الثلاثاء، 13 أبريل 2021

دفاع الصفات في الميزان- ج 3

 

4- هل ثمة اتصال بالحقبة الآبائية؟

الاتصال بالحقبة الآبائية يظهر في حفاظ اللاهوتيين العرب على شرح الخواص الأقنومية بـ الأبوة والبنوة والانبثاق (الانبعاث)، الذي يتفق تحديدًا مع شرح الآباء الكبادوك كما سنرى لاحقًا. لكن إذا نظرنا إلى مضمون عبارة ”الله موجود بذاته، ناطق بكلمته، حي بروحه“، وهل هذا المضمون خطأ برمته أم به شيء من الصواب، سنجد أن وصف الأقنوم الثاني بالنطق، وأنه نطق الله، يمتد بجذوره إلى القرن الثاني الميلادي.

فنجد العلامة ترتليانوس الأفريقي، الذي له إسهامات عظيمة في شرح الثالوث، يقول: ”لأن الله عاقل، والعقل كان فيه من البداية... هذه الحكمة هو فكره الذاتي، الذي يدعوه اليونانيون اللوغوس، ونحن نترجمها إلى الكلمة أو النطق“.[1] ثم يقول ”عندما تتكلم، فأنت تنطق بما قد تحدثت به إلى نفسك.. وهكذا تكون الكلمة بمفهموم ما هي مُخاطب second person داخلك، وهذا الكلام ينطبق على الله، الذي له عقل داخله... وكلمته متغلغل في عقله هذا، ومن هذا أقول... أنه حتى قبل خلق الكون لم يكن الله بمفرده، إذ كان له في ذاته عقل، ومتأصل في هذا العقل كلمته“.[2]

كما نجد يوستين الشهيد، أحد الآباء المدافعين، يقول عن ولادة الابن ”عندما ننطق بكلمة نستطيع أن نقول إننا نلد الكلمة“.[3] والبابا ألكسندروس يرد على أريوس قائلاً: ”إذا كان الابن هو كلمة الله وحكمته وعقله، فكيف وجد زمن لم يوجد فيه؟ هذا كمَن يقول بأنه وجد زمن كان فيه الله بلا عقل وحكمة“.[4]

لكن د بباوي يقول ”كيف يولد الابن من ذات جوهر الآب إذا كان هذا الجوهر لا يملك صفة العقل؛ لأن صفة العقل -حسب شرحكم- خاصة بالابن؟[5] هذا ليس شرحنا، بل شرح الآباء أيضًا، ولم يقل أحد إن الآب غير عاقل، حاشا! بل نقول إنه عاقل بالابن. ثم يقول في موضع آخر إننا بهذا الشرح نجعل التجسد ”إخلاءً للعقل“ وبولس لم يقل ”أخلى عقله“! فكيف تحقق التجسد؟ والسؤال هو: مَن قال إنه في التجسد صار الآب بلا عقل، أو انفصل الابن عن الآب أصلاً، أو انفصل العقل عن الآب؟ هذا افتراء.

يفترض د جورج أن مَن يقول إن الابن هو عقل الله أو نطق الله أن الله الآب بلا عقل وأخرس بلا نطق. لكن هذا الافتراض صحيح فقط إذا سمحنا بوجود انفصال بين الآب والابن. فالآب يلد الابن سرمديًا، وولادة الله بحسب هذا الشرح هي نطقه، ونطقه سرمدي. وقد رأى الآباء منذ البدايات أن الفكر والنطق هو أفضل تشبيه لولادة الابن. وكما رأينا من غير المتصور أن الآباء الذين وصفوا الابن بأنه عقل/ نطق/ حكمة الله كانوا يرون الآب بلا عقل وبلا نطق وبلا حكمة. وهل يمكننا بنفس القياس أن نتهم الرسول بولس نفسه عندما وصف المسيح بـ”قُوَّةِ اللهِ وَحِكْمَةِ اللهِ“ (1كو 1: 24) أنه كان يفترض في الآب أنه بلا قوة وبلا حكمة؟ مَن يقبل أو يصدق هذا؟ إذن عبارة أن الآب عاقل أو ناطق بالابن ليست خاطئة، وقد استخدمها الآباء في القرون الخمسة الأولى بعكس ما قاله د بباوي في كتابه.

5- آخرون استخدموا نفس العبارة

القارئ لكتاب د جورج يفهم بسهولة أنه يقصد في نقده المتنيح البابا شنودة الثالث، لأن البابا شنودة كثيرًا ما استخدم هذه العبارة، لكن البابا شنودة الثالث لم يكن أول مَن استخدمها في شرح الثالوث. فالأنبا ساويرس بن المقفع، أسقف الأشمونين (ق 10) يشرح أن الله ناطق، ونطقه غير مستحيل (متغيّر) بل أزلي، كقوام ذاته، لذا ”فالآب قائم بذاته، ناطق بابنه، حي بروحه“.[6] فهل يمكن اتهام الانبا ساويرس بالسابلية وإنكار التجسُّد والخلاص؟! لندعه يجيب عن نفسه: ”الثالوث القدوس ليس هو جوهر واحد فقط، بل روح واحد أيضًا، وإذا كان روحًا واحدًا فحياته واحدة وقوته واحدة وفعله واحد، ويجوز أن يُسمى كل واحد من أقانيمه إلهًا حقًا، وليس هم ثلاثة آلهة... وذلك إنّا قد علمنا أن الآب حي ناطق، وكذلك إذا ذكرنا الابن نعلم أنه حي ناطق... ولسنا نعتقد أن لكل واحد منهم كلمةً وروحًا ينطق بها ويحيا دون الآخر، لأنهم لو كانوا كذلك لم ندعهم ثلاث خواص، بل تسعًا، ولكننا نحقق ونؤمن أن هذه الثلاث خواص قائمة ناطقة حية بعضها ببعض غير محتاجة إلى غيرها“.[7]


الأنبا ساويرس هنا يرد على د بباوي، ويقول له إن كل أقنوم هو الله وليسوا صفات مجردة. وإذا أراد  د جورج أن يجعل للآب كلمة أو عقل وروح أو حياة مستقلين عن الآب، فهل نتحدث هنا عن 9 أقانيم؟! الأنبا ساويرس يقول لدكتور جورج ”هذه الثلاث خواص/ أقانيم قائمة ناطقة حية بعضها ببعض غير محتاجة إلى غيرها“.

يريد د جورج أن يكون الآب عاقلاً حيًا بمفرده، والابن عاقلاً حيًا بمفرده، والروح القدس عاقلاً حيًا بمفرده. ولو أسأت الظن به لقلت إنه ينادي بثلاثة آلهةTritheism .  لم يقل اللاهوتيون العرب بأن المسيح وجَّه صلاته لآب بلا عقل كما يقول د بباوي،[8]ولم يقولوا إن الآب أرسل عقله إلى العالم وصار هو بلا عقل، ولم يقولوا بتجسُّد الصفة بل بتجسُّد الإله، وكذلك لم يقل البابا شنودة الثالث مثل هذه الترهات. يتهم د جورج علماء العصور الوسطى، هكذا بالإجماع، بأنهم أثبتوا توحيد سابليوس وليس توحيد المسيحية.[9] وهذا اتهام خاطئ وخطير، لم يكن يصح أن يصدر من شخص لا يكف عن تكرار أنه عانى من مرارة الاتهامات المريرة بالهرطقة.

نأتي لعالم وأسقف جليل آخر من العصور الوسطى، وهو الأنبا بولس البوشي، والذي طالما نفتخر أنه نهل من الآباء، فهو يقول: ”فإن قلتم فيما وصفتم به الله من أنه حي متكلم: إنما اشتقت له اشتقاقًا من أجل فعله، لمّا أحدث البَرية بالفعل. يقال هل يجوز أن يقال: إن الله قد كان بلا حياة له ولا علم، حتى صار إذًا الحياة والكلمة لديه موجودين؟ وهذا محال من الكلام أن يُقال إن الله كان طرفة عين خُلوًا من حياة وكلمة! لأنه حي متكلم لم يزل.“[10] من الواضح أن البوشي لا يقول إن الله بلا حياة وبلا كلمة، وهو يقول إن هذه الصفات غير مفترقة. ويقول ”لأنه لو كان الله غير متكلم، ولا حي، لكنّا نحن أفضل منه لأنَّا متكلمين أحياء“.[11]

يتبع البوشي في نفس الوقت الآباء في الكلام عن ثلاث صفات أقنومية، هي الأبوة والولادة والانبثاق. وذلك في نفس المقالة الواحدة، ولا يجد تعارضًا بين الاثنين: الشرح بالصفات والشرح التقليدي الآبائي. لا يجد البوشي غضاضة بين الاثنين. ليست الطريقة الأولى سابيلية أضاعت الإيمان كله في مقابل الطريقة الأخرى الصحيحة وحدها من وجهة نظر د جورج، الذي لا يكف عن قول إن القائلين بهذه العبارة الآن، وقائلوها في العصر الوسيط، قد أثبتوا توحيد سابيليوس وليس توحيد المسيحية. وهذا فيه تجنٍّ وسوء ظن، وترصد، وعدم اتباع لمبدأ الإحسان كما شرحنا في البداية.

يُتبع

 



[1] ترتليانوس الأفريقي، ضد براكسياس 5، ترجمة أمجد رفعت، مدرسة الأسكندرية، ص 90.  

[2] ترتليانوس، ضد براكسياس 5، ص 91.  

[3]  يوستين الشهيد والفيلسوف، الحوار مع تريفون اليهودي 61، ترجمة آمال فؤاد، بناريون للنشر، ص 216.

[4]  https://www.newadvent.org/fathers/0622.htm .

[5]  د بباوي، الثالوث، ص 12.

[6]  ساويرس بن المقفع، الدر الثمين في إيضاح الدين، إصدار أبناء البابا كيرلس، ص 24.

[7]  ابن المقفع، الدر الثمين، ص 24

[8]  د بباوي، الثالوث، ص 24.

[9]  د بباوي، الثالوث، ص 33.

[10]  الأنبا بولس البوشي، مقالة في التثليث والتجسد وصحة المسيحية، تحقيق الأب سمير خليل، لبنان، 1983، ص 144- 145.

[11]  البوشي، مقالة في التثليث، ص 161.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق