الأربعاء، 14 أبريل 2021

دفاع الصفات في الميزان - ج 4

 

6- استراتيجيات ثلاث لشرح الثالوث

اعتاد الكثيرون من اللاهوتيين العرب عرض أكثر من طريقة لشرح الثالوث، وليس فقط الصفات الثلاثة (الذات والعقل والحياة). فكثير منهم أورد الخواص الأقنومية متبعًا الشرح الآبائي وهي الأبوة والبنوة والانبثاق (أو الانبعاث). ثم الطريقة الثانية هي الطريقة الفلسفية التي يُعبر عنها بعبارة ”عقل وعاقل ومعقول“. الطريقة الثالثة هي طريقة بحسب المتكلمين المتقدمين، الذين حددوا الصفات الذاتية: الجود والعقل والحياة.

الطريقة الأولى تبرز الاتصال بالتقليد الآبائي، والثاني نتيجة التفاعل الفلسفي في زمانه، والثالث نتيجة للتفاعل مع السياق الإسلامي، والكلام عن إنكار الصفات كما أسلفنا. مزج اللاهوتيون العرب الاستراتيجيات الثلاث وهم يعون جيدًا السابيلية ويتجنبونها بوضوح في شروحاتهم. هذا الأمر يوضحه لنا شمس الرئاسة ابن كبر الذي يشرح أن بيان تثليث الأقانيم إمَّا من الآيات الكتابية أو من أقول الحكماء الذين وصفوا الثالوث بالعقل والعاقل والمعقول،[1] ويقدم مقالة لشرح هذه العبارة، ثم من أقوال المتكلمين وسماهم الأصوليين الذين شرحوا الثالوث بأنه حي وقادر وعليم.[2]

جدير بالذكر أن وصف ”العقل والعاقل والمعقول“ يُنسب لأرسطو، وقال به ابن سينا، فاستغله اللاهوتيون العرب. والسؤال: لماذا؟ لأن العبارة تدلل بشكل غير مباشر على أن وحدانية الله وحدانية جامعة وليست وحدانية مصمتة، والأمر مستمد أيضًا من السياق، إذ يقول عوض سمعان إن الإمام الغزالي يقول ”مَن ذهب إلى أن الله لا يعقل نفسه، إنما خاف من لزوم الكثرة“.[3]

والآن لنتعرض لأمثلة أكثر على التنوع في استراتيجيات شرح الثالوث، ولنبدأ من موسوعة المؤتمن ابن العسال ”مجموع أصول الدين“، فقد أورد فيها الكثير من الدفوع التي قدمها علماء مسيحيون عن الثالوث. في مقالة لابن الطيب يقول فيها ”وذات الباري (تعالى) أوصافها ثلاثة، لا زائد ولا ناقص: أبوة وبنوة وانبعاث“.[4] وفي مقالة صنفها الشيخ عيسى بن يحيى الجرجاني يؤكد فيها أن الله جوهر قديم أزلي ”ليس هو في موضوع ولا يقبل العرض..“، ثم يقول إن الجوهر الواحد ”موصوف بصفات ثلاث ذاتية قديمة شرعية، ويعبر عنها بالخواص، وهذه الخواص يعبر عنها بالأبوة والبنوة والانبعاث“. ثم يسرد الشرح الفلسفي ”عقل وعاقل ومعقول“ وكذلك ”جواد وحكيم وقادر“.[5]

ثم يقول المؤتمن أننا نصف وحدة الثالوث بصفات ثلاث ”آب وابن وروح قدس، أي عقل وعاقل ومعقول، كما وصفه فلاسفة اليونان: أرسطو وأفلاطون وسقراط“.[6]والجدير بالانتباه أن هذا الشرح وجد طريقه إلى رسائل السيندويقا، فنقرأ في رسالة البابا قزمان، البابا الثامن والخمسين، إلى الأنبا يوحنا الأنطاكي، إدانة واضحة لسابيليوس ومقدونيوس، ثم في رسالة لنفس البطريرك يؤكد على وحدة الثلاثة أقانيم ويستشهد بأفلاطون في كتابه إلى تيماوس الذي يصف فيه الله ب ”العلة الأولية هي الجود بالرأفة... والثانية هي العقل الخالق... والعلة الثالثة هي العلة المحيية للنفس..“.[7]

ولم يُتهم هذا البطريرك بالسابلية! وفي نفس الرسائل نجد استشهادًا بالفيلسوف فرفوريوس (بورفيري) الصوري في مسألة تتعلق باتحاد الطبيعتين،[8] ونجد ذكرًا لفرفريوس أيضًا في موسوعة المؤتمن يشرح عبارة العقل والعاقل والمعقول من أرسطو والأسكندر (الأفروديسي) ثم يحيى بن عدي. ثم يذكر الصفات الشرعية: الأبوة والبنوة والانبعاث. ثم أورد وصف ”علماء الدين وأئمته“ بالصفات ”الجود والحكمة والقدرة“، ثم يشرح من فرفوريوس الصوري ما يؤكد هذه الصفات فهو جواد لا يعترض الشر إحكام صنعته، وهو حكيم لا يعوقه الجهل، وهو قادر لا يعتريه الضعف.[9] ولمَ لا يمزج الآباء في هذه الحقبة كل العناصر الممكنة التي تتيحها ثقافتهم لخدمة شرح العقيدة، وبالأخص طالما أن الآخرين حاربوا العقيدة على نفس الأرضية، وهي الشرح الأرسطي والأفلوطيني والفلسفي بشكل عام.


وفي العصر الحديث نجد الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي، والذي أظن أن  د جورج يعتز به، يستخدم نفس الشرح مَحل الجدل. فيرد على سؤال من أحد القراء يتضمن اعتراض د جورج بالضبط تقريبًا، ويقول ”الله وجود عاقل حي، أو هو ذات حية ناطقة، أو هو كائن بذاته، حي بروحه، ناطق بكلمته، فالوجود والنطق (العقل) والحياة صفات ذاتية“.[10] ويشرح الأنبا غريغوريوس أن الصفات الذاتية ”قائمة في الله قيامًا ذاتيًا لا عَرضيًا... فلو انعدمت صفة الوجود عن الله لم يعد بعد إلهًا، ولو انعدمت صفة العقل، فلا يمكن أن يُعد إلهًا من لا عقل له؛ إذ أن الله هو العقل الأعظم وعلة جميع العقول، ولو انعدمت صفة الحياة عن الله، لما أمكن أن يُحسب إلهًا“.[11] ثم يشرح أيضًا ”ليس صحيحًا أن للكلمة ذاتًا وروحًا، وإنما الصحيح أن الكلمة هو العقل، قائم أو كائن في الذات حي بالروح“.[12] ونحن نقول إن الابن والروح كائنان بالآب حتى نتجنب تعدد الذوات، الأمر الذي ينفي التوحيد عن المسيحية.

7- قياس النفس أو الإنسان

كثير من الآباء اتخذوا الإنسان نموذجًا لشرح الثالوث، من بينهم ق غريغوريوس النيسي في مقالته ”خلق الإنسان على صورة الله“، وتشبيه ولادة النفس للكلمة كتشبيه لولادة الآب لكلمته. وكذلك العلامة ترتليان في ”ضد براكسياس“، وق أغسطينوس أحب تشبيه الثالوث بالنفس البشرية. لكن د جورج يهزأ بأحد الإكليروس الذي يشرح الثالوث بقوله ”أنا حليت المسألة بمخي“، ويميز بين مكونات معينة في الإنسان الواحد. والحقيقة إن كل التشبيهات التي استخدمها الآباء تحتوي على أخطاء لا يصح نسبها للثالوث القدوس، لكنهم استخدموها كوسيلة لتقريب المعنى، وخاصة للبسطاء. كما أن معظم التشبيهات التي نستخدمها تحاول أن تثبت التوحيد أكثر مما تثبت التثليث. وهذا أمر بديهي لأن المناخ الذي نعيش فيه يتهمنا باستمرار بتعدد الآلهة، لذا صار لزامًا علينا أن نثبت التوحيد.

من الصعوبة الشديدة أن نطلب من الجميع أن يشرحوا الثالوث بتشبيهات معينة دون أن يخطأوا في شيء، أو يجنحوا يمينًا أو يسارًا. حتى إننا نجد ق غريغوريوس النزيانزي وهو يجد صعوبة في استخدام أية تشبيهات عن الثالوث ويقول ”لم أعرف كيف وبأي شيء من الأشياء الأرضية أستطيع أن أشبه الطبيعة الإلهية. حتى لو وجدت بعض التشابه، فإن القسم الأكبر يفوتني“،[13] وينتقد تشبيهات مثل الينبوع والنهر والشمس والشعاع، وهي تشبيهات استخدمها الآباء بكثرة. فوجب التماس العذر خاصة وأن صاحب تشبيه ”حليت المسألة بمخي“ يثبت الوحدانية، وليس التثليث، من خلال الإنسان.

يُتبع



[1] يشرح ابن المكين في موسوعته المعروفة بالحاوي أن الله هو خالق العقول، والعقول من جملة مخلوقاته، فسموه ”عقلاً مجردًا.. فهذا العقل عاقل لذاته. وذاته معقوله له“ (ابن المكين، الموسوعة اللاهوتية الشهيرة بالحاوي، دير المحرق، ج2، ص 234).

[2]  ابو البركات بن كبر، مصباح الظلمة في إيضاح الحكمة، ص 10، 11.

[3] عوض سمعان، الله: وحدانية ثالوثه وثالوث وحدانيته، مكتبة الأخوة، شبرا مصر، ص 12.

[4]  المؤتمن بن العسال، مجموع أصول الدين، ص 275.

[5]  المؤتمن، مجمول أصول الدين، ص 294.

[6]  المؤتمن، مجمول أصول الدين، ص 312.

[7]  اعتراف الآباء، دير المحرق، ص 294.

[8]  اعتراف الآباء، ص ص367.

[9]  المؤتمن بن العسال، مجموع أصول الدين، ص 375- 377.

[10] الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي، اللاهوت العقيدي ج1 لاهوت السيد المسيح، ص 580.

[11] غريغوريوس أسقف البحث العلمي، اللاهوت العقيدي ج1، ص 580.

[12] غريغوريوس أسقف البحث العلمي، اللاهوت العقيدي ج1، ص 581.

[13] ق غريغوريوس النزيانزي، الخطب اللاهوتية، منشورات المكتبة البولسية، لبنان، ص 168، 169.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق