الخميس، 26 أكتوبر 2017

هل كان المسيح كلبيًا (cynic)؟


اثنان من الدارسين فيما يُعرف بمنتدى يسوع (Jesus Seminar)، وهما ماك Mack وكروسان Crossan، قالوا بفرضية أن يسوع يمثل أحد الكلبيين cynics بناءً على فرضية أن المصدر Q  هو أول المصادر التي اعتمد عليها كتبة البشائر الأربعة، وزعموا أنها تقدم يسوع كأحد هؤلاء الكلبيين، فما مدى صحة هذا الزعم. في البداية، تأسست الفلسفة الكلبية Cynicism على يد واحد اسمه ”أنتيستينس“ في القرن الرابع قبل الميلاد. ولكن أشهر الكلبيين هو ديوجين، وله قصة شهيرة أنه كان ينام في برميل، ويمشي بمصباح في وسط النهار، ورفض مقابلة الأسكندر الأكبر الذي سمع عنه، فذهب إليه الأسكندر وقال له أنا الأسكندر أطلب ما تشاء، فقال له وأنا ديوجين، أبعد عن وجهي فقد حجبت نور الشمس عني.
من أهم سمات الكلبيين ما يلي:
-        الاكتفاء الذاتي (autarkeia)، والتخلي عن الممتلكات، أحدهم كان ثريًا وباع أملاكه كلها.
-        اللامبالاة apatheia.
-        العيش حسب الطبيعة، كل ما هو طبيعي فهو مقبول.
-      السلوك بلا خجل shameless يمكنه أن يتبرز أو يمارس الجنس أمام الناس، ربما جاءت التسمية من هنا، فهذا أسلوب حياة الكلاب (doglike lifestyle).  
-        مظهرهم العام: ملابس رثة، يستعطي، شعر أشعث، يمسك عصا، ينام في أي مكان، بلا مأوى ولا بيت.
-        حرية التعبير والكلام، واللغة العنيفة والساخرة في مخاطبة الناس.
-      الدعوة للتحرر من كل القيود الدينية والعائلية، فالكلبي ضد الثقافة وضد المجتمع إلى حد كبير.
من خلال السمات السابقة تستطيع أن تستنتج لماذا افترض بعض الدارسين أن المسيح كان من هذا النوع من الكلبيين. السيد المسيح بالفعل لم يكن ”لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ.“ (مت 8: 20)، وكان يعلِّم متجولاً، وبالفعل قاوم المظهرية الدينية في جيله، ويبدو من كلامه فكرة التحرر من القيود العائلية ”مَنْ أَحَبَّ أَبًا أَوْ أُمًّا أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ابْنًا أَوِ ابْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي.“ (مت 10: 37)، ودعى تلاميذه إلى الاكتفاء الذاتي ”لاَ تَحْمِلُوا كِيسًا وَلاَ مِزْوَدًا وَلاَ أَحْذِيَةً،“، وقال لهم أيضًا ”وَلاَ تُسَلِّمُوا عَلَى أَحَدٍ فِي الطَّرِيقِ.“ (لو 10: 4). وقد يبدو كلامه مناهضًا للمجتمع في العبارة الأخيرة. كذلك قال المسيح للشاب الغني ”اِذْهَبْ بِعْ كُلَّ مَا لَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ اتْبَعْنِي حَامِلاً الصَّلِيبَ.“ (مرقس 10: 21)، وتوازيات كثيرة من هذا القبيل.
لكن بالتحليل الدقيق، سنكتشف فوارق أكثر من جوهرية بين أسلوب المسيح وأسلوب الكلبيين، كما يلي:
-        أهم جزئية من خدمة المسيح هو الشفاء وإخراج الشياطين، وهذا لا يوجد ما يوازيه عند الكلبيين.
-        الأمثال القصصية التي تميز بها أسلوب المسيح مع عامة الناس، ليس لها ما يوازيها لدى الكلبيين، بل هي ممارسة يهودية بلا شك.
-        في لوقا 10: 4 قال المسيح لتلاميذه: ”لا تحملوا كيسًا ولا مذودًا ولا أحذية.“، في حين كان المزود (وهو حقيبة جلدية) رمز الاكتفاء الذاتي عند الكلبيين. نفس الشيء في لوقا 9: 3، قال لهم المسيح ”لا تحملوا .. عصا.“ وكان العصا جزء شائع في مظهر الكلبيين.
-        وحتى عبارة ”لاَ تُسَلِّمُوا عَلَى أَحَدٍ فِي الطَّرِيقِ.“ لوقا 10: 4، لا تعبر عن كراهية المجتمع، وإنما للتركيز على الإرسالية، وهذه الفكرة ضد الكلبيين الذين اشتهروا بالتحرش بالعامة من خلال السخرية والألفاظ العنيفة.
-        أمّا الاستعطاء الذي اشتهر به الكلبيون، فلم يكن سمة من سمات خدمة المسيح. دعى المسيح إلى المشاركة، والاعتماد على الله في توفير احتياجاته، وقال لتلاميذه ”كُلُوا مِمَّا يُقَدَّمُ لَكُمْ.“ (لوقا 10: 8)، على سبيل المشاركة وليس إلى الاستعطاء. هذا الشكل من الحياة لم تشجعه الكنيسة بعد ذلك على الإطلاق. نقرأ في الديداخي الفصل 11 أن الرسول إن مكث لديكم ثلاثة أيام فهو نبي كاذب (11: 5)، وعندما يمضي لا يجب أن يأخذ سوى الخبز، فإذا طلب دراهم فهو نبي كاذب (11: 6)، والنبي إذا طلب أن تهيأ له مائدة وأكل منها، فهو نبي كاذب (11: 9)، وإن طلب فضة لا تسمعوا له (11: 12). هذه اللغة الحاسمة ترفض الاسلوب الكلبي في الاستعطاء، وهو يختلف تمامًا عن المشاركة والاعتماد على الله.
-        الكنيسة أيضًا رفضت مبدأ الاستعطاء كما في قول بولس ”إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَغِلَ فَلاَ يَأْكُلْ أَيْضًا.“ (2تس 3: 10).
-      فكرة عدم الخجل بعيدة كل البعد عن أسلوب حياة المسيح، كان المسيح يشجع على اللياقة، بعد شفائه لمجنون قرية الجدريين وجدوا ”الإِنْسَانَ الَّذِي كَانَتِ الشَّيَاطِينُ قَدْ خَرَجَتْ مِنْهُ لاَبِسًا وَعَاقِلاً.“ (لوقا 8: 35).

-      لم يدعو المسيح للتحرر من القيود العائلية؛ فكلامه عن انفصال الرجل والمرأة عن أبويهم، هو نوع من الاهتمام بالأسرة الجديدة، ولا يعني انقطاع عن إطاعة الوالدين كما دعى الكلبيون، بل أن المسيح أكد في كلامه مع الكتبة والفريسيين أكد أن ”اللهَ أَوْصَى قَائِلاًأَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، وَمَنْ يَشْتِمْ أَبًا أَوْ أُمًّا فَلْيَمُتْ مَوْتًا.“ (لو 15: 4).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق