لا يستطيع أحد أن ينكر
إنجازات الملك العظيم داود؛ إذ شهدت الأمة اليهودية أزهى عصورها في عهده وعهد ابنه
سليمان. لكنه لم يكن أبًا ناجحًا بنفس القدر. فقد فشل في تربية ثلاثة من أبنائه
على الأقل. ولقد كان الوحي الإلهي أمينًا في سرد إخفاقاته في هذا المجال بدون
تلطيف أو تخفيف حتى نستفيد منها ولا نكرر المأساة. ولا نبالغ إذا نبالغ إذا قلنا
أن إهمال دواد في تربية أبنائه كان له تأثير سلبي ليس على أسرته فقط بل عل مصير
بلاده بأكملها. لم تظهر المشكلات إلا عندما كبر أبناؤه. يقول الكتاب: "ربِّ
الولد في طريقه، فمتى شاخ أيضًا لا يحيد عنه" (أم 22: 6). وبينما يفسر البعض
كلمة "طريقه" هنا على أنها طبيعة الطفل وفطرته الخاصة، فإن الدارس لسفر
الأمثال يدرك أن هناك طريقين لا ثالث لهم: طريق الحكمة والأبرار، وطريق الحمقى
والأشرار. ونعرف أن داود كانت له زوجات كثيرات فضلاً عن سراريه وأبناء كثيرون..
فكيف كان يحقق لكل هؤلاء اكتفاءً عاطفيًا على الأقل؟! وهل كان لديه من الوقت في
خضم حروبه ومشغولياته أن يعلِّم أبناءه وصايا الله وطريق الحكمة والأبرار؟
نأتي إلى حدث فاصل في
حياة داود، عندما صعد على سطح منزله لا لينظر نِعم الرب التي ساعدته في بناء مدينة
أورشليم، بل امرأة أوريا الجميلة التي كانت تستحم. في نفس الليلة كان الملك العظيم
قد سقط في شهوته، وتبع ذلك سلسلة من الأحداث المتوالية. بعد قليل أرسلت إليه
المرأة خبر حملها بطفل منه، ويحاول داود معالجة الأمر ويرسل في استدعاء أوريا من
المعسكر ليبيت مع زوجته وينتهي الأمر، ولكن موقف أوريا النبيل زاد من خزي الملك،
فأرسل بيده رسالة تقضي بوضعه في الصفوف الأمامية ليُقتل، فتحقق لداود ما أراد.
كانت جريمة بشعة- زنى وقتل- بكل المقاييس. ولم تكن أقل من جريمة ذلك الرجل الغني
الذي ترك خيراته واستولى على نعجة الفقير ليكرم بها ضيفه. قدّم داود توبة عظيمة
ولكن نتائج أخطائه كانت مدوية:
"لا
يفارق السيف بيتك... أقيم عليك الشر من بيتك، وآخذ نساءك أمام عينيك وأعطيهن
لقريبك، فيضجع مع نسائك في عين هذه الشمس"
(2صم 12: 10-12)
هذا هو قانون السبب
والنتيجة، وهذا هو الدرس الأعظم: لا تتركوا أبناءكم في عالم افتراضي.. الواقع يقول
إن للخطية تبعات مترتبة عليها، ولها ثمن وتكلفة لابد أن تُدفع. الشيء الذي يحسب
لداود أنه تحمل هذه التكلفة في صبر واتضاع وبروح التوبة، لذا كانت التبعات بمثابة
نار مطهرة له. في كل الأحوال سيغفر لنا الله خطايانا إذا قدمنا توبة صادقة عنها،
لكنه اختار أن يترك آثار الخطية لنتحملها حتى نتذوق مرارتها ونتعلم الدرس جيدًا.
بدأ داود يحصد نتائج
أفعاله عندما مات الطفل الذي حبلت به امرأة أوريا، وربما يرجع حزن داود عليه إلى إحساسه
بأن موت ابنه كان بسبب خطيته كأب. وهذا شعور مدمر لدى أي أب أو أم! تكرر نفس الشيء
عند موت ابنه أبشالوم، وربما ايضًا عندما قتل أبشالوم أخاه أمنون.
تربى أمنون في قصر
الملك ونشأت لديه عاطفة منحرفة تجاه أخته (من أم أخرى) ثامار.. لم يتعود أمنون على
أن يُرفض له طلب، فكل ما يطلبه متاح ومباح له. لذا لم يتعلم الصبر، أو تأجيل إشباع
رغباته، وفي ظل عدم وجود معايير سلوكية لديه، لم يكن ليميز بين الصواب والخطأ؛ فتمارض
وخدع أباه وطلب منه أن يأكل من يد أخته ثامار. لماذا لم يلاحظ داود أية إيحاءات
غريبة من كلام أمنون؟! ضاجع أمنون أخته، وبعد ذلك أبغضها بغضة شديدة، وطردها من
بيته، ورفض الزواج منها وحطمها نفسيًا، وتركها في عار بقية عمرها. السؤال أين داود
الأب من كل هذا؟ لم يعاقب أبنه أمنون، وترك لأبشالوم أن ينتقم لأخته ويقتل أمنون
بعد ذلك، ولم يواسِ ثامار إذ كانت في أمس الحاجة لم يقدِّم لها دعمًا
معنويًا. لاحظ أيضًا أن أمنون خدع أباه
عندما تظاهر أمامه بالمرض وطلب زيارة أخته له. لم يحرك داود ساكنًا، وربما أراد
تهدئة الأمور منعًا لانتشار الفضيحة أكثر، وبصمته وقف في جانب الجاني وترك المجني
عليه (ثامار).
مرة أخرى يُخدع الأب من
أحد أبنائه؛ إذ يعمل أبشالوم وليمة لأبناء الملك ويطلب منه أن يسمح بحضور أمنون،
وفي نهاية الليلة يقتل أبشالوم أخاه أمنون منتقمًا لأخته، الأمر الذي لم يعد بأدنى
فائدة على أخته ثامار المحطمة نفسيًا ومعنويًا. ولو عاقب داود أمنون ما ترتب على
ذلك قتله. لماذا لم يعاقبه؟ يجيب "إف. بي. ماير" كالآتي:
"بعد سنتين، فعل
أحد أولاده بأخته كما فعل هو بامرأة أوريا. يقولون إن الإنسان لا يسمع صوته إلا
عندما يرتد له مرة أخرى من جهاز الفونوجراف، ويقينًا لا يرى المرء شرور نفسه حتى
تعاود الظهور في أحد أبنائه. لقد حملت خطية أمنون نفس مواصفات شهوة داود الجامحة،
كذلك رأى داود جريمته (في قتل أوريا) عندما قتل أبشالوم أخاه أمنون.. كيف يستطيع
أن يوقع داود القصاص على نجاسة ابنه، في حين أعفى نفسه منها. كذلك لم يجرؤ أن
يعاقب أبشالوم على قتله لأخيه، إذ تذكر أنه كقاتل كان قد أعفى نفسه من قصاص هذه
الجريمة".
لا شك أن نتائج خطية داود كانت مروعة، وأنه ظل
يدفع ثمنها حتى نهاية أيام حياته. يكفي أنه وهو شيخ لا يجد أحدًا من أبنائه حوله،
ويشعر ببرودة الوحدة، ويطلبوا فتاة عذراء تحتضنه لتدفئه. أمام هذه المأساة.. نؤكد
أنه ليس الهدف أن نرتدي نظّارة معظمة لنفتش عن خطايا وإخفاقات أب مثل داود، وإنما
لنتعظ منها. لذا سأحاول توضيح الدروس المستفادة من قصة داود وعائلته من خلال
الصلاة التالية:
يارب.. أعني كأب/ كأم
في مسؤولية تربية أبنائي
إني أحتاج بشدة إلى
قوتك ومعونتك
يارب.. لا تجعلني أفرح
فقط بولادة أبنائي مثل داود،
بل أفرح بالأكثر حينما
أسلمهم في يديك، وأراهم ممسكين بك
ساعدني أن أحقق لهم
اكتفاءً من الحب قبل أي شيء
ساعدني أيضًا أن أضعهم
في المرتبة الأولى في حياتي
ولا تجعل مشغولياتي أو
طموحاتي تشغلني عنهم
وإذا أخفقت في شيء..
كمّل أنت بنعمتك
وأعدك يا إلهي بأن أقبل
نتائج أخطائي كنار مطهرة لي
ساعدني يارب أن أؤدب
أبنائي في شجاعة لمصلحتهم
أظهر نعمتك في حياة
أبنائي حتى يستطيعوا أن يكبحوا
جماح شهواتهم وطموحاتهم
احمِ بيتي من نار
الشهوة والغرور وحب الانتقام
اجعل أبناءي يتعلمون من
أخطائي قبل فضائلي
أنعم عليّ أنا عبدك
بدفء أبنائي من حولي
لا تجعلني أعاني من
برودة الوحدة في نهاية أيامي
يارب.. لا ترفع يدك ولا
تتراجع عني وعن عائلتي
اشملني دائمًا بنعمتك،
ولا تعاملتي حسب خطاياي
بل حسب مراحمك الكثيرة
احفظ أبناءي في اسمك
ولا تسمح بأن يضيع أحد منهم
محتمين في الدم الغالي
آمين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق