الخميس، 19 سبتمبر 2019

الكتاب المقدس والتعددية الدينية



مقدمة
لا أحدَ ينكر التعددية الدينية من جهة كونها ظاهرة طوبوغرافية؛ فلدينا أرقام وحقائق عن توزيعات سكانية تنتمي لأديان مختلفة. كذلك لا أحدَ ينكر أن التعددية الدينية مشرعنة في دساتير الديمقراطيات العلمانية الحديثة. لكننا حين نتكلم من الناحية اللاهوتية، من الصعب أن نقبل أن كل الأديان صحيحة في النهاية وبنفس الدرجة. يصف Keith Yandell الأديان بلغة طبية ويقول: ”كل دين يقترح تشخيصًا لمرض روحي عام وعميق ومُعطِّل لخبرة إلهية من نوع ما.. كما أنه يقترح علاجًا. على أن أي دين يكون صحيحًا إذا كان التشخيص صحيحًا والعلاج فعالاً“.[1] التشخيص المسيحي هو الخطية، والعلاج المسيحي هو الموت الكفاري للمسيح الإله المتأنسن. بالطبع هذا الاقتراح تراه أديانٌ أخرى تجديفًا أو كفرًا أو شركًا. وبالتالي لكل دين تشخيصه الخاص وبرنامجه العلاجي الذي يتعارض بشكل صريح مع أديان أخرى. فلا يمكن أن تكون كل التشخيصات والعلاجات صحيحة بآن واحد. ماذا يقول الكتاب المقدس؟ بشكل عام، هناك شواهد كتابية تبدو حصرية Exclusivistic بشكل مطلق وواضح، وشواهد أخرى قد يُستشف منها أنها شمولية Inclusivistic أي تشمل الآخر المختلف أيضًا. كيف نقرأ هذه وتلك ونستخرج موقفًا تجاه الآخر المختلف دينيًا في ضوء الإرسالية العظمى والوصية العظمة أيضًا.
شواهد كتابية حصرية
يقول السيد المسيح: ”أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي“ (يو14: 6). فهو لا يقول إنه يعلِّم الطريق بل يدعو نفسه الطريق الوحيد. يؤكد بطرس أيضًا هذا القول: ”لَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ الْخَلاَصُ“ (أع4: 12). وكذلك الرسول بولس: ”يُوجَدُ إِلهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ: الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ“ (1تي 2: 5). أي مؤسس لدين آخر قد يقول ”اتبعوا تعاليمي“، أمَّا يسوع فيضع نفسه كتجسيد للحق ذاته. هناك شواهد كتابية أخرى، تشير إلى تفرد شخص المسيح والمسيحية، على سبيل المثال، قال يسوع لنقوديموس: ”إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ“ (يو3: 5). ومِن ثم تزعم المسيحية أن معجزة التجسد هي السبيل الوحيد لعلاج بشرية فاسدة وساقطة ومتفككة الأوصال.
شواهد كتابية شمولية
يشير بعض الدارسين إلى وجود قديسين قبل اختيار الله لشعب بني إسرائيل كشعب خاص له، مثل هابيل وأخنوخ ونوح وأيوب وملكيصادق. كان هؤلاء أبرارًا وبعضهم رموزًا للمسيح من جوانب متعددة[2]. يشير Dupuis أن لاهوت اللوغوس عند آباء الكنيسة المبكرة يفسر وجود أبرار سواء من المؤمنين أو من الوثنيين قبل المسيح؛ إذ قالوا بإن اللوغوس يتجاوز ظهوره التاريخي في شخص يسوع المسيح؛ لأنه في التجسد صار اللوغوس بشريًا ومرئيًا، لكن هذا لا يعني أن اللوغوس لم يكن موجدًا قبل ذلك.[3] نرى مثلاً عند يوستين الشهيد (أحد الآباء المدافعين في القرن الثاني) فكرة بذار اللوغوس أو اللوغوسات البذرية (logos spermaticus ) ويقول: ”إن الذين عاشوا بالحكمة هم مسيحيون حتى ولو اعتبروا من الملحدين مثل سقراط وهيراقليدس ومن اليونانيين وغيرهم، ومن غير اليونانيين مثل إبراهيم وإيليا وحننيا وعزريا وميصائيل[4]. وبالتالي يربط يوستين بشكل ما بين المسيحية وبين كل باحث عن الحق في كل العصور السابقة على مجيء المسيح.
في العهد الجديد نجد قصة كرنيليوس في سفر الأعمال، وهو قائد مائة روماني وثني لكن قيل عنه إنه: ”تَقِيٌّ وَخَائِفُ اللهِ مَعَ جَمِيعِ بَيْتِهِ، يَصْنَعُ حَسَنَاتٍ كَثِيرَةً لِلشَّعْبِ، وَيُصَلِّي إِلَى اللهِ فِي كُلِّ حِينٍ“ (أع10: 2). وشهد بطرس على تقواه قائلاً: ”بِالْحَقِّ أَنَا أَجِدُ أَنَّ اللهَ لاَ يَقْبَلُ الْوُجُوه. بَلْ فِي كُلِّ أُمَّةٍ، الَّذِي يَتَّقِيهِ وَيَصْنَعُ الْبِرَّ مَقْبُولٌ عِنْدَهُ“ (أع 2: 34- 35). البعض يؤيد نظرة شمولية لكل مَن يتبع البر من أي دين، وآخرون يرفضون هذه القراءة لأنهم يرون أن قصة كرنيليوس لم تنتهي عند هذا الحد، بل في النهاية تعمّد كرنيليوس هو وأهل بيته. ولذلك القصة أصبحت حصرية في النهاية.
يعلق ذهبي الفم (أحد آباء الكنيسة في القرن الرابع) على قصة كرنيليوس كالتالي: ”المقصود بعبارة ‘يَتَّقِيهِ وَيَصْنَعُ الْبِرَّ‘ أي أن مَن له معتقد سليم عن الإله الواحد الحقيقي وله سيرة صالحة فإنه يكون ’ مَقْبُولٌ عِنْدَهُ‘.. لكن ربما من يقول: فماذا لو وُجِد أناس لهم صفات طيبة ولكن غير مؤمنين؟ حسنًا، هوذا أنت قلت بنفسك إنهم غير مؤمنين، لذلك لا نصيب لهم![5]. نستطيع أن نستنتج من هذا أن النمط السائد في العهد الجديد هو سماع رسالة الإنجيل ثم قبول الإيمان.
بعض الدراسين يخرجون عن هذا النمط الحصري ويشيرون على سبيل المثال إلى عهد الله مع نوح باعتباره عهدًا مع كل البشرية (تك 9: 10) حتى قبل اختيار الله لشعبه. يري Irving Greenberg  وهو لاهوتي يهودي أن عهد الله مع نوح يؤسس لعلاقة بين الخالق وخليقته مبنية على الحب وحفظ الحياة لجميع البشر وليس لشعب بعينة أو ديانة بعينها.[6]
من ناحية أخرى يقدِّم Theodore Hiebert قراءة جديدة لقصة برج بابل. ويزعم أن التشتت لم يكن عقوبة ولكن تحقيقًا لرغبة ووصية الله من البداية للبشر. ويقول إن التعددية ليست نتيجة لخطية الكبرياء أو تحدي الله كما اعتدنا أن نفهم.[7]  لأن الله أوصى في البداية آدم، ثم نوح، بأن يثمروا ويكثروا ويملأوا الأرض. هذه القراءة تقترح أن عهد الله مع نوح لايزال ساريًا حتى الآن ويمكن اعتباره أساسًا لخلاص أي أحد في أي مكان بأي ديانة أو ثقافة مختلفة!
لاهوت الإبدال Supersessionism
وهنا نأتي إلى سؤال مُلح: هل كل عهد يؤيد أم يبطل العهد الذي يسبقه؟ بعض آباء الكنيسة يتفقون بشكل ما على فكرة الإلغاء أو الإبطال، لأن عهد المسيح بدمه أعظم بكثير في تأثيره من كل العهود السابقة. إيريناؤس (أحد الآباء المدافعين في القرن الثاني) على سبيل المثال يذكر أربعة عهود أُعطيت للجنس البشري: الأول مع آدم، والثاني مع نوح، والثالث مع موسى، والرابع ”يجدد الإنسان، ويجمع في ذاته كل الأشياء بواسطة الإنجيل، رافعًا وحاملاً البشر على أجنحته نحو الملكوت السمائي“.[8] لا يستطع إيريناؤس أن يقول هذا الوصف عن العهود السابقة.
أفراهات الحكيم الفارسي (لاهوتي سرياني عاش في القرن الرابع) يقولها بصراحة في كتابه ”المقالات“: ”تبدلَّت الشريعة والعهد في كل شيء. أولاً بدَّل الله عهد آدم، ووهب عهدًا آخر لنوح. وأعطى أيضًا عهدًا لإبراهيم. وبدَّل عهد إبراهيم ووهب عهدًا آخر لموسى، وإذ لم يُحفظ عهد موسى، أعطى عهدًا آخر في جيل آخر، عهدًا لا يتبدَّل[9]. هذا العهد الأخير بدم المسيح لا يفوقه أي عهد آخر، بل يبدو أنه يجبُّ كل العهود السابقة.
أخيرًا يوستين الشهيد في حواره مع تريفو اليهودي يقول بإيجاز: ”وكما أن أي قانون جديد إذا تعارض مع قانون القديم فهو يُبطِل القديم، هكذا أيضًا العهد الجديد يحل مَحل القديم[10]. يوستين يتحدث بلغة قانونية ومصطلحات دستورية بدون لبس ويدعم ما يُسمى بلاهوت الإبدال أو الاستبدال replacement theology. على أننا نجدى صدى ذلك في رسالة العبرانيين: ”فَإِذْ قَالَ «جَدِيدًا» عَتَّقَ الأَوَّلَ. وَأَمَّا مَا عَتَقَ وَشَاخَ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الاضْمِحْلاَلِ“ (عب 8: 13).
الخلاص دون معرفة واعية بالمسيح
نأتي إلى اللاهوتيين المعاصرين، وتحديدًا إلى وليام لين كريج، في كتابه ”مستعدين لمجاوبة“ الذي يقول إن القديس بولس كتب في رسالة رومية أن الله وعد بأن يعطي حياةً أبدية للذين ”بِصَبْرٍ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ يَطْلُبُونَ الْمَجْدَ وَالْكَرَامَةَ وَالْبَقَاءَ“ (رو2: 7). هذه المكافأة تعتمد على تجاوب هؤلاء الناس مع الإعلان العام في الطبيعة وشهادة ضمائرهم بأنهم خطاة. يشرح كريج أن هذا ”عرض صحيح وحقيقي بالخلاص a bona fide offer “.[11]
ثم يواصل كريج ويقول: ”فإذا شعر شخصٌ ما بواسطة ضميره الشاعر بالذنب بأنه يحتاج للغفران؛ واندفع بنفسه نحو رحمة الله المعلنة في الطبيعة، فقد يجد هذا الإنسان خلاصًا. ولا يعني هذا القول إن الناس يستطيعون الخلاص بعيدًا عن المسيح، بل إن فوائد موت المسيح الكفاري يمكن تطبيقها على أناس دون معرفتهم الواعية بالمسيح“.[12] وفقًا لكريج فإن هذا يمثل خلاصًا بالمسيح بدون معرفة واعية بالمسيح. وهذا يمكن تطبيقه بأثر رجعي على رجال ونساء العهد القديم مثل أيوب وملكيصادق، وبأثر متقدِّم على أي إنسان لم يسمع بالمسيح لكنه شعر باحتياجه للغفران.
جون ستود أيضًا، اللاهوتي الإنجيلي، يقترح نفس الفكرة السابقة لمن لم يسمعوا ببشارة الإنجيل؛ فهو يقرُّ أولاً بأنه لا خلاص بدون المسيح، ثم يقول: ”في العهد القديم كان الإنسان يتبرر بالإيمان حتى وإن كانت له معرفة قليلة أو توقع غير كبير للمسيح. ربما اليوم هناك أيضًا مَن هم في وضع مشابه، ممن يعرفون أنهم مذنبون أمام الله، وأنهم لا يقدرون أن يفعلوا أي شيء ليحصلوا على نعمته، لكنهم في يأس من ذواتهم يدعون الله الذي يدركونه بشكل غامض ليخلصهم. إذا كان الله يخلص بهذه الطريقة.. فإن خلاصهم لا يزال من خلال المسيح وبالإيمان فقط.“[13]
 ما أستطيع أن أستخلصه مما سبق هو أن ما فعله آباء الكنيسة بأثر رجعي على الحقبة السابقة لمجيء المسيح، فعل بعض اللاهوتيين المعاصرين شيئًا شبيهًا به على الحقبة التالية لمجيء المسيح. يوستين وآخرون وظفوا فكرة بذار اللوغوس وقالوا من يعيشون وفقًا للحكمة يعتبرون مؤمنين بالمسيح حتى وإن كانوا ملحدين، لكنهم من ناحية أخرى لم يسحبوا هذه الفكرة على مَن يعيشون بعد انتشار المسيحية. بالطبع قد نتفق أو نختلف مع هذا الطرح أو ذاك، لأن المسألة ليست سهلة على الإطلاق.    
الإرسالية العظمى والوصية العظمى
أوصى يسوع تلاميذه بأن يذهبوا ويتلمذوا جميع الأمم (مت 28: 18)، وأوصانا أيضًا ”تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ“ (مت22: 39). في مجتمع تعددي كيف نطيع الوصيتين؟ الإجابة هي: أننا مطالبون بالشهادة للمسيح والتأكيد على مركزية المسيح وتفرده، ولكن في نفس الوت نعامل أي شخص مختلف عنا دينيًا بكرامة واحترام كرفيق لنا في الإنسانية وكحامل أيضًا للصورة الإلهية التي خلقنا الله عليها. في المقابلا، الحق مطلق، وإذا ما جعلناه نسبيًا انساب من بين أصابعنا.
خاتمة
الكتاب المقدس يقدم شواهد كثيرة حصرية تؤكد على فرادة شخص وذبيحة المسيح. لكنه في نفس الوقت يدعونا بطرق كثيرة إلى معاملة أي إنسان بالطريقة التي نحب أن نُعامل بها. المساواة بين الناس أمر ثابت في الكتاب المقدس. آباء الكنيسة، وبالأخص المدافعون الأوائل، حاولوا إثبات قدمية وتجذر الإيمان المسيحي في التاريخ الإنساني. واعتبروا أن أبرار العهد القديم عاشوا بحسب الإيمان المسيحي حتى وإن لم يعوا ذلك، أو بحسب معرفتهم القليلة جدًا بالمسيح المنتظر. من ناحية أخرى، وجدنا بعض اللاهوتيين الذين يطبقون منهجية مشابهة ولكن على أناس يعيشون بعد مجي المسيح ولم يسمعوا أبدًا برسالة الإنجيل. غير أن هذا الطرح ينطوي على صعوبة في تحديد المستفيدين منه وظروفهم خاصةً وأن رسالة الإنجيل أصبحت معروفة بفضل انتشار وسائل التواصل الحديثة. في كل الأحوال يعبر اللاهوتيون عن هذه المسألة بحذر وتواضع شديدين.  
(نشر هذا المقال على موقف sawtonline بتاريخ 26 أبريل 2019 تحت عنوان "هل كل الأديان تصف نفس المرض والعلاج؟" 





[1] Keith Yandell, “How to Sink in Cognitive Quicksand: Nuancing Religious Pluralism,” in Contemporary Debates in Philosophy of Religion, edited by Michael L. Peterson and Raymond J. Van Arragon (Oxford: Blackwell, 2004), 191.
[2] Jacques Dupuis, "Toward a Christian theology of religious pluralism", MaryKnoll, N. Y: Orbis Books 2001, chapter 1, pp. 29- 52. 
[3] Dupuis, "Toward a Christian theology”, pp. 60, 65.
[4] يوستين الشهيد، الدفاع الأول فصل 46،يوستينوس الشهيد والفيلسوف، ترجمة آمال فايز، بناريون، صفحة 74.  
[5]  يوحنا ذهبي الفم، شرح أعمال الرسل، ج1، ترجمة أنجيلوس البراموسي، مكتبة المحبة، 2011، صفحة 295.
[6] Cynthia M. Campbell, A Multitude of Blessings: A Christian Approach to Religious Diversity (Louisville, Ky: Westminster John Knox Press, 2006), 24.
[7] Cited in Cynthia M. Campbell, A Multitude of Blessings, p 20.
[8]  إيرناؤس، ضد الهرطقات، الكتاب الثالث فصل 11: 8، ترجمة د نصحي عبد الشهيد، المركز الأرثوذكسي لدراسات الآباء، صفحة 49.
 [9] أفراهات، المقالات 11: 11، ترجمة الخوري بولس الفغالي، دار المشرق بيروت، صفحة  179.
[10]  يوستين الشهيد، الحوار مع تريفو فصل 11، بناريون، صفحة 148.
[11]  وليام لين كريج، مستعدين لمجاوبة، أوفير، صفحة 315.
[12]  نفس المرجع السابق.
[13] John Stott, The Authentic Jesus (Basingstoke: Marshalls, 1985), 83.

هناك تعليقان (2):

  1. عجيب هو اسمك يارب ....كنت اكتب هذا الاسبوع أدون افكارا مشابهه جدا لهذا المقال....من فضلك أحب أعرف اسم الكاتب العزيز

    ردحذف
  2. مقال رائع يجاوب عن حيره و اسئله كثيره

    ردحذف