الأحد، 29 نوفمبر 2020

رحلتي مع الثالوث- 18

 

نأتي الآن لمحطة مهمة، مع الأنبا ساويرس بن المقفع، أسقف الأشمونين، (في القرن 10)، واللي بيعتبر أول كاتب يؤلف باللغة العربية من الأقباط؛ لأن ثيؤدور أبو قرة الملكاني أول من كتب بالعربية من المسيحيين عمومًا. في كتابه ”الدر الثمين“ يرد ساويرس على خطاب أرسله صديقٌ له يصفه بالحبيب وجد حيرة في التوفيق بين التوحيد والتثليث.



ويفسر الأنبا ساويرس الجهل بالثالوث إلى سببين: 1- ضياع اللغة القبطية، 2- التأثير بالأجانب وعقيدتهم وعدم سماع الشعب المسيحي سوى عقيدة الله الفرد الصمد. في البداية يؤكد ساويرس على أن الله غير موصوف ”أعلى من كل شبه وكل مثال وصفة“، وأنه ”لا يمثَّل به شيء ولا يُكيَّف“، وفي كتابه ”مصباح العقل“ يقول ”إن جوهره وذاته وطبيعته لا تشبه شيئًا من المخلوقات، ولا توافق ذاتًا من المحدثات“. حتى أن الأنبا ساويرس يرفض أن يكون جوهر الله حسب الجوهر الأول أو الثاني لأرسطو، بل من جوهر فريد ”لا يشبهه شيئًا من جواهر العالم“. يعني عاوز يقول بالبلدي ”ليس كمثله شيء“ بحسب التعبير القرآني.

الأنبا ساويرس يستخدم تعبيرات مستقاة من الكتاب المقدس. اتخذ من وصف الكتاب المقدس لله بالنور في التأكيد على ولادة الابن من الآب كولادة النور من النور. ثم يؤكد على أمور مهمة ليرد بها على الآخر: ”إنها ولادة أزلية تفوق العقول المخلوقة، وإنما مثلتها بولادة النور من النور؛ لأن النور يولد من النور بغير مجامعة ولا تعب ولا حبل ولا نقص.. وبغير أم“. مفيش امرأة في هذه الولادة. بهذا النوع من الولادة يؤكد ساويرس مساواة الابن للآب في جوهره أو طبيعته، مستغلاً مبدأً أرسطيًا عن أن الوالد يشبه مولوده، فالطير يلد طيرًا، والوحش يلد وحشًا، والإنسان يلد إنسانًا. هذا المبدأ وظفه أغسطينوس أيضًا؛ إذ يقول: ”لأنه منح الحيوانات هذه الخاصية: بأن ما يلدونه لا يكون غير ما هم عليه؛ فالإنسان يلد إنسانًا... فلماذا لا يلد الله إلهًا؟“.

يشرح الأنبا ساويرس أن الله ناطق، ونطقه غير مستحيل (متغيّر) بل أزلي، كقوام ذاته، لذا ”فالآب قائم بذاته، ناطق بابنه، حي بروحه“. هتلاحظوا أنها نفس العبارة اللي كان بيستخدمها كثير البابا شنودة الثالث المتنيح.. يعني هو مش أول واحد يستخدمها.. مرة أخرى نرى ”الدفاع المبني على الصفات“ (attribute theology)، وهذه الاستراتيجية الدفاعية ظهرت في سياق الجدل الإسلامي-الإسلامي عن صفات الله. كانت نقلة ذكية من اللاهوتيين العرب، واستمر هذا الدفاع شائعًا بين المسيحيين حتى يومنا هذا.

يعني زي ما في حقبة الآباء، اقتبس الآباء من الثقافة المحيطة تعبيرات زي أوسيا، وهيبوستاسيس، وهوموأوسيوس. اللاهوتيون العرب وجدوا جدل إسلامي حوالين صفات الله، وبين هل كلام الله (القرآن) أزلي أم مخلوق، بين المعتزلة من جهة وفرق إسلامية أخرى من جهة. فاستغلوا ليردوا على الهجوم على الثالوث بنفس مصطلحات هذه الفترة. قال المعتزلة إن كلام الله مخلوق (زي أريوس ما قال عن كلمة الله)، لأنه مرتبط بأحداث تاريخية، ولأنه أصوات وأحرف، بينما قال الحنابلة بأنه أزلي. لحد ما جه واحد اسمه أبو الحسن الأشعري وقسم كلام الله إلى نوعين: كلام النفس، والكلام المنطوق. وقال إن الكلام النفسي ده هو الأزلي، والكلام المنطوق (القرآن) ده حادث مخلوق. المعتزلة رفضوا فكرة الكلام النفسي، على أساس إن ”حديث النفس تابع للعبارات الملفوظة“.

الغريب والجدير بالذكر أن فكرة التمييز بين نوعين من كلمة/ كلام الله أو اللوغوس استخدمها بعض الآباء زي ترتليان في ”ضد براكسياس“ بس قال إن اللوغوس المنطوق لا يخلو من الجوهر بل هو الخالق. كذلك ق ثيؤفيلوس الأنطاكي يميز بين اللوغوس الداخلي واللوغوس المنطوق، وقد استمد هذه التقسيمة من الفلسفة الرواقية، وربما فيلون السكندري أيضًا.  

في الوقت ده من العلماء المسلمين اللي كتبوا ضد عقيدة التثليث، القاضي عبد الجبار الهمذاني- أحد علماء المعتزلة- اللي عاش بين (935- 1024). في كتابه ”دلائل تثبيت النبوة“، هو بالطبع مش عاجبة شرح اللاهوتيين العرب لعقيدة التثليث، وبيقول أن كان في مؤامرة في مجمع نيقية وقهروا الناس بهذه العقيدة أو قتلوهم، من أمثال هذه الإدعاءات التي لا تقوم على دليل أو برهان.

نفس الشيء من العلماء المسلمين اللي نقدوا الثالوث واحد اسمه أبو بكر بن الطيب الباقالاني، وهو عالم سني أشعري عاش بين (950- 1013 م)، من بين اعتراضاته في كتاب ”التمهيد“ أن النصارى ميزوا بين وحدانية الجوهر وتثليث الأقانيم أو الصفات .. فبيعترض عليهم أنه طالما إن الجوهر غير صفاته يبقى عندنا ”رابوع“ وليس ”ثالوث“.. جوهر + 3 صفات.. وهو اعتراض يبدو منطقيًا. اقتراحي للرد: ركز كتير من الآباء على ”مونارخية“ الآب، أي أنه عِلة الابن بالولادة، وعِلة الروح القدس بالانبثاق.. بيخلي الثالوث كما وصفه ولفسون Wolfson أنه سلسلة chain وليس مجموع تراكمي aggregate . يعني مش عندنا جوهر ثم بعد كده عندنا آب وابن وروح قدس.. لا يمكن تخيل وجود ”جوهر مجرد مستقل بذاته“ ثم يتفرع منه 3 أقانيم بعد ذلك..  بل نؤمن أن الله الآب الأزلي علة كل شيء، وكلمته المولودة منه أزلاً، والروح القدس المنبثق منه أزلاً.

يُتبع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق