الأربعاء، 29 مارس 2023

خلاصة تعليم الآباء عن عمل الثالوث القدوس في التدبير

خلاصة تعليم الآباء عن عمل الثالوث القدوس في التدبير

القديس كيرلس الكبير نموذجًا

هذا الكتاب من مؤلفات د جورج حبيب بباوي، ويقع في حوالي 85 صفحة، إصدر نشر جذور، في عام 2022، لكن كتابته كما هو واضح في المقدمة كانت في يونيو 2019.

الكتاب بشكل عام جيد، خاصة وأنه يناقش قضية الثالوث القدوس وتدبير التجسد، وهي موضوعات أساسية في الإيمان المسيحي، من حين لآخر يلمح الكاتب أو يذكر صراحة خصومه اللاهوتيين، وهما مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث، والمتنيح الأنبا بيشوي مطران دمياط، وكنت أتمنى لو كان البحث خالصًا وخاليًا من هذا.. ولا تُستخدم الكتابة اللاهوتية في تصفية الحسابات.. لكن هذا ماضي وليس في أيدينا تغييره. النصف الثاني من الكتاب (أي من ص 49) يقدم د بباوي موجزًا لكتاب ”الحوار حول الثالوث“ للقديس كيرلس الكبير، وليس لدي أية ملاحظات على هذا الجزء. فهو سرد لأفكار القديس كيرلس مع القليل من التعليقات، ولذلك ليس لدي ما أقوله، ومتفق مع هذا الجزء بشكل كامل.

 أشياء جيدة في هذا الكتاب..

الشيء الجيد الآخر هو وجود لغة واضحة جدًا في التأكيد على أن التأله لا يعني أن نصير آلهة بالطبيعة وإنما بالنعمة. في صفحة 34 تحت عنوان ”لماذا يستحيل على الإنسان المؤلَّه بالنعمة أن يصبح إلهًا بالطبيعة“ يسرد الكاتب 6 أسباب لبيان هذه الاستحالة، منها ما يلي:

1-              من المستحيل أن يتحول المخلوق إلى خالق.. لأن الإنسان لا يملك وجوده، وهو مقيد بالطبيعة التي خُلق بها.

2-              الله هو واجب الوجود، وهذا لا يمكن أن ينطبق على الإنسان.

3-           المحبة الإلهية لا تعمل إلا من خلال الفوارق بين الله والخليقة، لأن بقاء كل مخلوق في دائرة وجوده هو الذي يجعله ينال النعمة... وشركتنا في المحبة الإلهية لا ترفعنا إلى هذه الدرجة من المساواة.

4-              المحبة الإلهية تُعطى، لا لكي تمحو وتبيد، بل لكي تجدد.

5-       تجديد الإنسان يبدأ بالمعرفة، والمعرفة عطية واستعلان.. والاستنارة تعمي أنه يأخذ ما لا وجود له في كيانه الإنساني.

وهذا جيد، لكن هناك بعض العبارات التي إذا قرئت بمفردها ستكون مزعجة بعض الشي، فمثلاً يقول ”لأن هدف الاستعلان هو التبني... لأن الإنسان عندما يتحد بالابن، يشترك في بنوته، أي في حياته الأقنومية الخاصة“ (ص 27). عبارة ”حياته الأقنومية الخاصة“ ربما تُفهم بشكل خاطئ إذا لم يُذكر الأسباب الستة السابق ذكرها.

مؤاخذات على هذا الكتاب..

1- رفض لقب ”موجود“ عن الله. يقول د بباوي في ص 17 إن لفظة ”موجود“ هي اسم مفعول في اللغة العربية لا يجوز استخدامه بالمرة في الخطاب عن الله. نفس الشيء في حاشية (1) ص 77 حيث قال إنه لا يفضل بالمرة كلمة ”موجود“ للتعبير عن الأقانيم ويفضّل في المقابل لفظة ”كائن“. ويكرر ضعف كلمة ”موجود“ في ص 81.

وللرد على هذا أقول: ليس هناك مشكلة في إطلاق لفظة ”موجود“ على الله، ولا خطأ في ذلك بحجة أن لفظة ”موجود“ هي اسم مفعول، ولابد لكل موجود من موجد له. وذلك وفقًا لعلماء اللغة العربية أنفسهم. ولكن هناك أسباب أخرى منها:  

1-            في حاجة اسمها المشترك اللفظي.. زي كلمة ”عين“.. التي يُقصد بها ”عين ماء“، أو العين كعضو في الجسم، وعين كمكان أو محل، وعين بمعنى جاسوس.. إلخ. فإطلاق لفظة ”موجود“ ليس بتطابق المعنىnot univocally  بين المخلوق والخالق..  نفس الشيء أيضًا الكلمة الأخرى التي يستخدمها د بباوي وهي ”كائن“، فهي تُطلق أيضًا على أي ”كائن“ حي من الكائنات المخلوقة.. لكن ليس بتطابق المعنى.. فأنا كائن عارض الوجود، بينما الله كائن واجب الوجود.  

2-            وإنما المقصود من ذلك أنه ”الموجود القديم/ الأزلي“ قبل كل شيء.. والذي لا يعتمد في وجوده على عِلة سابقة له..

3-              كذلك إطلاق لفظة موجود“ عن الله لنفي العدم عنه.

4-          الأكثر من ذلك أنه يحق أن يكون الله هو الموجود بالمعنى الحقيقي.. لأننا في الأصل عدم.. فقد أخذنا الوجود كنعمة.. لكنه هو الموجود الحقيقي..

5-         أخيرًا هل استخدم الآباء لفظة ”موجود“ .. أكيد!  يقول ق هيلاري أسقف بواتييه ”لا توجد صفة مميزة لله يمكن أن يدركها العقل أكثر من الوجود، لأن الوجود بالمعنى المطلق لا يمكن أن يُعزى لمن سوف ينتهي أو لمن له بداية، لكن من يجمع بين استمرارية الوجود وامتلاك الغبطة الكاملة، لا يمكن أن يكون غير موجود سواء في الماضي أو في المستقبل. فكل ما يتعلق بالله لا يمكن أن يكون له بداية ولا يمكن أن يفنى أيضًا“ (عن الثالوث 1: 5).

6-             في الدراسات اللغوية هناك نوعان من المعنى: معنى دلالي denotative وده اللي موجود في المعاجم مع النحو والصرف وخلافه.. ومعنى تداولي pragmatic وده معنى المصطلح لما يطلع بره المعاجم ويتم تداوله واستخدامه في سياق موقف تواصلي بين أشخاص مشاركين في هذا الموقف التواصلي.. فلما يكون عندي مصطلح بيستخدم بشكل صحيح دلاليًا، وكمان أصبح ليه معنى تداولي راسخ، وبعدين نقول ده غلط ولا يصح إطلاقه على الله، فهذا شيء غريب، ولا يُمجد الله أن نشكك الناس في لفظة يسترجعون بها معاني حضور الله وسنده وتعزيته ومعيته معنا في أحلك الظروف. هناك أمور أخرى يتوجب فيها التدقيق والتمحيص كما سيتبين لاحقًا.  

2- جملة في غاية الخطورة قيلت في ص 41، وهي ”ما يجب أن نؤكد عليه أنه لا يوجد في الثالوث ما هو غير أقنومي. لا توجد صفات في الله الثالوث غير أقنومية“. فهل صفات الرحمة/ البر/ الحضور الكلي/ القداسة/ الأزلية/ الصلاح.. كلها صفات أقنومية! على الأقل كان يجب توضيح هذه العبارة الغامضة. فهذه بالحقيقة تحتاج إلى شرح مدقق أكثر.. خصوصًا وأن آباء الكنيسة اعتادوا تقسيم الصفات الإلهية إلى نوعين: صفات جوهرية essential attributes وهي صفات الجوهر الإلهي ويشترك فيها الأقانيم الثلاثة بالتساوي، وصفات أقنومية hypostatic attributes وهي التي يتميز بها كل أقنوم عن الآخر، وهم صفات الأبوة، والبنوة، والانبثاق.

لكن إذا افترضنا حُسن النية، فأعتقد أنه يقصد أنه لا توجد صفات في الله غير مؤقنمة، بمعنى صفات لحالها (كأنها أعراض) بل إن الصفات يحملها أقانيم/ أشخاص. وهذا فهمته من د جورج عوض حين قال ذات مرة أن ”الفعل (الإلهي) لا يمكن أن يوجد بدون أن يؤقنم ενυπόσταση، هو مؤقنم“ كما أنه لا وجود للجوهر الإلهي مجردًا عن الأقانيم (المعرفة الإلهية بين الثيؤولوجيا والإيكونوميا، ص 71).  في كل الأحوال أوردت المعنيين.. حتى لا يتشكك أحد عندما يقرأ الجملة المشار إليها.   

3- جملة قيلت ص 42 ”لأن ما يحدث في التدبير يجد جذوره في الحياة الإلهية“. مع أنه قال في ص 15 أن الهراطقة سقطوا في ”عدم التمييز بين ما أُعلن في زمان التدبير وما هو كائن منذ الأزل وإلى الأبد في الذات الإلهية“. 

أولاً من المعروف أن اللاهوتي الشرقي دائمًا ما يستهل الكلام عن الثالوث بالتمييز بين الثالوث في ذاته/ أو ”ثالوث اللاهوت“ immanent Trinity وثالوث التدبير/ أو الثالوث التدبيري economic Trinity أي في علاقته بالخليقة واستعلانه بالخلق والفداء.. إلخ. كما يعيب اللاهوتيون الأرثوذكس على اللاهوتيين الغربيين بأنهم خلطوا بين الشيئين. ففي هذه الفقرة د بباوي يقول إن استقرار الروح في الابن (أزليًا) هو جذر أو تعليل لاستقرار الروح على الابن (تدبيرًا، زمنيًا). هذه الطريقة هي طريقة كارل رانر، اللاهوتي الغربي، وليس طريقة الآباء الشرقيين. لأننا لو طبقنا نفس المنهجية على إرسال الروح القدس من الآب والابن.. فالآب يرسل الروح والابن يرسل الروح، فهل مردود ذلك يكون أن الروح منبثق من الآب والابن؟! هذا ما نرفضه. بل ونتهم الغربيين أنهم خلطوا بين فعل أزلي وهو الانبثاق وفعل تدبيري وهو الإرسال. 

فأفعال الله التدبيرية الخارجية.. ليس بالضرورة تجد تعليلها في العلاقة الداخلية الأزلية بين الأقانيم. فالإخلاء مثلاً هو فعل تدبيري ليس له جذور- وليس له ضرورة ولا احتياج- في علاقة الثالوث الأزلية. الشيء الآخر والأهم أن تفسير استقرار الروح على المسيح في المعمودية يفسره الآباء على أنه فعل تدبيري يخص الابن المتجسد.. من أجل تقديس البشرية، وكانوا يحرصون في تفسيراتهم لمثل هذه النصوص أن يميزوا بين الابن (في صورة الله) الذي لم يكن محتاجًا لتقديس الروح ومسحته، لأنه القدوس دائمًا وأزلاً، وبين الابن (في صورة عبد) الذي يحتاج لفعل المسحة والتقديس لصالح البشرية. أظن أنه ما كان يجب أن يأتي على ذهننا ربط حلول الروح على الابن في الأردن واستقراره فيه أزليًا.


مبدئيًا دعنا نؤكد على هذا من كتاب للمتنيح د جورج عوض إبراهيم بعنوان ”المعرفة الإلهية بين الثيؤولوجيا والإيكونوميا“ ص 59 كما في الصورة التالية.


يذكر د جورج عوض الآتي: ”لم يستطع الغرب أن يدرك الاختلاف بين إعلان الله في التاريخ (التدبير)، وبين طريقة وجود الله قبل خلق العالم الذي يدعوه الشرق ثيؤلوجيا“ (ص 58). ثم يضيف قائلاً: ”ما قلناه هو بمثابة الاختلافات بين التقليد الغربي والشرقي التي أفرزت ظهور تفسيرات كثيرة خاطئة في الغرب... منها مشكلة الانبثاق من الآب والابن filioque“ (ص58).

يعود د جورج عوض ويقول مستشهدًا بالقديس أثناسيوس الذي ميز بين ”اللاهوت أي وجود الثالوث ad intra في ذاته وفي حد ذاته، والتدبير ad extra لله الذي يتوجه تجاه العالم وخلاصه“ (ص 59)، ويقول في (ص 62) ”لا يجب أن نساوي الثالوث التدبيري بالثالوث اللاهوتي“. ثم يشرح دكتور جورج عوض إن مولتمان (لاهوتي غربي) أخطأ حين ربط بين آلام الابن في التدبير ونقلها إلى إطار اللاهوت (إطار الثالوث في ذاته) عندما تحدث مولتمان عن إله يتألم أبديًا (ص 63).وبالتالي أعتقد أن الجملة المشار إليها كانت تحتاج إلى تدقيق أكثر وشرح أكثر.    

  

الأحد، 26 مارس 2023

رسالة إلى الشباب: عن كيف يستفيدون من الأدب اليوناني

 




هناك دراسة ممتازة عن رسالة القديس باسليوس، عن كيفية الاستفادة من الأدب اليوناني، قام بها الدكتور سامح فاروق، وتم نشرها بمعرفة دار نشر بناريون. لكنى آثرت ترجمة النص كاملاً غير منقطع ومتصلاً لمن يحب أن يقرأ النص كاملاً أو يقتبس منه.

الهدف الأبرز من هذه الرسالة يمكن أن نسميه مبدأ ”الفلترة الإعلامية“ Media Discernment؛ فالقديس باسليوس في هذه الرسالة ينصح الشباب بأن يقيِّموا الرسائل المتضمنة في الأعمال الأدبية في الثقافة المحيطة بهم، في هذه الحالة الثقافة اليونانية، ويتبنوا فقط ما هو بنّاء ونافع لهم. فلا تكون قراءاتهم في الأدب اليوناني بلا تمييز، ولا يتقبلوا كل الرسائل بلا استثناء، بل يتحلوا بالانتقاء الواعي؛ فيأخذوا ما يساعد على اكتساب الفضائل، ويتحاشوا ما يثير الشهوات والغرائز ويعلِّم الرذائل.

ما أحوجنا لتعليم أبنائنا هذا المبدأ وهذه المهارة التي يجب أن نعلمها لأولادنا حتى يطبقوها على الاختيارات الإعلامية التي تنهال عليهم من كل حدب وصوب بفضل الإنترنت عالي السرعة والفضاءات المفتوحة. فإذا تعلموا أن يختاروا ما يبنيهم وينجنبوا ما يضرهم، نجوا أنفسهم من مخاطر لا حصر لها. 

بصلوات صاحب الغبطة أبينا المحبوب الأنبا تواضروس الثاني، وليحفظ الله كنيسته من كل شر. آمين.

يمكنك التحميل من هنا: 

https://drive.google.com/file/d/1EXaLcJFupxMXLTRx-_GTxoUE5_1qWhyf/view?usp=share_link

الخميس، 16 مارس 2023

المرأة الكنعانية والمقارنة بالكلاب

 



أثارت قصة المرأة الكنعانية الواردة في مت 15: 21- 28، ومر 7: 24- 30 الكثير من الاعتراضات، وقُدمت الكثير من التفسيرات للنقاط الصعبة الواردة فيها.. دعنا أولاً نستعرض مشاهد هذه القصة:

21 ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ مِنْ هُنَاكَ وَانْصَرَفَ إِلَى نَوَاحِي صُورَ وَصَيْدَاءَ. 22  وَإِذَا امْرَأَةٌ كَنْعَانِيَّةٌ خَارِجَةٌ مِنْ تِلْكَ التُّخُومِ صَرَخَتْ إِلَيْهِ قَائِلَةً: «ارْحَمْنِي، يَا سَيِّدُ، يَا ابْنَ دَاوُدَ! اِبْنَتِي مَجْنُونَةٌ جِدًّا". 23 فَلَمْ يُجِبْهَا بِكَلِمَةٍ. فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَطَلَبُوا إِلَيْهِ قَائِلِينَ: «اصْرِفْهَا، لأَنَّهَا تَصِيحُ وَرَاءَنَا 24 فَأَجَابَ وَقَالَ: «لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ». 25 فَأَتَتْ وَسَجَدَتْ لَهُ قَائِلَةً: «يَا سَيِّدُ، أَعِنِّي 26 فَأَجَابَ وَقَالَ: «لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَب». 27 فَقَالَتْ: «نَعَمْ، يَا سَيِّدُ! وَالْكِلاَبُ أَيْضًا تَأْكُلُ مِنَ الْفُتَاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا!». 28 حِينَئِذٍ أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهَا: «يَا امْرَأَةُ، عَظِيمٌ إِيمَانُكِ! لِيَكُنْ لَكِ كَمَا تُرِيدِينَ». فَشُفِيَتِ ابْنَتُهَا مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ.

من النص نفهم الحقائق التالية:

1-       أن المرأة ليست يهودية، بل من نواحي صور وصيدا، وهذه منطقة أممية، ويذكر معلمنا متى أنها ”كنعانية“، وهناك تاريخ طويل من العداوة بين اليهود ونسل كنعان.

2-         الحقيقة الثانية أنها آمنت بالمسيح، وبقدرته على شفاء ابنتها، ولقبته أكثر من مرة بالسيد. ”ارحمني يا سيد“، ”يا سيد أعني“، ”نعم يا سيد..“. كما أنها سجدت له. وهنا تظهر مفارقة عجيبة أن اليهود الذين جاء إليهم المسيح لم يقبلوه.. بل اتهموه أحيانًا بأنه ببعلزبول يخرج الشياطين، لكن هذه المرأة الوثنية آمنت به.. وبأنه المسيا المنتظر ابن داود، وقادر على شفاء ابنتها.

3-       نلاحظ أيضًا أن السيد المسيح تصاعد في حدة استجابته ”الغريبة“ معها في 3 خطوات: 1- بالصمت والتجاهل ”فَلَمْ يُجِبْهَا بِكَلِمَةٍ“، ثم لمّا لم تتراجع أخبرها بأنه لم يأتِ إلا لخراف بيت إسرائيل الضالة، بمعنى أنها ليست في حساباته على الأقل الآن، لأنه أراد أن يعطي اليهود فرصة كاملة قبل أن يتوجه إلى الأمم. 3- ثم لما لم تتراجع صدمها برد قاسٍ بأنه ”لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَب“. وهذه هي المرة الوحيدة تقريبًا التي يصد فيها المسيح سائلاً أو متضرعًا إليه بمثل هذه القسوة. وهنا تكمن صعوبة هذا النص.

كثير من المفسرين اقترحوا تفسيرات لحل الإشكالية الواردة في النص، ومن بين تفسيراتهم ما يلي:

1-         محاولة لتخفيف كلام المسيح القاسي: وهنا اقترح المفسرون أن كلمة ”كلب“ الورادة في النص هي ”كيناريون“ وتعني الجرو الصغير الذي يُربى في البيت، وليس كلب الشوارع. الجرو الصغير هنا على الأقل له صاحب. لكن اليهود كانوا يحتقرون الكلاب لأنها حيوانات نجسة. لكن نقطة الضعف في التفسير ده إن الناس تحب تربي كلب، لكن متحبش تتقارن بالكلب، الشيء اللي خلى البعض يقول إنها إهانة لا مفر منها. حتى تصغير كلمة ”كلب“ ممكن يتاخد على أنه إهانة أخرى! في المقابل شاف البعض إن المرأة بالفعل لم تشعر بالإهانة -على حد تعبيرهم- وبالتالي التفسير قد يحمل بعض الوجاهة. استخدم هذه المقاربة ق هيلاري أسقف بواتييه اللي قال إن التعنيف بكلمة ”كلب“ تم تخفيفه في هيئة لقب فيه نوع من التدليل.[1]

2-           محاولة اقتراح إن السيد المسيح قال هذه الكلام بنبرة صوت أو ابتسامة على الوجه، بحيث يوصل للمرأة أنه لا يقصد هذا الكلام ولا يعنيه شخصيًا، وإنما هذا ما يقوله بعض الفريسين وعلماء اليهود عن الأمم. والمفترض أن المرأة فهمت هذه الإشارة. صعوبة التفسير ده إننا مشوفناش وجه المسيح حتى نتأكد من صحته.

3-             تفسير آخر يركز على أن هذا الكلام القاسي كان الغرض منه اختبار إيمان وصبر هذه المرأة، وأن السيد المسيح تتدرج معاها لحد ما جاب آخرها، علشان في الآخر يمتدح إيمانها أمام الجميع. وده اللي قاله يوحنا ذهبي الفم: ”لهذا السبب تحدث معها السيد المسيح بغلظة حتى يعلن للجميع في العلن.. وأن يكلل إيمانها بشفاء ابنتها“. وبيقارن تواضعها بموقف اليهود المتعجرف، ”لنا إبراهيم أبًا“، لكن المسيح قال ”بنين“ وهي قالت عليهم ”أرباب/ أسياد“.[2]  

وق أغسيطنوس بيقول: ”صرخت وكأن المسيح لا يسمعها، مع أنه كان يدبر الأمر بهدوء“. بيفكرنا بموقف يوسف مع اخواته.. اتهمهم بالسرقة.. لكن قلبه من جوه كان مليان حنان، وكان ينصرف عنهم ليبكي.

لما سكت وتجاهلها، لقاها متشبثة بطلبها. ولما قالها إنتِ مش في حساباتي، لقاها بتثابر أكتر، فتدرج حتى وصل إلى إهانتها، فقبلت الإهانة وابتلعتها، وقالت أنا راضية أني أكون زي الكلب، المهم أحصل على بعض الفتات الساقط من مائدة البنين.. من أجل شفاء ابنتي! ق أغسيطنوس بيقول المعنى ده: ”لم تثار ولم تغضب... بل قالت نعم يا سيد.. أنت تنطق بالحق، لكن لا ينبغي أن أُحرم من البركة بسبب هذا.. لأن الكلاب أيضًا تأكل من الفتات... ما أرغبه هو البركة بقدر معتدل، فإنني لا أزحم المائدة، وإنما أبحث فقط عن الفتات. انظروا أيها الأخوة عظمة التواضع... “.[3] نفس الشيء قاله ق جيروم على لسانة: ”أنا قانعة بما يتبقى للكلاب الصغيرة، لعل بتواضع الفتات أصير إلى عظمة الرغيف الكامل“.[4] وهنا لم يجد المسيح إيمان مثل هذا الإيمان العظيم، فأعطي من قوته وشفيت ابنتها. هنا ممكن نقول إن لولا الاختبار ده مكنش هتظهر فضائل هذه المرأة، اللي منها ما يلي: (متحكمة في الغضب، لسانها حلو، تحاجج لكن دون أن تفقد احترامها للسيد، لا تصعد النقاش، التواضع، الإيمان، المثابرة واللجاجة، الصبر).  

4-           التفسير الرابع، واللي أنا ذُهلت منه.. بيركز على أن المسيح هنا أول مرة يُغلب في مجادلة، طول الوقت بيغلب الكتبة والفريسيين في مجادلاته معاهم.. المرة دي اتغلب في المجادلة! ومن مين؟ من امرأة! وامرأة وثنية أيضًا! يا إلهي! الأجمل من هذا أن هذا التفسير قاله بعض علماء التفسير الحاليين، وربما تظن أنها قراءة نسوية للنص، لكن العجيب إن مار يعقوب السروجي في القرن السادس قال التفسير ده! وهذا ما سنعرض له بعض أبيات من قصيدة كتبها عن المرأة الكنعانية.  

مقتطفات من قصيدة عن المرأة الكنعانية لمار يعقوب السروجي:[5] يقارن السروجي بين المرأة واليهود قائلاً:

الشعوب غير المختونة آمنت بعلاجاته،

والشعب المختون شك في شفائه“،

المرأة آمنت بمجرد سماع الأخبار، لكن اليهود لم يستفيدوا شيئًا من الأسفار التي لديهم. فمن كان لديهم النبوة رفضوه، ومن كانوا يعبدون الأوثان قبلوه. ثم يقول:

تظاهر بالازدراء لها حتى تنتصر هي.. برغم أنه كان يحبها،

إلا أنه تحوّل عنها دون جواب... لم يجيبها على الفور لئلا تصمت من البداية..

استهان بها حتى تزداد انتصارات إيمانها. أهملها وعبَر عنها كما لو كان قد نبذها...

ليثبت أن الحب الحقيقي لا ينقطع أبدًا“.

ولما تدخل التلاميذ ليسكتها أو ليصرفها،

وحتى يُضاف الجمال إلى صورة إيمانها..

ازدرى بها ثانية وبتضرعاتها أمام التلاميذ..“،

ولأن إيمانها كان عظيمًا، فلم يقلل هذا من توقعها..

ولأن إيمانها كان سليمًا، فلم يُردع“.

وعندما صدها بالمقارنة بالكلاب. يقول السروجي كان لسان حال المرأة:

لأنه من أين يا تُرى يأكل الكلب ويتغذى، إذا لم يقوته خبز بنين سيده؟

الرب يغذي الناس والحيوانات... مائدتك تشبع المواطنين والأجانب، والأقارب والأغراب.. القليل من الفتات منك تشفي الآلاف. خزائنك لا تفرغ أبدًا. يقول أبونا متى المسكين: ”لم تعترض على ما للبنين.. لكنها أدخلت عنصر الفائض عن البنين الذي لم يكن في حساب المسيح (عفوًا!) فسلَّم لمطلبها واستحسن منطقها“.[6]   

الفتات من قوتك يحيى الموتى إذا أردت،

لأن خزائنك لا تفرغ من كنوزها...

من فتات دواءك يارب أشفِ ابنتي.. لا شيء يزيد أو يقلل من غناك“.

قيل لها أنها ليست من عداد الأبناء، إذلالها دفعها لتزيد إيمانها..

الانتصار صاح من رحم الهزيمة“.

قالتله فيما معناه إنه واجب على السيد أن يُشبع الكلاب أيضًا.. ولسان حالها:

 أقبلُ أن أكون الكلب، لكن تكون أنت سيدي (ربي)“.  

اختلفت معه على أنه ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويُطرح للكلاب..

رآها مشتعلة بنار الحب وتتجادل معه،

وقَبِلَ منها أن امرأة تغلبه بردودها“.

رأى أن عندها حجة قوية،

استسلم لها بقدر ما كانت تسعى في الحصول على الرحمة“، ”تجادلت معه ومدحها، لأنها غلبته“.

--------

في النهاية، أصبحت هذه المرأة أحد أروع الأمثلة عن الإيمان في الكتاب المقدس.. لأنها قالت في قلبها: لو ربنا هيصمت في وشي ومش هيتكلم.. هافضل أصيح وألح.. ”أنا عاوزة أسمع صوتك“. ولو قالها معلش أنتِ مش في حساباتي دلوقت.. تيجي وتسجد.. أنا مؤمنة بيك.. وعايزة أكون من خاصتك. ولو حتى وصفها بالكلاب.. مفيش مشكلة هاشبع من الفتات الساقط من مائدتك. جرأتها في الإيمان هي دليل بنوتها.. وأحرجت البنين الفعليين بفعلها هذا.   

 



[1] Fotc, vol 115. p. 173. catelli (“little dogs,” “puppies”) instead of canes.

[2]  راجع التفسير المسيحي القديم، متى، جزء 2، ....

[3] راجع تفسير إنجيل متى، أبونا تادرس يعقوب...

[4] Fotc, vol 117, p. 183.

[5] Susan Ashbrook Harvey, Sebastian P. Brock, Reyhan Durmaz, Rebecca Stephens Falcasantos, Michael Payne, Daniel Picus - Jacob of Sarug’s Homilies on Women Whom Jesus, Met-Gorgias Press (2016), p. 8- 49.

[6]  الاب متى المسكين، تفسير إنجيل متى، ص 477.

الجمعة، 3 مارس 2023

أوريجانوس وحرية الإرادة والحتمية السوتيريولوجية

 


أقدِّم للقارئ العزيز هذه الدراسة بعنوان ”أوريجانوس وحرية الإرادة والحتمية السوتيريولوجية“، وقد أعددتها في الفترة التي ترجمت فيها تفسير رسالة رومية للعلامة أوريجانوس عن الترجمة الإنجليزية التي أصدرتها الجامعة الكاثوليكية في أمريكا في سلسلة
Fathers of the Church، وقد نُشرت بمعرفة مدرسة الأسكندرية للدراسات اللاهوتية في مجلدين.

ثم استخدمت هذه المحتوى في الحصول على درجة الماجستير من جامعة أجورا بالولايات المتحدة عام 2019م. وعندما اطلعت عليها مؤخرًا، وجدت نفسي قد تعلمت أكثر، بطبيعة الحال، فكل يوم نزداد معرفة ودراية، وتتعمق قراءاتنا، وتتسع مداركنا. فأجريت بعض التعديلات بالحذف والإضافة. وهذا جَهدٌ متواضع، وأرجو من قارئي أن يلتمس ويغفر لي التقصير أو الخطأ.

بصلوات صاحب الغبطة والقداسة، راعينا المحبوب البابا تواضروس الثاني، وليحفظ الله كنيسته أمد الدهر. آمين.

يمكنك التحميل من الرابط التالي

https://drive.google.com/file/d/1ABG2mCJfdg2m3vRR8IIjuu-58SHnB6rr/view?usp=share_link