لاحظ الكثيرون أوجه التشابه بين سقراط والمسيح، حتى أن الشاعر Shelley لقب سقراط ب ”مسيح اليونان“، في حين لقب فولتير المسيح
بـ ”سقراط فلسطين“.[1]
كان كلاهما من أسرة غير ارستقراطية، كان كلاهما معلمًا متجولاً يعلِّم بلا مقابل. كلاهما
غفر لمَن قتلوه، كلاهما تعرّض للهزء والإيذاء. تعرض الأثينيون لانتقام إلهي، مثلما
تعرض اليهود لانتقام إلهي بعد قتلهم المسيح. لم يكتب المسيح سطرًا، بل كتب عنه
تلاميذه، كذلك سقراط لم يكتب سطرًا وكتب عنه أفلاطون محاوراته. لكن الجدل الأكبر
كان عن الطريقة التي مات بها كل منهما. ”لقد أصبح موت سقراط قصة أساسية في الجدل
حول أخلاقيات الديانة الوثنية بالمقارنة بالأخلاقيات المسيحية.”[2]، وتحول
الجدل المسيحي إلى إثبات أن الشهداء المسيحيين يتفوقون على سقراط في موتهم.
ربما أول مَن تحدث عن سقراط هو يوستين الشهيد (100-165 م). يقول يوستين: ”في
الوقت الذي كنت أستمتع فيه بمبادئ أفلاطون، وفي الوقت الذي كنت أستمع فيه إلى
المصائب التي يكابدها المسيحيون، قلت لنفسي حيث أني رأيتهم لا يرهبون الموت حتى
وسط الأخطار التي يعتبرها العالم مرعبة، فمن المستحيل أن يكونوا أناسًا يعيشون في
الشهوة والجرائم.“
(الدفاع الثاني، فصل 18).
نلاحظ أن شجاعة المسيحيين عند الموت هي التي جذبت يوستين إلى المسيحية. كان الوثنيون يعتزون بهذه الشجاعة وقدوتهم في ذلك سقراط وغيره. كذلك يعتبر يوستين أن المسيحية هي ذروة تقليد بدأه حكماء اليونان ومنهم سقراط: ”هؤلاء الذين عاشوا بالحكمة هم مسيحيون، حتى وإن اعتبروهم من الملحديث مثل سقراط وهيراقليطوس، وآخرون مثلهم.“[3] لكن يوستين يقول إن الفارق يتلخص في أن المسيح نجح في جعل الناس يؤمنون بالرسالة التي ظل سقراط وغيره يعلمون بها بدون تأثير.[4]
ترتليان اعترض على هذه الفكرة، وميّز موت المسيحيين بأمرين هما: الإيمان والألم. يشكك ترتليان في إيمان سقراط بخلود النفس، ويتهمه بأنه قال ذلك ليتذاكى على مَن كانوا يحاكمونه، وأنه افتعل ثقة كاذبة بنفسه. يقول ترتليان: ”وبالتالي فكل حكمة سقراط، في تلك اللحظة، كانت نابعة عن صمود مفتعل وليس قناعة ثابتة بحقيقية مؤكدة؛ لأنه بواسطة مَن انكشف الحق بدون الله..“، ويضيف مهاجمًا الشيطان الذي كان يوحي لسقراط: ”كان سقراط، ولا أحد يشكك في هذا، مدفوعًا بروح مختلفة. لأنهم يقولون أن شيطانًا كان لصيقًا به منذ طفولته- وهو أسوأ نوع من المعلمين (هذا الشيطان) بالتأكيد، حتى إن أعطاه الشعراء والفلاسفة مكانة رفيعة، بعد الآلهة أنفسهم.”[5] ويتابع أن كلام المسيح كانت تشتت الشياطين، وبالتالي هي أعظم بكثير.
كما يزعم ترتليان أن استشهاد المسيحيين أرقى من موت سقراط لأنه يتضمن
ألمَّا أكثر. يقول عن الاستشهاد المسيحي أنه: ”يتذوق الموت ليس من كأس (مسموم)
بطريق أقرب إلى الاحتفال، لكنه يتجرع كل صنوف الوحشية المريرة، في المشانق
والمحارق. ومع ذلك في سجن هذا العالم حيث الكآبة والسكون، يبحث عن نفس الإنسان،
ويوجه بحثه تبعًا لأحكام الله.“ (عظة عن النفس).
ترتليان هنا يقول إن المسيحيين وليس سقراط هم الفلاسفة الحقيقيون المسجنون في سجن هذا العالم، هم الذين يمارسون طوال الوقت فن الموت (قال سقراط إن الفلسفة هي فن الموت أو فن التهيؤ للموت)، حتى عندما يقتلون بشكل وحشي. ويتهم سقراط بأنه مات بالسم فرحًا وبلا وجع، ولا يعرف شيئًا عن الألم.[6] من ناحية أخرى هاجم معارضو المسيحيين الوثنيين موت المسيح على الصليب؛ لأنه لم يتضمن كلمات أخيرة فلسفية مؤثرة. لكن المسيحيين زعموا أن أشد ما يثير الإعجاب في موت المسيح هو الصمت.
أوريجانوس (182-251 م)، لم يهون من مسألة موت سقراط، لكنه قال إن سقراط
حكيم ربما لأنه قدم ذبائح على سبيل الرشوة إلى أبوللون، لكن المسيح لم يفعل هذا،
ومات في صمت الأبطال دون لغو الفلاسفة اليونانيين. كذلك فإن إشارة سقراط قبل موته إلى
أنه مدين بديك لاسكلابيوس، إله الطب، كانت ذريعة جعلت أوريجانوس يشكك في الأفكار
العظيمة التي قالها سقراط مثل خلود النفس، وقال إنه يتحول من أمور عظيمة مُعلنة
له إلى أمور تافهة.[7]
في القرن الرابع حدثت مناوشات كثيرة بين الوثنيين والمسيحيين؛ فأعيد فتح الموضوع والمقارنات من جديد. القديس يوحنا ذهبي الفم (347-407م) زعم أن استشهاد المسيحيين يفوق مشاهير الشهداء الوثنيين. وأضاف أن الشهداء المسيحيين كانوا سيجدون سهولة بالغة في تناول الشوكران: " لو أتيح لهم قانونيًا عند اضطهادهم أن يشربوا الشوكران، لصاروا جميعًا أكثر شهرة منه. كما أنه شرب حين لم تكن لديه حرية في أن يشرب أو لا يشرب.. كان لابد أن يجوز ذلك.. لكن الأمر مختلف تمامًا عندنا.. لأن الشهداء ليس ضد إراداتهم قد تحملوا الألم، بل بإرادتهم، وكانوا يملكون الحرية في أن يختاروا ألا يتألموا، وبالتالي أظهروا جلدًا أكثر صلابة من الحجر."[8] يوجد تلميح لفكرة أن موت سقراط يعتبر نوعًا من الانتحار.
ظل سقراط شخصية مثيرة للجدل بين المفكرين واللاهوتيين في العصور الوسطى وحتى الآن. هناك فارق كبير بين فلسفة يسوع وفلسفة سقراط، حتى وإن تركنا جانبًا مسألة موت كل منهما. تتلخص فلسفة سقراط في العقل والفهم، بينما فسلفة المسيح بجانب ذلك تركز على القلب والإرادة وتغيير السلوك بالتوبة. سقراط يقول أنه جاهل يدرك جهله، بينما المسيح يقول إنه الحق، والفرق شاسع. سقراط يقول إن الفضيلة هي المعرفة، بينما يسوع يقول الفضيلة هي الإيمان. شعار سقراط هو اعرف نفسك، بينما شعار المسيح: الأبدية هي معرفة الله. سقرا ط يُرجع الشر إلى الجهل، بينما المسيح يقول إن الشر يخرج من قلب الإنسان. يدعو سقراط إلى التفكير الصحيح، ويسوع يدعو إلى السلو ك الصحيح.
[1] Emily Wilson, Death of Socrates,
2007, 141.
[2] Ibid.
[3] النصوص المسيحية في العصور
الأولى، القديس يوستينوس الفيلسوف والشهيد، الدفاع الأول، فصل 46، إصدار بناريون،
صفحة 74.
[4] Wilson, Death of Socrates., 145.
[6] Wilson, Death of Socrates., 147.
[7] Ibid., 148.
[8] يوحنا ذهبي الفم، العظة الرابعة على رسالة
كورنثوس الأولى (http://www.newadvent.org/fathers/220104.htm).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق