الثلاثاء، 13 أبريل 2021

دفاع الصفات في الميزان- ج 1

 

قراءة نقدية لكتاب

”الثالوث: هل هو صفات الوجود والعقل والحياة“

 للدكتور جورج حبيب بباوي

  


1- خلفية الموضوع

يتهم د جورج حبيب بباوي، في كتابه ”الثالوث“[1] الذين يعظون بعبارة ”الله موجود بذاته، ناطق بكلمته، حي بروحه“ بالهرطقة السابيلية، قائلاً بإن هذا الشرح لا نجده في كتابات الآباء في القرون الخمسة الأولى. ثم يسرد النتائج المترتبة على وصف الثالوث بصفات ”الوجود والعقل والحياة“، بأن هذا الشرح يحوِّل الله إلى مخلوق أو وثن! ويقضي على عقيدة التجسُّد؛ لأن الصفة لا تتجسَّد، ويقضي كذلك على عطية التبني، ويقضي على عمل الروح القدس سواء في الخلاص أو الأسرار؛ لأن الصفة لا تحل ولا تسكن ولا تقدس المياه. ثم بعد ذلك تسقط محبة الثالوث لنا، لأن الله المحب لا يرسل صفة من صفاته بل يرسل ابنه.[2] بالطبع بعد جملة هذه التهم لم يتبقَ شيئًا من المسيحية بعد ضياع التجسُّد والخلاص! فهل هذا عرضٌ صادقٌ لطبيعة الأمور؟

هدفي في هذه الورقة أن أبيِّن أن عدم مراعاة ”مبدأ الإحسان(The principle of charity)، لابد وأن يوصلنا إلى هذه النتيجة. وهذا المبدأ باختصار يقول إذا أمكن أن يؤخذ كلام خصمك على أكثر من وجه وأكثر من معنى، فإن الفيلسوف الحقيقي الذي يبحث عن الحق، سيحاول أن يأخد المعنى أو الوجه الأقوى في كلام خصمه. ثم يوجِّه نقده لهذا الوجه تحديدًا. لكنه إذا أخذ الجانب الضعيف من حُجة خصمه، وانهال عليها بالنقد والتسخيف، فإنه بذلك يصنع فزاعة strawman، ناهيك عن أن الفيلسوف الحقيقي لابد أن يطبق على كلامه هو نفس نوعية الاعتراضات التي يطبقها على كلام خصومه. وإذا لم يفعل الفيلسوف الحقيقي هذا يكون قد قرر ترك مسألة الحقيقة برمتها وصوَّب سهامه نحو تشويه خصمه بكل الوسائل الممكنة.[3]

لذا سأحاول أن أبيِّن في أي سياق وصف بعض اللاهوتيين الثالوث بهذه العبارة، حتى نفهم الخلفيات السياقية، والأسباب التي دعت اللاهوتيين العرب إلى استخدام ما يُسمى ب ”دفاع الصفات“ (Attribute Apology)، أي وصف الثالوث بصفات ثلاث، اختلفت في بعض الأحيان، ولكن أشهرها الوجود أو الذات للتعبير عن الآب، والعقل أو النطق للتعبير عن الابن، والحياة للتعبير عن الروح القدس. 

2- سياق اللاهوت العربي المسيحي

لم يُشر د بباوي إلى سياق هذه العبارة بشكل وافٍ في كتابه. وبدون فهم السياق لن نصل إلى ما وراء الألفاظ ونكون قد قصرنا في اتباع ”مبدأ الإحسان“. بعد دخول الإسلام بلاد الشام ومصر بفترة وجيزة، نشأ جدلٌ إسلاميٌّ حول قضيتين خطيرتين هما: صفات الله، وخلق القرآن. بالنسبة للقضية الأولى، كان المعتزلة يدافعون عن التوحيد الإسلامي باستماتة، فرأوا أن القول بوجود صفات أزلية مع الله يقوِّض التوحيد الإسلامي، فقالوا بنفي الصفات. وبعد ذلك أصبح لدينا ثلاث مواقف إسلامية تجاه صفات الله. ما يُعرفون بالصفاتية يقولون بوجود صفات زائدة على الذات الإلهية. والمعتزلة يقولون بنفي الصفات وأنها هي ”عين ذات الله“، ثم الأشاعرة الذين قالوا بإن صفات الله ليست زائدة وليست هي عين ذات الله، بل هي بَيْن بَيْن.

فمثلاً أبو الحسين الخيَّاط وهو عالم معتزلي يقول ”لو كان الله علَّامًا بعلم فإمّا أن يكون ذلك العلم قديمًا (أزليًا) أو محدثًا. ولو كان أزليًا توجب وجود قديمين، وهذا قول فاسد. ولو كان محدثًا وجب أن الله يكون قد أحدثه في نفسه، وبالتالي صار الله محلاً للحوادث، وما كان محلاً للحوادث فهو حادثٌ“.[4] وكذلك يقول واصل بن عطاء المعتزلي ”مَن أثبت معنى وصفة قديمة فقد أثبت إلهين“.[5]

ويذكر الشهرستاني أن الأمر الذي دفع بواصل بن عطاء إلى إنكار الصفات أنه وجد أن إثبات الصفات يؤدي إلى إثبات صفات قديمة (أزلية) مع الله. ”ولا يمكننا أن نفهم هذا الكلام بمعزل عن الوسط الذي ظهر فيه، فهو موجه ضد عقيدة النصارى القائلين بالأقانيم الثلاثة وأنها قديمة مع الله“.[6]

كما يشرح هاري ولفسون في كتابه ”فلسفة المتكلمين“ أن بعض الباحثين أرجعوا إنكار المعتزلة للصفات إلى أصل مسيحي، وأن يوحنا الدمشقي استبق المعتزلة بقول إن الصفات ليست غير الله،[7] وأن ”مشكلة الصفات قد ظهرت في الإسلام نتيجة المجادلات المسيحية ضد التجسيم“.[8] والمقصود بالتجسيم أو الأنثربومورفيزم هو نسب صفات بشرية لله كاليد والذراع والوجه، والمشاعر مثل الغضب والندم إلخ. لكن ولفسون كما سنرى لاحقًا يؤكد أن المعتزلة نفوا الصفات حتى لا يتشبهوا بقول النصارى عن الأقانيم، ويسرد الدلائل على هذا من المتكلمين المسلمين واللاهوتيين المسيحيين أيضًا. 

القضية الثانية هي ”خلق القرآن“، والتي لا يُستبعد فيها وجود مؤثرات مسيحية. فالمسيح هو الكلمة اللوغوس الإلهي الأزلي. فعندما نشبت محنة هل القرآن (كلام الله) مخلوق أم أزلي، ظهرت أيضًا ثلاث مواقف كالتالي: قال المعتزلة بأن القرآن مخلوق، حتى يحفظوا أزلية الله الواحد نقية تمامًا. وقال الحنابلة بأن القرآن، كلام الله، أزلي. وقال الأشاعرة كلام الله نوعان: أزلي وحادث، على الوجهين.

فيقول أبو الحسن الأشعري: ”كلام الله يطلق إطلاقين كما هو الشأن في الإنسان، فالإنسان يُسمى متكلمًا باعتبارين: أحدهما بالصوت،و الآخر بكلام النفس الذي ليس بصوت ولا حرف، وهو المعنى القائم بالنفس الذي يُعبر عنه بالألفاظ، فإذا انتقلنا من الإنسان إلى الله رأينا كلامه تعالى يطلق بهذين الإطلاقين: المعنى النفسي وهو القائم بذاته، وهو الأزلي القديم... وهو الذي نريده إذا وصفنا كلام الله بالقدم... أما القرآن- بمعنى المقروء المكتوب- فهو بلا شك كما يقول المعتزلة حادث مخلوق“.[9] سيتمسك المسيحيون في مجادلاتهم بأن المسيح هو كلمة الله الأزلي وحُجتهم في ذلك الموقف المناهض للمعتزلة، وهو الموقف الإسلامي الذي ساد بعد ذلك.

كما يشرح الباحث صموئيل أرمانيوس أن الاعتقاد بثبوت الصفاث الإلهية كان مماثلاً لعقيدة التثليث المسيحي، فالقاضي عبد الجبار الهمزاني المعتزلة اتهم الكُلابية، وهم من أوائل الأشاعرة، بأنهم يشابهون قول النصارة في التثليث بإثباتهم وجود صفات قديمة (أزلية) في الله. كذلك ابن ميمون الفيلسوف اليهودي قال بإن مَن اعتقد بإله واحد ذو صفات يشابه باعتقاده النصارى في التثليث.[10]

وبالتالي نشأ دفاع الصفات، الشرح الثالوثي بالصفات، في هذا السياق الجدلي حول صفات الله هل هي عين ذاته أم زائدة، وفي سياق الجدل حول هل القرآن كلام الله أزلي أم مخلوق. والسؤال الجوهري هنا: هل يمكن الفرار وعدم التأثر بالسياق الحضاري الذي تعيش فيه الكنيسة؟ ألم يتأثر الآباء في القرون الخمسة الأولى بسياقهم الثقافي وتفاعلوا معه لمصلحة رسالتهم وإنجيلهم؟ لماذا يُنكر على آباء الكنيسة في العصر الإسلامي أن يفعلوا نفس الشيء؟ وهل إذا وقفوا مكتوفي الأيدي، رافضين مخاطبة ثقافتهم- بمفردات هذه الثقافة- يكونون مستحقي المديح أم القدح؟ أتجاسر وأقول إنه لو نشأت المسيحية في سياق غير السياق اليوناني/ الروماني لربما صار لدينا مصطلحات لشرح الثالوث غير مصطلحات الجوهر والأقنوم- إلخ التي نستخدمها اليوم!

وهل تُحاكم الكنيسة في عصر ما بناءً على معطيات عصر آخر؟ إن محاكمة اللاهوت العربي المسيحي في ضوء الحقبة الآبائية في القرون الخمسة الأولى هو نوع من ”المفارقة التاريخية“ (Anachronism). ولا سبيل إلى تعطيل حركة الزمن، أو إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء! ليحاكم كل زمان في خلفيته وسياقه. ولا أرى أفضلية عصر على آخر، بل يجب الاستفادة بأقصى درجة ممكنة مما قدمه كل عصر.

يُتبع



[1]  د جورج حبيب بباوي، الثالوث: هل هو صفات الوجود والعقل والحياة؟، نُشر عام 2011، على موقع www.coptology.org.

[2]  د بباوي، الثالوث، ص 4، 5. 

[3] أريد أن أنوه أن د جورج حبيب بباوي الآن أمام ربه، ولا أقصد التجريح في شخصه، بل الدفاع عن الفكرة، وأن نتعلم نحن الجيل الجديد ونأخذ عبرة من الماضي، ونطوِّر من أساليبنا، ونحسِّن من نقاشاتنا اللاهوتية والفكرية بشكل عام.

[4]  د عبد المنعم الحفني، موسوعة الفرق والجماعات، دار الرشاد، القاهرة، 1993، ص 358- 359.  

[5]  الشهرستاني، الملل والنحل، ج1، ص 46، ورد في ”أثر الفلسفة اليونانية في علم الكلام الإسلامي“، محمود محمد عيد نفيسة، دار النوادر، بيروت، ص 397.

[6] محمود محمد عيد نفيسة، أثر الفلسفة اليونانية في علم الكلام الإسلامي، ص 397- 398.

[7]  أي أنه لا تفريق بين كينونة الله وصفاته. يشرح هيرمان بافينك العلاقة بين صفات الله وكينونته، ويقول ”الله يكون ما يملك من صفات.. لابد أن نؤكد أن كلاً من صفات الله مطابقة لكينونته“. بمعنى أن ”الجوهر هو نفسه الحكمة، وهو نفسه الصلاح، وهو نفسه القوة... ليس لله خصائص بل فقط ماهية... خصائص الله لا تختلف عن ماهيته“. ويعلق بأن هذا يعبر عن بساطة الله، وهو ما حفظ اللاهوت المسيحي من السقوط في ”خطأ اعتبار صفات الله منفصلة عن ماهيته أو مستقلة بصورة أو بأخرى عن ماهيته“. بالطبع هناك تمييز بين صفات الله وماهيته، وبين صفات الله نفسها، لكن هذا التمييز نظري على مستوى الذهن. كذلك تجدر الإشارة إلى التفريق بين ذات الله وصفاته إمّا ظهر في المُثل الأفلاطونية الأزلية بجوار الله، أو في شكل قوى وأيونات كما في الغنوسية، أو تجسيد الطاقات الإلهية كما عند فيلو السكندري، أو في التراث اليهودي الكابالا في صورة انبثاقات إلهية عشرة. (انظر هيرمان بافنيك، الإله غير المدرك: عقيدة الله، ج1، ترجمة هدى بهيج، سلسلة الكلاسيكيات المسيحية، ص 142).

[8]  هاري ولفسون، فلسفة المتكلمين- ج1، ترجمة مصطفى لبيب، المركز القومي للترجمة، 2016، ص 118- 119.

[9]  أحمد أمين، ضحى الإسلام، ج3، مكتبة الأسرة، ص 40. جدير بالذكر أن فكرة تقسيم كلام الله بهذا الأسلوب مستمد من الفسلفة الرواقية، وقد استخدمه بالفعل بعض آباء الكنيسة مثل ثيؤفيلوس الأنطاكي ويوستين الشهيد- في سياق آخر- عن اللوغوس الداخلي logos endiathetos واللوغوس المنطوق logos prophorikos.  

[10] صموئيل طلعت، معضلة التوحيد المطلق: مقاربة معاصرة للاهوت العربي، دورية مدرسة الأسكندرية، عدد 19 لسنة 2015، ص 194، حاشية رقم 28.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق