السبت، 5 مايو 2018

لاهوت التاريخ عند القديس أغسطينوس



ترجع أهمية القديس أغسطينوس إلى أنه انفرد بالسيطرة على العقل الغربي لقرون طويل حتى مزاحمة المدرسة الأرسطية العربية، وألبرتو الكبير، وتوما الأكويني في القرن الـ 13.
س: لماذا كتب أغسطينوس فلسفة أو الأدق لاهوتًا عن التاريخ؟
ج: الإجابة هي الأحداث التاريخية هي التي دفعته لكده.. سقطت روما على يد البربر بعد أن كانت قوية ومزدهرة في وقت الوثنية.. والآن سقطت وهي مسيحية. كان في اتهامات للمسيحية من وقت مبكر كلسوس، ورد عليه أوريجانوس في كتابه ”ضد كلسوس“.  كلسوس كان بيقول للمسيحيين لازم تساعدوا الإمبراطور.. تعلموا معه من أجل ما هو عادل.. وأن تحاربوا من أجله إذا لزم الأمر.. هاجم كلسوس مفهوم الملكوت السماوي.. لأنه شاف أن ده يؤدي إلى اغتراب المسيحيين عن المجتمع.. والعزوف عن المشاركة في الحياة الاجتماعية- وخاف أنهم يكونوا جماعة سلبية تؤدي إلى انهيار المجتمع.. ويبدو أن تنبؤاته تحققت في عصر أغسطينوس.[1] ومع سقوط روما حصل ”احياء لاتهامات كلسوس.“[2]
يتلخص دفاع أغسطينوس لتبرئة المسيحية من مسؤولية سقوط روما في النقاط التالية:
-   عن طريق أنه ميَّز بين كيانين (الإمبراطورية الرومانية، ومدينة الله) لهما تاريخين مختلفين جوهريًا.. متزامنين متداخلين بشدة.. في إطار زمني واحد.. وبالتالي زمن واحد وتاريخان (اثنين في واحد).. تاريخ مدينة الله، وتاريخ مدينة الأرض. تاريخ إلهي.. وتاريخ دنيوي..
-   مدينة الأرض لها تاريخ دنيوي، تاريخ ظاهري متعلق بوقائع وأحداث زمنية متعلقة بتاريخ الشعوب. في المقابل مدينة الله اللي ليها تاريخ باطني له دلالات روحية حقيقية للوقائع والأحداث اللي بتحصل في التاريخ الدنيوي. الأولى وليدة حب العالم، والأخرى وليدة حب الله.
-  يُرمز لمدينة الأرض ببابل أو روما، بينما يُرمز لمدينة الله بأورشليم. السلام في مدينة الأرض مؤقت.. السلام في مدينة الله أبدي. التقدم في مدينة الأرض .. تقدم تقني.. في أدوات ووسائل لها قيمة ثانوية. بينما التقدم في مدينة الله تقدم روحي.. له قيمة أسمى. لذلك ”عندما نسعى لهذه الخيرات الدنيا دون الإيمان بالخيرات الأخرى، فإننا نهوى في البؤس.“ (مدينة الله 15: 4)
-  الدنيوية تزهو بذاتها، والأخرى بالله. الأولى تستجدي البشر مجدًا لها، والأخرى تجد مجدها الأعظم في الله.. الأولى تعتمد على مجدها الذاتي فتشمخ رأسها، والثانية تقول لإلهها: مجدي ورافع رأسي.. الأولى تضغى عليها شهوة الحكم.. وفي الثانية الجميع يخدمون القريب بمحبة. الأولى معجبة بقوتها الذاتية في شخص رئيسها، الثانية تقول لإلهها: احبك يارب يا قوتي... (نظرة شاملة لعلم الباترولوجي، تادرس يعقوب، صفحة 374. 
لاهوت أغسطينوس عن التاريخ هو انعكاس لفكرته عن الله والإنسان.. وانعكاس لرأيه في مواجهة الهرطقة البيلاجية -بيلاجيوس شاف إن الإنسان لوحده- بدون نعمة الله- قادر أنه يخلص بنفسه.. (الله مجرد متفرج). فجاءت نظرة أغسطينوس مثل رده على الهرطقة البيلاجية. إذا سألته مَنْ يحرك التاريخ؟ الله أم الإنسان؟ الإجابة: الله ...... ووسيلته في ذلك.. النعمة. ماذا عن دور البشر؟ النعمة مينفعش تُبنى على استحقاق.. الله يفعل ما شاء عما يشاء في الوقت الذي يشاءه.  ”التاريخ لو صنعه البشر بمفردهم لما حقق خيرًا..“
ده بيقضي تمامًا على أي دور بيلعبه الإنسان في تحديد مصيره. ربنا أعد خطة مرسومة بشكل مسبق لكل شيء (blue print theory). هذا يعني.. أن إرادة الله إرادة مطلقة صارمة لا تقبل شريكًا.. وهو ما يعني أن سيطرة الله على التاريخ سيطرة مطلقة.. يقول أغسطينوس: ”إن المكان والزمان اللذين يعمل فيهما هو سر حكمته الأزلية التي تأمر المستقبل وكأنه حاضر. الله لا يتغير في الزمن بل يحرك الأشياء الزمنية.. ولا فرق عنده في معرفة ما تم عمله وما سوف يتم.. وأخيرًا فإنه يملي في الزمن الأوامر الصادرة عن شريعته في الأزل.“ (مدينة الله 10: 12).
بماذا يساهم البشر؟ تقول د. زينب الخضيري إن أغسطينوس استعار فكرة أرسطية عن الوجود بالفعل والوجود بالقوة، وبالتالي ”البشر أدوات تحوِّل القوة (الكامنة) إلى الفعل.“[3]  
وبناء على ذلك- الله هو مَنْ يمنح السلطة لمَنْ يريد ويسلبهما ممَنْ يريد.. ”للإله الحقيقي وحده القدرة على التصرف بالممالك وقاداتها.. أعطى الرومان.. ساعة شاء وكيفما شاء.. وأعطى الأشوريين والفرس.. وهو أعطى قيصر وأغسطينوس ونيرون.. وهو الذي توج قسطنطين الملك المسيحي وجوليان الجاحد.. لله الواحد الحق في أن يرتب الأمور ويدبرها كما يشاء، وإذا كانت أسباب فعله خفية علينا فهل يعني هذا أنها ظالمة؟“ (مدينة الله 5: 21 )
إذا سألنا أغسطينوس: كيف تبرر الأحوال السياسية المريرة من آن لآخر؟ لأجاب: ”على أن هذه القدرة.. لا تُعطى لأمثال هؤلاء الناس (المستبدين) إلا بعناية من الله العلي عندما يستحق العالم، في نظره، أمثال هؤلاء الأسياد.. وكلمة الله واضحة في هذا.. ’بيَّ تملك الملوك بيَّ يترأس الرؤساء..‘ أم 8: 15 و16“ (مدينة الله 5: 19(
أغسطينوس واللاهوت السياسي
في دفاع أغسطينوس عن المسيحية والتسامح في المسيحية كسبب في انهيار الإمبراطورية.. ذكر تقدير بعض الملوك الرومان وفلاسفة رومان زي شيشرون للتسامح.. لكنه شرح أن أسباب السقوط هي في الابتعاد عن أسباب القيام.. وقال إن روما قامت على حب الحرية وطلب المجد.. ”روما التي أصبحت سيدة حرة راحت تنمو، بسرعة لا توصف، لشدة ما سيطرت شهوة المجد على القلوب! فالعطش إلى المديح والتوق إلى الشرف، كان في أصل المآثر الرائعة والبطولية بحسب رأي الناس. (مدينة الله 5: 12(
 ماذا حدث إذن؟ أن روما أصابها فساد الدعائم التي قامت عليها.. سادت العبودية وانحدرت الفضيلة.. وهذا الانهيار كان سيحدث سواء ظلت روما على وثنيتها أو اعتنقت المسيحية. كما ذكر أغسطينوس أن روما تعرضت لهزائم وهي وثنية، وحازت على انتصارات وهي مسيحية.
يقول أغسطينوس: إني أذكِّر بهذه الأحداث لأن كثيرين ممن يجهلون تاريخ الماضي وبعضهم يتظاهر بالجهل، ويتخذون من كل حرب تستمر طويلاً، سببًا لمهاجمة ديانتنا، بكل وقاحة.. فيذكروا كم كانت تلك الحروب التي قام بها الرومان الأقدمون طويلة، عرفوا فيها النصر والهزيمة، إضافة إلى الكوراث الدموية الرهيبة، .. فليكفوا عن خداع الجهال وتصويب ألسنتهم ضد الله تعالى. (مدينة الله 5: 22)

كيف يتعامل المسيحيون مع الدولة: طالما أن المدينتين متداخلتان فإننا نفيد أيضًا من سلام بابل، بابل التي تحرر منها شعب الله نهائيًا، بالإيمان، ويمر فيها مسافرًا فحسب. (مدينة الله 19: 26) ثم يقتبس من إرميا 29: 7 صلوا من أجل بابل، فإنه بسلامها يكون لكم سلامًا. في حالة الاستبداد ماذا نفعل؟ الخضوع للنظام في كل شيء يرضي الله، بعكس ذلك يكون العصيان السلبي بدون مقاومة. (يُتبع)


[1]  د. زينب الخضيري، لاهوت التاريخ عند أوغسطين، صفحة 136- 137.
[2]  نفس المرجع السابق، صفحة 141.
[3]  نفس المرجع السابق، صفحة 109.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق