود له أيضًا. الترجمة المقترحة هي ”أنا لا ألوم الناموس على هذا، وأنا أقف إن جاز التعبير لأتهم الخطية. إنها تُخضع الطبيعة البشرية وتقوى على فكرنا..“. فأخشى أن تكون الترجمة غير دقيقة وقد بُنيت عليها فكرة غير دقيقة.

حسب قصد مَن؟

في الفصل 49 يفسر ق كيرلس تعبير ”الذين هم مدعون حسب القصد“، ويتساءل: قصد مَن؟ مَن دعى؟ أم قصد المدعوين؟ ويصل إلى كليهما both، لكن المترجمة استعملت ”سواء“ قصد الله، أو قصد المدعوين. و”سواء“ غير ”كليهما“. ”كليهما“ تعبر أكثر عن فكرة السينرجيا التي أكد عليها ق كيرلس. الصورة التالية من التفسير المسيحي القديم:  


التعليم عن وراثة الخطية

في المقدمة تقول المترجمة ”إن إشكالية التفكير في إمكانية وراثة الخطية من آدم تقود إلى التفكير في أن الإنسان مسير غير مخير، وهذا بالطبع يتنافى مع مبدأ الحرية الإنسانية في المسيحية“ (ص 30). المتابع للجدل حول هذا الموضوع، لن يجد خلاف على حرية الإرادة حتى بعد سقوط الإنسان، فلا يقول أحد بما قاله لوثر عن عبودية الإرادة، بل يقولون بإن إرادة الإنسان لا تزال فاعلة، وبمقدورها أن تقبل أو ترفض التعاون مع نعمة الله. محور الجدل هو حول ما الذي تأثرنا به جراء سقوط الأبوين الأولين؟ بل ليس لدى البعض مشكلة في أن يقولوا إننا لم نكن مع آدم وقت ان أكل من الشجرة (هذا يُسمى وراثة الذنب)، لكن هؤلاء أنفسهم يرفضون الاكتفاء بالقول بوراثة الموت فقط.

د جورج عوض في ترجمته لكتاب القديس كيرلس ”الإيمان القويم إلى الملكات“ في الحاشية الورادة في ص 230، يؤكد على الفرق بين قراءة أغسطينوس لآية رو5: 12 ”إذ أخطأ الجميع“، ”في آدم“ بحسب أغسطينوس، و”في الموت“ بحسب الآباء الشرقيين. ويشرح د جورج إن الموت الناتج عن الخطية هو السبب في خطايا بقية الجنس البشري بخلاف آدم... هذه الفكرة قال بها لاهوتيو الروم الأرثوذكس وغيرهم، ورومانيدس في كتابه ”الخطية الجدية“ يقول إنه بسبب الموت، لاحظ بسبب الموت ”أصبح الإنسان يهتم بضروريات الحياة لكي يبقى حيًا... وتصير قوة الخوف من الموت، الأصل الذي منه ينبع تعظيم الذات والأنانية والكراهية والحسد وغيرها من الأهواء المماثلة“.[2] يشرح رومانيدس أن الإنسان في محاولته لتجنب الموت أصبح يخاف من أن تصبح حياته بلا معنى.. فيبدأ في السعي وراء أمان زائف في شهواته.. ”ويسعى للأمان والسعادة في الثروة والمجد والمتع الجسدية“. ستلاحظ في هذا الكلام أنه لا ذكر لعطب/ أو جُرح/ أو خلل ما حدث في طبيعة الإنسان الأول، مما سهل على نسل آدم أن يخطئوا. بل الحديث كله يعتمد على أن فكرة الخوف من الموت هي سبب استعباد الإنسان للملذات.

لكن ق كيرلس لا يتبنى هذه النظرة.. وقبل كل شيء في النص الذي أمامنا توجد عبارة واضحة تقول: ”لقد حُكم علينا بالموت بسبب تعدي آدم، بما أنه هو بكر البشرية، فالطبيعة البشرية كلها قد ارتكبت هذه الخطية فيه ]في آدم[“ (ص 63)، وإضافة ]في آدم[ من المترجمة، وبالتالي هذه الترجمة تدعم تفسير أغسطينوس وليس الآباء الشرقيين بحسب إشارة د جورج عوض السابق ذكرها. لكن السؤال هنا هل ق كيرلس قال بأن كل ما ورثناه من آدم هو الموت، والخوف من الموت هو سبب كل الشر الذي نحن فيه؟ الإجابة كما تتضح لي هي: لا. تعالوا لننظر تعبيراته عن حالة الإنسان قبل السقوط.

-      فقد هاجمت الخطية أيضًا الطبيعة البشرية“ (ص66) (الترجمة الإنجيلزية تقول: ”لقد اندفعت الخطية في الطبيعة البشرية“).

-      لأن صخب الغرائز الفوضوية لم يكن فيه، فهكذا كان يخلو من أي نوع من أنواع حقارة الشهوات“ (ص 67) الترجمة الإنجليزية تقول: ”كل الملذات المخزية كانت غير متحركة فيه، ولم يوجد أي اضطرب لنزعات غريبة فيه“). ثم يضيف ق كيرلس ”لكن بعد أن وقع فريسة للخطية وانغمس في الفساد، غزت الشهوات وعدم الطهارة طبيعة الجسد. وهكذا نشأ الحكم الذي يحتدم في أعضائنا. إن مرض الخطية قد أصاب الطبيعة بسبب معصية إنسان واحد، آدم“. الترجمة الإنجليزية هنا تقول ”نشأ الناموس المتوحش في أعضائنا“.

-       ق كيرلس في كتابه ”الإيمان القويم للملكات“ ص 299: يردد نفس فكرة ”ناموس الخطية المتوحش“: ”لأنه إذ كان (المخلوق الأول) قد سقط مرةً واحدة في الخطية، وصار أسير ضعفه، وتغذت طبيعته بشهوات الجسد الذي أصبح جذرًا وحاملاً لناموس الخطية المتوحش، فكيف له أن يتجنب هذا تمامًا؟ويقول مرة أخرى ص 245 إن الطبيعة البشرية (في المسيح) هزمته (أي الشيطان) بمعونة المسيح وعطلت ناموس الخطية المميت الذي توحش في أعضاء الجسد، لأنه أبطل بواسطة المسيح“. وبالتالي اقترحت منذ فترة أن نستبدل الكلام عن وراثة الخطية، بوراثة ”ناموس الخطية المتوحش“ بحسب تعبير ق كيرلس!

-       في الفصل 19 وفي سياق حديثه عن ”جسد الخطية“ يقول القديس كيرلس: ”تمت دينونتنا في آدم، إضافة إلى أنه قد أصيب (الجسد الترابي) بمرض اللذة الشهوانية. تلك إذن هي طبيعة الجسد البشري، فهو مدفوع بالغرائز الفطرية“ (ص 77)، وبالتالي يمكن اعتبار وراثة الخطية بأنها وراثة الجسد المصاب بمرض اللذة الشهوانية. وأيضًا في كلامه عن هذا الجسد يقول ”بحسب طبيعته دائم الميل نحو الخطية مدفوعًا بالغرائز الفطرية“ (ص 77)، وأيضًا ”الشهوات الفطرية الشرسة التي تحرك الذهن كل حين فتغرقه في الفساد“ (ص 78). بالتالي أيضًا يمكن اعتبار وراثة الخطية هي وراثة هذه الطبيعة التي تميل دائمًا نحو الخطية، والشهوات التي تغرق الذهن في الفساد. هذه كلها تعبيرات ق كيرلس نفسه.

-       في الفصل 28 الناموس ”يدين الطبيعة البشرية على مرضها الشديد بالخطية“ (ص 93).

-       في الفصل 29 بولس ”يتحقق بدقة .. ويحفر عميقًا في الأمراض التي عششت في أنفسنا ويصف نواة المتعة الفطرية“ (ص 97) أو في ترجمة أخرى: ”يتهم الجسد بمحبة اللذة فطريًا“. أحد معاني وراثة الخطية أن الجسد أصبح مريضًا بالشهوة ومحبًا للذة.

-       في الفصل 30 بولس ”يعود مجددًا لتحليله الثاقب لطبيعة الجسد، كما أنه بطبيعة الحال، يتفكر في قوة الأمراض التي تصيبنا: فسواء كانت الشهوات التي تدفع (بالإنسان) نحو أي من الأهواء، أو الاتهامات بالعيشة المكرسة للملذات، فإن مصدر الاثنين يوجد في الجسد“ (ص 99). الترجمة الإنجليزية تقول الآتي: ”يعود.. ويتفكر في قوة الأمراض التي تسكن طبيعيًا داخل الجسد. وهذا لأن الغرائز، والتي تؤدي إلى كل أنواع الشهوة، وخطايا الحياة الغارقة في اللذة، فإن الجسد مصدرهما“. الجسد مصدرهما! هذه هي وراثة الخطية، لدينا جسد تقبع فيه أمراض تسكن طبيعيًا فيه، وهو مصدر الغرائز والخطايا. هذا كلام ق كيرلس!

-       في الفصل 31 ”طبيعة الجسد غير محتملة... وإن كانت تنشئ في النفس الشهوات الوحشية، حينئذٍ يكون الناموس غير قادر على إعانتنا“ (ص 101). في الترجمة الإنجليزية يقول إن طبيعة الجسد من المستحيل مقاومتها!

-       في الفصل 33 يقول  أما طبيعة الجسد، فمدفوعة نحو الشهوات المفرطة بسبب ناموس الخطية القابع فيها والذي يجعلها تحارب. ما يدعوه (ق بولس) ناموس الخطية، يقصد به الغرائز الفطرية، وكل ما يمكن اعتباره أهواء تتعلق بالتمسك بالجسد“ (ص 103، 104). والترجمة الإنجليزية تقول ”لكن طبيعة الجسد تجره إلى ملذات غريبة لأن ناموس الخطية يحارب ضده ويضغط عليه بقوة“.

-       في الفصل 34 المسيح ”عتقنا من الموت الذي في أعضائنا، أي تحررنا من الشهوة المريرة القابعة في أعضائنا. لأن المسيح صيرنا أقوى من الشهوة ومن الخطية“ (ص 104). الترجمة الإنجليزية تقول ”حررنا من اللذة المتوحشة... صيرنا أقوى من اللذة ومن الخطية“.

-       في الفصل 35 ”الذهن لا يمكنه أبدًا أن يدفع الخطية التي لا يريدها بعيدًا عنه، لأن الشهوة تهاجمه بكل شراسة“ (ص 105).

-       في الفصل 37 ”لأننا كنا غرقى في الخطية، وناموس الجسد ينجذب إلى مدار الخطية، ومعه أيضًا ينجذب الذهن بغير إرادته“ (ص 110). الترجمة الإنجليزية تقول ”لأن الخطية عنيفة، وناموس الجسد يحدر الذهن لأسفل، حتى ضد إرادته“. طبعًا هناك فرق بين ”بغير إرادته“ و”ضد إرادته“. التعبير الأول معناه الإرادة كأنها مش موجودة أصلاً، لكن ق كيرلس بيقول الإرادة موجودة لكن ناموس الجسد وعنف اللذة يغلبه ”ضد“ إرادته.

-       في نفس الفصل، بفضل عمل المسيح ”استؤصلت الشهوة التي كانت ساكنة فينا“ (ص 111).

بالنظر إلى كل هذه التوصيفات الواقعية جدًا لحالة الإنسان بعد السقوط، استغرب من يقول إن ق كيرلس لا يركز على الخطية (ص 31)، لقد أنفق حبرًا كثيرًا في توصيف حالة الإنسان بعد السقوط. في كل الأحوال، التركيز على الخطية في النصوص السابقة ليس هدفًا في حد ذاته، بل ليتبيّن فضل عمل المسيح في المقابل. وكيف سأعرف نور عمل المسيح دون أن أعرف الظلام الحالك لحالتنا بدون عمل المسيح.

من الناحية الأخرى، اعتقادي بوراثة الخطية لا يزيد عن كلام القديس كيرلس. فوراثة الخطية بالنسبة لي هي: 1- هجوم الخطية واندفاعها في الطبيعة البشرية، 2- هي صخب الغرائز الفوضوية أو الملذات المخزية في طبيعتنا، 3- وهي نشأة ناموس الخطية المتوحش في أعضائنا، 4- هي مرض حب اللذة الذي أصاب طبيعتنا الجسدية، 5- هي الشهوات الشرسة التي تغرق الذهن، 6- هي حالة الجسد الذي ينجر إلى ملذات مفرطة وغريبة. وقد أعطانا المسيح بذبيحته على الصليب نصرة فوق كل هذا. لا أريد أن أؤمن بأي شيء آخر عن وراثة الخطية سوى ما سبق ذكره.

 

الأحد، 22 أكتوبر 2023

ريفيو لكتاب ”الله معنا ومن دوننا“ د. عماد شحادة

 


هذا الكتاب يقع في أكثر من 700 صفحة (قطع متوسط)، والكاتب قسيس إنجيلي أردني، قرأت له كتابًا سابقًا بعنوان ”ضرورة التعددية في الوحدانية الإلهية“، إصدار دار منهل الحياة، ودار الهيئة الإنجيلية للنشر والتوزيع بالإردن. والكتاب مُترجم إلى اللغة الانجليزية أيضًا.  

من أهم النقاط في الفصل الأول كلامه عن أن الرسالة المسيحية تبدأ بالإنجيل، والإنجيل يفترض عقيدة الثالوث من خلال إرسال الآب للابن لخلاص العالم وأيضًا لإرساله الروح القدس (ص 71). كما أن عقيدة الثالوث هامة وأساسية لكل العقائد المسيحية الأخرى. لكن إخلاص الكاتب للكتاب المقدس وحده في العقائد يؤدي إلى بعض الإشكاليات، ففي (ص 72) يقول إن كلمة ثالوث غير موجودة في الكتاب المقدس بالتالي ”المسيحي غير ملزم أن يستخدمها“. وأعتقد أن هذه مشكلة رفض البعض لما يُسمى ب conceptual terms أو المصطلحات المفاهيمية.. هناك ثلاثة شخصيات.. فما الخطأ أن أقول أن هناك ثالوث! ربما لأني من خلفية طائفية مختلفة عن الكاتب، فأنا مع وضع مصطلحات مفاهيمية لم ترد في الكتاب المقدس، أستخدم مصطلح ”ثالوث“ (ترتليان وثيؤفيلوس الأنطاكي أول من استخدمه)، كما استخدم الآباء في نيقية ”هوموأوسيوس“ برغم أنه ليس مصطحًا كتابيًا.

لكنه يتحدث بعد ذلك بشكل جميل عن عدم قدرتنا على استيعاب طبيعة الله بشكل كامل، لأننا محدودون. ويقول عبارة جميلة: ”إن عقيدة الثالوث ليست مشكلة تحتاج إلى حل، بل جمال يحتاج إلى اكتشاف“ (ص 76) هذا الجمال يقدم باستخدام كلمة ”سر“. ويشرح الكاتب معتمدًا على Weinandy الفرق بين المنهجية العلمية التي تهدف إلى إيجاد حل نهائي للمشكلة، والمنهجية اللاهوتية التي تهدف إلى استيضاح السر دون الوصول إلى نهايته (ص76). لكن هذا لا يمنع من اتفاق المنطق السليم مع هذا الإعلان الإلهي للثالوث، لكن ”لا يُلجأ إلى المنطق بسبب النقص في الإعلان، بل بهدف الوصول إلى فهم أعمق للإعلان.. وتوضيحه“ (ص 93). هذا هو مبدأ ”الإيمان الساعي إلى الفهم“ الذي نادى به أغسطينوس. من ناحية أخرى يشرح الكاتب أن صعوبة العقيدة لا تعني عدم المنطقية.

في هذا الفصل الثاني يفرق الكاتب بين الوحدانية المطلقة، وهو يقول إن بعض الفلسفات توصلت إليها بالفعل، والوحدانية بثالوث، وهذا تعبيره المفضل. هناك بالتأكيد تقاطعات بين الاثنين لكن النقطة الأهم من وجهة نظري أنه في الوحدانية المطلقة، ”مشيئة الله“ تقرر عمل بقية الصفات الإلهية. لكن في الوحدانية بثالوث صفات الله تنبع من العلاقة بين الأقانيم، فهي تدفق لغني العلاقة السرمدية بين الأقانيم. في الوحدانية المطلق الله هو ”سيد“، لكن في الثالوث الله ”سيد وأب“. وفي كلا النوعين، وحدانية الله غير منقسمة وغير مركبة، وأظن أن هذه نقطة جيدة لبدء الحوار مع المسلمين. في الوحدانية المطلقة أول مرة يختبر فيها الله العلاقة مع الخلق، لكن في الوحدانية بثالوث الله يختبر العلاقة السرمدية بين أقانيمه.  

في الفصل الثالث: يعلن العهد القديم عن الله الواحد، وأيضًا ظهوراته في شكل ملاك أو إنسان أو غيره (ص 109)، موسى رأى ”وراء“ الله، وهاجر أيضًا (تك 16). ثم يستعرض المعاني المرتبطة بالله في العهد القديم، أعجبني تحليله لآية 20: 28 ”كنيسة الله التي اقتناها بدمه“، كالآتي: 1- كنيسة الله (يسوع) التي اقتناها بدمه، 2- كنيسة الله (الآب) التي اقتناها (يسوع) بدمه، 3- كنيسة الله (الآب) التي اقتناها بدم خاصته، وخاصته هنا هو يسوع، 4- كنيسة الله (الواحد الوحيد) التي اقتناها بدمه الخاص.

تعبير ”الله“ يشار به إلى الآب.. في العهد القديم غالبًا للإشارة إلى أبوة الله لخليقته، ثم يظهر مصطلح ”الآب“ في العهد الجديد للإشارة إلى علاقته بابنه الوحيد ”كما لوحيد (يو 1: 14)، ويقول إن ”الإعلان عن الآب هو إعلان عن الثالوث“ (ص 123) لأنه في نفس الوقت إعلان عن الابن في علاقته بالآب، والروح القدس حاضر أيضًا لأنه روح الآب والابن. ثم يقول إن هناك 120 موضع في العهد الجديد يذكر الأقانيم بشكل بسيط ”دون دفاع ودون شرح ودون اعتذار!“ (ص 124). كما يشير أيضًا تعبير الله إلى الألوهية أو الطبيعة الإلهية (127)، ثم يستخدم تعبير ”الله“ للإشارة إلى الابن كما في قول توما ”ربي وإلهي“ ويحلل في حاشية 40 لماذا لا يُفسر هذا التعبير على أنه أسلوب تعجب.

في الفصل الرابع، لدي مشكلة في كلامه على أن ”الإنسان المسيحي غير ملزم أن يستخدم“ كلمة أقنوم (ص 146)، فإن كان هناك بديل أفضل، فما هو؟ وينقل عن عوض سمعان الذي يميز بين الأشخاص (ذوات منفصلة)، والأقانيم (ذات واحدة). ويقول إن كلمة شخص تشير إلى الانفصال (147)، لكن الجملة الأهم في هذا الفصل هي أن الثالوث ”ثلاثة أشخاص بألوهية واحدة، وهذه ميزة موجودة بتفرد في الله فقط، وليس في أي من الخلائق“ (148). ثم يستعرض عدة أخطاء شائعة عن تصورنا عن الله، كأن نحصر الإيمان بوجود الله فقط، أو نقول ب 3 آلهة، أو المودالية (السابيلية)، أو الاستقلالية في العمل، أو التراتبية والتي يقول فيها ”لا يعلم الكتاب المقدس التراتبية، بل الترتيب“ (149). لدي مشكلة مع عبارة ”هناك تواضع حقيقي في ذات الإله الواحد. وظهرت هذه الصفة في التجسد والفداء“. هنا خلط بين ما هو ثيؤلوجيا وما هو إيكونوميا، وليس من الصحيح أن كل ما يظهر في الإيكونوميا يكون له مردود في الثيؤلوجيا. هذه مشكلة كارل رانر الذي قال قاعدته الشهير ”الثالوث الأنطولوجي هو (يطابق) الثالوث التدبيري)، وإن كان هناك تفسيرات متعددة لقاعدة رانر. ثم يتعرض لفهم طبيعي المسيح، ويناقش استخدام التشبيهات في شرح الثالوث مؤكدًا على قصورها.

في الفصل الخامس، يتعرض الكاتب إلى مناقشة ما يرفضه القرآن بشأن الثالوث، وأننا نرفض نفس الشيء أيضًا. ورفض القرآن للتجسد والفداء، مؤكدًا أن المسيحية تتجاوز الوحدانية المطلقة بالكشف ”عن مستلزم طبيعي يجعل عمل صفات الله ممكنًا“ (ص 170).

أمّا الفصل السادس: يقول إن السؤال الحتمي هو: ”كيف يمكن أن تكون صفات الله عاملة سرمديًا خارج الخليقة دون أن يكون الله قائمًا في علاقة؟ ويشير إلى صراع تاريخي إسلامي بشأن الصفات بين الاشاعرة والمعتزلة. المعتزلة قالوا بإن صفات الأفعال غير أزلية (184)، لكن هذا يجعل الله قابلاً للتغيير. في المقابل الأشاعرة قالوا بأن صفات الأفعال أزلية نابعة من مشيئة الله. كذلك رفض الأشاعرة أي محاولة لتعريف صفات ذات الله أو السؤال عنها، بينما أصر المعتزلة أن صفات الله هي ذاته وليست في ذاته كما قال الأشاعرة (ص 200). ثم تحدث عن الخلاف حول ”فتنة القرآن“ وهل كلام الله مخلوق (كما قال المعتزلة) أم أزلي (كما قال الأشاعرة)؟

في الفصل السابع: الوحدانية بثالوث قالت إن صفات الأفعال نابعة ليس من مشيئة لا يمكن التكهن بها بل من طبيعة الله المعلن عنها (ص 209)، وصفات الأفعال تنبع من صفات الذات (ص 216). فتعامل الله مع البشر بصفات الأعمال (محبة، رحمة، ...) ينبع من تعامل الأقانيم فيما بينهم.

في الفصل الثامن، يقول فكرة مهمة جدًا أن ”الشخصية“، طالما اعترفنا أن الله شخص، لا تنحصر في الوجود، لكنها تحتاج إلى العلاقة (ص 231). ويستشهد باللاهوتي الارثوذكسي يوحنا زيزولاس الذي قال (to be and to be in relation is identical). هذه العلاقة بين الأقانيم تمكنه من ”مشاركة غنى ما يملكه“ (232). هناك جزء مهم يناقش لماذا التقيد بثلاثة أقانيم وليس أكثر من ذلك.  

في الفصل العاشر في سياق حديثه عن السكنى المتبادلة، يقول إن البعض فسرها خطأ، مثل ليوناردو بوف، وقالوا إنها تلغي الترتيب في الذات الإلهية، وأنها تلغي أية سيادة لأي أقنوم على الآخرين (ص 332). الإشكالية هنا أن الكاتب يطابق بين الثالوث التدبيري والثالوث الأزلي، فمع وجود خضوع وترتيب في التدبير يريد الكاتب أن يرده إلى ترتيب سرمدي أزلي. هذه الفكرة من النواتج الخاطئة لتطبيق قاعدة Rahner الذي طابق بين الاثنين. فالابن في التدبير مثلاً صرح بأنه لا يعرف الساعة، وكثير من الآباء قالوا إن هذا مناسب لبشريته، فهل يمكن رد ذلك إلى نوع من عدم المعرفة للابن في الثالوث الأزلي؟ هذا غير وارد. ولذلك قال الآباء أنه بلاهوته يعرف كل شيء. وبالتالي يجب عدم تطبيق قاعدة رانر بحذافيرها في كل موقف.  

الفصل 13 فصل خطير جدًا، لأن الكاتب يشير بوضوح إلى رفضه لفكرة الولادة الأزلية، ويقبل في المقابل فكرة البنوة الأزلية. لأن فكرة الولادة قد تتضمن فكرة اعتماد الابن في وجوده على الآب، مما يترتب عليه التراتبية، وهذا غير صحيح كما سأبين.المهم أنه يبني ذلك على أدلة كتابية بحروف الجر اليونانية. يقول: ”إن من المزايا العجيبة لدقة الوحي أنه يستخدم حرفي الجر  κ ، π للإشارة إلى المهمة الزمنية التي أرسل الآب الابنَ إلى الأرض، في حين يستخدم حرف الجر παρ  للإشارة إلى العلاقة السرمدية بين الآب والابن“ (ص 452).

ويضرب أمثلة على آيات تدل على الإرسالية التدبيرية، مثل ”خرجت من قبل الله وأتيت   κ το Θεο ξλθον“ (يو 8: 42 ب)، و”هو عالم أنه من عند الله خرج  π Θεο ξλθεν“ (يو 13: 3). وعلى الحالة الأزلية بآيات مثل: ”مجدًا كما لوحيد عند الآب μονογενος παρ Πατρός“ (يو 1: 14)، ”من عند الله خرجت  παρ το Θεο ξλθον“ (يو 16: 27 ب)، ”خرجت من عند الآب ξλθον παρ το πατρς“ (يو 16: 28 أ)، ”خرجت من عندك παρ σο ξλθον“ (يو 17: 8 ب).

يريد د عماد شحادة أن يصل إلى أن حرف الجر παρ في استخدامه للإشارة للعلاقة الأزلية بين الآب والابن يؤكد أن العهد الجديد يتجنب أي لغة توحي بالمصدرية أو الترتيب الزمني، ”فيشدد على أن الابن لا يخرج "من" الآب، بل "من عند" الآب، أي حيثما يوجد الآب، وذلك باستخدام حرف الجر παρ. ولو استخدم حرف الجر πὸ / κ لوصف العلاقة السرمدية، لعنَى ذلك مصدرية وأوحى بترتيب زمني، مما قد يؤدي إلى تراتبية في الثالوث“ (ص 453). يكرر نفس الشيء من جهة العلاقة مع الروح القدس (ص 516- 517) للتأكيد على نفس الفكرة، ويستدل بآية ”من عند الآب ينبثق παρ το Πατρς κπορεύεται“ (يو 15: 26 ب).

هذا يختلف بالطبع عما قاله الآباء وصاغوه في مجمع نيقيه، لكن كاتبنا لا يبالي كثيرًا بفكرة صياغات المجامعات. فهو يتذرع دائمًا بالكتاب المقدس، وينسى أن الآباء قرأوا الكتاب المقدس جيدًا أيضًا. الأب متى المسكين في كتابه ”القديس أثناسيوس حقبة مضيئة في تاريخ مصر“ وص 402 يقول أن هناك اصطلاحين حارسين للوحدة الإلهية هما ”من الله κ Θεο“ و”في الله  ν θεῷ“. ثم يقول عن التعبير الأول هو اصطلاح إنجيلي اتخذه الآباء في شرح علاقة الابن والروح القدس بالآب.. ”للحفاظ على وحدة الأصل“، أو المونارخية وهي بحسب الأب متى المسكين عقيدة لحراسة مفهوم وحدانية الله ضد أي انحراف ناحية الوثنية وتعدد الآلهة.

وجدير بالذكر أن قانون الإيمان استخدم هذا التعبير ”المولود من الآب قبل كل الدهور κ το Πατρς γεννηθντα πρ πντων τν αἰώνων“. ومن جهة الروح القدس فإن عبارة ”المنبثق من الآب“ هي  κ το Πατρς κπορευμενον ولا يستخدم قانون الإيمان الحرف  παρ بل κ، فهل الكاتب يعتقد أن الانبثاق هنا مهمة تدبيرية؟! يتضح من هذا أن دكتور عماد شحادة لا يفضل تعابير قانون الإيمان النيقوي.. لصالح قراءة نصية معينة.. فما صحة وحقيقة هذا الأمر؟

للرد:

يذكر ستيفن دابي في كتابه (Jesus and the God of Classical Theism) يو 6: 45، 46 التي تقول: ”لَيْسَ أَنَّ أَحَدًا رَأَى الآبَ إِلاَّ الَّذِي مِنَ اللهِ   ν κ το θεο“، فالابن هنا من κ الله وليس παρ، ويستشهد بتفسير يوحنا ذهبي الفم الذي يقول إن عبارة  ”من الله“ قيلت ”ليس من جهة العلية بل من جهة الجوهر κατ τν τρόπον τς οσίας لأنه لو قال هذا بمعنى العلية، لصرنا نحن  كلنا بالمثل "من الله"، فأين سيكون سمو الابن“ (In Johann. 46.1 ).

كما يستشهد بآية يو 7: 28 – 29 التي تقول ”مِنْ نَفْسِي لَمْ آتِ، بَلِ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَقٌ، الَّذِي أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ. أَنَا أَعْرِفُهُ لأَنِّي مِنْهُ παρ ατο ، وَهُوَ أَرْسَلَنِي“. عبارة ”هو أرسلني“ تفيد الإرسالية التدبيرية، لكن عبارة ”أنا أعرفه لأني منه“ (والتي يمكن أن تُترجم "من عنده" بناء على استخدام حرف الجر παρ) تبين لماذا هو بالذات يعرفه حق المعرفة.. ويستشهد بفهم القديس أغسطينوس الذي يقول إن عبارة ”لأني منه“ تفيد أنه إله من إله ونور من نور، بينما عبارة أرسلني تتعلق بمجيئه إلى العالم (In Iohann. 31.4  ).  في يو 1: 6 نقرأ عن يوحنا ”كَانَ إِنْسَانٌ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ  πεσταλμένος παρ Θεοῦ اسْمُهُ يُوحَنَّا“. فهل إرسالية يوحنا إرسالية سرمدية؟