الاثنين، 30 نوفمبر 2020

رحلتي مع الثالوث- 25

 

مع بداية القرن العشرين، نأتي لمرحلة مهمة جدًا، مع يسى منصور شماس وواعظ بطريركة الأقباط بالأسكندرية، وكتاباته الجميلة المتعددة. هذا الشماس له كتاب بعنوان ”رسالة التثليث والتوحيد“، يسرد فيه كمية كبيرة من الآيات الكتابية للتأكيد على وحدانية الله. ثم يقول يكفي أن القرآن يشهد لنا في سورة العنكبوت ”إلهنا وإلهكم واحد“، فلا خلاف في أمر الوحدانية. بل الاختلاف في صفات الله وأقانيمه.. ثم يقول إن كلمة ”واحد“ في العبرية لا تعبر عن وحدانية مصمته بلا وحدانية شاملة جامعة. دي نفس الحجة دي اعتمد عليها الله يرحمه نبيل قرشي في مناظرته مع الشيخ شابير علي على اليوتيوب.


ثم يقول: ”التعدد في الأقانيم لا يلحق الجوهر ولا يستلزم انقسامه أو انفصاله؛ لأن جوهر الله غير مادي.. فلكل أقنوم جوهر اللاهوت الواحد، ثم يذكر أن ”الأعداد مبدئيًا من خصائص العالم الطبيعي“ المخلوق. ثم يستخرج من الكتاب المقدس أدلة على التثليث: 1- صيغة الجمع في سفر التكوين، ودي استخدمها آباء كثير، 2- التقديس المثلث ”قدوس، قدوس، قدوس“ اللي قالها السيرافيم (ودي استخدمها غريغوريوس النيسي وأمبروسيوس)، لكن يلاحظ أن يسى منصور لا يرجع هذه الأمثلة لأحد من الآباء.. 3- البركة المقدسة في سفر العدد 6: 24- 26،كما يستخدم أيضًا آية ”اسمع يا اسرائيل: الرب إلهنا رب واحد“ وان الرب بالمفرد والله (ألوهيم) بالجمع. كما يربط يسى منصور بين أع 10: 38 ”مسحه الله بالروح القدس“، وإش 42: 1 ”أضع عليه روحي“ بالقرآن في سورة البقرة 87 ”آتينا عيسى بن مريم البينات، وأيدناه بروح القدس“. ثم يستخلص أن الآديان الثلاثة- بحسب الشواهد الثلاثة السابقة بتؤمن أن الله هو المويِّد، والمسيح هو المؤيَّد، والروح القدس هو المؤيَّد به.

بيستخدم يسى منصور الإنسان كتشبيه للثالوث، فيقول إنه ذات موجودة ويتميز عن العدم بخاصية الوجود.. وهو حي يتميز عن الجماد بخاصية الحياة، وهو ناطق يتميز عن الحيوان بخاصية النطق.. (استُخدمت سابقًا). لكنه يقول جملة في منتهى الأهمية.. وهي بترد على مَن يتهم لاهوت الصفات بالسابلية: ”نحن لا نقول هذا لنعبر عن أن الثالوث الأقدس هو مجرد ثلاث خواص، فهذا ليس إيماننا، ولا إيمان الكنيسة الجامعة، بل لنبرهن أن وجود الخواص المميزة في الله لهو مما يسهل للذهن حقيقة الثلاث أقانيم في اللاهوت“.

ثم ينتقل إلى نقطة مهمة للغاية.. بيقول كيف يمكن للمنزه عن كل شيء أن يصير خالقًا على اتصال بالعالم؟ ”أليس عمل الخلق هو بدء علاقة أو نسبة بين الخالق وما سواه؟“ هل نقدر نقول إنه صار أمر جديد في الله.. كيف يتفق هذا مع تنزيه الله عن الحوادث والطوارئ؟ ثم يجيب: إن الاعتقاد بالله مثلث الأقانيم يدل على أن خلق العالم لم يكن بدء تعلقات الذات؟ لأن الله ذو علاقات منذ الأزل قائمة به، باعتبار تعدد أقانيمه المباركة، فكل أقنوم له علاقة وله نسبه بجانب الآخر وله علاقة بغيره“. هنا أنا منبهر أني أعرف شخص مسيحي قال كده في مطلع القرن العشرين.. اليوم وعاظ كثيرين أجانب ومصريين.. بيعتمدوا على نقطة العلاقات.. وأن الله كائن علاقاتي.. وأنه يتمتع بالعلاقة الغنية داخل الثالوث.. وبالتالي أنه يقيم علاقة مع البشر أو الملائكة (خليقته كلها) مش شيء جديد أو تغير نوعي ممكن يُنسب لله.

ينتقل الشماس يسى منصور إلى فكرة أخرى ويقول: ”أين قدرة الله قبل الخلق؟هنا بيحاول يقول إن الله معندوش صفات كامنة أو معطلة.. فلازم يكون قادر قبل وبعد.. فيقول ”الخلق العارض لم يجيء غريبًا على الله بل صدر عن المحبة الفعالة“. من ناحية تانية بيتكلم عن التاثر والانفعال (ربما تعبير الديناميكية في الله هيكون أدق.. لأن المفروض الله خال من الانفعالات).. بيقول ربنا بيتجاوب معانا.. نصلي فيستجيب ويسمع، نحب الله ويحبنا، يعني (في انفعال متبادل بوجه من الوجوه). أين كان هذا الانفعال في الله قبل الخلق وهو غير متغير؟ يقول ”كل هذا الإشكال لا يحله إلا الإيمان بوجود الله مثلث الأقانيم، يؤثر ويتأثر كل منهم بالنسبة لعلاقته بالآخر منذ الأزل.. كقول التوراة: هوذا بسط نوره على نفسه. أيوب 36: 30“. الإشارة للآية دي عبقري.. وجديد.. غير كده يكون الله قبل الخليقة ”لا يؤثر ولا يتأثر، ولا يتكلم، ولا يسمع، ولا يعمل، جامد، بلا نسبة، ولا علاقة، في فضاء العزلة والعدم“.

يُتبع

رحلتي مع الثالوث- 24

 

ندخل بداية القرن العشرين، وحوالي عام 1910 كتب ”إسكندر أفندي عبد المسيح الباجوري“ في حبرية البابا كيرلس الخامس.. كتابًا بعنوان ”البحث الفلسفي الحديث في حقيقة علم التثليث“. 

  


وكانت الافتتاحية كالتالي: بسم الآب البادي، والابن الفادي، والروح الهادي، ثالوثنا الكامل، إلهنا الواحد العامل، ذي الوحدة الجوهرية، والأقانيم التثليثية، والمزايا الصمدانية، والأمجاد السرمدية، له القدرة والسلطان“. إسكندر أفندي وجد شخص مسلم بينتقد إيمانه.. فحاول يرد عليه من القرآن.. مع تأكيده على الاحترام الكامل للدين الإسلامي والقرآن.. فيبني حجته على بعض النصوص القرآنية منها سورة المؤمنين والآية التي تقول ”تبارك الله أحسن الخالقين“ وبيقول إسكندر أفندي أنه رجع إلى كتاب ”المصباح المنير للشيخ الفيومي“ فوجده بيقول: لا يجوز نسبة الخلق إلى غير الله متى جاءت مصحوبة بأل التعريف..  ثم رجع إلى كتاب ”أقرب الموارد في فصح العربية والشوارد“ للشيخ الشرتوني في لبنان ليجد أن ”خلق“ معناها ”أبدع الشيء على غير مثال سابق“، وبالتالي الجمع المذكر السالم في ”الخالقين“ إما يشير إلى تعدد الآلهة، وهنا قال اسكندر أفندي ”حاشا لله أن القرآن ينادي بهذا وهو الداعي بالتوحيد المطلق“،  أو يشير إلى شيء آخر ”لا ينطبق على الوحدة المجردة“، وإلا ما كان وصف بصيغة الجمع.

يقول اسكندر أفندي أن ”آراء القرآن في التثليث إيجابية اعترافية تصريحية ودية لا عيب فيها.. وعلى كل حال شريفة معتبرة“. وإن كلام القرآن أسمى من كلام المفسرين ”لأن القرآن نهانا عن جعل الله ثالث ثلاثة.. لكي يعلمنا أن الأقانيم ليست آلهة متعددة مستقلة“. ولما قال القرآن في سورة النساء ”إنما عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فآمنوا بالله ورسله، ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرًا لكم، إنما الله إله واحد“. فهنا بيقول اسكندر أفندي أن اعتقادنا في الثالوث لا يزيد على ما جاء في القرآن: نؤمن ب3 أقانيم (الله وكلمته وروحه) كما جاء في سورة النساء.. ثم لا نقول بثلاثة آلهة؛ لأن الله واحد في جوهره مثلث في أقانيمه.

يُتبع

رحلتي مع الثالوث- 23

 

نقفز قفزة كبيرة شوية، وندخل القرن ال 19 في مصر، علشان نقابل محطة مهمة مع القمص فيلوثاؤس إبراهيم، كاهن الكنيسة المرقسية، عاش بين (1837- 1904م). هذه المرة يكتب رسالة بعنوان ”الله واحد“ للرد على شخص مسيحي ينتمي إلى الأخوة البلموسيين، وهذا الشخص انكر ”وحدة الذات الإلهية“. هذا الشخص اعتمد على فيلبي 2: 6 عن أن المسيح معادل لله وقال ”المعادل لم يكن هو والمعادل له ذات واحدة“. المرة دي هتكون المهمة هي إثبات الوحدانية، كأننا رجعنا لزمن الوثنية تاني.


يقول القمص فيلوثاؤس عوض ”نعوذ بالله من هذا الضلال!“. هذا الشخص اضطر أن يفسر آيات مثل ”أنا والأب واحد“ بطريقة خاطئة بأنه قال إن في يو 17 قال ”ليكونوا واحدًا فينا“ فوحدتنا بحسب رأيه لا تجعلنا ذاتًا واحدًا مع الاب والابن. القمص فيلوثاؤس قال النقطة الأخيرة دي صحيحة وحدتنا مع الآب والابن غير وحدة الابن مع أبيه؛ لأن الأخيرة وحدة ذاتية وجوهرية.. ليه؟ ”لأننا مخلوقون متحيزون (في المكان) ومحدثون (لينا بداية في الزمن)“. أما الثالوث القدوس المتوحد في الجوهر فهو ”أزلي لا بداية له، أبدي لا نهاية له، ويستحيل أن يكون الأزلي أكثر من واحد في الذات“. الأزلي لازم يبقى واحد.  

بعد أن يقتبس من العهدين آيات تثبت وحدانية الله يقول: كما أن إشعياء في رؤياه وجد السيرافيم يثلثون التقديس ويوحدون الربوبية، هكذا العظيم يوحنا في رؤياه شهد بأن الأربعة حيوانات تمجد العلي مثلثين التقديس وموحدين الربوبية“. ثم يبدأ القمص فيلوثاؤس في سرد أقوال من علماء الطوائف (أقباط وسريان وروم ولاتين). ويبدأ بالصفي بن العسال (القبطي جنسًا والأرثوذكسي مذهبًا) ويقتبص من كتابه ”أصول الدين“: ”أن الله لو كان كثيرًا لوجب أن يوجد من هذه الكثرة اشتراك واختلاف وبالتالي التركيب..  فيكون قبل الخالق (آخر) وجب عنه تركيبه“. ويواصل الصفي قوله.. لو كان فاعلو العالم كثيرين.. ”فلا يخلو أن تكون قواهم متساوية أو غير متساوية“.. ”فإن تساوت منع الواحد الآخر من الفعل- إذا اختلفوا في الإرادة. .. ولو قواهم غير متساوية منع الأقوى الضعيف“. كما أن الكثرة توجب التحيز.. والتحيز يعني التركيب.. وبالتالي تلغي الوحدانية.. هذه الحجة المبنية على التحيز أو المكان تعرضنا لها في السابق.

القمص فيلوثاؤس بيعمل بحث جيد لإثبات ”وحدانية الله“ يقتبس فيه من مؤلفين آخرين.. بعد ما يقتبص من الصفي بن العسال وكتاب ”أصول الدي“ يقتبس من ابن العبري من كتابه ”مناراة الأقداس، ثم يقتبس من عبد الله بن الفضل الأنطاكي من كتابه ”بهجة المؤمن ، ثم يقتبس من يوحنا الدمشقي وبيلقبه ”ينبوع الذهب، ثم يستشهد بتوما الأكويني من كتابه ”الخلاصة اللاهوتية“، ثم يقتبس من المعلم يوحنا بيروني اليسوعي وكتابه ”مختصر المقالات اللاهوتية“، ويستشهد عن مدرس (غالبًا انجيلي) لطلبة إرساليات أمريكي.

عن توما الأكويني يقول: إن الله مشتمل في ذاته على كل كمال الوجود.. فلو كانوا آلهة كثيرون لوجب أن يتمايزوا فيما بينهم.. فيصدق على الواحد شيء ليس يصدق على الآخر“، وبالتالي لا يصدق الكمال على أي منهما! وبالتالي لازم يكون الكامل واحد. ثم يستشهد بترتليان من كتابه ”ضد ماركيون“ اللي بيقول فيه ”إن الله إذا لم يكن واحدًا لا يكون موجودًا.. ليس مَن لا مساوي له إلا مفردًا“.

يُتبع

رحلتي مع الثالوث- 22

 

نتوجه للغرب علشان نتقابل مع فيلسوف مهم جدًا في العصور الوسطى وهو توما الأكويني، واللي عاش بين (1225- 1274م)، في مبحث 27 من كتابه الأشهر ”الخلاصة اللاهوتية“، توما الأكويني بيقول هل ينفع يكون في ”صدور“ في الله (صدور كالتوليد أو الانبثاق)، هيقول- كأنه على لسان أحد المعترضين- إن الصدور عبارة عن حركة إلى الخارج ”وليس في الله شيء متحرك ولا خارجي“، هنا الأكويني بيعبر عن المفهوم الأرسطي عن أن الله هو المحرك الذي لا يتحرك!


وبيقول كمان إن كل صدور مغاير لمصدره ”وليس في الله تغاير“، وبالتالي مستحيل يكون في صدور في الله. طب نفسر آية يو 8: 32 ”من عند الله خرجت“ إزاي؟ قالك في ناس قالت بالصدور من قبيل صدور المعلول عن العلة (بالخلق) وده أريوس، أو كصدور من قبيل العلة إلى المعلول وده سابليوس، وكلاهما فهما الصدور على أنه شيء خارجي ولم يجعله في نفس الله. لكن الصدور في الله إلى الداخل مثل ”العقل الذي يستقر فعله، وهو التعقل، في نفس المتعقل“. وبالتالي الصدور عند الله مختلف عن الجسمانيات، فهو ”ليس بحركة خارجية أو بتأثير علة في معلول خارج كصدور الحرارة من المسخِّن إلى المتسخِّن، بل بحسب الصدور المعقول كصدور الكلمة المعقولة عن قائلها الذي تبقى مستقرة فيه“، والتشبيه قاصر!  

بعد ما اتكلم الأكويني عن إمكانية الصدور في الله procession بدأ يقول هل يجوز التوليد في الله؟ لأنه بحسب معترض متخيّل التوليد هو انتقال من اللاوجود إلى الوجود.. وهذا شيء لا يليق بالله.. كمان المتولِّد هيستمد وجوده من الوالد له فيكون وجوده مقبول.. مقبول يعني received يعني وجوده مش من ذاته.. وده برضو لا يليق بالله. طب هنفسر إزاي آية مزمو 2: 7 ”أنا اليوم ولدتك“؟

الأكويني بيجيب كالتالي: التوليد على نوعين: 1- في كل الموجودات التوليد بيكون انتقال من القوة إلى الفعل (وده مفهوم أرسطي بيقسم الموجودات نوعين: موجود بالقوة الكامنة potential وموجود بالفعل والتحقيق  actual. يعني البذرة دي شجرة بالقوة الكامنة فيها.. لما تكبر تكون شجرة بالفعل. الطفل راجل بالقوة الكامنة فيه.. لما يكبر يبقى راجل بالفعل). المهم هذا المعنى يستحيل تطبيقه على الله. 2- لكن في نوع تاني من التوليد يخص الأحياء فقط.. يعني الكائنات الحية.. بيكون فيها التوليد عبارة عن صدور من نفس طبيعة النوع وبالتالي توجد المشابهة.. مثل صدور إنسان عن إنسان وفرس عن فرس.. (أغسطينوس هيستخدم نفس المبدأ ويقول كل مولود يشبه والده في الطبيعة).  وبالتالي الولادة في الله بتكون بحسب نفس الجوهر أو الطبيعة.. وليست جسمانية.. بل تشبه عملية التعقل (ولادة الفكر) في الإنسان.. وبالتالي صدور الكلمة الإلهية اللوغوس.. صدور قائم بذاته.. وبحسب نفس النوع أو الطبيعة.

يُتبع

الأحد، 29 نوفمبر 2020

رحلتي مع الثالوث- 21

 

نأتي إلى محطة القرن ال 13، ومع حد مهم ومبدع هو أبو شاكر بن الراهب (ق 13). ابن الراهب عنده كتاب اسمه ”الشفا في كشف ما استتر من لاهوت سيدنا المسيح واختفى“، بيشرح فيه أن ”سادات السُّنة المسلمين“ قالوا عن الله أنه موجود، قديم، أزلي، حي، ناطق، سميع، بصير، عالم، حكيم، مدرك، مريد، رؤوف، رحيم. دول 13 صفة، وكان المعتزلة بيقولوا ب 7 صفات بس، لكنه بيقول إن صفات مريد، وسميع، وبصير هي صفات لصفة الحياة. وصفات عالم، وحكيم، ومدرك هي صفات لصفة النطق. وصفات رؤوف ورحيم هي صفات لصفة المقدرة. وقد عبر عن وجوده بقدرته.

ثم استشهد أبو شاكر بن الراهب بزين الدين الكشي (صاحب كتاب موجز المنطق) اللي قال أن ”صفة الصفة لا تعد مع الصفة!“ ليصل إلى نتيجة أن الله ذات واحدة وثلاث صفات ثبوتية ذاتية لا تقبل الزيادة والنقصان.. ”فهو ذات واحدة، موجود، حي، وناطق“. ويشير إلى أن سر التثليث ظهر للفلاسفة المتقدمين ووصفوا الله بأنه”علم وعالم ومعلوم، وعقل وعاقل ومعقول“، وهذه العبارة قالها ابن سينا وآخرين.

الجديد عند ابن الراهب استخدامه للمثلث متساوي الأضلاع كمثال للثالوث.. ويقول إن الله علم بسابق علمه عجز البشر عن إدراك ذاته تعالى.. فأنطق الأشكال غير الناطقة. ”فظهر انه ليس في الأشكال الهندسية ما لا يقبل الزيادة ولا النقصان، ولا التغير من حال إلى حال.. سوى المثلث المتساوي الأضلاع.. ذات واحدة، وهي مجموع زواياه.. وأن ذاته غير كل واحدة من زواياه، وكل زاوية منها غير الأخرى، وكل زاوية متساوية مع الأخرى“. وبيطلّع 24 دليل من المثلث المتساوي الأضلاع.. مرفق صورة من مخطوط باريس 197 عربي بخط أبو شاكر بن الراهب نفسه.. حاجة تفرح!


نأتي إلى بطرس السدمنتي، أحد أعلام القرن ال 13، واللي عند مقالة بعنوان ”مقالة تنفي الشك والكفر عن النصارى الموحدين“. بيبدأ فيها بالقول: ”كثير من الخارجين عن الأمانة (الإيمان) إذا سمعونا نقول "الآب والابن والروح القدس" ينسبونا إلى الشرك والكفر. ويعتقد مَن سمع هذا القول إنّا نعتقد في ثلاثة أرباب. ومن يسمع أن المسيح ابن الله، يعتقد أن الله تزوج وولد المسيح. معاذ الله من هذا الكلام القبيح الرديء. جل الله تعالى عن كل ذلك، وعلا علوًا كثيرًا.

ثم يشرح السدمنتي مثل سابيقين عليه أن الأقانيم هي الصفات (الموجود، الناطق، الحي)، وولادة الابن هي كمولد الكلمة من العقل، والضوء من الشمس. والنور من النور. ثم يؤكد أن الله ”إله واحد، معبود واحد، خالق واحد، لا إله قبله، ولا بعده. ولا خالق إلا هو، ولا معبود سواه“. ثم ينكر أن تكون الأقانيم عبارة عن ثلاثة جواهر أو ثلاثة أرباب (مختلفة أو متفقة) أو أن تكون ثلاثة أجزاء متبعضة. ويتبرًا من أن يكون الله اتخذ (أو يتخذ) زوجة.

نأتي لأحد أولاد أسرة العسال، اللي بيعتبروا محطة مهمة جدًا، وهو المؤتمن بن العسال (ق 13). المؤتمن في مقال له بعنوان ”هل النصارى موحودون؟بيقول إنه مما يدل على أن النصارى موحودون (أو يقولون بإله واحد) هو شهادة أبو جعفر الطبري (الإمام والفقيه المفسر.. بن جرير الطبري) في تفسيره لآية 5 من سورة المائدة ”وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ، وقال ”ولما كان المسلمون (حرسهم الله) مجمعين على أكل ذبائحنا، وجب أن يجمعوا أيضًا على أننا موحودون“.  بدوا أنه عند المسلمين اللي يحلهم الأكل من أكلهم.. هم أهل التوحيد.


وفي الرد على آيات قرآنية مثل ”إن الله ثالث ثلاثة“ بيرد المؤتمن أن اليعاقبة والملكانيين والنساطرة يعتقدون بإن الله واحد بذاته.. ونصف وحدته ب 3 صفات آب وابن وروح قدس، أي عقل وعاقل ومعقول كما وصفه الفلاسفة... أما الطوائف التانية فهي لا تؤمن بهذا ولهذا أبادهم الله من الوجود.

يُتبع

رحلتي مع الثالوث- 20

 

ما زلنا في القرن ال 12، ودلوقت إحنا مع البطريرك إيليا الثاني الجاثليق النسطوري (المتوفى 1131)، واللي عنده كتاب من جزئين اسمه ”كتاب أصول الدين“ بيقول فيه: ”لا يُقال في جملة الثلاثة اقانيم إنها ثلاثة آلهة ،بل إله واحد. وإن كان يُقال على واحد إنه إله، لأن الذات واحدة، واسم الإله واقع على الجوهر العام.


ويقول أيضًا: فلا بتوحيد ذاته يبطل تثليث صفاته، ولا بتثليث صفاته يبطل توحيد ذاته“. ثم يتحدث عن أن هناك 3 صفات مختصة بذات الله لازمة له، وصفات أخرى عديدة تتعدى إلى المخلوقات.. يقول الجاثليق إيليا الثاني أن نظام الخليقة ووحدتها يدلنا على أن الله واحد.. لكن هذا الواحد يتميز عن الكائنات الحية الناطقة المحدثة (بالأزلية)، ويتميز عن الكائنات الحية غير الناطقة (بالنطق)، ويتميز عن الجمادات (بالحياة)، فاستنتج 3 صفات لازمة للذات الإلهية غير مفارقة له هي (الأزلية والنطق والحياة).

ثم يستخدم عدة تشبيهات منها: عين (قرص) الشمس ونورها وحرارتها، النفس البشرية ونطقها المتولد عنها والحياة الفائظة منها، التفاحة برائحتها وطعمها ولونها، الإنسان بنفسه وجسمه وروحه. ثم يقول: ”إن النصارى يعتقدون في البارئ تعالى أنه إله واحد، رب واحد، معبود واحد، لا إله قبله ولا بعده، ولا إله إلا هو، لا شريك له في الأزلية، ولا مثيل له في الذاتية، ولا نظير له في الربوبية، ولا رب غيره، ولا معبود سواه.

نأتي إلى محطة أخرى مع العلامة السرياني مار ديونيسيوس يعقوب بن الصليبي (القرن 12)، اللي في تفسيره لإنجيل يوحنا، يجيب بن الصليبي على سؤال: لماذا سماه يوحنا الكلمة (اللوغوس)؟ ”الجواب أن الابن سُمي كلمة لأنه مولود من الآب كما أن كلمتنا العقلية يلدها عقلنا الذي هو روحي محض. وأيضًا لأن الابن باعتباره ابنًا وحيدًا لله غير قابل الآلام والولادة الزمنية. ثم كما أنه بوجود العقل توجد فينا الكلمة، لأن العقل إن لم يدرك ويعقل لا يكون عقلاً، هكذا منذ وجود الآب وجد الابن، أي الكلمة، بحيث لا يمكنك أن تدل على زمن أو تتصوره من دون أن يكون الابن“.

ثم يشرح ابن الصليبي 3 معاني لكلمة ”البدء“ : 1- بمعنىى علة لما يأتي بعده. 2- بمعنى بداية بدون أن تكون علة مثلما نقول بداية العمل في المعاصر. 3- بمعنى الأزل. ويقول إن يوحنا في مقدمة إنجيله استخدم المعنى رقم 3، بينما موسى في بداية سفر التكوين استخدم المعنى رقم 2.

نأتي لشخص آخر يُدعى، عبد يشوع الصوباوي (النسطوري) والمتوفى في 1290. له كتاب يسمى ”الجوهرة“ يقول فيه ”إن الله أزلي لا علة له، وهو علة كل الموجودات، ليس جسمًا، ومنزه عن كل صفات المادة. يدرك ذاته، ومَن يعرف ذاته هو حي“. وبيركز على 3 (خواص) في الله هي (العقل والحكمة والحياة)، ويستخدم تشبيه الشمس الواحدة بالقرص والشعاع والحرارة. يقول ”إن كل موجود إمّا جوهر وإمّا عرض، غير أن جوهر الله لا يخضع للأعراض، وهذه الخواص الثلاثة جوهرية، لذا سميت أقانيم، وليست قوى عرضية“. ويرى أن نون الجمع في ”لنعمل الإنسان على صورتنا“ رمزًا للثالوث.

يُتبع

رحلتي مع الثالوث- 19

 

نوصل مع بعض للقرن ال 12، ومحطة مهمة مع بعض اللاهوتيين العرب، ونبدأ مع سمعان بن كليل، اللي توفى (1206 م)، واللي خدم في ديوان جيش الناصر صلاح الدين.. وترهب في دير أنبا يحنس القصير، وهو خال المكين بن العميد الكبير (ويسبق بقرن ونصف المكين بن العميد الصغير صاحب كتاب الحاوي).

في افتتاحية كتابه ”روضة الفريد وسلوة الوحيد“ يقول هذه الافتتاحية البليغة: ”الشكر لله الواحد الأبدي الأزلي السرمدي، الذي لا واحد في معناه غيره، ولا مثيل له في ذاته، ولا يشاركه أحد في صفاته، المتوحد بالدوام والمتفرد بالتمام، خالق الخلق ومدبره، ومجري الرزق ومقدره، المحيط بكل شيء علمًا، لا يشبهه شيء، وله كل شيء، الأول بلا ابتداء محدود، والآخر بغير أمد معدود، القديم بلا نهاية، الدائم بلا غاية، لم يتقدمه دهر ولا زمان، ولا سبقه عصر ولا أوان، مدبر الأمور بكلمته، وممضيها بحكمته، وناظمها بجبروته وقدرته، نشكره شكرًا دائمًا على آلائه، وحمدًا متصلاً على جزيل نعمائه، إذ خلقنا على الصورة الأزلية المسجود لها من كل البرية، وشرفنا على جميع المخلوقات الأرضية بالنفس العاقلة الناطقة، وأنقذنا من مرارة الطغيان، وأطلعنا على سرائر الإيمان، بتوحيد جوهره وذاته، وبتثليث أقانيمه وصفاته“.

كما يقول الآتي في نفس الكتاب:  الأقانيم الثلاثة متفقة في الجوهرية مختلفة في القنومية؛ لأن كل قنوم له خاصية... وهو واحد بالعدد، ولن يقال إنه ثلاث جواهر كما أنه لا يقال ثلاثة آلهة. وبيان ذلك إنّا قد نقول إذا كان إبراهيم مثلاً طبيبًا وكاتبًا ومهندسًا فإبراهيم ليس هو ثلاثة أناس بل إنسان واحد. والإنسان أيضًا نفسه جوهر، وجسمه جوهر، وعقله جوهر، وفيه جواهر كثيرة وهي جميعها لجوهر واحد. ويقصد جوهر الإنسان الواحد. لكنه بيأكد ببلاغة على شيء مهم: ونريد أن تعلم أن المَثل ليس هو كالممثول؛ لأن الأمر أعظم من أن يوصف بالحقيقة بل من طريق الشبه والتمثيل لا عن طريق التحقيق والتحصيل الذي لا يفهمه إلا رب العالمين وإله الخلائق أجمعين“.

كيف يثبت سمعان بن كليل إيمان المسيحيين بوحدانية الله؟ (الله) لا يحويه مكان ولا يحصره عصر ولا زمان. متوحد بجوهريته منفرد بوحدانيته“. ثم يقول الافتراض بوجود أكثر من إله خطأ.. لأن هيكون في إمكانية اعتزال الواحد عن الآخر وده يبطل الوحدانية. لأن اعتزال الواحد عن الآخر يوجب، أن يكون كل واحد منهم محصورًا؛ وكل ما هو محصور يقع عليه التحديد؛ وكل ما هو محدود يجب عليه الحدوث؛  كل ما هو محدث، فيجب عليه أن يكون له بداية؛ وكل ما كان له بداية، فلابد أن يكون أيضًا له نهاية؛ وكل ما يكون له بداية ونهاية، فليس هو أزليًا؛ وكل ما كان غير أزلي لا يمكن أن يكون إلهًا“. هنا سمعان بن كليل بيعمل spatial argument... أو argument from space...  واستخدمها آباء كتير منهم أثيناغوراس الفيلسوف اللي قال إن الله هو الذي يحوي كل شيء ولا يحويه شيء.. يقول أثيناغوراس في ”المرافعة“: ”فلو كان منذ البدء اثنان أو أكثر من الآلهة لصاروا إمّا في نفس المكان الواحد او صار كل منهم منفصلاً في مكانه الخاص“.

يُتبع

رحلتي مع الثالوث- 18

 

نأتي الآن لمحطة مهمة، مع الأنبا ساويرس بن المقفع، أسقف الأشمونين، (في القرن 10)، واللي بيعتبر أول كاتب يؤلف باللغة العربية من الأقباط؛ لأن ثيؤدور أبو قرة الملكاني أول من كتب بالعربية من المسيحيين عمومًا. في كتابه ”الدر الثمين“ يرد ساويرس على خطاب أرسله صديقٌ له يصفه بالحبيب وجد حيرة في التوفيق بين التوحيد والتثليث.



ويفسر الأنبا ساويرس الجهل بالثالوث إلى سببين: 1- ضياع اللغة القبطية، 2- التأثير بالأجانب وعقيدتهم وعدم سماع الشعب المسيحي سوى عقيدة الله الفرد الصمد. في البداية يؤكد ساويرس على أن الله غير موصوف ”أعلى من كل شبه وكل مثال وصفة“، وأنه ”لا يمثَّل به شيء ولا يُكيَّف“، وفي كتابه ”مصباح العقل“ يقول ”إن جوهره وذاته وطبيعته لا تشبه شيئًا من المخلوقات، ولا توافق ذاتًا من المحدثات“. حتى أن الأنبا ساويرس يرفض أن يكون جوهر الله حسب الجوهر الأول أو الثاني لأرسطو، بل من جوهر فريد ”لا يشبهه شيئًا من جواهر العالم“. يعني عاوز يقول بالبلدي ”ليس كمثله شيء“ بحسب التعبير القرآني.

الأنبا ساويرس يستخدم تعبيرات مستقاة من الكتاب المقدس. اتخذ من وصف الكتاب المقدس لله بالنور في التأكيد على ولادة الابن من الآب كولادة النور من النور. ثم يؤكد على أمور مهمة ليرد بها على الآخر: ”إنها ولادة أزلية تفوق العقول المخلوقة، وإنما مثلتها بولادة النور من النور؛ لأن النور يولد من النور بغير مجامعة ولا تعب ولا حبل ولا نقص.. وبغير أم“. مفيش امرأة في هذه الولادة. بهذا النوع من الولادة يؤكد ساويرس مساواة الابن للآب في جوهره أو طبيعته، مستغلاً مبدأً أرسطيًا عن أن الوالد يشبه مولوده، فالطير يلد طيرًا، والوحش يلد وحشًا، والإنسان يلد إنسانًا. هذا المبدأ وظفه أغسطينوس أيضًا؛ إذ يقول: ”لأنه منح الحيوانات هذه الخاصية: بأن ما يلدونه لا يكون غير ما هم عليه؛ فالإنسان يلد إنسانًا... فلماذا لا يلد الله إلهًا؟“.

يشرح الأنبا ساويرس أن الله ناطق، ونطقه غير مستحيل (متغيّر) بل أزلي، كقوام ذاته، لذا ”فالآب قائم بذاته، ناطق بابنه، حي بروحه“. هتلاحظوا أنها نفس العبارة اللي كان بيستخدمها كثير البابا شنودة الثالث المتنيح.. يعني هو مش أول واحد يستخدمها.. مرة أخرى نرى ”الدفاع المبني على الصفات“ (attribute theology)، وهذه الاستراتيجية الدفاعية ظهرت في سياق الجدل الإسلامي-الإسلامي عن صفات الله. كانت نقلة ذكية من اللاهوتيين العرب، واستمر هذا الدفاع شائعًا بين المسيحيين حتى يومنا هذا.

يعني زي ما في حقبة الآباء، اقتبس الآباء من الثقافة المحيطة تعبيرات زي أوسيا، وهيبوستاسيس، وهوموأوسيوس. اللاهوتيون العرب وجدوا جدل إسلامي حوالين صفات الله، وبين هل كلام الله (القرآن) أزلي أم مخلوق، بين المعتزلة من جهة وفرق إسلامية أخرى من جهة. فاستغلوا ليردوا على الهجوم على الثالوث بنفس مصطلحات هذه الفترة. قال المعتزلة إن كلام الله مخلوق (زي أريوس ما قال عن كلمة الله)، لأنه مرتبط بأحداث تاريخية، ولأنه أصوات وأحرف، بينما قال الحنابلة بأنه أزلي. لحد ما جه واحد اسمه أبو الحسن الأشعري وقسم كلام الله إلى نوعين: كلام النفس، والكلام المنطوق. وقال إن الكلام النفسي ده هو الأزلي، والكلام المنطوق (القرآن) ده حادث مخلوق. المعتزلة رفضوا فكرة الكلام النفسي، على أساس إن ”حديث النفس تابع للعبارات الملفوظة“.

الغريب والجدير بالذكر أن فكرة التمييز بين نوعين من كلمة/ كلام الله أو اللوغوس استخدمها بعض الآباء زي ترتليان في ”ضد براكسياس“ بس قال إن اللوغوس المنطوق لا يخلو من الجوهر بل هو الخالق. كذلك ق ثيؤفيلوس الأنطاكي يميز بين اللوغوس الداخلي واللوغوس المنطوق، وقد استمد هذه التقسيمة من الفلسفة الرواقية، وربما فيلون السكندري أيضًا.  

في الوقت ده من العلماء المسلمين اللي كتبوا ضد عقيدة التثليث، القاضي عبد الجبار الهمذاني- أحد علماء المعتزلة- اللي عاش بين (935- 1024). في كتابه ”دلائل تثبيت النبوة“، هو بالطبع مش عاجبة شرح اللاهوتيين العرب لعقيدة التثليث، وبيقول أن كان في مؤامرة في مجمع نيقية وقهروا الناس بهذه العقيدة أو قتلوهم، من أمثال هذه الإدعاءات التي لا تقوم على دليل أو برهان.

نفس الشيء من العلماء المسلمين اللي نقدوا الثالوث واحد اسمه أبو بكر بن الطيب الباقالاني، وهو عالم سني أشعري عاش بين (950- 1013 م)، من بين اعتراضاته في كتاب ”التمهيد“ أن النصارى ميزوا بين وحدانية الجوهر وتثليث الأقانيم أو الصفات .. فبيعترض عليهم أنه طالما إن الجوهر غير صفاته يبقى عندنا ”رابوع“ وليس ”ثالوث“.. جوهر + 3 صفات.. وهو اعتراض يبدو منطقيًا. اقتراحي للرد: ركز كتير من الآباء على ”مونارخية“ الآب، أي أنه عِلة الابن بالولادة، وعِلة الروح القدس بالانبثاق.. بيخلي الثالوث كما وصفه ولفسون Wolfson أنه سلسلة chain وليس مجموع تراكمي aggregate . يعني مش عندنا جوهر ثم بعد كده عندنا آب وابن وروح قدس.. لا يمكن تخيل وجود ”جوهر مجرد مستقل بذاته“ ثم يتفرع منه 3 أقانيم بعد ذلك..  بل نؤمن أن الله الآب الأزلي علة كل شيء، وكلمته المولودة منه أزلاً، والروح القدس المنبثق منه أزلاً.

يُتبع

رحلتي مع الثالوث- 17

 

نأتي لمحطة أخرى، لشخص آخر كان معاصر لتلك الفترة، وهو عمَّار البصري (توفي 845م) وكان نسطوريًا.. وعنده كتاب اسمه ”البرهان“، بيقول عمَّار فيه: ”الأشياء لا تخلو من أربعة وجوه: إمَّا جوهر كقولك إنسان. وإمَّا أقنوم كقولك موسى وداود وسليمان. وإمّا قوى كحرارة النار وشعاع الشمس. وإمّا عَرض كالسواد في المسود والبياض في المبيض. فأكمل هذه الأربعة الأشياء الجوهر والأقانيم. لأن الجواهر كلها لها هذه القوى من مثل الحرارة للنار والشعاع للشمس، وهي تحتمل الأعراض أيضًا. وكل جوهر أيضًا له قوتان: مثل الأرض لها البرود واليبس.... فهي متوحدة في جواهرها مثلثة في معانيها. والأقانيم أيضًا مثل قولك موسى وداود وسليمان، وكل واحد قائم بنفسه مستغنٍ عن غيره. فأمّا الأعراض والقوى المتوحدة في معانيها لا تقوم بنفسها مثل الجوهر والأقانيم فهي محتاجة إلى الجواهر التي تحملها وتكون فيها“.



من هذا النص يتضح أن البصري لا يرى الأقانيم كصفات أو أعراض، مؤكدًا أنه من بين هذه المقولات الأربعة، يصف المسيحيون الله بأكثر المقولات كمالاً وكفاية ذاتية، أي مقولتي الجوهر والاقنوم. وأن الأقنوم هو كيان قائم بذاته self-subsistent entity

نأتي إلى محطة هامة جدًا مع الفيلسوف يحيى بن عدي، واللي عاش بين (893- 974 م)، واللي قال عنه ابن النديم في فهرسه أنه كان ”أوحد دهره“ في الفلسفة والمنطق، وعنده مقالة مهمة بعنوان ”مقالة في التوحيد“. بيعتمد فيها على الفلسفة والمنطق فقط لإثبات الثالوث.. بدون الاستعانة بآية واحدة من الكتاب المقدس. يحيى بن عدي استعرض كل المعاني الممكنة لمصطلح ”الواحد“ أو ”الوحدانية“، من تقسيمات أرسطو، الواحد بالجنس والواحد بالنوع، والواحد بالعدد، والواحد بالنسبة أو العلاقة، واستخلص من كل ده أن الله لابد أن يكون واحد من حيث الجوهر، مثلث من حيث الصفات. يحيى بن عدي بيحط أساسات مهمة لناس كتيرة بعده في طريقة شرح الثالوث في اللاهوت العربي المسيحي.  

هذا النوع من الدفاع عن الثالوث.. يُسمى الدفاع المبني على الصفات (attribute apology) عند اللاهوتيين العرب، وقد اتهم بأنه نوع من السابلية، مثلاً من الباحث مارك سوانسون، ومن الباحثين الأقباط المصريين الدكتور جورج حبيب بباوي. لكن المتأمل لكلام عمّار لا يجد ما يفيد أن الأقانيم مجرد أعراض أو صفات. هذا النوع من الدفاع استخدمه ساويرس بن المقفع، وكان يترجم للآباء.. وبولس البوشي بتأثره الشديد بأثناسوس وغريغوريوس النزيانزي.. ولا يستطيع أحد أن يتهم هؤلاء بالسابلية.. كذلك تفسير الثالوث بأن الابن هو عقل الله أو النشبيه بالكلام المنطوق.. استخدمه مجموعة كبيرة من الآباء.. وبالتالي لا أرى أن هذا الشرح نوعًا من السابلية زي ما قال سوانسون أو جورج بباوي.

يُتبع