الأحد، 2 سبتمبر 2018

القصد من غموض النبوات- ق يوحنا ذهبي الفم



بيانات الكتاب:
القصد من غموض النبوات للقديس يوحنا ذهبي الفم
ترجمة د. جورج فرج، ومراجعة د. جورج عوض
لعظتين عن غموض العهد القديم
بمعرفة المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية
في حوالي 150 صفحة (من القطع الصغير)


في هذا الكتاب يظهر مدى توقير ذهبي الفم للكتاب المقدس، فهو يصف النبوات بأنها لجة بحر.. لانهاية له، وبه الكثير من الأعماق (ص 45). هذا البحر نتجاسر ونقترب منه ليس ليس بقوتنا الخاصة ولكن بالنعمة (ص 45). ويؤكد أن صعوبة الأسفار المقدسة ليس بسبب طبيعتها“ بل ”عدم خبرة المستمعين“ (ص 43). ويشبه عدم خبرتهم بمن يصابون بالدوار في البحر لقلة تمرسهم على السفر، ويقول: التمرس يقنعك بأن تزدري بالأمور المخيفة، أما انعدام الخبرة فيجعلك ترتاب وتخاف من توافه الأمور“ (ص 40).
ثم يصيغ ذهبي الفم حجته للقصد من غموض النبوات من خلال الآتي:
1-      لأن الأسفار النبوية تحتوي على أخبار غير سعيدة لليهود عن سبي بابل مثلاً، ويقول فلو لم يقدروا أن يسمعوا عن سبي مؤقت، فكيف باستطاعتهم أن يسمعوا عن العبودية الأبدية (ص 60)
2-         لأن اليهود كانوا سيقتلون الانبياء لو قدموا الاخبار صراحةً (وقدم أمثلة لتعطش اليهود للدماء، وشهادة المسيح بأنهم قتلة الأنبياء، وقتل أسطفانوس ومحاولة قتل بولس.. إلخ)
3-          كان اليهود سيحرقون الكتب النبوية إذا لم تكن غامضة، ويذكر أن هذا ما فعله يهوياقيم (إر 36) عندما سمع جزءً صغيرًا من المكتوب (ص 74)
4-       يرى ذهبي الفم أن غموض النبوات ضرورة، حتى لا يفهم اليهود تبعات مجيء المسيح (مثل إلغاء الناموس، وهدم الهيكل، وتشتيتهم في كل العالم) وبالتالي فالغموض مقصود حتى لا يفهم اليهود تلك الأقوال قبل آوانها (ص77)
5-         إذا فهم اليهود كلام الأنبياء عن إبطال الناموس، سيعتبرونه شيئًا مؤقتًا عبثيًا بلا فائدة (ص 78)، وسيحتقرونه (ص 79). لكن ذهبي الفم يؤكد على أنه لو لم يكن للناموس مجدًا لا يُقترب منه فما كان محتاجًا إلى البرقع (ص 82).
6-          يقول ذهبي الفم إن قيمة النبوة ليست في أن تعلن عن الأمور الحاضرة بل المستقبلية.. وبالتالي فالنبوة تقال بشيء من الغموض، وبعد وقوع الأحداث تصير أكثر وضوحًا، أما قبل حدوثها فمن المحال فهمها، وبالتالي كانت النبوات تقال بشيء من الإبهام (ص 94). استشهد ذهبي الفم بالسيد المسيح الذي استخدم هذا الأسلوب الغامض، عندما قال لليهود انقضوا هذا الهيكل وكان يقصد جسده، وآمنوا فقط بعد القيامة كما يرد في (يو 2: 22).
7-              كذلك ينسب غموض العهد القديم إلى أننا نقرأه في ترجمة مختلفة وليس في لغته الأصلية، لأن الترجمة تحجب الوضوح الموجود في اللغة الأصلية.
تقييم للمنهج التفسيري لذهبي الفم في ضوء أدوات التفسير الحديث:
1-         كلامه عن وجود جزء من الناموس غامض وقد انكشف ورُفع البرقع بمجيء المسيح، أرى ما يسميه البعض بقانون الإشارة المزدوجة (double reference law) أو قانون التحقيق المزدوج (double fulfillment law) أو ما يُسمى بالمعنى الأكثر اكتمالاً sensus plenior في المسيح أو الكنيسة.
2-        ذهبي الفم يستخدم ما يعرف ب Synecdoche وهو شيء قريب من المجاز المرسل، مثلما نقول إن بعرق وجهك تأكل خبزًا تك 3: 19. أن الخبز هنا مجاز مرسل عن الطعام علاقته الجزئية، لأن الإنسان لن يأكل الخبز فقط. في تعليقه على أن الأرض كلها كانت لسانًا واحدً يشرح فيما معناه أن اللسان كناية عن اللغة، والأرض هم البشر عندما يخطأون.
3-          كذلك يشرح بعض التشبيهات البليغة Metaphors أو الاستعارات مثل تشبيه المرنم للسان بالسيف، بسبب الكلام القاتل الذي يغتال الناس (ص 138(. وكذلك الحنجرة بأنها قبر مفتوح، لأن الناس تُخرج من بلعومهم كلمات شريرة وكريهة (ص 139(
4-          يستخدم أيضًا فهمه للتوازي الترادفي، أي أن شطري الآية أحدهما مترادف مع الشطر الآخر. يعلق على آية إش 11: 4. ”يَضْرِبُ الأَرْضَ بِقَضِيبِ فَمِهِ، وَيُمِيتُ الْمُنَافِقَ بِنَفْخَةِ شَفَتَيْهِ.“ ويستنتج أن الأرض هي البشر الترابيون عندما يعصون.
أكثر ما أبهرني في هذا الكتاب حديث يوحنا ذهبي الفم عن حرية الإرادة وسلطان الله؛ فهو يقول صراحة بأن علم الله السابق لا يجعل الأحداث محتمة. فلا يمثل علم الله السابق علة حدوث الأشياء: لأن الله لا يفرض (او لا يُحتم، أو يقضي) بالأمور التي من المتوقع حدوثها في المستقبل. وهو ما يتفق مع موقف يوستين وإيريناؤس وأوريجانوس ويوحنا الدمشقي الذي قال الله يعلم الاشياء جميعًا علمًا مسبقًا، لكنه لا يُوجبها.[1]   
لكن ذهبي الفمر يُذكرني مرة أخرى بما قرأته لكتاب غربيين معاصرين عما يُسمى استجابة لعلَّ (who knows reaction)![2] ياللعجب. هذا يؤكد لي أن ما يكتب في اللاهوت المعاصر ما هو إلا حواشي أو تفسير على كتابات الآباء. يشرح ذهبي الفم إر 36 : 3، وأن إرميا طلب من باروخ أن يكتب كلام النبوة لَعَلَّ بَيْتَ يَهُوذَا يَسْمَعُونَ كُلَّ الشَّرِّ الَّذِي أَنَا مُفَكِّرٌ أَنْ أَصْنَعَهُ بِهِمْ، فَيَرْجِعُوا كُلُّ وَاحِدٍ عَنْ طَرِيقِهِ الرَّدِيءِ، فَأَغْفِرَ ذَنْبَهُمْ وَخَطِيَّتَهُمْ“.. هنا ينتبه ذهبي الفم ويقول هل يقول الله لعلَّ؟ هل لا يعرف ما سوف يحدث؟ (ص 65(.
مش هو عارف أنهم هيرفضوا كلامه.. وبيقول لسامعيه أن هناك مَن يتهمون الابن بالجهل (الأريوسيون)، فها هو الآب يقول ايضًا لعلَّ كمَن لا يعرف. ثم يجيب ذهبي الفم على سؤال: ليه ربنا قال لعلهم يسمعون وهو عارف أنهم مش هيسمعوا!
وبيقول لو ربنا قال إنهم هيسمعوا.. يبقى كذبة.. لأنهم يميلون إلى العصيان. ولو قال مش هيسمعوا هيحصل 3 حاجات:

-       هيكون إرسال النبي ليهم بلا هدف.

-       هنفهم أن علمه السابق يعني أن عصيانهم محتم (وده مش حقيقي)
-       ولو قال كده يبقى كأنه بيقول إن باب التوبة مغلق في وجههم (ص 67(.  وحتى لا يتهمونه بالظلم قال للنبي: لعلهم يسمعون.

الكلام ده بيخليني أربط ما ما فهمه رجال الله من أوامر قضى بها الله في العهد القديم، وكيف تصرفوا تجاهها. ناخد مثال داود بعد ما ناثان النبي قاله إن الله قضى بأن يموت ابن الخطية من امرأة اوريا الحثي. هذا أمر خرج من الله. لكن ماذا فعل داود؟ لم يقف سلبيًا مكتوف الأيدي. راح صام وصلى ولبس المسوح. وبعد ما مات الولد، قام واغتسل، فلم يفهم عبيده ماذا فعل؟ انظر ماذا قال: لَمَّا كَانَ الْوَلَدُ حَيًّا صُمْتُ وَبَكَيْتُ لأَنِّي قُلْتُمَنْ يَعْلَمُ؟ رُبَّمَا (لعلَّ) يَرْحَمُنِي الرَّبُّ وَيَحْيَا الْوَلَدُوَالآنَ قَدْ مَاتَ، فَلِمَاذَا أَصُومُ؟ هَلْ أَقْدِرُ أَنْ أَرُدَّهُ بَعْدُ؟ أَنَا ذَاهِبٌ إِلَيْهِ وَأَمَّا هُوَ فَلاَ يَرْجعُ إِلَيّ (2صم 12: 22- 23).
نفس الشيء ملك نينوى، كان الأمر قد صدر بأن المدينة ستنقلب بعد 40 يومًا: ”نادَى (يونان) وَقَالَ: بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا تَنْقَلِبُ نِينَوَى“ ( يونان 3: 4). ماذا فعل ملك نينوى بعدما أمر بان يصوم الجميع وحتى الدواب: ”لَعَلَّ اللهَ يَعُودُ وَيَنْدَمُ وَيَرْجعُ عَنْ حُمُوِّ غَضَبِهِ فَلاَ نَهْلِكَ“ ( يونان3: 7-9). هذا يجيب على مسألة هل الصلاة تغير فكر الله؟ لو لم ينطق الله بكلمة لعلَّ، ولم لم ينطق بها رجال الله القديسيون، لسلمنا بأن الصلاة لا تجدي أي نفع.
آخر نقطة يسمح لي أبونا ذهبي الفم أن اختلف معه فيها، ملتمسًا لي العذر، فليس لي إلا عقلي لأفكر به. في كلامه عن الإنسان المخلوق من جوهر التراب.. وحثه بأن يتذكر الإنسان هذا حتى لا يتكبر وحتى يخمد شهواته. تحدث بكلام صريح وصادم عن أن أمعاء الإنسان وما تحتويه من فضلات هي سبب كاف كي لا نتكبر (ص 128). ويقول إن اشتهيت امرأة لجمالها انزع جلد وجهها وسوف ترى كل الأصل الوضيع لجمالها(ص 132). وهذا من شأنه أن يخلصنا من الشهوة والتكبر.
هذا صحيح ولا أختلف فيه. خصوصًا وأنه لم ينكر الجوهر السماوي للإنسان، وأكد على أن الانسان من طبيعة ثنائية، أرضية وسماوية. وخصوصًا ايضًا أنه قال أن كلامه هذا ليس موجهًا ضد طبيعتنا بل ضد الشهوات الشريرة، وهذا لا يمثل إدانة لطبيعتنا أو تحقير لها بقدر ما هو إدانة وتحقير للشهوات. لكن ما أختلف فيه يا أبي القديس أن هناك استجابة أخرى لشعورنا بالفناء وإدراكنا لفساد طبيعتنا وعفونتها.. وهي أن الإنسان يُروَّع من فنائه فينكب أكثر في الشهوات. ورسالة العبرانيين تتحدث عن الذين خوفًا من الموت، لم يتحرروا من الشهوة، بل عاشوا كل حياتهم في عبودية (انظر عب 2: 15). أظن أن الاب جون رومنيدس قال شيئًا شبيهًا بهذا، إن الإنسان لمّا خاف من الموت، ظل يسعى نحو الأمان النفسي والجسدي، فأصبح يميل إلى الأنا، ويميل إلى النفعية في المواقف المختلفة.[3] فليغفر لي أبي القديس ذهبي الفم الذي أمتعنا بتعاليمه وأنا عيوننا، واثق أنه لن يضيق بنا ذرعًا إذا سألنا أو فكرنا أو صارعنا مع أسئلتنا.  








[1] De Fide Orth. 11, 30 (PG 94, 969 B).
[3] ورد في، قصة الحب العجيب، تأليف أمجد بشارة، صفحة 66.

هناك تعليق واحد: