الاثنين، 11 سبتمبر 2017

الجبرية، القدرية، ونظرية الكسب


أحد الدروس المقررة في مادة الفلسفة للثانوية العامة، وأحد الدروس الأساسية من دروس العقيدة، للطلاب الأزهريين، يحمل هذا العنوان. وددت تلخيصه، والتعليق عليه، لأنه مسألة التسيير أو التخيير مسألة إنسانية وفلسفية ولاهوتية أيضًا. عرفت أن الفكر الإسلامي، ربما بتأثير مسيحي حسب تعبير هاري ولفسون في فلسفة المتكلمين، دخل في معترك النقاش حول مسألة حرية الإرادة، مما أدى إلى نشأة 3 مدارس، وهي كالتالي:
1-   الجبرية: وقال بها واحد اسمه ”جهم بن صفوان“؛ لذا تُسمى بالجهمية نسبة إليه. وتقول بأن الإنسان قدر عليه كل أعماله، ولا يجوز أن يوصف الإنسان بالاستطاعة أصلاً. الإنسان ليس لديه إرادة، فهو كالجمادات ليس أكثر. أنت تقول ”الشجرة تثمر“، الأصح أن الله هو مَن جعلها تثمر. وقد تقول ”النهر يجري“، لكن النهر لا يجري من ذاته، هكذا الإنسان في نظر الجهمية، أو الجبرية، أو المجبرة.
2-   القدرية: تأتي هذه المدرسة عكس المدرسة السابقة تمامًا. وهم المعتزلة، وهم تيار عقلاني وطائفة أسسها واصل بن عطاء عندما اعتزل أستاذه الحسن البصري. وتقول المعتزلة إن الإنسان يملك قدرة وحرية كاملتين. البشر أفعالهم مخلوقة لهم. على عكس الجبرية التي قالت إن أفعال البشر يفعلها الله، والإنسان يؤديها فقط.[1] لكن سؤال هام: لماذا يُسمون بالقدرية بينما يؤمنون بحرية مطلقة للإنسان؟ هذا السؤل يجيب عليه هاري ولفسون في كتاب ”فلسفة المتكلمين“؛ طُبق هذا اللفظ على القائلين بالقدرة libertarians، ويتحدث عن يوحنا الدمشقي الذي استخدم لفظة تعني شخصًا لديه قدرة ذاتية. وبالتالي "القدرية" تعني قدرة المرء الذاتية. وبالتالي هذه التسمية بتأثير فلسفي يوناني مسيحي.[2] جدير بالذكر أنه في الفقه الإسلامي يسموا الجبريين (القدرية الغلاة)، والقدريين (بالقدرية النفاة).
حتى نفهم الدوافع، أصحاب الجبرية عاوزين يحصروا خلق الأفعال لله وحده. علشان لو الإنسان بيخلق أفعاله ده شرك بالله. وفي الحقيقة لو تفكر هتلاقي إنك حتى لو اخترت تقتل شخص بكامل إرادتك، لكن علشان الجريمة دي تحصل، أنت محتاج زمن ومكان، وهما من خلق الله. لكن أصحاب الجبرية بكده:
§        نسبوا لله القبيح (أعمال القتل والزنا.. إلخ التي يفعلها الإنسان)
§        نسبوا لله الظلم.
من ناحيى تانية أصحاب القدرية (المعتزلة) قالوا لو ربنا مقدر كل شيء، فما معنى التكليف؟ يعني كيف يأمر الله الإنسان بوصايا معينة، في حين هو خالق كل شيء. ”التكليق يتطلب الحرية الكاملة“. يعني ينفع أقول لك "مسموحلك تاكل اللي أنت عاوزة من التلاجة، لكن مفيهاش غير نوع معيّن أنا محددة!" من ناحية تانية قالوا حتى الجمادات زي الطيور تفعل بالغريزة، فكم بالأولى العقل عند الإنسان والإرادة. يعني لو الإنسان بينفذ ما قدر له، فما معنى العقل والإرادة في هذه الحالة. وقالوا إن قدرة الإنسان على خلق أفعاله لا تعني شركًا بالله؛ لأن الله هو من خلق فيه هذه القدرة المحدودة.
3-   الأشاعرة، ونظرية الكسب. ظهرت نظرية هي ”أمر بين أمرين“، حل وسط يعني، هي نظرية الكسب acquisition. هي وسط بين الجبر المطلق والتفويض المطلق. وأسسها أبو الحسن الأشعري، وقال: ”العبد مجبور في قالب (صورة) مختار.. حيث لا توجد للعبد قدرة مستقلة عن الفعل.“ المهم الأشعري مدح الجهمية على أنهم جعلوا الله الخالق الوحيد، ومدح المعتزلة لتبريرهم التكليف.. يعني بالنظرية دي لن نشرك بالله ولن نسقط التكليف.
تقول نظرية الكسب: ”بالاقتران أو التلازم بين إرادة الإنسان ورغبته من جهة وبين خلق الله لأفعال الإنسان من جهة أخرى، بحيث يصبح الفعل مكتسبًا للإنسان حسب إرادتهورغبته دون أن يكون هو خالق الفعل.“ النظرية دي بتقول إن الإنسان ينوي بس، وربنا يخلقله الفعل! ودى أصبح رأي أهل السنة والجماعة: ”أفعال العباد الاختيارية هي من الله خلقًا وإيجادًا وتقديرًا، ومن البشر فعلاً وكسبًا واختيارًا.“
يعني إحنا لا نخلق أفعالنا بل نكسبها فقط.. تتوجه النفس نحو فعل معين.. لكن الفعل ده محتاج زمان ومكان (كلها أمور ربنا المتحكم فيها)، إذن لا يتبقى لنا سوى "التوجه النفسي" أو "النية" فقط. ده يفسر لك، إن ربنا بيحاسب على النيات، وأفكار القلب، قبل الفعل نفسه.
4-   رأي الفيلسوف ابن رشد. انتقد ابن رشد المدارس الثلاثة، وقال بالذات إن الأوبشن بتاع "الكسب" ده غير موجود. فكرة أني أرغب فقط في الفعل، وربنا يخلقة، دي فكرة خاطئة. ونسب للإنسان مسؤولية كاملة عن فعلة، رغبة وفعلاً. وقسم الإرادة إلى: عالم الإرادة الداخلية: وده متروك للإنسان، وعالم الإرادة الخارجية، وده متروك لإرادة الله. وقال إن أفعالنا لا توجد ولا تتم إلا بتوافقها مع الأسباب المقدرة لها خارجيًا. مثال: تنوي الذهاب إلى الاستاد لمشاهدة مباراة، لكن يأتي صديق أو يحدث شيء يعطلك (هذا الشيء هو القدر الخارجي).
5-   رأي الإمام محمد عبدة: وقال بالآتي:
§        الإنسان حر بشهادة العقل والشريعة.
§        حرية الإنسان ليست مطلقة. اللاتناهي في الحرية لا يتحقق إلا في الذات الإلهية.
§        حرية الإنسان ليست شركًا بالله؛ لأن الشرك هو الاعتقاد بقوة فوق قوة الله
§        القضاء معناه أسبقية العلم الإلهي، والعلم لا يكون مانعًا أو باعثًا على الفعل. (في النقطة دي بالذات، القائلون بالجبرية يقولون إن علم الله لا يتخلَّف.. لا يقع. يعني لو ربنا عارف إني هغلط النهاردة، مينفعش حاجة تاني تحصل إلا إني أغلط!!
§        التوكل (بعكس التواكل) ليس جبرية ولا استكانة؛ وإنما ثقة في السعي والعمل.[3]
في النهاية، لماذا كل هذا التخبط؟ الإجابة: عدم فهم العدالة الإلهية. من ناحية تانية، قالوا إن التخبط في المدارس الإسلامية ناتج عن اللجوء لبعض الآيات القرآنية دون الأخرى. بالفعل هناك آيات في القرآن (وكذلك الكتاب المقدس) تدعم فكرة أن الله يفعل ما يشاء، ولا شيء يحدث- صغيرًا كان أو كبيرًا- خارج دائرة مشئيته. لكني أريد  أن أورد هنا بعض الآيات الكتابية التي تؤكد قدرة الله المطلقة في الكون:
-        ربنا بيقول أنه هو شخصيًا "يقسي أو يشدد قلب فرعون" (خر 4: 21؛ 7: 3).
-         نفس الشيء شوف إشعياء بيعاتب ربنا بيقوله إيه: "لماذا أضللتنا يارب عن طرقك، قسيت قلوبنا عن مخافتك" (إش63: 17)
-        في سفر القضاة: "أرسل الرب روحًا رديًّا بين أبيمالك وأهل شكيم؛ فغدر أهل شكيم بأبيمالك" (قض 9: 23).
-        يقول الكتاب عن ابني عالي: "لم يسمعوا لصوت أبيهم لأن الرب شاء أن يميتهم" (1صم 2: 25).
-        آيات أخرى عن المشيئة المطلقة: ”إِنَّ إِلهَنَا فِي السَّمَاءِ. كُلَّمَا شَاءَ صَنَعَ“ (مز 115: 3)
-        ”كُلَّ مَا شَاءَ الرَّبُّ صَنَعَ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ“ (مز 135: 6)
-        ”هُوَ يَفْعَلُ كَمَا يَشَاءُ فِي جُنْدِ السَّمَاءِ وَسُكَّانِ الأَرْضِ، وَلاَ يُوجَدُ مَنْ يَمْنَعُ يَدَهُ أَوْ يَقُولُ لَهُ: «مَاذَا تَفْعَلُ؟ (دانيال 4: 35).
-         وعن شاول: "بغته روح رديء من قبل الرب" (1صم 16: 14(
-        وعن داود بسبب خطيته: "هكذا قال الرب: هأنذا أقيم عليك الشر..." (2صم 12: 11(.
-        الكلام على أن الله عندما غضب من الشعب أهاج عليهم داود ليعمل إحصاء للشعب ونتج عن ذلك قتل 70ألف (2صم24: 1، 15.(
-        الله يقيم خصومًا لسليمان (1مل11: 14 .(
-        سماح الله لإبليس بتجربة أيوب (أي 1)، وكلام الغلام عن "نار الله سقطت من السماء فأحرقت..."، وكلام أيوب نفسه: "هل الخير نقبل من الله والشر لا نقبل" (2: 10).
-        الله يضع روح كذب على فم أنبياء كذبة ليغوي أخاب على النزول في الحرب فيموت بسهم غير متعمّد (1مل 22: 19-22).
-        يستخدم الله أشور وكذلك بابل كأداة دينونة لشعبه.
-        الله يقول في حزقيال: "إذا ضلّ النبي وتكلم كلامًا، فأنا قد أضللت لك النبي" (حز 14: 9).
-        كلام عاموس: "هل تحدث بلية في مدينة والرب لم يصنعها؟" (عا 3: 6).
-        في نفس السفر يقول الله أنه سبب المجاعة ومنع نزول المطر (عا 4: 6-7).
-        كلام إشعياء: "مصور النور وخالق الظلمة، صانع السلام وخالق الشر" (إش 45: 7).
-        كلام إرمياء في مراثيه: "من فم العلي ألا تخرج الشرور والخير؟" (مراثي 3: 37).
-        كلام بولس: "سيرسل إليهم الله عمل الضلال حتى يصدقوا الكذب.." (2تس 2: 11).
-        كلام بطرس عن المسيح كصخرة عثرة وأن أناس سيعثرون لأنهم جُعلوا لذلك (1بط2: 8).
-        في حزقيال 20: 25: "أَعْطَيْتُهُمْ أَيْضاً فَرَائِضَ غَيْرَ صَالِحَةٍ، وَأَحْكَـاماً لاَ يَحْيُونَ بِهَا، وَنَجَّسْتُهُمْ بِعَطَايَاهُمْ إِذْ أَجَازُوا فِي النَّارِ كُلَّ فَاتِحِ رَحِمٍ لأُبِيدَهُمْ, حَتَّى يَعْلَمُوا أَنِّي أَنَا الرَّبُّ".
ما زالت رحلة البحث مستمرة!



[1]  بشكل عام يشبه القائلون بالجبرية المذهب الأغسطيني والكلفيني، فهي قريبة الشبه بالتعيين المسبق. بينما يشبه القائلون بالقدرية مذهب البيلاجية.  
[2]  هاري ولفسون، فلسفة المتكلمين، المركز القومي للترجمة، الجزء الثاني، صفحة 783.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق