نأتي إلى الأنبا بولس البوشي، (أسقف مصر في ق 13) في مقالته عن الثالوث والتجسد.. يجيب البوشي على سؤال: كيف يحل الإله في المرأة التي خلقها؟ فيسوق أمثلة قريبة مثل ظهور الله لموسى في العوسج، وظهوره لإبراهيم، وأن الإنسان بالتأكيد هو أشرف من الشجرة. ثم يجيب على سؤال آخر: ما الذي اضطره للتجسد؟ فجوابه: ”جوده وتفضله“، ويقول: ”الله جوّاد متفضّل لم يزل في جوهريّته كما يليق بصلاحه. بل أظهر التفضّل بالفعل، لمّا خلق البريّة. ليس لحاجة منه إليها، بل تفضّلاً منه عليها. ومن العدم إلى الوجود أحضرها، وهيّأ لها ما تحتاج إليه، لكرمه وجوده، ليُعرف أنّه متفضّل منّان وهكذا تعاهد البريّة بالخلاص، ليس لحاجة منه إلى التجسّد، بل تفضّلاً منه عليها“.
الفكرة التي استوقفتني
بشدة هو فكرة ”الجود الإلهي“، كذلك الفرق بين الجود والتفضل. وأن الجود صفة
داخلية في الله، أمّا التفضُّل فتظهر في تعاملات الله مع خليقته. أردتُ أن أبحث عن
الفكرة لدى كُتاب آخرين.
فيقول يحيى بن عدي، الفيلسوف البغدادي، عن الجود
الإلهي: ”إنّ
أفضل الجائدين هو الجائد بأفضل الذوات. وأفضل الذوات ذات البارئ. فلزم جود البارئ
بذاته علينا، وهذا كان باتّصاله بنا". الله الذي هو ليس الكريم وحسب، بل هو
أفضل الكرماء، لا بدّ أن يجود بذاته لأنّها أفضل الذوات. لذلك جاد بنفسه على
الطبيعة البشريّة، تشريفًا لها وارتقاءً بها إلى الحضرة الإلهيّة، فاتّحد بها إذ
صار إنسانًا“.
وكذلك العلامة جرجس
بن العميد الملقب بابن المكين في كتابه الشهير ”بالحاوي“، يتحدث عن الجود
الإلهي كسبب أوحد للتجسد، حتى أنه ينكر أن تكون خطية آدم سببًا للتجسد، وهي فكرة
معروفة ويستشهد بها كثيرون، أقصد ”التجسد غير المشروط“(Unconditional Incarnation) يقول ابن المكين: ”وفي الحق أنه لا يجب أن
يوقف جود الله تعالى على شرط حادث، لكن لما كان من كمال جوده أن يجود بنهاية الجود
وأكمله.. فلذلك أظهر كمال جوده بواسطة تمكّن البشر من مباشرتها والقرب منها، ولو
مُنع ظهور الله متجسدًا وما نتج عنه من جزيل النفع من القدرة على إمكانيته، لكان
يعزي ذلك إلى أحد أمرين: إمَّا ضنًا (أعني بخلاً) وإمّا عجزًا، وعلى هذا يكون الله
غير مستحق اسم ’الجواد المطلق الجود‘“.
من جهتي لا أعتقد بصحة
فكرة التجسد غير المشروط، لأنه ليس هناك ما يمنع أن يكون التجسد بدافع من جود الله
وتفضله وبسبب سقوط آدم أيضًا. لكن ابن المكين هنا يعلي ويعزز من قيمة جود الله
المجاني، وهو بالفعل كذلك. لكن ما رأي الآخرون في فكرة ”التجسد غير
المشروط“. هنلاقي إن الفيلسوف توما الأكويني
تعرض لنفس السؤال.. والجميل إن المعترض قال مثلاً إن سر التجسد أُعلن لآدم قبل ما
يسقط لما قال لحواء ”هذه عظم من عظمي“ وبولس في رسالة افسس ”هذا السر
عظيم.. من نحو المسيح والكنيسة“، فهل آدم كان عارف انه هيسقط... ولا التجسد
كان هيحصل كده كده؟
توما الأكويني بيقول مفيش ما يمنع أن تُعلن النتيجة دون معرفة السبب! وبالتالي يمكن أن يُعلن سر التجسد لآدم دون وعيه بسقوطه الوشيك. ”لأن مش كل واحد عرف النتيجة بيعرف السبب!“ وفي اعتراض بيرد عليه الأكويني تاني قال بناء على رو 1: 4 ”تَعَيَّنَ ابْنَ اللهِ بِقُوَّةٍ مِنْ جِهَةِ رُوحِ الْقَدَاسَةِ، بِالْقِيَامَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ“ فمينفش يتعيّن الابن بأنه هيتجسد.. إلا وأنه كان هيتجسد كده كده.. بصرف النظر عن السقوط (ده كلام على لسان معترض هيرد عليه الأكويني).
توما الأكويني بيرد
إزاي، بيقول إن تعيين الله
predestination مبني على علم الله السابق foreknowledge وبالتالي
إذا تعين التجسد والقيامة.. فده بناء على علم الله السابق بالسقوط.. (يعني ربنا مش
بيعين أمر علشان يحصل كده كده.. لكن تعيينه مبني على علم سابق بحدوث شي.. وإلا
دخلنا في قصة القدرية والجبرية.. والمسيحية مش كده!!) الله عليك يا أكويني! وبيقول كمان إن الأمر
ده ربنا هو اللي يعلمه وحده.. ولكن إحنا لينا اللي بيُعلن في الكتاب المقدس..
والواضح أكثر إن التجسد مرتبط بعلاج مشكلة الخطية.. وأنا من ناحيتي
بشوف في سياق الآباء بيتكلموا في موضوع مختلف إجابة على السؤال ده.
عندنا مثلاً ق
أمبروسيوس كان بيرد على فكرة خاطئة بتقول إن جسد المسيح نزل من السماء - من
فوق.. فرد على كده بأن المسيح قدّم (جسده ذبيحة)- ولم يقدّم لاهوته ذبيحة؛ لأن
اللاهوت لم يخطئ. وبيقول كده: ”إنه قدّم التقدمة مما يخصنا. وإلا ما السبب في
تجسده إذا لم يُفدى الجسد الذي أخطأ بواسطة المسيح؟“ (سر تجسد الرب فقرة 78).
كمان المترجم دعم نفس الفكرة باقتباس من ق. أثناسيوس في رسالته إبيكتيتوس: ”لم
يأتِ اللاهوت لمساعدة نفسه حتى يلبس ما هو من نفس جوهره، كما أن الكلمة لا يخطئ في
شيء وهو يفتدي خطايا الآخرين، حتى يصير جسدًا ويقدّم ذاته ذبيحة لأجل نفسه ويفتدي
نفسه“
وبالتالي يُفهم من كلام
أمبروسيوس وأثناسيوس أنه مفيش حاجة اسمها ”التجسُّد غير المشروط“ اللاهوت لم يقدم
ذبيحة لنفسه.. الذبيحة هي جسد اللوغوس لأن الجسد هو اللي أخطأ. فماذا لو لم يخطىء
آدم؟ الإجابة: لن يقدّم اللاهوت أي ذبيحة؛ لأنه لم يخطئ! هذه حُجة أمبروسيوس
وأثناسيوس.
هل فعلاً الإنسان كان
محتاج للتجسد علشان ياخد نعمة الخلود؟ أو علشان يتأله؟
الإجابة هنقرأها في تجسد الكلمة 4: 6 اللي بيقول فيها إن الإنسان فاني لأنه خُلق
من العدم- ودي فكرة صحيحة- لكن بوص بيقول إيه؟ ”إلا أنه بسبب خليقته على صورة
الله... كان ممكنًا أن يقاوم قوة الفناء الطبيعي ويبقى في عدم فناء“ إزاي يا
قديس أثناسيوس ”لو أنه أبقى الله في معرفته كما تقول الحكمة: حفظ الشرائع تحقق
عدم البلى“.. وبعد كده إيه؟ ”وبوجوده في حالة عدم الفساد كان ممكنًا أن
يعيش منذ ذلك الحين كالله“.
يعني باختصار اللي بيقول إن التجسد لازم للتأله، ق
أثناسيوس هنا بيقول: الخلق على الصورة من ناحية.. وإبقاء الإنسان الله في معرفته..
هذا يكفي! وفي الآخر مشروط أو غير مشروط.. دي نقطة فرعية مش في صلب الإيمان.
يُتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق