السبت، 21 أكتوبر 2017

ملاحظات عن السلطان الكتابي


أخي الحبيب[1] خلال حديثك عن السلطان أو المرجعية العليا (Authority) في الكنيسة وقسَّمت الأمر كالتالي:
-        الكنيسة الكاثوليكية: المرجعية للبابا ومجمعه.
-        الكنيسة الشرقية والقبطية: المرجعية للـ:
o       التقليد
o       قوانين الإيمان
o       قرارات المجامع
o       أقوال الآباء
o       الليتورجيا
o       الكتاب المقدس (في ذيل القائمة!)
-        ثم الكنيسة الإنجليكانية، والحركات الليبرالية التي جعلت المرجعية للمنطق أو العلم.. إلخ.
-        ثم الكنيسة المصلحة (Reformative) وقلت إنها تستند فقط إلى مبدأ ”الكتاب المقدس وفقط“ (sola scriptura).
ثم استطردت موقف السيد المسيح من الكتاب المقدّس، وخلُصت منه أن المسيح كان يراعي الكتاب حرفيًا وينهي كل جدل أو خلاف مع مقاوميه أو حتى مع إبليس باستخدم الكتاب وعبارة ”مكتوب“. ثم انتهيت إلى أنك بلا ملامة إذا اتبعت قدوة سيدك المسيح.
وليسمح لي الأخ الكريم أن أوضح له الصورة التي تعبر عن الكنيسة القبطية التي أنتمي إليها، حتى تستوضح  الأمر أكثر، أو حتى تعيد بناء حُجتك بناءً على ما سأذكره..
1-         من الناحية العملية والواقعية لا نرى أن مرجعية كنائس الإصلاح هي ”الكتاب المقدس وفقط“، فلها تقليد متمثل في قادة الإصلاح وما قدموه وصاغوه من تعاليم. (بالأمس القريب أدلى القس سامح موريس ببعض التعاليم الخاصة بالتناول قريبة الشبه جدًا بعقيدة الكنيسة القبطية، فكان الرد من أقرانه أن هذا ما لم يتعلموه في كليات اللاهوت الإنجيلية عن العقيدة الإنجيلية المشيخية.. It looks like a duck).
2-           لماذا المجامع وقوانين المجامع الخاصة بالإيمان؟ لأنه يوجد ما يسمى ب ”تاريخ العقيدة“ (history of dogma). نحن نتفق أن عقيدة الثالوث مثلاً موجودة من أول يوم في المسيحية، لكن صياغة عقيدة الثالوث كما نعرفها الآن غير موجودة من أول يوم. فكلمة ”أقنوم“ غير موجودة في الكتاب المقدس، وكلمة ”هوموأوسيوس- أو مساو للآب في الجوهر“ غير موجودة في الكتاب المقدس، وأيضًا كلمة ”ثالوث“. وأظن أن الكنائس الإنجيلية تقر بالمجامع المسكونية الثلاثة الأولى على الأقل.
3-           أمّا عن الآباء فأنت كثيرًا ما تقتبس آراء ”جون ويسلي وكالفن ولوثر.. وغيرهم“ (it swims like a duck). قد تقول هذه مجرد آراء ليس لها سلطان علينا. أقول لك كذلك نحن من المستحيل أن نصف كتابات الآباء بالمعصومية أو نضعها على نفس الدرجة مع الأسفار الموحى بها (راجع أول صفحتين من كتاب مدخل إلى علم الباترولوجي للأب تادرس يعقوب ملطي). لذا فالترتيب الذي ذكرته قد أصابني بالصدمة (أعتقد أنه لو موقع إسلامي مكنش رتبهم بهذا الترتيب ليضع الكتاب المقدس في آخر القائمة). صدِّق أو لا تصدِّق.. الكتاب المقدس في المركز وبقية الأمور تستمد مرجعيتها في ضوء الكتاب المقدس.
4-         الكنائس المصلحة لها ليتورجيتها أيضًا (بالمفهوم الأوسع للعبادة) ولا تستطيع أن تعزف ترنيمة لا تعبر عن العقيدة الإنجيلية. الليتورجيا دائمًا وأبدًا تمثل تعبيرًا عن مضمون العبادة. (it quacks like a duck).
5-             من ناحية أخرى، أنت تعرف أن الكنيسة حتى القرن الثالث لم تكن قد استقرت على القائمة النهائية للأسفار. فكيف نطبق مبدأ ”الكتاب المقدس وفقط“. أحد آباء الكنيسة- وهو ميليتون أسقف ساردس (متوفي 180م)- كان لديه قائمة أسفار ليس بها مراثي وأستير، وكان بها حكمة سليمان من الأسفار القانونية الثانية. أضف إلى ذلك أن لوثر نفسه كان يرفض رسالة يعقوب ويعتبرها ”كومة من القش“. فكيف نطبق مبدأ ”الكتاب المقدس وفقط“ – برسالة يعقوب أم بدونها. كما كان هناك أسفار كثيرة من العهد الجديد نالت قدرًا كبيرًا من الجدل حول قانونيتها.
6-              نقطة أخرى أليس بالتأكيد على ”الكتاب المقدس وفقط“ نجعل من المسيحية ”ديانة كتابية“ بالمفهوم الإسلامي؟
7-          فضلاً عن أن هذا يتنافي مع الواقع؛ لأن المسيحية بدأت بكنيسة ولم تبدأ بكتاب. وهذه نقطة فارقة تجعلنا نقول بإرتياح أن الإعجاز ليس في الحرف وإنما في الرسالة، وتجعلنا نقول إنه لن يؤثر علينا أي حذف أو فقدان أو تناقض بين المخطوطات طالما لم يؤثر على مجمل العقيدة في النهاية.
8-           ألا ترى أن مبدأ ”الكتاب المقدس وفقط“ يمثل نقطة في الفراغ غير محددة الملامح. أرى ذلك بوضوح كلما أحضر مجموعة لدراسة الكتاب مع أخوتي الإنجيليين. نختار فصلاً من الإنجيل لنقرأه، ثم يقول قائد المجموعة ”لنرى كيف تكلمت كلمة الله لكل واحد فينا!“. وهذه عبارة مرعبة بالنسبة لي. لأن هذا يجعل للنص الكتابي معانٍ بقدر عدد مَن يقرأونه أو قرأوه أو سيقرأونه. ويجعل معنى النص (subjective) وليس (objective) بل تعلمت من ”التقليد الإنجيلي“ أن هناك ما يُسمى بالمعنى الذي قصده الكاتب  (intended meaning) حينما كُتب للقراء الأوائل للنص (original audience). ويجب أن نسعى جميعًا لاستكشاف هذا المعنى الواحد. هنا توجد ميزة نوعية باللجوء إلى كتابات الآباء فهم الأقدر على فهم النص، والأقدر على تجسير الهوة (to bridge the gap) اللغوية والثقافية والتاريخية بحكم قربهم من الحدث والثقافة والتاريخ وبحكم معاينتهم للإيمان المعاش في عبادة الكنيسة وتعاليمها.
9-              بل إن البعض من الدارسين اللاهوتيين من خلفية إنجيلية. قرأت لأحدهم يدعى ”رونالد إي هاينه“ في كتاب له من إصدار baker books  بعنوان (Reading the Old Testament According the Ancient Church) يقول فيما معناه أن الكنيسة الإنجيلية مقطوعة الجذور فيما يتعلق بفهم العهد القديم بالذات. وتحتاج للرجوع إلى كتابات الآباء لتقرأ العهد القديم بعيون الكنيسة الأولى. (هذا بالضبط ما ننادي به في الكنيسة القبطية).
10-       كذلك في تأكيد المسيح على "الكتب" فهو لم يذكر عدد أو أسماء الأسفار التي تتضمنتها هذه الكتب، بل كان في الواقع يشير إلى العهد القديم. وهل تعلم أن الترجمة السبعينية التي ذُكر أن اليهود قبلتها بترحاب شديد بل وقالوا أن المترجمين قد أوحي لهم أيضًا (رأي دكتور يوسف ناثان) قد احتوت على الأسفار القانونية الثانية كاملةً.. المسيحية تبنت القراءة السبعينة منذ بداياتها ولم تتبنَ القراءة العبرية للعهد القديم. حتى اضطر اليهود لرفضها فيما بعد.

مع مراعاة أن الجميع يخطئون، فقد سمعت تعبير ”عظة جيدة على نص غلط“ منك، وأظنك وقعت في هذا الخطأ مرة واحدة فقط.
في شرحك لمثل وكيل الظلم والآية : لوقا 16: 11 "إِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي مَالِ الظُّلْمِ، فَمَنْ يَأْتَمِنُكُمْ عَلَى الْحَقِّ؟"
هذه الآية بها ما يُعرف بـ ”الحذف البلاغي“    (Ellipsis)   
للشرح نجد في لوقا 23: 31 "إِنْ كَانُوا بِالْعُودِ الرَّطْبِ يَفْعَلُونَ هذَا، فَمَاذَا يَكُونُ بِالْيَابِسِ؟"
من الواضح أن هناك كلمة ناقصة في النصف الثاني من الآية حُذفت كنوع من البلاغة. فهي كالآتي: إن كانوا بالعود الرطب يفعلون هذا، فماذا يكون بـ (العود) اليابس.
نفس الكلام في آية مَثل وكيل الظلم:
إن لم تكونوا أمناء في مال الظلم، فمن يأتمنكم على (المال) الحق أو الحقيقي.
بدأت تقارن بين نصفي الآية، وتقول إن المسيح هنا يقارن بين أرخص شيء وهو (المال) وأغلى شيء وهو (الحقوبالرغم أن الفكرة جميلة لكنها غير موجودة في النص.
مَرة أخرى أطلب في أحشاء يسوع المسيح ألا تعتبر هذا تصيدًا للأخطاء. 
بكل الحب أقدِّم هذه الملاحظات، وأصلي أن يستخدم الله خدمتكم لصالح جسد المسيح في كل مكان.

هذا هو الرد: 
اخي الحبيب في المسيح عادل
تمنيت لو كان لي شرف الالتقاء بك وجها لوجه اثناء المؤتمر والتمتع بالشركة معك, فأنا أزعم إني عاشق لكل من يأخذ إيماننا المسيحي بإخلاص وجدية وأنت، كما يبدو من رسالتك الرقيقة، هكذا أيها الاخ الحبيب. 
قرأت رسالتك بعناية وأشكرك بصدق وإخلاص على محبتك ونقدك الراقي وأسمح لي بتعليق مختصر الان حتى يرتب لنا الرب فرصة للحديث وجها لوجه
أولا سامحني واغفر لي ان كان عرضي للمواقف المختلفة من مسألة السلطة قد سبب لك ألما، فلم يكن في نيتي قط والله شاهد ان أقلل من قدر أي طائفة، ربما كان ينبغي ان أكون اكثر دقة أكاديمية في العرض. 
ثانيا كان ينبغي ان اوضح اكثر اني لا اتكلم على مصادر التعليم لكن عن السلطة النهائية، والفرق بين ان يوضع الكتاب على قدم المساواة مع بقية المصادر، والتي نحن في احتياج شديد اليها كمصادر تعليم لا غنى عنها، وأن يكون للكتاب  السلطة العليا عليها جميعا. 
ثالثا: مسألة القانونية خلقتها مسألة السلطة،  فعندما نناقش قانونية سفر نحن لا نناقش ان كان ينفعنا ام لا لكننا نناقش هل سيكون له سلطة على ضمائرنا ام لا، أعني بهذا ان مجرد مناقشة قانونية سفر هو اعتراف منا بان السلطة العليا هي للكتاب وبالتالي ينبغي أن لا يتساوى معه اي مصدر اخر مهما كان نفعه 
رابعا: اشكرك جدا على ملاحظتك بخصوص لو١٦ وانت على صواب كامل فيما ذكرت. لكني ايضا لا ارى ان ما ذكرته انا لا يبتعد عن النص لان المال الحق او الثروة الحقيقية هي الحق الذي يقول عنه الحكيم اقتن الحق ولا تبعه. لكن ملاحظتك تنبهني انه ربما كان الأفضل ان اوضح معنى النص حرفيا قبل ان اقفز الى التطبيق
مرة اخرى أكرر شكري العميق وأتمنى ان نلتقي
ولك مني خالص محبتي وتقديري الكبير.







[1]  هذا المقال هو نص إيميل أرسلته لأحد الخدام المشهورين الإنجيليين بعدما قدم، في رأيي، صورة خاطئة عن السلطان الكتابي في الكنيسة القبطية، وقد تفضل بالرد على الأيميل باحترام جزيل. تنويه: لا أحب مهاجمة عقائد الآخرين، كل الاحترام والحب لكل من دعي عليه اسم المسيح، أنا فقد أردت أن أوضح موقف الكنيسة التي أنتمي إليها. كما أردت أن أقدم صورة للحوار الراقي بيننا وهذا ما يجدر بالجميع اتباعه.

هناك تعليق واحد: