(نُشر في دورية المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية تحت عنوان: موقف المسيحية المبكرة من الفلسفة اليونانية، تاريخ يوليو 2019)
الفلسفة
هي سعي للإجابة على سؤال: ما هو الشيء الأهم في الحياة؟ وهو أن نعرف مَن نحن
ولماذا نعيش؟[1] نشأت
الفلسفة من الفضول والخوف من الموت. الفضول أنشأ فلسفة الطبيعية؛ إذ يحاول الإنسان
دراسة الكون من حوله، أما الخوف من الموت فأنشأ فلسفة الميتافيزيقا، أو ما وراء
المادة، ليتعرف الإنسان على مصيره بعد الموت.[2] يمكننا تقسيم التاريخ الفسلفي إلى المحطات الرئيسية التالية:
1- ما قبل سقراط
ظهر الطبيعيون القدامى ليبحثوا في أصل الموجودات، فقال طاليس:
الماء هو أصل الموجودات، وقال أناكسيمنز: الهواء، وقال هيراقليطوس:
النار، وقال زينوفانيس: الماء والهواء والتراب والنار. جاء أناكسيمندر
وقال إن أصل الوجود شيء لا صورة له ولا صفات وأسماه ”أبيرون“ἄπειρον، وهنا بداية التنزيه المسيحي. وقال بارمنيدز
إن المواد السابقة متغيرة وبالتالي فانية، لذا قال إن أصل الموجودات هو الوجود
نفسه، وأضفى عليه صفات مثل أبدي وبلا بداية ولا ينقسم ولا يتغير. كان هذا نوع من
الألوهة المجردة.[3]
كما تحدث بارميندز عن العوالم المتعددة، ثم
هيراقليطوس الذي تحدث عن العقل الكوني الذي يحكم الطبيعة، وأسماه ”اللوغوس“. الرواقيون سيطورون فيما بعد فكرة اللوغوس وفكرة العوالم
المتعددة، وستجد رفضًا لفكرة العوالم المتعددة المتزامنة عند أوريجانوس في المبادئ
وضد كلسوس لأنها تبطل حرية الإرادة. فيقول أوريجانوس في ضد كلسوس الآتي: "إذا
كان هذه هو الحال، فإن حرية إرادتنا تبطل نهائيًا. لأنه خلال عدد معين من الدورات،
وبدافع الضرورة، فإن نفس الأشياء التي حدثت، تحدث، وستحدث، فمن الواضح أن سقراط
سيكرس حياته للفلسفة دائمًا.. وقضاة أريوباغوس سيحكمون عليه بالموت.. إذا قبل
المرء هذه الفكرة، فلا أعرف تمامًا كيف تُحفظ حريتنا، وكيف يمكن أن يُبرر المديح
أو اللوم.."[4]
زينوفانيس سيرفض أيضًا فكرة الأنثروبومورفيزم أو التجسيم (نسب صفات بشرية لله)، وهذه
القضية ستحتل أهمية في اللاهوت المسيحي كما في كتاب ق كيرلس ”كاتا أنثربومورفيتين“
أو ”ضد الذين يتصورون أن لله هيئة بشرية“. يقول زينوفانيس: وقال ”إن الناس هم من اخترعوا الآلهة.. وتصوروها
بمثل هيئاتهم، ولو كانت الثيران والجياد تعرف التصوير لرسمت لنا الآلهة على
أشكالها.. لا يوجد غير إله واحد هو أرفع الموجودات. كما يقول إن الأحباش يرسمون آلهتهم بأنوف فطساء،
وأهل تراقيه (شمالي اليونان) يرسمون آلهتهم زرق العيون وحُمر الشعر.[5]
ديموقريطوس: يُنسب إليه المبدأ الذري، الذرات هي الجواهر المفردة،
غير قابلة للإنقسام. كل شيء يتألف من الذرات حتى العقل والروح والنفس.. مثل ذرات
كالهباء الذي نراه في شعاع الشمس الداخل من ثقب إلى داخل الغرفة. وستجد تفنيدًا لنظرية
ديموقريطوس وليوكيبوس والرواقيين عند لاكتانتيوس في مقالته "عن غضب
الله" الفصل العاشر. ثم يأتي فيثاغورس ويقول إن رقم واحد هو أصل الكون
وعلته. ثم يأتي بعد ذلك السوفسطائيون مثل بروتاجوراس ومبدأه أن الإنسان هو
معيار كل شيء، وجورجياس وإنكار إمكانية المعرفة بالاساس. وفي خضم هذا الجو
الشكوكي الإلحادي يظهر سقراط.
2- سقراط
ظهر
سقراط في وقت مظلم من الإنحلال والنسبية الأخلاقية في عهد السوفسطائيين، وترك إلى
حد ما البحث في الطبيعيات، واهتم بغاية الإنسان ووجوده، أو لتقل أنه قرن الطبيعيات
والمنطق بالأخلاق. كان أبوه مثَّال وأمه قابلة (داية). هرع تليمذه إلى كاهنة دلفي
ليسألها: هل يوجد أحكم من سقراط؟ فقالت: كلا. لكنه لتواضعه قال: ”إني جاهل عرف جهله، أمّا سائر الناس
فجهالٌ يجهلون جهلهم.”[6]
معرفة الحقيقة عنده هي معرفة الذات.
وشعاره هو ”اعرف ذاتك“، هذا الملمح
سنجده عند كثير من آباء الكنيسة، مثل ق باسليوس، وق غريغوريوس النيصي الذي يطور
الفكرة على أساس أن معرفتنا للنفس المخلوقة على صورة الله تؤدي بنا إلى معرفة
الثالوث.[7]
كما يُنسب
إلى سقراط الطريقة السقراطية )الاستفهامية)، وكان يمارسها مع خصومه، هي تتلخص في أنه يطرح
سؤالاً، وعندما يجيبه الآخر، يسأل في إجابته مرة تلو المرة حتى يضطر الآخر
بالاعتراف بخطأ جوابه الأول. هذه الأسلوب استخدمه
الرابيون اليهود والسيد المسيح نفسه.
لاحظ الكثيرون أوجه التشابه بين سقراط والمسيح، حتى أن
الشاعر Shelley لقب سقراط ب ”مسيح اليونان“، في حين لقب
فولتير المسيح بـ ”سقراط فلسطين“ .[8] كان
كلاهما من أسرة غير ارستقراطية، كان كلاهما معلمًا متجولاً يعلِّم بلا مقابل.
كلاهما غفر لمَن قتلوه، كلاهما تعرّض للهزء والإيذاء. تعرض الأثينيون لانتقام
إلهي، مثلما تعرض اليهود لانتقام إلهي بعد قتلهم المسيح. لم يكتب المسيح سطرًا، بل
كتب عنه تلاميذه، كذلك سقراط لم يكتب سطرًا وكتب عنه أفلاطون محاوراته. لكن الجدل
الأكبر كان عن الطريقة التي مات بها كل منهما: ”لقد أصبح موت سقراط قصة أساسية
في الجدل حول أخلاقيات الديانة الوثنية بالمقارنة بالأخلاقيات المسيحية.”[9] وتحول الجدل المسيحي إلى إثبات أن الشهداء المسيحيين
يتفوقون على سقراط في موتهم.
في
القرن الرابع حدثت مناوشات كثيرة بين الوثنيين والمسيحيين؛ فأعيد فتح الموضوع
والمقارنات من جديد. القديس يوحنا ذهبي الفم (347-407م) زعم أن استشهاد المسيحيين
يفوق مشاهير الشهداء الوثنيين. وأضاف أن الشهداء المسيحيين كانوا سيجدون سهولة
بالغة في تناول الشوكران: ”لو أتيح لهم قانونيًا عند اضطهادهم أن يشربوا سم
الشوكران، لصاروا جميعًا أكثر شهرة منه. كما أنه شرب حين لم تكن لديه حرية في أن
يشرب أو لا يشرب.. كان لابد أن يجوز ذلك.. لكن الأمر مختلف تمامًا عندنا.. لأن
الشهداء ليس ضد إراداتهم قد تحملوا الألم، بل بإرادتهم، وكانوا يملكون الحرية في
أن يختاروا ألا يتألموا، وبالتالي أظهروا جلدًا أكثر صلابة من الصخر“.[10]
3- أفلاطون
هو الأقرب للاهوت المسيحي.. هو صاحب نظرية المُثل أو
الأفكار (theory of
forms). تساءل أفلاطون
من أين جاء العقل بالمطلقات.. العدل المطلق، الجمال المطلق وهكذا؟ ليس هناك نظير
لهذا في عالم الحس. فرأى بوجود حقيقة أخرى وراء عالم الحواس.. هذه الحقيقة أسماها
"الأفكار". هناك توجد المُثل الأبدية والثابتة. وبالتالي كل ما نراه هو
صورة مشوهة لصورة أخرى كاملة في العالم الآخر. ”كل الظواهر الطبيعية ليست إلا ظلال
الأفكار أو الأفكار الأبدية."[11]
أفلاطون هو صاحب أمثولة الكهف (cave analogy) ، وهي باختصار عن قوم مقيدين في كهف منذ
طفولتهم، لا يرون إلا ظلال على الحائط. بالطبع يرى هؤلاء الناس المقيدين أن هذه
الظلال هي كل ما يوجد في هذا العالم. حتى يتحرر أحدهم ويرى نور الشمس، ويرى
الموجودات على حقيقتها. يطلب أفلاطون من هذا الفيلسوف الحقيقي المتحرر أن يرجع إلى
أخوته في الكهف، ويبشرهم، لكنهم قد يقتلونه في النهاية (وهو بهذا يشير إلى سقراط
معلمه).
آمن الأفلاطونيون بأزلية المادة الأمر الذي رفضه معظم
آباء الكنيسة مؤكدين على خلق الله للعالم من العدم ex nihilo، وسنجد ذلك
على سييل المثال لدى العلامة ترتليان في رده على هرموجنيس الذي تبنى فكرة أزلية
المادة. وكان رفض ترتليان يقوم على أن القول بأزلية المادة والله، ينفي ربوبية
الله على المادة وسلطانه عليها، وفيه نفي لأزلية الله نفسه وهي الخاصية الفريدة
بالله وحده. كما يرفض أزلية المادة لأن هذا يجعل الله ضعيف وغير قادر على الخلق من
العدم، وكأن الله يحتاج إلى المادة. وإذا كانت المادة في جوهرها شر يصبح الله في هذه
الحالة مصدرًا للشر. يقول ترتليان: ”إن لم يكن هو المبدع
(للشر)، فهو متستر عليه، فبقدر كل هذا الصلاح الذي له، أبقى على الشر في المادة
قبل أن يخلق العالم“.[12]وبالتالي
إمّا إن الله كان ضعيفًا، وتعوزه القدرة، أو كان يقدر ولم يشأ.. وبالتالي ”يصير
هو نفسه شريرًا؛ لأنه استطاب الشر، وهكذا يتحمل هو نفسه عاقبة الشر“. يقول ترتليان إنه بذلك يكون الله قد أجاز
وجود الشر بالتواطؤ سواء عندما خلق العالم من المادة بإراداته أو كان مجبرًا.. في
كلا الحالتين ”يكون الله إمّا
خادمًا للشر أو صنوًا له“.[13]
4- أرسطو
تأثر
أرسطو بوالده الطبيب في تفكيره التجريبي، وولد في ستاغيرا الشهيرة بالفلاسفة،
وانتقل مع والده ليعمل في بلاط الإمبراطور، لذا سيهتم بالسياسة بعد ذلك. ثم عمل
أستاذًا للأسكندر الأكبر، وربما اختلف معه لأنه كان يرفض الفكرة الاستعمارية.
التحق بأكاديمية أفلاطون، وأطلق عليه أفلاطون "عقل المدرسة". نقد
نظرية المُثل لأفلاطون وقال: العالم المادي حقيقي وليس ظلالاً.. الصور ليست خارج
العالم بل في العالم. هل توجد مادة بلا صورة؟
نعم: الهيولى.. المادة الأولى التي صنع منها الكون، هي المادة بلا صورة. هل توجد
صورة بلا مادة؟ نعم، هو الله. الله هو الصورة الخالصة. هو صاحب "المقولات العشرة" (categories) "ما يُقال عن الموجودات"، وأهمها الجوهر والعرض. وهو ما سيدخل في مناقشات عن الاستحالة
الجوهرية في الافخارستيا.
هناك علة أولى وراء العالم المحسوس هي علة حركته، هذه
العلة سماها أرسطو ”المحرك الذي لا يتحرك“ immovable Mover)) . كيف يُحرك ولا يتحرك؟ يفسر ذلك بمثل القائد العسكري الذي
يُصدر أوامره بالتحرك والهجوم وهو جالس في مكانه. كذلك مثال العاشق والمعشوق.
العاشق (العالم) هو الذي يتحرك نحو المعشوق (الله) الذي لا يدري شيئًا عن العاشق.
الله هو المعشوق الذي لا يدري عنا شيئًا.
يُقسم
أرسطو الزمن إلى آنات الزمان (ماضي وحاضر ومستقبل). لكن حتى كلمة "الآن"
قبل أن تنطقها هي لحظة مستقبلية، وبعد أن تنطقها هي لحظة ماضية. وبالتالي رأى أن
الزمن هو أقرب إلى اللاوجود، وهذا ما سيقوله أغسطينوس في كتاب الاعترافات: ”في
الواقع، إن حقَّ لنا أن نقول إن الوقت موجود فلأنه يسير نحو اللاوجود.“ ([14]
تقول د. زينب الخضيري
إن أغسطينوس” فجر كل إشكاليات الزمن وأبرز صعوبة الوقوف عليه ببراعة
شديدة.. كاشفًا بذلك على قدرة فلسفية فائقة -حتى وإن تركها معلقة وبلا حل“.[15] كذلك تقول د. زينب الخضيري ن الزمن عند أغسطينوس هو
”الحاضر الغامض الذي يسحقه، من جهة، الماضي الذي ابتلع بلا عودة، ومن جهة أخرى
المستقبل الذي لا يمكن الحديث عنه بعد“. [16]
يُقسَّم
التاريخ إلى عصر هلليني ينتهي بموت الأسكندر الأكبر 323 ق م ليبدأ العصر
الهلينستي. ويُقسَّم تاريخ الفلسفة إلى فلسفة هللينية تنتهي بموت أرسطو 322 ق م
لتبدأ الفلسفة الهلينستية. من خصائص هذه المرحلة امتزاج الفلسفة اليونانية بفلسفات
الشرق (مصر، بابل، الهند، فارس) أو ما يسمى ب”التلفيق“. كان هذا الوقت مضطربًا
وانصرف الفلاسفة عن دراسة الطبيعيات وما وراءها وركزوا على فلسفة الأخلاق، والبحث
عن السعادة. من بين هذه المدارس الفلسفية: المدرسة الأبيقورية والرواقية ومدرسة
الفلسفة الاسكندرية أو ما يُطلق عليه ”الأفلاطونية المحدثة“.
5- الأبيقوريون
بالنسبة لفلسفة الأخلاق، قال أبيقور: من الطبيعي أن يتجه
الإنسان نحو اللذة ويبتعد عن الألم. لكنه يضع معايير للذة، فهناك: لذات طبيعية
ضرورية (الأكل- الشرب- النوم)، ولذات طبيعية غير ضرورية (الجنس- السلطة). اللذة هي غياب الألم (وفقط، وبالتالي هو لا يدعو إلى
العربدة، وإنما إلى الزهد في اللذة). لأنه أدرك ما يُسمى ب "مفارقة
اللذة" Hedonistic
Paradox وهو أن
السعي وراء اللذة يصبح مؤلمًا آجلاً أو عاجلاً. فالأمور يحتاج إلى التوازن، كيف
أحصل على أعظم قدر من اللذة بأقل قدر من الألم. في آلام الجسد، قال أبيقور: اقتصر على ما هو طبيعي
وضروري دون إفراط. وفي آلام النفس، قال العلاج يكون بالتذكر والتوقع (لو فراق حبيب
مثلاً: تذكر الأوقات السعيدة معه، أو توقع لقياه لاحقًا). وآلام الخوف من الموت،
قال ابيقور: الموت هو انعدام الحس، فمن أي شيء تخاف إذن؟ حينما يوجد الموت لن تكون
موجودًا. عن الخوف من عذاب الآلهة، قال إن الآلهة يعيشون في نعيم دائم، ولن يزيدوا
سعادة بتعذيبك. فضلاً عن أنهم لا يهتمون بنا. ولذلك نرى أن الأبيقوريون صوروا
الآلهة منعزلين تمامًا عن عالم البشر.
يدعو الأبيقوريون إلى ما يسمى ب atraxia أو الخلو من الهموم والآلام، أو الأباثيا apathia (الخلو من الانفعال). وفيما بعد انحصر مذهب أبيقور، وصارت تعاليمة منحصرة في
هذه الجملة ”لنأكل ونشرب لأننا غدًا سنفنى “.[17] قال الأبيقوريون بالصدفة أو الاتفاق وإنكار
العناية، وسنجد كثير من آباء الكنيسة يفندون فكرة إنكار العناية الإلهية. على سبيل
المثال، البابا ديونسيوس السكندري له كتاب بعنوان ”في الطبيعة“ يفند فيها هذه
المزاعم ويقول: ”لأنه لو وجد صدفة فإن الحكمة التي تديره وتدعم تركيبه البنائي من
الممكن أن تزول منه، لأن الرداء لا يتكون من أنسجة متراصة معًا بدون نسَّاج“.[18] وهكذا البناء يحتاج إلى بناء، والسفينة إلى من
يصنعها، فلا الحجارة تجتمع معًا لتشكل بناءً بالصدفة، ولا عوارض السفينة كذلك.
6- الرواقيين
يقيمون الأخلاق على الواجب وليس اللذة. يقولون بالعناية
الإلهية ولكنهم يؤمنون بالقدر. لذا ستجد كثير من آباء الكنيسة يفندون فكرة القدر،
ونادوا بالحتمية النجمية.. أي تحديد لمصائر الناس بناء على حركة الأجرام السمائية.
سنجد ق غريغوريوس النيسي يكتب مقالة بعنوان "ضد القدر" لتفنيد هذه
الفكرة. كما قاوم يوستين الشهيد القدرية الرواقية في دفاعه الثاني 7 ويقول
"أننا لا نعلّم (كما يفعل الرواقيون) بأن الإنسان يعمل ويتألم كما يملي عليه
القدر، بل نؤمن أن كل إنسان يفعل الخير أو الشر بإرادته الحرة.. وبما أن الله منذ
البدء خلق جنس الملائكة والناس ولهم إرادة حرة، فهم بعدل سوف يدفعون ثمن خطاياهم
في النار الأبدية، فالإنسان بطبيعته له إمكانية الفضيلة والرذيلة، ولن يستحق
المديح على أي عمل يعمله ما لم تكن له القدرة على أن يميل إلى أي منهما (اي الخير
والشر)".[19]
يقول الرواقيون باللوغوس المنبث في العالم. وقد طوّر بعض
آباء الكنيسة الفكرة الرواقية عن اللوغوس، مثل يوستين الشهيد، وثاؤفيلوس الأنطاكي،
وإكليمندس السكندري. ميّز الرواقيون بين اللوغوس الباطن أو الكامن endiathetos في أحشاء الله، ثم قبل الخلق صار هذا اللوغوس مُعبر عنه prophorikos. يقول بول تيليش: "لقد استخدم يوستين المذهب الرواقي القائل
بمحايثة[20]
اللوغوس وتنزيهه. فاللوغوس في الله هو اللوغوس الكامن. هذا اللوغوس الأبدي.. الذي
عبر الله به عن ذاته لذاته، يصبح مع الخلق اللوغوس المنبثق المتدفق. وفي هذه
الحالة يكون اللوغوس هو الكلمة المنطوقة إلى الخارج، إلى المخلوق، من خلال
الأنبياء والعقلاء من البشر."[21]
هذا اللوغوس المجرد في الرواقية سيصير جسدًا في المسيحية، وهذه الفكرة لم تخطر على
خيال أي فيلسوف يوناني على الإطلاق. كما استفاد الآباء بكلام فيلون السكندري عن
اللوغوس. يقول فيلون: "قال إن الله هو الوجود
المطلق، يفوق الإدراك، غير متصل بالعالم. لذا خلق "اللوغوس"، وقال أنه
الابن الأول لله، ثم العالم هو الابن الثاني لله."[22]
اعتقد الرواقيون بفكرة الاحتراق الكوني للعالم بمعنى أن
العالم سيتعرض لاحتراق كوني ينتج من بعده عالم آخر جديد وهكذا يتكرر الأمر بلا
نهاية، وكانوا يعتقدون أن الغاية من هذا الاحتراق هو التطهير. لكن ق يوستين في
دفاعه الثاني يقول: ”نحن نقول بأن العالم سوف يحترق بالنار في النهاية بهذه
الطريقة وليس كما يعتقد الرواقيون بأن كل الأشياء سوف تتغير إلى أشياء أخرى بحسب
عقيدة التحول الشائنة“.[23]
نادى الرواقيون بضبط النفس والذهن بمعنى ألا يضطرب الذهن
بالانفعالات. وبينما تخيَّل الأبيقوريون
الله خاملاً بلا حراك، ومنعزلاً تمامًا عن هذا العالم، وخاليًا تمامًا من انفعالات
الغضب أو الشفقة باعتبار أنها تتعارض مع طبيعته، اعتقد الرواقيون أن الله يمكن أن
يكون شفوقًا ولكن لا يمكن أن يغضب. من ناحية اخرى، كان لبعض العبرانيين تصور بأن
الله صارم، وأحيانًا يكون قاسيًا. ومِن ثم ظهرت صعوبات جمة أمام العقول التي تربت
على مبادئ المدارس الفكرية اليونانية، ومَن منعهم إيمانهم الجديد من رفض أي جزء من
العهد القديم. حاول الكثيرون إيجاد حل؛ فأرنوبيوس على سبيل المثال، وهو معلّم
لاكتانتيوس، تبنى بحماس فكرة اللاإنفعال أو الأباثيا (apatheia) في الله
والتي نادى بها الأبيقوريون.
بينما
أصرَّ لاكتانتيوس بأن مثل هذه النظرية هدامة للاعتقاد بالعناية الإلهية وكذلك
الاعتقاد بوجود الله نفسه. إذا كان الله موجودًا، فلا يمكن أن يكون غير فاعل (أو
عديم التأثير)، لأن الوجود الحي معناه الفاعلية (التأثير). لابد أن ينخرط في عمل
أو فعل، وهذا الفعل هو إدارة العالم.[24]
بالإشارة إلى العقيدة الرواقية، يبيّن دحض لاكتانتيوس أن محبة الخير تنبع من
كراهية الشر، وكراهية الشر تنبع من محبة الخير. ولا يمكن الفصل بين الاثنين.[25]
7- الأفلاطونية المحدثة
بدأت مع أمونيوس سقاص، وسقاس معناها حمّال، وقد ارتد عن
المسيحية، وأسس مدرسة تخرج منها أوريجانوس وأفلوطين.[26] وأفلوطين
فيلسوف مصري ولد في ليكوبوليس (أسيوط)، كان قد اشترك في حملة على بلاد الفرس حتى
يتعلم فلسفتهم، لكن الحملة فشلت فلم يرجع إلى الاسكندرية، وأسس مدرسة في بلاد
اليونان. مؤلفات
أفلوطين كتبها فرفريوس في 6 مجلدات كل مجلد يحتوي على تسعة كتب، وسميت بتاسوعات
أفلوطين.
يقول افلوطين: ”الله هو الموجود الأول. يتأمل ذاته فيعقل
ذاته (يعلم أنه موجود) فيصدر عنه (العقل الأول)، هذا العقل هو صورة الله، ولكنه
ليس الله نفسه. ويعود هذا العقل الأول فيتأمل ذاته فيصدر عنه "النفس
الكلية" التي تملأ العالم. فترجع النفس الكلية بالتأمل في العقل الأول فيفيض
منها كوائن متعددة هي نفوس الكواكب.. ثم يستمر الأمر حتى تصدر عن كل كائن كائنات
أخرى أقل شبها بالعقل الأول المطلق حتى تفيض الهيولى وهي أدنى درجات الفيض.. لأنها
مادة بلا صورة.“[27]
بشكل
عام تركز الأفلاطونية المحدثة على اللاهوت السلبي، بمعنى أن الله ماهية يتعذر
وصفها بأي من الأوصاف الإثباتية.[28]هذا
اللاهوت السلبي يُسمى الأبوفاتي، ويقصد بالأوصاف الإثباتية اللاهوتي الإيجابي أو
الكتافاتي. وسيحتل هذا الأمر ملمح رئيسي عند كثير من الآباء مثل غريغوريوس النيسي
وغريغوريوس النزيانزي وآخرين. فعلى سبيل المثال يقول ق هيلاري أسقف بواتيه عن
اللاهوت الابوفاتي: "لكن الله أضعف من أن تخبرنا بما هو الله، والكلمات لا
يمكنها أن تعبر عن الحقيقة".[29]
يسمي
أفلوطين "المطلق"، و"العقل الكلي"، و"النفس الكلية"
بالأقانيم الثلاثة. المطلق هو الله
(ولا يستخدم كلمة الله).. هو الواحد الذي ليس له أي صورة، ومن فرط كماله يفيض
بوجوده على الموجودات. العقل الكلي هو
لوغوس المطلق، والنفس الكلية هي لوغوس العقل الكلي.
يشرح بول تيليش أن الأفلاطونية المحدثة أثرت على
أوريجانوس وعلى ديونيسيوس الأريوباغي، وفي التصوف المسيحي بأكمله. ويقول تيليش:
"من المستحيل أن تفهم التطور اللاحق الذي طرأ على اللاهوت المسيحي بدون معرفة شيء عن الأفلاطونية المحدثة".[30]
وربما أهم فكرة من الأفلاطونية هي أن الشر ليس قوة إيجابية بل هو نفي لما هو روحي.
الشر هو العدم أو اللاوجود، وهذا ما اتفق معه أغسطينوس فيما بعد في مقاومة
المانوية التي اعتقدت أن الشر مصدره الله.
خاتمة:
برى ق إكليمندس السكندري أن "الفلسفة هي البحث
الحثيث في الحق وطبيعة الأشياء"، ويصف الفلسفة مثل فيلو السكندري بأنها
الملكة ويقول: "هناك من الرجال من فتنوا بصحبة الوصيفات وتركوا صحبة الملكة
اي الفلسفة".[31]
بينما رأى غريغوريوس النيسي أن هذه الملكة عقيمة لأنها في مخاض دائم ولا تلد
الفضيلة: أي المسيح. ويشبه الفلسفة بابنة فرعون العقيمة، ويقول: "تلك هي
التربية الدنيوية التي تحبل دائمًا ولا تلد أبدًا. يا للثمرة التي تنتجها الفسلفة
بعد حبل طويل!"[32]
[3]
يقول بول تيليش إن الصفات اللي أعطاها بارمنيدز للوجود أعطيت في
المسيحية لله. تاريخ الفكر المسيحي، ج1 صفحة 77.
[5]
يعلق د جورج عوض في مقدمة كتاب ق كيرلس مستشهدًا بهذا الاقتباس أن الفرق
بين التجسم اليوناني والتجسيم الكتابي هو أن الأول أبطل الفارق الجوهري بين الخالق
والمخلوق.
[8] Emily
Wilson, Death of Socrates, 2007, 141.
[17]
تاريخ الفلسفة، حنا أسعد، صفحة 107، ونلاحظ أنها ذاتها عبارة
الرسول بولس في كورنثوس الأولى 15: 32.
[19]
نفس المرجع السابق، صفحة 113.
[20]
المحايثة imminence هي عكس التنزيه transcendence الذي يعبر عن سمو الله وتعاليه على كل ما هو مخلوق، بينما
المحايثة تعبر عن اتصال الله بالعالم عن طريق أعمال عنايته.
[29]
هيلاري أسقف بواتيه، عن الثالوث الكتاب الثاني، فقرة 7.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق