الخميس، 3 ديسمبر 2020

رحلتي مع الثالوث- 29

 

في هذه المحطة سنلتقي مع بعض الكُتاب الغربيين، منهم مثلاً كارل رانر Karl Rahner ، وهو لاهوتي ألماني من اليسوعيين عاش بين ( 1904- 1984). يرى رانر أن الثالوث ”سر مطلق“ فهو من أسرار الدين الذي يُعرف فقط لأن الله أعلنه، ولو لم يُعلن ما كان عُرف على الإطلاق.  كما يرى رانر أن مفهوم ”الشخص person قد تعرض للتغيير عن المعنى المقصود له (الأقنوم) بحسب التعريف الكلاسيكي القديم.. وأصبح يعني ”مركز متمايز للوعي. والله لديه مركز واحد للوعي في الألوهة.. وبالتالي عبارة "three persons" قد تُفهم بأننا نعبد 3 آلهة..  لذلك هتلاقيه بيستخدم تعبير تاني هو (Three relative ways of existing) أو ثلاث طرق نسبية للوجود..  وده يشبه تعبير للاهوتي آخر هو كارل بارث (three ways of being) أو ثلاث طرق للكينونة. لكن الخوف أن هذه التعبيرات شبيهة بالسابلية، وإن كان من المؤكد أن رانر يدرك الفارق.

نأتي للاهوتي مهم هو توماس إف تورانس (1913- 2007) وهو لاهوتي بروستانتي أسكوتلاندي.. نقدر نقول عليه من أهم اللاهوتيين في القرن العشرين..  وكان ليه دور كبير في صياغة اتفاق بين الكنائس الإنجيلية المصلحة والكنيسة الأرثوذكسية الشرقية حول عقيدة الثالوث سنة 1991. لذلك من أهم كتبه (The Trinitarian Faith) واللي ترجمته دار نشر بناريون تحت عنوان ”الإيمان بالثالوث. توماس تورانس يبان أنه ضليع وملم بالكتابات الآبائية، وبيستلهم أفكاره ويصيغ منها أفكاره .. ومثال على كده فيما يختص بالثالوث ما يلي: يقول تورانس إن ق أثناسيوس بيعلمنا أنه ”أكثر تقوى وحق أن نتعرف على الله من خلال الابن وندعوه الآب- من أن نسميه من خلال أعماله فقط وندعوه غير المخلوق“. نتذكر أن أفنوميوس، كان مركز على تسمية الله ”غير المولود“ لأغراض أخرى خبيثة.  

لكن تورانس بيقول إن معرفة الله عن طريق الابن- هي طريقة إيجابية أو ثبوتية (via positiva). أمّا معرفة الله عن طريق مخلوقاته- طرقة سلبية أو نفي (via negativa). لأننا بنعرف من الخليقة إن الله مختلف ومفارق للخليقة- يعني مش زي الخليقة. ويقول تورانس إن الآباء رفضوا فكر باسليدس الغنوصي اللي علّم بأننا منقدرش نقول شيء ثبوتي عن الله لكن الكلام عن الله بالنفي فقط.. (عير مفحوص/ غير زمني/ غير محدود/ غير مبتدئ/ ... إلخ). ويستشهد تورانس ب ق غريوغوريوس النزيانزي اللي قال إنه لو مش هنقدر نقول شيء إيجابي / ثبوتي عن الله يبقى أي كلام سلبي أو نفي هيكون غير دقيق..  وبالتالي يصل تورانس إلى نتيجة أننا علشان نمتحن ونضبط مفاهيمنا عن الله لازم نبدأ من نقطة ما ”داخل الله“ (الابن) مش من نقطة ”خارج الله“ (الخليقة).

نأتي للاهوتي آخر، وهو آر سي سبرول، واللي توفى (2017 م)، واللي قدم 6 محاضرات قصيرة عن سر الثالوث، واللي في الحلقة الأولى بيستنكر أحد أساتذة الفلسفة اللي بيقول إن في تناقض في الثالوث. فبيشرح أن أحد قوانين المنطق وهو ”قانون عدم التناقض“ اللي بيقول: (أ) لا يمكن أنها تكون (ب) و( لا ب) في نفس الوقت وبنفس العلاقة. فالثالوث هو واحد في نفس الوقت لكن مش بنفس العلاقة لأننا نقول ”واحد في الجوهر مثلث الأقانيم“، ولا نقول واحد في الجوهر ومثلث في الجوهر.  


ثم تحدث عما يسمى بالإعلان المتدرج Progressive Revelation وده موجود عند غريغوريوس النزيانزي في عظاته اللاهوتية (لم يذكر هذا)، وأنه في نوع من التوسع في الإعلان عن الله وليس تصحيح إعلانات سابقة.. ثم يشرح كيف نشأت مدرسة في القرن التاسع عشر في فلسفة التاريخ متأثرة بفكرة هيجل عن ”تطور التاريخ“ مع الهوجة اللي أحدثتها النظرية الداروينية في مجال البيولوجية.. اللي خلت بعض الناس تقول إن العهد القديم مكنش فيه مفهوم وحدانية الله Monotheism إلا في وقت متأخر.. (ربما زمن كتابة سفر أشعيا أو ما بعد السبي)، وأنه وفق نظرية تطور التاريخ الديني حدث تطور في المفهوم عن الله من الأبسط إلى الأعقد على النحو التالي:  1- الأرواحية أو الإحيائية Animism  وبتقول إن حتى الجماد أو الحيوان في روح إلهية.. وقالوا خطأً أن إبراهيم كان بيكلم الملائكة في أشجار البلوط، والحية بتتكلم وحمار بلعام اللي بيتكلم،  كل ده بيأكد هذا المذهب المزعوم ده. 2- تعدد الآلهة Polytheism  وده ظهر عند المصريين والبابليين واليونان والرومان.. إله لكل شيء: الخصوبة والحرب.. إلخ. 3- التفريد Henotheism بمعنى أن كل شعب أو أمه بيختار يكون ولائه لإله واحد.. وقالوا إن يهوه إله إسرائيل كان في مقابل آلهة محلية أخرى.. 4- ثم أخيرًا التوحيد Monotheism وده بحسب زعم المدرسة دي وصل ليه اليهود في وقت متأخر..

آر سي سبرول ينتقد هذه المدرسة ويقول إن العهد القديم منذ رواية الخلق في تك 1: 1 يؤكد على التوحيد.. الإله الواحد الذي ليس له نطاق جغرافي محدود بل يملك على السماء والأرض.. وحتى لو قالوا إن إيلوهيم بصيغة الجمع إلا أنه قال النص بيعطي صيغة المفرد للأفعال لهذا اللقب.. وفي سفر الخروج كانت الوصية الأولى ”لا يكن لك آلهة أخرى أمامي“، ممكن تتفهم أن في آلهة آخرين وإن ده نوع من التفريد.. لكنه سبرول بيقول ”أمامي“ هنا غامضة لأن إله العهد القديم كلي الحضور وبالتالي الآية تدعم التوحيد.. على أن يتأكد ذلك في أسفار الأنبياء اللي كانوا بيستهزأوا بمن يعبدون الشجر (أي  animism) أو يعملوها تماثيل (أي  polytheism).

نصل إلى لاهوتي آخر معاصر، وهو الأب كاليستوس وير، واللي ليه كتاب أُعيد طبعه مؤخرًا اسمه ”الطريق الأرثوذكسي، وفي فصل عن الثالوث.. الاب كاليستوس هو أسقف انجليزي أرثوذكسي بيعرف يخاطب المجتمع الغربي بشكل جميل.. بيقول في الفصل ده إن الثالوث سر ولغز Paradox وفيه تناقض ظاهري.. حتى أن فلاديمير لوسكي بيقول إن الثالوث هو ”صليب لطريقة التفكير البشرية. وبيعرف يستشهد من شكسبير اللي قال ”إن العدد في الحب شيء منعدم“. ومن تشارلز وليامز- شاعر انجليزي برضو- إن الله لا يعيش في عزلة وجحيم حب الذات، لأن قمة حب الذات هي نهاية كل فرح وكل معنى... لذلك فالله ليس فردًا منعزلاً بل يعيش في شركة ثالوثية.


ويقول كاليستوس وير إن ”عقيدة الثالوث أبعد من أن نَدفَع بها في ركن بعيد ونعاملها كقطعة عويصة من التنظير الفلسفي الذي لا يُعنى به إلا المتخصصون، بل يجب أن يكون لعقيدة بالثالوث أثرها على حياتنا اليومية، ذلك الأثر الذي ينبغي ألا يقل عن أن يكون أثرًا ثوريًا“..  وأشار إلى من ضمن الآثار دي أننا نناضل ضد كل أشكال القهر والظلم واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان.   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق