التحليل اللغوي للنص
”ثُمَّ صَعِدَ مِنْ هُنَاكَ إِلَى بَيْتِ إِيلَ.
وَفِيمَا هُوَ صَاعِدٌ فِي الطَّرِيقِ إِذَا بِصِبْيَانٍ صِغَارٍ خَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ
وَسَخِرُوا مِنْهُ وَقَالُوا لَهُ: «اصْعَدْ يَا أَقْرَعُ! اصْعَدْ يَا أَقْرَعُ!».
فَالْتَفَتَ إِلَى وَرَائِهِ وَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ بِاسْمِ الرَّبِّ، فَخَرَجَتْ
دُبَّتَانِ مِنَ الْوَعْرِ وَافْتَرَسَتَا مِنْهُمُ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَلَدًا.
وَذَهَبَ مِنْ هُنَاكَ إِلَى جَبَلِ الْكَرْمَلِ، وَمِنْ هُنَاكَ رَجَعَ إِلَى السَّامِرَةِ“
(2مل2: 23- 25)
ماذا نستفيد من التحليل النصي؟ أولاً فيما يتعلق ببيت إيل.. نعرف أنها هي
مركز للديانة الوثنية بمناوراة سياسية من يربعام بن نباط لمنع أهل مملكة الشمال من
الذهاب إلى أورشليم للتعبد. كان أليشع في طريقه إلى هذه المدينة، وبعد سماع الأخبار
عن خلافة أليشع لإيليا، لذلك قد يشير هذا إلى تدبير الحدث برمته في محاولة لإفشال
خدمة أليشع.
ماذا عن الصبيان أو الغلمان؟
ترد الكلمة بالعبرية كالتالي: (וּנְעָרִ֤ים(، وإذا بحثت عن هذه الكلمة في Strong's
Concordance تحت رقم 5288
ستجد مواضع عديدة أخرى وردت فيها هذه الكلمة
مثل:
- تك 14: 24 وترجمت الغلمان وهم الذين
حاربوا مع إبراهيم في استرجاع لوط وكانوا غلمان متمرنين كما يذكر النص الكتابي (تك
14: 14).
- تك 18: 7 عن الغلام أو الخادم الذي أعد
العجل لضيوف إبراهيم.
- تك 19: 4 ترجمت ”حدث“ بمعنى شاب.
- تك 21: 12 عن اسماعيل.. وكان يمزح مما
أثار حفيظة سارة وطلبت من إبراهيم طرده هو وأمه.
- تك 22: 5 كان يدعو إبراهم يدعو ابنه اسحق
غلام ومعه غلامين في الطريق لتقدمة أسحق ذبيحة.. وبالتالي لم يكن اسحق وقتها طفلاً
بل شابًا.
- يش 6: 23 لوصف الجاسوسين الذين ارسلهما يشوع
لإنقاذ راحاب.
ولبقية المواضع التي وردت بها هذه الكلمة
يمكنك الرجوع إلى موقع (biblehub).[1] وفي أغلبها تتحدث عن شاب
حدث أو خادم قادر على إتمام مهام صعبة، في خدمة البيت أو حتى القتال في المعارك،
وليس طفلاً في سن المشي أو ما قبل المدرسة. وهذه ملاحظة في بالغ الأهمية لإعادة تصور الحدث بخلاف الصورة التقليدية للقراءة السريعة للنص.
ملاحظة أخرى، تجمُّع هذا العدد لا يبدو
عشوائيًا بل متعمدًا بقصد إهانة نبي الله.. وقولهم ”اصعد يا أقرع“ ربما فيه إشارة
إلى صعود إيليا أيضًا. وهي كلمة للاستهزاء لأن بعض المفسرين يقولون أن أليشع كان
صغير السن، ولم يتساقط شعره بعد، بل ربما تشير كلمة ”أقرع“ إلى البرص.. الذي يتعبر
نوعًا من النجاسة الطقسية.
هل
انتقم إليشع لنفسه؟
يشير كثير من المفسرين إلى أن أليشع لم يصلي
لهلاك هؤلاء الغلمان بهذه الطريقة بالضبط، ولكن كل ما في الأمر أنه نطق باللعنات
التي قيلت سابقًا لمن يتحدى الله وعهده، هذه اللعنات وردت في لاويين 26: 21-22: ”وَإِنْ
سَلَكْتُمْ مَعِي بِالْخِلاَفِ، وَلَمْ تَشَاءُوا أَنْ تَسْمَعُوا لِي، أَزِيدُ عَلَيْكُمْ
ضَرْبَاتٍ سَبْعَةَ أَضْعَافٍ حَسَبَ خَطَايَاكُمْ. أُطْلِقُ عَلَيْكُمْ وُحُوشَ الْبَرِّيَّةِ
فَتُعْدِمُكُمُ الأَوْلاَدَ، وَتَقْرِضُ بَهَائِمَكُمْ، وَتُقَلِّلُكُمْ فَتُوحَشُ
طُرُقُكُمْ“. لم يكن الأمر شخصيًا كما يصور البعض، أو أن الله انتقم لنبيه الغضوب
الذي ليس لديه قدرة على تحمُّل سخرية
هؤلاء الغلمان، بل الأمر فيه تحذير ودينونة لمجموعة كبيرة من الشباب الذين أعلنوا
تحديهم لإله إسرائيل متمثلاً في نبيه أليشع. كما يتضح أن الله هو المنفذ لهذه العقوبة.
بشكل عام تميزت خدمة أليشع بمساعدة الآخرين؛
حيث في نفس الأصحاح أبرأ نبع مياه خاص بالمدينة (ع 19- 22)، ومعجزات أخرى كثيرة
عملها لمساعدة المحتاجين.
الشرح الآبائي للقصة
سنجد أن العلامة ترتليان يشير إلى هذه القصة
مرتين في كتابه ”ضد ماركيون“، في خلفية رفض ماركيون على إله العهد القديم باعتباره
إله عنيف وديان، في مقابل إله العهد الجديد الصالح والطيب. لأن ماركيون وضع هذه
القصة في مقابل مباركة يسوع للأطفال مستخدمًا هذه القصة لدعم هرطقته. لكن ترتليان
يؤكد أنه لا وجود لإلهين، القديم والجديد، ولا فصل بين المسيح وإله العهد القديم.
ويقول ترتليان أن مقابلة ماركيون غير صحيحة وليست في محلها، لأنه يخفق في التمييز
بين الأطفال الصغار (parvuli)
والغلمان (pueri).
الأولانيين هم في سن البراءة بينما الآخرين قادرين على الإدانة والهزء والتجديف
أيضًا.[2] وبيقول ترتليان أن إله
العهد القديم بيحب الأطفال زي المسيح بالضبط لما امتدح القابلتين اللي حفاظتا على
الأولاد المولودين من العبرانيين.[3] وبهذه الطريقة يفسر ترتليان
القصة حرفيًا مبتعدًا عن التفاسير الأليجورية مثل أوريجانوس الذي شرح الدبتين على
أنهم من نوع روحي مثل الأسد الزائر الذي يجول ملتمسًا من يبتلعه.[4]
ويميز ترتليان بين نوعين من الشر: شر الخطية mala culpae وشر العقوبة mala supplicii
أو شر الجزاء mala poenae.[5] ويقول بأن العدل الإلهي
يتضمن النوع الثاني ويليق بالله. هذه الشرور الجزائية، بحسب ترتليان، مثل الطوفان،
وحرق سدوم، وضربات المصريين، وتأديبات الله لشعبه من حين لآخر، وجميعها تليق
بالله.
فيما بعد سيربط أغسطينوس بين الاستهزاء الذي تعرض له أليشع
والاستهزاء الذي تعرض له المسيح عند الصلب، مستغلاً التشابه بين كلمتي أقرع الرأس
(Calvus)
والجلجثة أو موضع الجمجمة (Calvaria).[6]
أمّا عن الآباء الشرقيين، نجد يوحنا ذهبي
الفم يقرأ القصة بشكل حرفي موضحًا أن هؤلاء الغلمان كانوا في سن الرشد والعقل الذي
يسمح لهم معاقبتهم على خطاياهم.[7]
ثم
نجد عند آباء لاتين لاحقين مثل القديس قيصاريوس أسقف آرل (468- 542) توسعًا في شرح
القصة وربطها بصلب المسيح:
”علينا أن نؤمن أن المطوَّب أليشع قد ثارت
غيرته لله ليقوّم الشعب، ولم ينفعل بغضب فاسد، عندما سمح للأطفال اليهود بأن
يُمزقوا إربًا. لم يكن غرضه الانتقام بل إصلاحهم. وفي الواقع أيضًا ان آلام ربنا
ومخلصنا قد أشير لها مسبقًا في هذا الحدث. كما أن الصبية غير المهذبين هتفوا على
أليشع: اصعد يا أقرع، كذلك في زمن الصليب هتف اليهود المجانين بكلام غير تقي على
المسيح، أليشع الحقيقي: اصلبه اصلبه. لاحظوا أيضًا ايها الأخوة أنه كما قتل 42
صبيًا في قصة أليشع، كذلك بعد 42 سنة من صلب ربنا، خرجت دبتان، فاسبسيان وتيطس،
وحاصرا أورشليم. تأملوا أيضًا أيها الأخوة أن حصار أورشليم حصل في أيام الاحتفال
بالفصح. وهكذا بدينونة الله العادلة على اليهود الذين تجمعوا من كل المقاطعات
تكبدوا العقوبة التي كانوا يستحقونها، في نفس الأيام التي صلبوا فيها أليشع
الحقيقي، ربنا ومخلصنا، على الصليب. في الواقع في ذلك الزمان، أي في العام الثاني
والأربعين بعد صلب ربنا، تجمع اليهود كما لو كان الأمر بدافع من يد الله، في
أورشليم بحسب عاداتهم للاحتفال بالفصح. نقرأ في التاريخ أن ثلاثة ملايين يهوديًا
تجمعوا في أورشليم. وقيل أن مليون ومئة ألف قد أبيدوا بسيف الجوع، ومئة ألف قد ترحلوا
إلى روما.. وحوصرت المدينة لمدة سنتين، وكان عدد القتلى عظيمًا الذين ألقوا خارج
المدينة حتى أن جثثهم ارتفعت إلى مستوى الأسوار. هذا الدمار سبق فأشير له مسبقًا
بواسطة الدبتين اللتين قتلتا 42 صبيًا لاستهزائهم بالمطوب أليشع. هكذا تحقق قول النبي:
’يُفْسِدُهَا الْخِنْزِيرُ مِنَ الْوَعْرِ، وَيَرْعَاهَا وَحْشُ الْبَرِّيَّةِ‘
(مز80: 13)؛ لأنه كما أشرنا بعد 42 عامًا نالت الأمة الآثمة ما كانت تستحقه من
الدبتين، فاسبسيان وتيطس“.[8]
خاتمة
وبالتالي كما رأينا هناك إجماع من الآباء
على أن هؤلاء الأطفال كانوا في سن يسمح لهم بالمساءلة عن فعلتهم، وأن الحادث مدبر
لإفشال خدمة أليشع، وأن العقوبة التي حدثت هي دينونة إلهية عادلة، ومنصوص عليها
قبلاً في سفر اللاويين لمن يخالف العهد. كما جاء التأكيد على كل هذا في ضوء مقاومة
بدعة المارقيونية التي فصلت بين إله العهد القديم وإله العهد الجديد. جدير بالذكر
أن بعض قصص العهد القديم تتميز بالإيجاز الأمر الذي يجعلنا نستنبط صورة كاركاتيرية
عن الحدث دون التمعن في التفاصيل، دون أن نعلم أن الله لديه أسبابه الوجيهة العادلة
حتى وإن لم تُشرح بشكل كافٍ في تفاصيل القصة. لكن بعد هذا الشرح أصبحت قادرًا على
إدراك أنها قصة لا تخالف في شيء عن قصص أخرى وردت في العهد القديم للتأكيد على
دينونة الله للشر والخطية.. وأن الخطية لا تُمرر دون عقاب. وهذا ملمح سائد في
صفحات الكتاب المقدس كله.
[3]
Eric Ziolkowski - Evil Children in Religion, Literature, and Art
(Cross-Currents in Religion and Culture)-Palgrave Macmillan (2001), p. 37.
[7]
John Chrysostom, Regnorum IV, in his Synopsis veteris et novi testamenti
(PG, 56:351); Adversus
oppugnatores eorum qui vitam monasticam inducunt, 3.17 (PG, 47:378).
[8]
Ancient Christian Commentary on Scripture: Old Testament, Vol. V: 1-2
Kings, 1-2 Chronicles, Ezra, Nehemiah, Esther, Marco Conti, ed. (Downers Grove,
IL: Intervasity Press, 2008) p. 149f.
شكرا يا دكتوور❤️
ردحذفانا بس مفهمتش اية الفرق بين العقوبة والجزاء
تحليل رائع يا دكتور عادل ❤🌹❤
ردحذف