الخميس، 13 يوليو 2017

أفكار عن فلسفة التاريخ-ج1

بعض الأفكار عن فلسفة التاريخ[1]

فلسفة التاريخ: هذا الفرع من فروع الفلسفة يُعنى بأمور في غاية الأهمية حتى لغير المتخصصين أمثالي، ويتقاطع مع علم اللاهوت في نقاط كثيرة. فلسفة التاريخ تُعنى بالبحث عن هل يوجد هدف عام للتاريخ؟ هل يتحرك التاريخ نحو غاية؟ هل أحداث الماضي عشوائية، ونحن كبشر نميل إلى تجميعها وتصفيفها لتبدو أن لها معنى؟ هل يسير التاريخ في دورات متكررة، ونحو تكرار محتّم ليس بأيدينا أن نغيره؟ هل هناك قوة خارجية هي التي تحرك التاريخ، أم أن الإنسان هو الذي يرسم خارطة التقدُّم بيده؟ كلها أسئلة أظنها لاهوتية أيضًا. حاولت أن أقوم ببحث سريع عن إجابات لهذه الإسئلة، وهذا ما خرجت به- حتى الآن.
يحاول الفيلسوف تحديد علة واحدة أو علتين يفسر في ضوءهما التاريخ العالمي. البعض يرى أن العناية الإلهية الفوقية هي التي تحرك التاريخ، بينما يرى فريق آخر أن الدولة هي التي تحرك التاريخ، أو الاقتصاد، أو العقل. الشيء الملفت أن البحث عن مغزى التاريخ وغايته اشتدت وتيرته بعد أعقاب حوادث جسمية: أغسطينوس بعد سقوط روما، ابن خلدون بعد سقوط بغداد والخطر المغولي، هيجل مع ظهور نابوليون بونابرت حتى أنه قال عبارته الشهيرة: “بومة مينرفا (رمز الحكمة عند اليونان) لا تحلق إلا عند الغسق”.
بشكل عام آمن فلاسفة الإغريق والرومان بأن التاريخ يسير في دورات متكررة، بلا جهة وصول، وبلا معنى عام. وهو نوع من القدرية والحتمية. الإنسان جزء من الكون ويسير عليه ما يسري على الكون والطبيعة من قوانين. حتى جاء اليهود ووضعوا أنفسهم في موقع متميّز من التاريخ، وقالوا أن التاريخ يسير لغاية وهي عودة اليهود إلى أرض الموعد وإقامة ملكوت المسيّا.
شيء لافت عند اليهود في تاريخهم المقدّس، تاريخ العهد القديم. التاريخ التثنوي [2](Deuteronomistic History)، وبالأخص في سفر القضاة، نجد أن كاتب الأسفار الملهم يقسِّم حقبة القضاة إلى دورات متكررة طبق الأصل تقريبًا. تبدأ بعصيان الشعب لله، فيسلمهم ليد أعدائهم، فيصرخ الشعب، فيرسل الله المخلص مثل جدعون أو شمشمون فيخلصهم، ثم تُعاد الكَّرة مرة أخرى. هناك من ينتقد هذه المنهجية بشدة، ويتهمها بعدم الدقة العلمية. لكن علماء اللاهوت يؤكدون دائمًا أن التاريخ المقدس مغلَّف بنظرة لاهوتية، فهو تاريخ مفسّر (Interpreted History)، وكذلك ينتقدون تاريخ سفري الملوك والأخبار الذي يُظهر مملكة الشمال وملوكها كلهم أشرار، بينما هناك تحيُّز واضح في صالح مملكة يهوذا في الجنوب. هذا النمط التفكيري يجعل العقيدة مفسّرة للتاريخ وخادمة له، وإذا شئت فلتسميه “لاهوت التاريخ“[3]
ثم جاء العالم المسيحي، ويرى البعض أن بولس هو أول مَن أول التاريخ في نظرته لقصة سارة وهاجر في رسالة غلاطية، كذلك ساهم آباء الكنيسة من أمثال يوستين وأيريناؤس بأفكار عن مركزية وعالمية المسيح. [4]ثم يأتي القديس أغسطينوس بنظريته عن العناية الإلهية ليساهم بقوة في هذا المجال.  تقوم نظرية العناية الإلهية على أن الله هو محرك التاريخ، ووسيلته في هذا هي النعمة. قسّم اغسطينوس التاريخ في شكل دراما مسرحية من 4 فصول: 1- سقوط آدم وما بعده، 2- التجسد الذي يمثل اقتحام الله للتاريخ، 3- الكرازة بالإنجيل، 4- المجيء الثاني. وبالتالي التاريخ يتحرك نحو غاية هي مجيء المسيح ثانية.
القديس أغسطينوس بعد سقوط روما على يد القوطيين البربر، وهو بمثابة سقوط العالم القديم، وجد نفسه مضطرًا لإيجاد تفسير خصوصًا أن الفلاسفة الرومان نسبوا هذا الانحدار إلى ابتعاد روما عن آلهتها القديمة. فكان جواب أغسطينوس في كتاب “مدينة الله” أن مهمة مدينة الأرض (روما) قد انتهت بتمهيد الطريق لمدينة الله (الكنيسة). يرى أغسطينوس أيضًا أن التاريخ ما هو إلا ترجمة للإرادة السماوية، ولا يقبل من صفحات الماضي إلا ما ورد في الكتب المقدسة. ثم يقسم تاريخ العالم في 7 مراحل على غرار خلق العالم في 7 أيام- كما ورد في بداية سفر التكوين:
1- من آدم إلى نوح، 2- من نوح إلى إبراهيم، 3- من إبراهيم إلى داود، 4- من داود وحتى السبي البابلي، 5- من السبي إلى ميلاد المسيح، 6- العصر الحالي، 7- استراحة الله مرة أخرى.  يرفض أغسطينوس نظرية التعاقب الدوري[5] لأنه ببساطة يضع صلب المسيح كأهم حدث في تاريخ العالم.
الفكر الإسلامي يؤمن بنظرية العناية الإلهية بوضوح، لكن الثغرة الكبرى هي أنه لا يطبق مفهوم العناية على تاريخ أمته الإسلامية أو تاريخ العالم.[6] من ناحية أخرى ظهرت لدى بعض الفرق الإسلامية مثل إخوان الصفا[7] فكرة عودة المهدي المنتظر.. وهي فكرة يهودية تمثلت في عودة إيليا، وفكرة مسيحية تمثلت في عودة المسيح، وتوجد في ثقافات أخرى.
ثم يأتي عصر النهضة وحركة التنوير لتعلي من قيمة العقل والعلم وتسخف من فكرة الدين معتبرةً إياه قائمًا على الإسطورة والخرافة. ومن أعلامها فولتير ومونتسكيو. الجدير بالذكر أنه في أيام فولتير حدث زلزال مدمر ضرب مدينة لشبونة 1755م مات جراءه 30 ألف إنسان. هذا الحدث الجسيم جعل فولتير يتشكك في مفهوم العناية والتدخل الإلهي.. يرى البعض أن فولتير كان ربوبيًا- أي يؤمن بوجود الله، لكنه الله الذي لا يتدخل في العالم. لذا آمن فولتير بأن التاريخ يتقدّم بالعقل الإنساني وليس بالعناية الإلهية. قال فولتير إن الكتب هي التي تحكم العالم، وأن حرية الفكر هي حياة الروح.
ثم يأتي الفيلسوف الألماني كانط، بنظرية توفيقية، تحاول الجمع بين العناية الإلهية والعقل. واعتقد أن التدافع والصراع والحرب هي عوامل تحرك التاريخ إلى الأمام. يتصور كانط أن السلام الدائم يخمد قوى الإنسانية فلابد من صراع. هذا الصراع سيؤول في النهاية إلى تقدم الشعوب. ثم يأتي هيجل الذي يؤكد على فكرة الصراع الضروري حتى تنكشف الروح، وأن الديلكتيك  هو سر حركة التاريخ. التاريخ ظاهره فوضى وفي باطنه روح تحرك التاريخ. التاريخ يسير نحو الحرية تدريجيًا. يري هيجل أن المجتمعات القديمة كانت تعيش في عبودية، ثم في الحضارة اليونانية والرومانية اتسع نطاق الحرية، ثم تم الوعي الكامل بالحرية بفضل المسيحية. وأن الشعوب الجرمانية أكثر من حققت هذه الحرية (يطهر تحيزه لجنسه الألماني). هذا ما يُطلق عليه التفسير الميتافيزيقي الهيجلي للتاريخ.[8]
نأتي إلى ماركس ونزعته المادية الاقتصادية المحضة. يرى ماركس أنك إذا فصلت التاريخ عن العوامل الاقتصادية كأنك فصلت الجسد عن الروح. ولا شك أن اكتشاف نوع من المعادن أو نوع من التكنولوجيل يكون كفيلاً بتاغيير خريطة العالم. لكن هذا هذا هو العلة الوحيدة لتحرك التاريخ إلى الأمام؟! يرى ماركس أن الدين اغتراب للإنسان عن نفسه. والعالم الاقتصادي عنده أقوى من إرادة الإنسان بل قد يصل إلى نوع من الجبرية. كأن الإنسان عبد لاحتياجاته الاقتصادية.
نأتي إلى نظرية أخيرة لمفكر يسمى “أرنولد توينبي” تسمى نظرية التحدي والاستجابة. وتتلخص نظريته في أن الإنسان يواجه ظروفًا صعبة وبمقدار تحديه لها يبني حضارته. مثل الإنسان الضرير الذي يحاول التغلب عل عجزه وظروفه. الرومان اضطهدوا المسيحية، فتسلحوا بالإيمان، حتى انقلبت الأوضاع وصارت الديانة الرسمية للبلاد. رأى دقلديانوس المسيحية خطرًا على دولته فعزم على إفنائها لكنّ تسلحها بالإيمان أوصلها إلى درجة جعلت قسطنطين يرى مصلحة دولته في المسيحية فيتبناها كليةً. هذا الرجل أرنولد توينبي تحاور مع كل الناس- حتى رهبان جبل أثوس- والفلاحين والراعاة.. والمفكرين، وكان يتأمل في الحضارات القديمة التي ماتت والحضارات الحية إلى الآن.
كان أرنولد توينبي يتساءل: هل يقول لنا التاريخ شيئًا عن حاضرنا الآن؟ أين نحن الآن؟ نتسلق أم ننحدر؟ هل ستموت حضارتنا مثل حضارات سابقة؟ وإن كان هذا سيحدث، هل يمكننا أن نفعل شيئًا؟ وكيف؟ رأى توينبي أنه يمكن استخلاص نمط معين يشرح دورة الحضارات.. هذا النمط ينطبق بنفس القدر على الأفراد. فالأفراد والحضارات تختبر: 1- نوعًا من القناعة والسكينة.. فيبدأ في إرخاء قبضته فيما يتعلق بالقيم التي يعيش بها.. فيتسغرق في الماديات، وهذا يدفعه إلى 2- المعاناة.. لأن الماديات لا تشبع أعمق احتياجاته، ويكتشف أن أوثان المادة آلهة مزيفة. ثم يدفعه هذا إلى 3-  إنقاذ القيم مرة أخرى واستعادتها والبحث عن المعنى من جديد، ثم 4- مرحلة أخرى من الإبداع، ثم 5- الشعور بالقناعة والسكينة مرة أخرى.[9]
هذا ينطبق على الحضارات مثلما ينطبق على الأفراد لكنه ليس قانونًا حتميًا. هناك عوامل لا حصر لها يمكنها مساعدة الأفراد والحضارات على الخروج من هذه الدائرة. بمقدورنا أن نتعلم من معاناة الآخرين.. شعوب وأفراد- ولا نكرر المأساة. الأفراد والشعوب تبدا في التفكير في القيم التي عاشت بها بعد خسارة فادحة.. الأفراد والشعول تتعلم بالمعاناة.. لا شيء غير المعاناة.. هي الفرصة للخروج من نمط تاريخي مرسوم اجتازه غيرنا من قبل. فهل نتعلّم؟ المتفائلون يؤمنون بأن الإنسان كائن يتعلم، والمتشائمون يراهنون على أن التاريخ يعلمنا شيئًا واحدًا هو أننا لا نتعلم من التاريخ. وأن التاريخ يعيد نفسه؛ في المرة الأولى كمأساة والثانية كمهزلة! ما هو موقفك الشخص؟



[1] اعتمدت في هذا المقال على كتاب “فسلفة التاريخ” للدكتور رأفت غنيمي الشيخ، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، وعميد كلية الآداب بجامعة الزقازيق، 1987- 1988.
[2] نظرية حديثة ترى أن أسفار يشوع وقضاة وصموئيل والملوك هي عمل أدبي واحد، لأنها تحكي ما ورد في سفر التثنية عن بركات الطاعة ولعنات العصيان من سبي وتشريد.. إلخ.
[3] James L. Christian, Philosophy: An Introduction to the Art of Wonder, 11th edition, p 294.
[4] هناك مقالة مترجمة عن نظرة آباء الكنيسة للتاريخ- ستصدر قريبًا إن شاء الله.
[5] نظرية التعاقب الدوري للتاريخ تُنسب لابن خلدون عالم الاجتماع الشهير، وهو اتجاه يرى أن التاريخ  يسير في دورات متتالية ومتشابهة ، بحيث تعود الأحداث السابقة من جديد بأشكال متقاربة ، وتترتب عليها النتائج نفسها. التاريخ عند ابن خلدون يشبه دورة القمر: هلال ثم بدر ثم خسوف تدريجي. هكذا الأمم.
[6] فلسفة التاريخ، رأفت الغنيمي، صفحة 93، وفي فلسفة التاريخ، أحمد صبحي، صفحة 174.
[7] جماعة من الفلاسفة المسلمين ظهروا في القرن العاشر الميلادي في البصرة بالعراق، عملوا على توفيق العقائد الإسلامية مع الحقائق الفلسفية المعروفة.

[8] لا أستطيع أن أزعم أنني فهمت فلسفة هيجل عن التاريخ، وتعبير “تفسير ميتافيزيقي” في الغالب تعني تفسير روحاني.. أي أنه يعزو تقدّم التاريخ لأسباب غير مادية على الإطلاق كما سيفعل ماركس بعد ذلك.
[9] Philosophy: An Introduction to the Art of Wonder, 11th edition, p 300- 303.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق