الأربعاء، 14 أبريل 2021

دفاع الصفات في الميزان - ج5

 

8- هل المحبة جوهر الله أم صفته؟

هذا السؤال ينطوي على مفارقة غريبة! فدكتور جورج استدعى كل أسلحته ليجعل من ”دفاع الصفات“ بمثابة تفريغ لكل العقائد التي جاءت مع المسيحية. حتى أنه قال إن الوعظ بثالوث الصفات هو بمثابة تفريط في الإيمان بعد 1600 سنة من المعاناة.[1] فضلاً عن أن هذا الفهم للثالوث ينزع سر الثالوث، ويجعل الله وثنًا قابلاً للفحص، ويمثل إضاعة لأبوة الله ولأخوتنا للمسيح.[2] كل هذا لأن هذا الشرح للثالوث يخلط بين الأقنوم، الذي هو الشخص، والصفة مثل العقل والحياة. وها هو بنفسه يقع في نفس الشيء الذي يفنده، ألا وهو الخلط في مسألة المحبة. والسؤال الهام هو: هل المحبة جوهر الله أم صفة من صفاته؟!

يقول د جورج ”ولكن هؤلاء الوعاظ يقولون إن الآب كائن بذاته، وناطق أو عاقل بالابن، وحي بالروح القدس! ونقول مرة ثانية إننا لم نجد هذا الشرح عند الآباء، وعلينا أن نتأمل المحبة كائنة بذاتها ناطقة أو عاقلة بالابن وحية بالروح القدس“.[3] هل يريد د جورج المحبة كائنة بذاتها؟ إنه يؤكد مرات كثيرة إن ”المحبة هي جوهر الله وطبيعته“.[4] وأنا أقول إن هذه لغة شعرية peotic وليست لغة لاهوتية أو أكاديمية منضبطة. كل كتب اللاهوت النظامي تشرح إن ”الله محبة“ (1يو4: 8) باعتبار المحبة هي إحدى صفات الله الأدبية أو الأخلاقية والتي يمكن أن تندرج أسفلها صفات أخرى مثل الصلاح، ورحمة الله ونعمته، وطول أناته. وهي صفة، حتى وإن تجلت بأكثر إشراقًا في العهد الجديد، إلا أن صفات الله جميعها كاملة. ومن هذا الجانب لا يمكن تمييزها عن قداسة الله وعدله وأي صفات أخرى.

القديس كيرلس الأورشليمي يؤكد هذا المعنى إذ يقول: الله ”يُظهر طاقات لاهوته بألف كيفية.. لا زيادة فيها ولا نقص.. فهو ليس عظيمًا في الصلاح فقط مع بقائه قليل الحكمة، ولكن قدرته متساوية في الحكمة والصلاح“. ثم يقول ”هو كامل في القوة.. كامل في العظمة.. كامل في الصلاح.. كامل في العدل... كامل في الرحمة“.[5]


وبالتالي المحبة ليست ”جوهر“ الله بمعنى ”الأوسيا“؛ لأن الأوسيا، أو الحقيقة الميتافيزقية هي أن الله ”روح“ (يو4: 24). لكن د جورج يتحدث عن المحبة كأنها جوهر الله الأوسيا أو حتى كأقنوم شخصي، فيقول ”المحبة التي لا تفهم ولا تدرك ليست محبة بالمرة“.[6] ويقول أيضًا ”المحبة تحتاج إلى وجود وحياة وإرادة وحرية“. والحقيقة أن المحبة واحدة من بين الصفات الإلهية، والله كشخص هو مَن يحتاج لمثل هذا الصفات حتى يكون الله؛ ليس المحبة فقط بل القداسة والعدل أيضًا.

الحديث عن المحبة يدغدغ مشاعرنا فنتصور كأن المحبة شخص لابد أن يكون لها عقل يفهم! ما يفعله د جورج هنا أنه جعل المحبة، التي هي صفة، شخصًا على طريقة الأنثربومورفيزم أي التجسيم في صورة شخص. والأمر خلاف ذلك تمامًا. المحبة ليست سوى صفة، بجوار صفات أخرى من صفات الله كالقداسة والعدل. د جورج يتهم بخصومه بأنهم مهتمون فقط بصفات الوجود والعقل والحية، و”غيرها من صفات هو غير مهم بالمرة بما فيها القداسة والمحبة!!“.[7] وهذا اتهام خطير فيه تفتيش للنوايا، الجميع يقولون ”قدوس قدوس قدوس“، ويقولون إنه لا شيء يبقى سوى محبة الله. فلماذا هذا الاتهام القاسي؟!

لكن الأخطر هو التحدث بلغة شعرية في مسألة لاهوتية خطيرة كموضوع الثالوث. الصفة ليس جوهر ولا أقنوم، بل هي صفة أدبية من صفات الله المتعددة الأخرى. وأرى في ذلك مفارقة غريبة، إذ إنه يرفض وصف الأقانيم بالصفات، فإذ به يصف الجوهر بالصفات. وإذا كان بحسب زعم د جورج أن وصف الأقانيم بالصفات يحيلنا إلى السابلية، أو القول بأقنوم واحد. فهذا أفضل بكثير من أن يتحول جوهر الله إلى صفة مجرد، ولا يعد الله بعد شخصًا يهتم بنا أو حتى يسمعنا. لكني لن أفترض سوء النيه في د جورج كما فعل في خصومه، وسأكتفي بالقول إنه يتحدث بلغة شعرية تمثيلية قياسية، وليس أكثر.

 

9- هل هو شرح شرقي سكندري أم غربي؟

لطالما نادى د جورج باللاهوت الشرقي وبالأخص السكندري. لكن ما هو الشرح الثالوثي الذي يفضله، وإلى أي تقليد ينتمي هذا الشرح؟ يعتمد د جورج على توحيد الجوهر، ولأن المحبة عنده هي الجوهر، فيسميه ”توحيد المحبة“،[8] وقد أوضحنا من قبل أن هذه لغة شعرية أو صوفية إن شئت، وليست لغة يصح أن تُكتب في دروس العقيدة. لكنه ينطلق في شرح الثالوث من وحدة الجوهر، وهذا معروف أنه ينتمي للتقليد الغربي أكثر من الشرقي! ومن جهتي أحب التقليد الغربي لأن الكنيسة كانت واحدة جامعة رسولية في القرون الخمسة الأولى. فليس لدي مشكلة مع الشرح الغربي، لكني أريد أن أقول لأحباء د جورج، تمهلوا قليلاً د جورج يفضل شرحًا للثالوث ينتمي للتقليد الغربي!

لكن إذا جئنا إلى التقليد الشرقي والكبادوكي فإننا نجده ينطلق من ”مونارخية“ الآب، فهو علة كل من الابن والروح القدس. والطريف أن العبارة المتنازع عليها ”موجود بذاته، ناطق بكلمته، حي بروحه“ هي أقرب للتقليد الشرقي منه إلى التقليد الغربي، فربط الآب بابنه وكلمته أقرب إلى هذه العبارة، من توحيد الجوهر الذي ينتمي إلى التقليد الغربي! لأنه يجعل الثالوث أشبه بسلسلة كما يقول ولفسون، ويمنع من افتراض وجود ”جوهر“ مجرد غير مشخصن تشترك فيه الأقانيم الثلاثة، وبالطبع هذا يمكن الاعتراض عليه بأنه يُدخل رابوعًا إلى الثالوث، لكننا إن أحسنا النية نقول إننا لا يمكن أن نتخيّل الجوهر بمفرده دون تعيُّن في أقنوم.

الطريف أيضًا أن د جورج يرحب بالشرح الأغسطيني ”المحب والمحبوب والحب“،[9] وإذا أسأت الظن به سأقول له المحب والمحبوب شخصان، لكن الحب هنا صفة وليست أقنومًا! فهل نتصور الروح القدس صفة وليس أقنومًا؟! وهل المحب ليس لديه محبة في ذاته، وكذلك المحبوب هل هو مستقبل للحب فقط ولا يعطيه؟! ليس أسهل من تحطيم الحجج وتسفيهها، وإنني لم أكن لأتكبد عناء الرد لولا الاتهامات الصعبة التي وجهها د جورج لخصومه إلى درجة تفريغ المسيحية من كل العقائد التي نعتز بها. إلى درجة اتهمامهم بأنهم حولوا الله إلى وثن! إلى درجة اتهامهم بأنهم أضاعوا الفداء والتجسد والتبني والافخارستيا! إلى درجة اتهامهم بأنهم أثبتوا توحيد السابيلية وليس توحيد المسيحية! إلى درجة اتهام خصومه بأنهم لا يهتمون إلا بصفات الوجود والعقل والذات ولا يهتمون بصفات المحبة والقداسة! الله يغفر للجميع!   

 

10- خاتمة

من خلال العرض السابق نستطيع استخلاص النتائح الآتية: 1- كان اللاهوتيون العرب يعون جيدًا الهرطقة السابيلية ويتجنبونها في شرحهم للثالوث. 2- استخدم اللاهوتيون العرب لفظة ”صفات“ ليس كأعراض بل بالمعنى المستقر لكلمة أقنوم. 3- هذا الاستخدام للفظة ”صفات“ له خلفية ناتجة عن المجادلات بين الفرق الإسلامية وبالأخص المعتزلة الذي أنكروا الصفات تجنبًا للتثليث المسيحي. 4- هذا التفاعل من قِبل اللاهوتيين العرب كان ضرورة تاريخية وحضارية، التقاعس عنها تقصير مشين. 5- تشبيه الابن بأنه نطق/ عقل الله يمتد بجذوره إلى الحقبة الآبائية المبكرة. 6- استمر شرح اللاهوتيين العرب للخواص الأقنومية ب ”الأبوة والبنوة والانبعاث“ كامتداد للحقبة الآبائية، وأضافوا عليها شرحين آخرين أحدهما من الفلسفة ليقوضوا فكرة التوحيد المصمت ويعززوا من الوحدانية الجامعة، والشرح الآخر ناتج عن الجدالات الكلامية الإسلامية. 7- عبارة ”موجود بذاته، ناطق بكلمته، حي بروحه“ استخدمها لاهوتيون كثيرون سابقون مثل ابن المكين، وساويرس بن المقفع، وبولس البوشي، الذين كانوا يدركون جيدًا الفرق بين السابيلية ودفاع الصفات. كما استخدمها كثيرون من علماء العصر الحديث مثل الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي.



[1] د بباوي، الثالوث، ص  11.

[2] د بباوي، الثالوث، ص 20، 21.

[3] د بباوي، الثالوث، ص 7.

[4] د بباوي، الثالوث، ص 5.

[5] ق كيرلس الأورشليمي، العظات، تعريب الأب جورج نصور، بيروت، 1976، ص 94.

[6] د بباوي، الثالوث، ص 6.

[7] د بباوي، الثالوث، ص 15.

[8] د بباوي، الثالوث، ص 45، 47، 48.

[9] د بباوي، الثالوث، ص 50.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق