في
بوستات سابقة تحدثنا عن فلسفة التاريخ عند أغسطينوس، والمقصود بفسلفة التاريخ:
تفسير مجريات التاريخ في ضوء نظرية عامة. وهي محاولة لمعرفة العوامل الأساسية التي
تتحكم في سير الوقائع التاريخية، ثم استنباط قوانين عامة عن تطور الأمم والدول.
فلسفة التاريخ تسعى لإيجاد وحدة عضوية للأجزاء المتفرقة.
تحدثنا
ايضًا أن البحث في فلفسة التاريخ عادة ما يأتي في أعقاب نكبات كبرى. يقول الفيلسوف
الروسي نيكولاي بيرديائيف: ”النكبات في التاريخ الإنساني كانت دائمًا حافزًا على
التفكير في الماضي وفي المصير، ومثيرة للاهتمام بتفسير التاريخ وتعليله.“[1]
فأغسطينوس كتب في أعقاب سقوط روما، وهيجل مع فتوحات نابليون، وتوينبي في أعقاب
الحرب العالمية الأولى.
فيما
يلي ترجمة لشرح بعض الأفكار عن نظرية المدينتين:[2]
يتتبع
أغسطينوس تاريخ الجنس البشري من بداياته عند آدم وحواء، ويوفق هذا التاريخ في قالب
روايته الكلية، أي فكرة المدينتين. خلق الله البشر من إنسان واحد ليحقق الوحدة
الأخوية بينهم.. وانتشرت الأمم وتنوعت المعتقدات.. لكنهم في النهاية بيشكلوا
مجتمعيين بشريين: مدينة تعيش بحسب الجسد.. ومدينة تعيش بحسب الروح.[3] الأولى
شيدت بمحبة الذات، والثاية بمحبة الله. الاولى تمجد نفسها، والأخرى تستمد مجدها من
الله. الأولى في النهاية مصيرها مع إبليس، والأخرى مصيرها مع الله والقديسين. يبدأ
الانقسام بين المدينتين وتظهر العداوة مع قايين وهابيل، ”إن ما حدث بين قايين
وهابيل يشير إلى العداوات الفاصلة بين المدينتين.“[4]
في
الكتاب 15، 16 يتتبع أغسطينوس التاريخ المبكر لمدينة الله، متبعًا رواية سفر
التكوين لأنه رأى المدينة مجسدة في الآباء البطاركة عبر نوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب
ويوسف وموسى. في الكتاب 17 يسعى لإظهار المدينة في كتابات الأنبياء والمزامير.
هناك نبوات تمجد مملكة داود والكهنوت اليهودي وتتنبأ ببقاءهما إلى الأبد، وبالتالي
هذا يشير إلى تحقيق في مكان آخر، لأن المؤسسات اليهودية لم تعد موجودة.
نعود
إلى التاريخ الدنيوي في الكتاب 18 الذي يحكي فيه عن قياك وسقوط ممالك وامبروطوريات
وثنية مثل مصر واشور وروما. يحرص أغسطينوس على التوفيق بين التواريخ الكتابية
والدنيوية، فجعل خروج موسى في عهد الملك كيكروبس أو سيكروبس أول الملوك الاسطوريين
لأقليم أتيكا، وجعل سقوط طروادة في فترة عصر القضاة. وخراب أورشليم في أثناء حكم
تاركيونس بريسكوس لروما. كما انتهى السبي البابلي مع تأسيس روما. وهو بهذا يهدف
إلى التأكيد على أن تعاليم الأنبياء العبرانيين سبقت جهود الفلاسفة الأغريق.[5]
حسب
أغسطينوس أورشليم رمز لمدينة الله، وبابل رمز لمدينة العالم. بابل مدينة البلبلة..
في مدينة الأرض يتحدث الفسلفة بألسنة مختلفة كثيرة كالبنائين في قصة بابل (تك 11).
أحدهما يقول إنه لا يوجد إلا عالمًا واحدًا، وآخرون يقولون توجد عوالم متعددة. البعض
يقول إن العالم أزلي، وآخرون يقولون أنه سيزول. البعض يقول أن العقل الإلهي يحكم
العالم، بينما آخرون يقولون أن الصدفة تحكمه. البعض يقول إن النفس خالدة، وآخرون
يقولون زائلة. البعض يثق في الحواس، وآخرون يزدرون بها.
في
مدينة العالم لا توجد مرجعية ثابتة لتفصل بين هذه الآراء المتعارضة. بابل تجمعها
كلها على حد سواء دون تفرقة.[6] لكن
مدينة الله مختلفة تمامًا لأن الجميع فيها يقبلون مرجعية الأسفار القانونية.
في
كل هذا لا نستطيع أن نقول أن بابل هي الأمبراطورية الوثنية واورشليم هي
الأمبراطورية المسيحية. مدينة الله موجودة من قبل المسيح، ولم تبدأ بتحول قسطنطين إلى
المسيحية. كذلك الامبراطورية المسيحية تضم الخطاة والقديسين.. وبيضرب مثل الأمبراطور
ثيؤدسيوس الذي أجبره ق أمبروسيوس على التوبة بسبب وحشيته في إخماد تمرد حدث في
تسالونيكي عام 391.
ولا
نقدر أن نقول أن أورشليم هي الكنيسة على الأرض، بالرغم أنه في العصور اللاحقة
لأغسطينوس كان هذا أحد التفاسير.. لا نستطيع ان نميز بشكل كامل بين طبيعة
المدينتين إلا في آخر 3 كتب من كتاب مدينة الله. حيث سيملك الله مع قديسيه- مواطني
مدينة السماء.
بالرغم
أن كتاب ”مدينة الله“ يعتمد على الكتاب المقدس، إلا أنه يحتل مكانة هامة في تاريخ
الفلسفة لأن أغسطينوس يحاول أن يدمج رؤيته الدينية مع التقليد الفلسفي اليوناني
والروماني. ويحاول التوفيق بين الكتاب المقدس وشيشرون وأفلاطون كلما أمكن ذلك،
ويفند أراءهم عندما يتعذر ذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق