الأربعاء، 23 مايو 2018

التربية الكتابية- الركابيون وغرس القناعات



مَنْ هو أعظم أب في الكتاب المقدس، بخلاف الله؟ لقد ذكر لنا الكتاب المقدس العديد من الشخصيات العظيمة في المجالات المختلفة. على سبيل المثال، كان داود وسليمان من الملوك العظماء، وصموئيل و إشعياء وإرميا من الأنبياء الكبار، حتى إبراهيم- الذي كان على استعداد أن يقدِّم ابنه ذبيحة-  أثنى عليه الكتاب المقدس من جهة إيمانه، وليس كأب قدّم نموذجًا أسطوريًا في التربية؟ إن الأب العظيم الذي سنتحدث عنه لم يكن في شهرة هؤلاء، لكنه استطاع أن يحمي أبناءه من مجتمع تسوده الرزيلة وعبادة الأوثان، واستطاع أن يرسخ قناعات لدى أبنائه، فظلوا متمسكين بوصايا أبيهم ما يقرب من 300 عام- أي ثلاثين قرنًا من الزمان. حتى أن الله أراد أن يوبِّخ بهم شعبه الذي كان غارقًا في العصيان. الأب هو "يوناداب بن ركاب"، وأبناؤه هم "الركابيون"، ونقرأ عنهم في سفر إرمياء النبي والأصحاح 35:

" الكلمة التي صارت إلى إرميا من قبل الرب.. اذهب إلى بيت الركابيين وكلِّمهم.. وادخل بهم إلى بيت الرب إلى أحد المخادع (الغرف) واسقهم خمرًا. فأخذت.. كل بيت الركابيين.. وجعلت أمام بني بيت الركابيين طاسات ملآنة خمرًا وأقداحًا، وقلت لهم: "اشربوا خمرًا". فقالوا: "لا نشرب خمرًا، لأن يوناداب أبانا أوصانا قائلاً: لا تشربوا خمرًا أنتم ولا بنوكم إلى الأبد... فسمعنا لصوت يوناداب بن ركاب أبينا في كل ما أوصانا به... ثم صارت كلمة الرب إلى إرميا قائلة: "هكذا قال رب الجنود: اذهب وقل لرجال يهوذا وسكان أورشليم: أما تقبلون تأديبًا لتسمعوا كلامي (ألا تفهمون الدرس؟)، يقول الرب؟ قد أقيم كلام يوناداب بن ركاب الذي أوصى به بنيه.. وأنا قد كلمتكم مبكرًا ومُكلمًا (فعلت الكثير حتى ألفت انتباهكم مرارًا كثيرة) ولم تسمعوا لي. وقد أرسلت إليكم كل عبيدي الأنبياء مبكرًا ومرسلاً.. ولا سمعتم لي"
(إرميا 35: 1-15، مع بعض الاختصار)
إنه لأمر مبهر حقًا أن يوصي أب أبناءه ويظلوا لأجيال طويلة طائعين ومتمسكين بوصايا أبيهم! أليس أعظم شيء في الحياة هو أن نربي أبناءً لا يمكن لشيء مهما كان أن يثنيهم أو يرغمهم على مخالفة ما يؤمنون به؟! إنهم يستحقون حقًا أن يكونوا مثالاً لتوبيخ شعب يهوذا. لقد أوصاهم أبوهم أيضًا –بخلاف الامتناع عن الخمر-بأن يعيشوا حياة زاهدة في الخيام خارج المدن، وربما فعل ذلك لمقاومة ثقافة المدينة التي كانت قد بدأت تسلب عقول الأبناء وتبعدهم عن الله- ونحن نواجه نفس الشيء الآن. وعند غزو البابليين اضطروا إلى البحث عن مكان آمن داخل أورشليم، فظلوا على ما تربوا عليه. ومع أن الأمر جاء من الله شخصيًا بأن يشربوا الخمر، وعلى لسان نبيه إرميا الذي أعد لهم الخمر بنفسه، وداخل إحدى غرف الهيكل حيث لا يراهم أحد، فإن الشيء المبهر أنهم لم يتحولوا سريعًا وظلوا على استقامتهم وعهدهم مع أبيهم. تتلخص القصة في الآتي:

·        الركابيون أطاعوا أبًا أرضيًا، وبنو يهوذا عصوا أبًا دهريًا وإلهًا سرمديًا.
·        أوصاهم يوناداب مرة واحدة/ أو لفترة قصيرة ومات، لكن الله أوصى يهوذا مرارًا وتكرارًا، وأرسل لهم أنبياءً كثيرين.
·        أطاع الركابيون وصية أبيهم لما يقرب من 300 عام، بينما ظل شعب الله في العصيان.
·        وفاء الركابيين لابد أن يكافأ مكافأة خاصة (انظر ع19)، وعصيان يهوذا لا بد أن تكون نهايته الدينونة والعقاب.

إن كلمة السر في هذه القصة هي "ترسيخ القناعات لدى الأبناء". إن أمنية كل الآباء والأمهات أن يرسخوا قناعات لدى أبنائهم فيسيروا وفقًا لها طوال حياتهم دون تململ أو تغصب. ما ضرورة القناعات؟ إنها تشكل نظرتهم العامة عن الحياة، وتحكم تصرفاتهم ومواقفهم، وتساعدهم على اتخاذ قرارات صائبة، ومقاومة ضغط الأقران، وتجعلهم لا يتشكلون بسهولة بالتيارات الثقافية المعادية لله ، وهي دليل على نضجهم وثباتهم.. " كي لا نكون فيما بعد أطفالاً مضطربين ومحمولين بكل ريح تعليم.." (أفسس4: 14). إن الثقافة الخارجية أقوى وأسرع في تأثيرها على أبنائنا، ومن ثَم نجاحنا في عملية التربية يتمثل في مدى نجاحنا في ترسيخ قناعات فكرية (كتابية) لديهم. كيف نفعل ذلك؟
·      القناعات تُبنى على الحق، فمن أين نحصل على الحق. يسوع يجيب: "قدسهم في حقك. كلامك هو حق" (يوحنا 17: 17). لنبدأ في دراسة متعمقة في كلمة الله مع أبنائنا منذ صغر سنهم. في البداية عن طريق حفظ الآيات، ثم بعد ذلك تأملات شخصية، وتطبيقات عملية، حتى نصل إلى علاقة شخصية مع كلمة الله.
·       ربما تحتاج كأب أو أم أن تتأكد أولاً من قناعاتك، وهذا يفترض أنك تعرف ما هي قناعاتك! وربما تحتاج أن تسأل نفسك السؤال الآتي: ما هي الأشياء التي أود أن أغرسها في نفوس أبنائي؟
·        احرص على بناء علاقة قوية قبل أي شيء؛ لأن أبناءك سيقبلون أفكارك لأنهم يقبلونك أنت، وسيرفضونها إذا رفضوك أنت.
·        اشرح قناعاتك لهم، ولا تكتفِ بأن تقول أن القدوة التي أقدمها لا تحتاج إلى شرح.

·      في بعض الأحيان تحتاج أن لا تفرض عليهم قناعاتك الشخصية، وهذا خطأ يقع فيه كثير من الآباء والأمهات. لكي تترسخ قناعة ما يحتاج الابن/ الابنه أن يرى الحق بنفسه ثم يمتلك هذا الحق. نحن نفرض معايير أخلاقية وسلوكية ونشجع أبناءنا على اتباعها، ولكن لا نفرض عليهم قناعاتنا. وهذا مبدأ كتابي أصيل؛ إذ يقول الرسول بولس: "واحد يعتبر يومًا دون يوم، وآخر يعتبر كل يوم. فليتيقن كل واحدٍ في عقله" (رومية14: 5).

·       إن عملية اكتشاف الحق تحتاج عمل روح الله الذي ينير البصيرة ويزيل الغشاوة، فلا ننسَ أن نطلب عمل الروح القدس في حياة أبنائنا.
·        اخلق لديهم الرغبة والشغف في اتباع كلمة الله، وبعد ذلك امنحهم حرية الاختيار، وهذا من شأنه أن يقوي قناعاتهم. ربما تحتاج أن تقول لهم: "إذا شعرت أن ما أقوله لك- أو أي شخص آخر- يتنافى مع كلمة الله- اتبع كلمة الله وليس أنا أو أي أحد آخر".
·       أبرز المواقف التي تعبر عن قناعات، وألقِ الضوء على بعض النماذج التي دافعت عن قناعاتها حتى النهاية. تكتظ صفحات الكتاب المقدس بأمثلة من هؤلاء. ولعل عبرانيين 12 أو أصحاح أبطال الإيمان هو خير دليل على ذلك.

تذكر أن عملية ترسيخ القناعات ذاتها أهم من النتيجة النهائية. 

هناك تعليق واحد: