الأربعاء، 23 مايو 2018

التربية الكتابية- تأديب الله وتأديب الوالدين



تحدثنا في المرة السابقة عن الأسلوب المتساهل في التربية، وتطرقنا إلى قصة عالي الكاهن وابنيه، وكيف أن عالي قصّر في تربية أبنائه عندما "لم يردعهم".. بمعنى أنه تقاعس عن اتخاذ إجراءات تأديبية مع أبنائه. ربما الأجدر الآن أن نحاول أن ننقِّب في كلمة الله لنعرف ماذا يقول الله لنا عن التأديب، وكيف مارس الله التأديب مع أبنائه، وما هي وسائل التأديب وغايته، وهل هناك فرق بين تأديب الله لنا وتأديبنا نحن لأولادنا. لنقرأ معًا بعض الأعداد من رسالة العبرانيين والأصحاح الثاني عشر.

" لم تقاوموا بعد حتى الدم مجاهدين ضد الخطية، وقد نسيتم الوعظ الذي يخاطبكم كبنين: "يا ابني، لا تحتقر تأديب الرب، ولا تخُرْ إذا وبَّخك. لأن الذي يحبه الرب يؤدبه، ويجلد كل ابن يقبله". إن كنتم تحتملون التأديب يعاملكم الله كالبنين. فأي ابن لا يؤدبه أبوه؟ ولكن إن كنتم بلا تأديب، قد صار الجميع شركاء فيه (في التأديب)، فأنتم نغول (أبناء غير شرعيين) لا بنون. ثم كان لنا آباء أجسادنا مؤدبين، وكنّا نهابهم. أفلا نخضع بالأولى جدًا لأبي الأرواح (يترجمها البعض: أبونا الروحي أو السماوي)، فنحيا؟ لأن أولئك أدبونا أيامًا قليلة حسب استحسانهم، وأمّا هذا فلأجل المنفعة، لكي نشترك في قداسته. ولكن كل تأديب في الحاضر لا يُرى إنه للفرح بل للحزن. وأمّا أخيرًا فيعطي الذين يتدربون به ثمر بر للسلام"
(عبرانيين12: 4-11)
كتب الرسول هذه الكلمات إلى العبرانيين الذين كانوا يتعرضون لموجة من الاضطهادات، وأراد أن يوضح لهم أن الآلام التي يتعرضون لها هي الوسيلة التي يستخدمها الله لتأديبهم. إن كلمة تأديب في اليونانية تتضمن شقين: العقاب، والتوجيه (أو التثقيف)؛ وبالتالي يمكن تعريف التأديب كالتالي: الألم الذي نتعلَّم من خلاله شيئاً مهمًا. إن أشد ما يدهشك في الكتاب المقدس أنه قيل عن السيد المسيح نفسه، وهو المذخر فيه كل ينابيع المعرفة: " لكونه ابنًا تعلّم الطاعة مما تألم به" (عب5: 8).. شدد الكاتب على صفة البنوة أولاً، وكأن مصير الأبناء أن يتألموا ليتعلَّموا.

لنتأمل معًا في بعض الكلمات والعبارات التي وردت في النص الكتابي السابق:
ضد الخطية.. هنا نرى ضرورة التأديب.. محاربة الخطية بمعناها الذي يفيد الانحراف عن الصواب والاعوجاج. ليس المستهدف من التأديب هو شخص الابن/ الابنة، وإنما الخطية "الساكنة فيهم" (انظر رومية7: 20).

نسيتم الوعظ.. كلمة الوعظ في اليونانية تعني: التشجيع. ولدينا برنابا الرسول الذي قيل عنه "ابن الوعظ"، أي ابن التشجيع. والعجيب أن أشد ما تميّز به برنابا هو تشجيع الآخرين، والاختفاء وراء الستار.. وبعد أن كانت الأصحاحات الأولى من سفر أعمال الرسل تقول: " برنابا وبولس"، تصدَّر بولس المشهد سريعًا، مع أن بولس كان اكتشاف برنابا بالأساس. كل ذلك دون أن تهتز ثقته بنفسه. وبالتالي عندما نؤدب أبناءنا لا يجب أن ننسى أن نذكرهم بمكانتهم كأبناء لكيما يتشجعوا.

لا تخُرْ.. ليس المقصود من التأديب أن يشعر الأبناء بالاستياء والإحباط والظلم جراء تأديبنا، بل إن نجاح عملية التأديب يتحقق إذا شعر ابنك/ ابنتك بالمعنى والمغزى من وراء التأديب. لقد تألم السيد المسيح "من أجل السرور الموضوع أمامه" (عب12:2).
إذا وبَّخك.. يؤكد الرسول بولس هنا أن عملية التأديب لا تتضمن كلمات التوبيخ فقط، ولكن الأفعال التأديبية أيضًا. ولا نكتفي بالتوبيخ والمحاضرات المطوّلة مثلما فعل عالي الكاهن.
مَنْ يحبه.. وهنا يأتي دافع التأديب، ألا وهو إظهار الحب.

يجلد كل ابن يقبله.. بالطبع يؤخذ المعنى هنا على المعنى المجازي، فليس المقصود أبدًا أن نضرب أبناءنا بهذه القسوة. ولكن المجتمع الروماني وقت كتابة الرسالة كان يعطي السلطة المطلقة للأب على أبنائه.. فالأب لدية الحق في معاقبة أبنائه بأي وسيلة وفي أي وقت، وبالتالي الجلد هنا دليل على شرعية هذا الابن، الأمر الذي لا ينطبق على الأبناء غير الشرعيين، ولم يكن ينظر لهذا كامتياز لغير الشرعيين، بل احتقار وذلة ومكانة أقل من مكانة الابن الشرعي. من هنا لا يتصور كاتب رسالة العبرانيين أن هناك أبًا يتقاعس عن تأديب أبنائه، وإلا اعتبرهم "نغولاً" (أي أبناء غير شرعيين).

آباء أجسادنا.. هؤلاء أباؤنا بالجسد، ماذا عنهم؟ كانوا لنا مؤدبين، ومع ذلك كنا نهابهم. أي أن الهدف هنا أن يصل الأبناء إلى مستوى من المهابة والتوقير لآبائهم، هذا هو الشعور الذي نبتغيه، ومن ثم يعد مؤشرًا آخر لنجاح عملية التأديب.
أدبونا أيامًا قليلة.. وهذا ما توافقه كثير من الدراسات التربوية: أن التأديب بالضرب لا يأتي بفائدة إلا في السنوات المبكرة من عمر الأبناء، أمّا بعد ذلك، فغالبًا ما يأتي بنتائج عكسية.

حسب استحسانهم.. والعبارة تشير أنه ربما تضمنت عملية التربية بعض الأخطاء. وهذا ليس مستبعدًا؛ لأن التربية هي عملية بشرية يقوم بها عناصر بشرية؛ فلابد من حدوث أخطاء. ولكن العبارة تفيد أيضًا أن هؤلاء الآباء قد فعلوا ما يعتقدون أنه الأفضل، وفي هذا تأكيد على صدق الدوافع. ربما يفيدنا ذلك ويفيد أبناءنا إذا تبقى لديهم أي شعور بالاستياء أو الظلم جراء التأديب، وربما سيساعدهم بالأكثر على ذلك حينما يتأملون تأديب الله الذي لا يخطئ في دوافعه "من أجل المنفعة، ومن أجل حياة على مثال قداسته" أو في آلياته المختلفة.
ربما يشجعنا هذا أيضًا حتى لا نشعر بالإحباط واليأس إذا ارتكبنا بعض الأخطاء في التربية؛ فهذا ليس نهاية المطاف. لنضع في اعتبارنا تعاملات الله مع أبنائنا، فتقصيراتنا ليست نهاية العالم؛ لأن الله حتمًا سيعمل عمله.

لنشترك في قداسته.. إن القداسة جزء لا يتجزء من شخصية الله، وبالتالي فإن الهدف من تأديبنا وتربيتنا في المقام الأول هو أن نتعاون مع الله في تنشئة أبناء على مثال شخص ابنه (انظر رومية 8: 29).

ثمر بر للسلام.. لقد وصلنا للنتيجة: ألم على المدى القريب؛ إذ في وقته لا يُرى للفرح، وثمر على المدى البعيد. مرة أخرى لا يهدف التأديب إلى توتير العلاقة مع الأبناء، بل يهدف إلى خلق سلام في البيت. ولكن الأبناء لا يحبون التأديب، وبالتالي لن يحدث هذا إلا إذا تم "التدريب" على ذلك؛ إذ يعُطى الذين يتدربون على ذلك حصاد وفير من البر والسلام. مرة أخرى يتأثر الكاتب بمجتمعه الروماني ويعطينا صورة عن "الجيمنزيزم" الذي يتدرب فيه الرياضيون باستمرار وجدية. وهذا لا يعني قبول الأبناء للتأديب من حين إلى آخر، وإنما قبوله كمنهج حياة كلما دعت الضرورة في أية مرحلة من حياتهم، إذ يرون في التأديب علاجًا لاعوجاجهم مهما بلغ بهم العمر، ومن ثَم ينمون من مجدٍ إلى مجدٍ.   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق