يعبِّر الكثيرون من آباء الكنيسة عن تنزيه الله بالتأكيد
على أنه ليس له اسم. لأن ما ليس له اسم هو غير مدرك وغير موصوف، ومفارق لكل ما
عداه. الاسم هنا بمعنى التعريف، والتعريف هو نوع من التحديد، والله لا حَد ولا
حدود له، ولا شيء يكفي للتعبير عن ماهيته. ق هيلاري أسقف بواتييه يقول: ”اللامحدودية
هي صفته.. هيئوا عقولكم لإدراكه ككل، وسوف يراوغكم... الكلمات تعجز عن وصفه. دعوا
العقل يعترف بأنه هُزم في محاولة الفهم، وكذلك المنطق في محاولة التحديد“ (عن
الثالوث 2: 6)،[1]
ويؤكد هيلاري أن ”ما يفوق الوصف لا يمكن أن يخضع لقيود وحدود التعريف“ (عن الثالوث
4: 2).[2]
لكن ماذا عن
الأسماء التي تُعطى لله في الكتاب المقدس مثلاً: الخالق، الآب، الصالح، الواحد..
إلخ. هي ليست أسماء تحد الله، بل هي تعبير عن أوصاف لأعماله، ولأفعاله من جهة
علاقته بالكون أو الإنسان. كما يرى البعض أن وظيفة الاسم تتمثل في تمييز الأفراد
من نفس النوع أو الجنس، والله واحد، وبالتالي ليس محتاجًا لاسم. وهذا ما أشار إليه
ق كيرلس السكندري في كتاب ”حوار حول الثالوث“: ”إن تعريفات الجواهر.. إذا ما تمت
بطريقة منطقية لابد أن تبدأ من النوع أو الجنس ثم إلى بيان خصوصيات كل نوع وما
يميزه عن غيره... هذا يخرج بنا خارج حدود المنطق واللياقة، لأننا نحاول أن نطبق
على الله صفة النوع بينما لا يوجد كائن آخر مساوٍ له أو سابق عليه“.[3]
بصيغة أخرى، التعريف يُعطى ليميِّز الفرد داخل مجموعة أفراد من نفس النوع، لكن
الله ليس كذلك، وبالتالي محاولة تعريفه نوع من الخطأ المنطقي.
إذا تتبعنا تأكيد الآباء على أن الله ليس له اسم، سنبدأ
من فيلون الفيلسوف اليهودي السكندري الذي قال بإن ملاك يهوه رفض أن يقول اسمه
ليعقوب (تك 32: 29)، ويعلِّق: ”لقد انتهر الملاك طلب يعقوب وأجابه: لماذا تسأل عن
اسمي؟ يكفيك أن تنتفع من بركتي“، والمبدأ العام لفيلون هو ”بالنسبة للأسماء، فإنها
رموز الموجودات المولودة، فلا تبحث عنها بين الطبائع غير الفاسدة“،[4]
بمعنى أن الأسماء رموز تنطبق على المخلوقات، المتولدات، لتميز شيئًا مخلوقًا عن
آخر.
ثم نجد يوسيتن الشهيد الذي يقول: ”ليس لأحد أن يطلق
أسماء على الله غير الموصوف، وإذا تجرأ أحد على ذلك فهو يُعتبر مختل العقل“
(الدفاع الأول 61).[5]
ويقول أيضًا ”لا يليق أن يُطلق على الله أبي الكل اسمًا مختلقًا لأنه غير مولود“
(الدفاع الثاني 6).[6]
والسبب في ذلك ”لأن كل مَن له اسم فقد أُعطي له من شخص يكبره سنًا، إن كلمات الآب
والله والخالق والرب والسيد ليست أسماء حقيقية بل ألقاب مستمدة من أعماله الصالحة“.[7]
وبالتالي يؤكد ق يوستين أن الأسماء المألوفة لنا عن الله لا تعبر عن ”ماهية الله“
(what God is) ولكنها تعبِّر عن كيفية تفاعله (how God is) مع خليقته.
كما يذكر يوستين أن لفظة ”الله“ هي ”ليست اسمًا حقيقيًا بل هو ”تعبير عن شعور
مزروع في طبيعة الإنسان يصعب تفسيره“.[8]
ثم نأتي للقديس إكليمندس السكندري الذي يقول في ”المتفرقات“:
”من العسير جدًا التحدُّث عن الله... لذلك هو بلا شكل وبلا اسم. وإذا أسميناه
فإننا لا نفعل هذا بشكل صحيح“، وحتى أسماء الله مثل الواحد والصالح والآب ”كل واحد
منها في حد ذاته لا يعبِّر عن الله، ولكن كلها معًا تدل على سلطة الله الكلي
القدرة.. ليس هناك شيء سابق لغير المولود“ (متفرقات 5: 12، 10).[9]
وهنا يظهر التماثل بين إكليمندس ويوستين، كما يشرح إكليمندس أن الله ”كموضوع/ أو
محمول عليه“ (subject) لا يمكن أن يُنسب إلى جوهره أي ”محمول“ (predicate) كالتالي: ”لأن
المحمولات إما تُستمد من الأشياء نفسها، أو من علاقات بآخر“ (متفرقات 5: 12: 10).
النوع الأول يُسمى ”المحمول المطلق“ وهو الذي ينطبق على الشيء ذاته، والنوع الثاني
هو ”المحمول النسبي“ بمعنى علاقة الموضوع بشيء آخر. وكلا الطريقيتن لا يليقان
بالله.[10]
ثم يصيغ إكليمندس على غرار فيلون مبدأً عامًا وهو ”إذن كل شيء يندرج تحت اسم هو
مولود“ (متفرقات 5: 13: 1).
مرة أخرى يقول ق غريغوريوس النزيانزي ”الإلوهة لا تُسمى
باسم من الأسماء“ (العظات اللاهوتية 30: 17)،[11]
والسبب في ذلك أنه ”لم تتمكن لفظة من احتواء حقيقته احتواءً كاملاً“.[12]
وبنفس الصياغة تقريبًا يقول ق باسليوس في )ضد
أفنوميوس 1: 10): ”لا يوجد اسم واحد فقط يكفي لاحتواء طبيعة الله بالكامل“، ويبرر
ق باسليوس هذا بأن الله نفسه أراد ألا يعلن اسمه لشعب الله في القديم، ”لأنه بكل
تأكيد لا يمكن للسمع أن يحتمله ويحتويه“ (1: 13). كما يسخر ق باسليوس من إفنوميوس
قائلاً: ”من الواضح أنه بالنسبة لهذا (أي أفنوميوس) أن الله لم يكشف له اسمه فقط،
بل كشف أيضًا عن جوهره“ (ضد أفنوميوس 1: 13).
من هنا ننتقل إلى مستوى آخر من المشكلة التي تجلت عند
أفنوميوس، أن أفنوميوس ادّعى بأنه عرف الاسم وعرف الجوهر أيضًا من خلال هذا الاسم.
فقد ركّز أفنوميوس على لفظة ”غير المولود“ واعتبرها تعريفًا لجوهر الله مكونًا من كلمة
واحدة. وتعامى عن أي أسماء أو ألقاب أخرى لله. بالطبع بحيلة خبيثة منه، حتى يثبت
أن الابن ”المولود“ لا يمكن أن يكون مساويًا للآب ”غير المولود“.
لننقض أولاً فكرة التعريف الجامع المكون من كلمة واحدة.
يدحض ق كيرلس هذه الفكرة في حواره الثاني في كتابه ”الحوار حول الثالوث“؛ موضحًا أن
أتباع أفنوميوس- دون أن يسميهم- يقولون إن تعريفات الجوهر تتم من خلال ”اسم واحد
أو كلمة واحدة“،[13]
لذلك تمسكوا بلفظة ”غير المولود“. لكن ق كيرلس دحض رعونة هذه الفكرة بمثال عن مَن
هو الإنسان؟ أو ما هو تعريفه؟ فإن قلنا إنه ”حي“ فهناك كائنات أخرى مثل الكلب والبقرة
من الأحياء، وإن قلنا الإنسان ”حي زائل“ يشترك أيضًا الكثير من الكائنات في هاتين
الصفتين، ولكن إن قلنا ”حي زائل عاقل“ نكون ”قد وفينا التعريف حقه“. وبالتالي
يستخلص ق كيرلس الآتي: ”إنه أمر مخالف للعلم- الذين يدعون أنهم يحبونه- أن نحاول
أن نعرِّف شيئًا تعريفًا وافيًا بكلمة واحدة“.[14]
إذا تتبعنا آراء أفنوميوس في السياق الفلسفي المعاصر
لها، سنجد في محاورة ”كراتيلوس“ لأفلاطون أن كراتيلوس يدافع عن النظرية الطبيعية
للمعاني أو الأسماء. فما يُناقش في هذه المحاورة يتلخص في هذا السؤال: هل الأسماء
طبيعية أم اصطلاحية؟ أي هل تعبِّر الأسماء عن جوهر وطبيعة الشيء المسمى، أم أن
الاسم هو ما اتُفق عليه أو تم التعارف أو الاصطلاح عليه. أصحاب التوجه الأول
يُسمون ”الطبيعيون“ (Naturalists)، وأصحاب التوجه الثاني يُسمون ”الاصطلاحيون“
(Conventionalists). يسوق سقراط في هذه المحاورة أمثلة غريبة
عن كيف يعبر الاسم عن طبيعة الشيء نفسه. فلفظة ”إله“ (theos) في
اليونانية بحسب سقراط تأتي من الحركة الجارية، لأن المعبودات مثل الشمس والقمر
والنجوم دائمة الدوارن في مساراتها.[15]
يمكننا تلخيص موقف المدارس الفلسفية من السؤال السابق
كالتالي: في محاورة كراتيلوس، كان يحاور سقراط كل من كراتيلوس الذي تبنى النظرية
الطبيعية، وهرموجنيس الذي تبنى النظرية الاصطلاحية. وكان أتباع أرسطو (أو
المشائيين) يناصرون بشكل عام النظرية الاصطلاحية، بينما أتباع أفلاطون،
والأبيقوريين، والرواقيين تبنوا النظرية الطبيعية. الأبيقوريون رأوا أن اللغة تنشأ
طبيعيًا بمجرد أن ينطق الإنسان بصوته عندما يتأثر بالأشياء المحسوسة، بطريقة تشبه
الحيوانات. بينما الرواقيون رأوا أن الأسماء فُرضت بواسطة شخص له معرفة كاملة، مثل
الآلهة. في حين تبنى المسيحيون وفيلو السكندري النظرية الطبيعية، فيلو على طريقة
الرواقيين، إذ اعتبر أن الله وبمشاركة آدم هما مَن فرضا الأسماء، وكذلك المسيحيين.
ظهر تطبيق المسيحيين للنظرية الطبيعية على أسماء الموجودات دون اسم الله. حتى
فيلون الذي قام بتحليل الاشتقاق اللغوي ل 166 اسمًا، لم يكن من بينهم اسم الله. كما
قام آباء الكنيسة باستخدم تحليل الاشتقاق اللغوي للأسماء- كأداة تفسيرية- على
طريقة الرواقيين وعلى طريقة فيلو السكندري، لاستنباط معاني الأسماء.[16]
ننتقل إلى مستوى آخر. هل صفة ”عدم الولادة“- كما ادعى
أفنوميوس- هي مطابقة للجوهر الإلهي أم تابعة أو لاحقة له؟ استغل ق باسليوس التناقض
في كلام أفنوميوس في هذه النقطة، وبعد أن اتفق معه في أنه ”إذا كان الله لا يسبق
ذاته، ولا أي شيء يسبقه، فإن عدم الولادة تكون لاحقة له“ (1: 5). وبالتالي يرى ق
باسليوس أن صفة ”غير المولود“ تالية للجوهر وليست سابقة عليه. هذا ما يؤكده في
الكتاب الثاني من ”ضد أفنوميوس“: ”طبيعة الموجودات ليست تالية لأسمائها، لكن
الأسماء تُوجد بعد الموجودات“ ( 2: 4). من هنا نصل إلى أن ق باسليوس يرى أن ”الأولية
للطبائع، ثم البَعدية للأسماء، ومعنى هذا أن الأسماء لا تتيح لنا دخولاً إلى
الجوهر، بل تعبر عنه فقط“.[17]
ثم ننتقل إلى مستوى آخر. اعترض افنوميوس على أن تكون ”عدم
الولادة“ نوعًا من التصور الذهني conceptualization متحججًا أنها لو كانت مجرد ”مفهوم“ داخل
الذهن، وبالتالي ليس لها تعيُّن أو مِصداق خارج الذهن، فإنها كلمة ستتبدد بمجرد
النطق بها. وبحسب ق باسليوس ”فإن (أفنوميوس) يتظاهر بأنه لا يليق أن نُكرم الله
بتصورات ذهنية“ (ضد أفنوميوس 1: 5). يعارض ق باسليوس هذه الفكرة، ويقول ”ماذا لو
تنازل وأقر (أفنوميوس) بأن المفهوم يعني شيئًا ويشير لشيء، لكن هذا الشيء كاذب
تمامًا وغير موجود مثل الكائنات الخرافة التي تظهر في الأساطير؟ لو كان الأمر
كذلك، فكيف للكذبة أن تتبدد بمجرد النطق بها مع صوت اللسان، مع أن المفاهيم
الخاطئة تبقى في الذهن“ (1: 6). ومِن ثَم يدافع ق باسليوس على أن ليس كل التصورات
الذهنية كاذبة، بل في النهاية تشير إلى فكرة ما، وبالتالي فإن تعبير ”غير المولود“
مثل مصطلحات أخرى مثل ”غير الفاني“، و”غير المائت“، و”غير المرئي“، وهو تعبير لا
يشذ عن هذه المصطلحات: ”فهو ينتسب إلى هذا النموذج وهذه الصياغة“ (1: 9)، و”غير
المولود“ يعني ”ما لا وجود له في الله“ (1: 10)، أي أن الله لم يأتِ عن طريق
الولادة، فهو بلا علة، أو غير معلول، أو بمعنى آخر موجود بذاته.
خاتمة
بعد كل هذا التحليل الفلسفي الذي انخرط فيه الآباء،
طالما أن خصومهم استخدموا المعارف الفلسفية في مهاجمة الحق، نجد الروح المتواضعة
لديهم، التي تتحلى بالطابع العملي. خلاصة الأمر يدلنا عليها ق يوحنا ذهبي الفم ”إن
الكفر.. يقوم إذن لا على جهل ما هو الله في جوهره، وإنما على جهل أن الله موجود،
كذلك يكفي التقوى أن تعرف أن الله موجود“.[18]
ونفس الشيء يؤكده ق باسليوس: ”إن البحث في ماهية جوهر الله، لن يخلصنا، بل الإيمان
بوجوده والاعتراف بذلك“ (ضد أفنوميوس 1: 14). ربما تظهر في هذا الموضوع تعقيدات
فلسفية، خاصة فيما يتعلق بفلسفة اللغة ومعاني الأسماء، لكن ما أبهرني هو انخراط
الآباء في هذه المسائل دون الإخلال بالجانب العملي الذي نحتاجه، ألا هو الإيمان
بالله وقبول خلاصه.
[1] ق هيلاري أسقف بواتييه، عن الثالوث، ترجمة راهب
من دير الأنبا أنطونيوس، دير الأنبا أنطونيوس البحر الأحمر، ص 240- 241.
[2] نفس المرجع السابق، ص 306.
[3] ق كيرلس السكندري، حوار حول
الثالوث، ترجمة د جوزيف موريس فلتس، ص 53.
[4] De Mutatione, 14- 15.
[5] القديس يوستينوس الشهيد والفيلسوف، ترجمة آمال فؤاد، القاهرة، بناريون، ص 88.
[6] نفس المرجع السابق، ص 111.
[7] نفس المرجع السابق.
[8] نفس المرجع السابق، ص 112.
[9] ق إكليمندس السكندري، المتفرقات، ترجمة الأب
بولا ساويرس، ص 918- 919.
[10] Barry D. Smith, The Indescribable God: Otherness
in Christian Theology, PickWick Publiacations, p. 61.
[11] ق غريغوريوس النزيانزي، العظات اللاهوتية الخمس، المكتبة
البولسية، لبنان، ص 125.
[12] نفس المرجع السابق، ص 126.
[13] الحوار حول الثالوث، ص 50.
[14] نفس المرجع السابق، ص 51.
[15] ديرك جيرارتس، علم الدلالة
المعجمي، الأكاديمية الحديثة للكتاب الجامعي، القاهرة، 2012، ص 22- 23.
[16] Mark DelCogliano, Basil of Caesarea’s
Anti-Eunomian Theory of Names, p. 50-51, 87.
[17] Ibid, p. 150.
[18] ق يوحنا ذهبي الفم، في أن الله لا يمكن إدراكه،
ترجمة جورج خوام، المكتبة البولسية، لبنان، ص 155.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق