الأحد، 29 نوفمبر 2020

رحلتي مع الثالوث- 17

 

نأتي لمحطة أخرى، لشخص آخر كان معاصر لتلك الفترة، وهو عمَّار البصري (توفي 845م) وكان نسطوريًا.. وعنده كتاب اسمه ”البرهان“، بيقول عمَّار فيه: ”الأشياء لا تخلو من أربعة وجوه: إمَّا جوهر كقولك إنسان. وإمَّا أقنوم كقولك موسى وداود وسليمان. وإمّا قوى كحرارة النار وشعاع الشمس. وإمّا عَرض كالسواد في المسود والبياض في المبيض. فأكمل هذه الأربعة الأشياء الجوهر والأقانيم. لأن الجواهر كلها لها هذه القوى من مثل الحرارة للنار والشعاع للشمس، وهي تحتمل الأعراض أيضًا. وكل جوهر أيضًا له قوتان: مثل الأرض لها البرود واليبس.... فهي متوحدة في جواهرها مثلثة في معانيها. والأقانيم أيضًا مثل قولك موسى وداود وسليمان، وكل واحد قائم بنفسه مستغنٍ عن غيره. فأمّا الأعراض والقوى المتوحدة في معانيها لا تقوم بنفسها مثل الجوهر والأقانيم فهي محتاجة إلى الجواهر التي تحملها وتكون فيها“.



من هذا النص يتضح أن البصري لا يرى الأقانيم كصفات أو أعراض، مؤكدًا أنه من بين هذه المقولات الأربعة، يصف المسيحيون الله بأكثر المقولات كمالاً وكفاية ذاتية، أي مقولتي الجوهر والاقنوم. وأن الأقنوم هو كيان قائم بذاته self-subsistent entity

نأتي إلى محطة هامة جدًا مع الفيلسوف يحيى بن عدي، واللي عاش بين (893- 974 م)، واللي قال عنه ابن النديم في فهرسه أنه كان ”أوحد دهره“ في الفلسفة والمنطق، وعنده مقالة مهمة بعنوان ”مقالة في التوحيد“. بيعتمد فيها على الفلسفة والمنطق فقط لإثبات الثالوث.. بدون الاستعانة بآية واحدة من الكتاب المقدس. يحيى بن عدي استعرض كل المعاني الممكنة لمصطلح ”الواحد“ أو ”الوحدانية“، من تقسيمات أرسطو، الواحد بالجنس والواحد بالنوع، والواحد بالعدد، والواحد بالنسبة أو العلاقة، واستخلص من كل ده أن الله لابد أن يكون واحد من حيث الجوهر، مثلث من حيث الصفات. يحيى بن عدي بيحط أساسات مهمة لناس كتيرة بعده في طريقة شرح الثالوث في اللاهوت العربي المسيحي.  

هذا النوع من الدفاع عن الثالوث.. يُسمى الدفاع المبني على الصفات (attribute apology) عند اللاهوتيين العرب، وقد اتهم بأنه نوع من السابلية، مثلاً من الباحث مارك سوانسون، ومن الباحثين الأقباط المصريين الدكتور جورج حبيب بباوي. لكن المتأمل لكلام عمّار لا يجد ما يفيد أن الأقانيم مجرد أعراض أو صفات. هذا النوع من الدفاع استخدمه ساويرس بن المقفع، وكان يترجم للآباء.. وبولس البوشي بتأثره الشديد بأثناسوس وغريغوريوس النزيانزي.. ولا يستطيع أحد أن يتهم هؤلاء بالسابلية.. كذلك تفسير الثالوث بأن الابن هو عقل الله أو النشبيه بالكلام المنطوق.. استخدمه مجموعة كبيرة من الآباء.. وبالتالي لا أرى أن هذا الشرح نوعًا من السابلية زي ما قال سوانسون أو جورج بباوي.

يُتبع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق