3- هل الأقانيم صفات أم أعراض؟
الأفكار تمتطي ظهر الألفاظ، كما يقول ولفسون، فما معنى تعبير الصفات في ظل
هذا السياق. يستند ولفسون لكلام العلامة السرياني الشهير ”ابن العبري“ عن المعتزلة
الذين في رأي ابن العبري قد أنكروا الصفات حتى ”يتجنبوا أقانيم النصارى“،
مما يعني ”أن الاعتقاد بثبوت الصفات الإلهية يدفع المرء بطريق غير مباشر إلى
الاعتقاد بالتثليث المسيحي“.[1]
كيف يكون هذا؟ ما علاقة التثليث المسيحي بالصفات الإلهية؟ يحاول ولفسون أن يجد ”لفظًا
مستخدمًا في عقيدة الصفات الإسلامية يمكن رده إلى لفظ من ألفاظ عقيدة التثليث
المسيحي“.[2]
وبالفعل يثبت أن كلمة pragmata التي تترجم ”شيء“ وتترجم ”معنى“،
وقد استخدمها بعض الآباء بمعنى ”شيء“ للتعبير عن الأقانيم.[3]
وأن كلمة ”معنى“ كانت تُستخدم كمرادف لكلمة ”صفة“ لدى بعض المتكلمين المسلمين.
وعندما نعرف أن القرآن لم ينسب كلمة ”صفة“ لله إلا مرة واحدة، بل استخدم
كلمة ”أسماء“، وأن ابن حزم يؤكد أن إطلاق لفظ ”صفات“ على الله لم يرد في القرآن،
ولا على لسان النبي محمد، ولا على لسان الصحابة والتابعين، و”ما كان هكذا فلا
ينبغي لأحد أن ينطق به“.[4]
نستطيع أن نفهم أن كلمة ”صفة“ ليس بمعنى عَرض (accident) لأن هذا
فيه تركيب، والله روح بسيط منزه عن التركيب. وإنما المقصود من كلمة ”صفات“ كما
يشرح ولفسون هي ”موجودات/ أشياء حقيقية قديمة في ذات الله“.[5]
وحتى لا ينزعج البعض من كلمة ”شيء“ وكيف تُطلق على الله، فالشيئية تساوي الوجود
الفعلي، لأن المعدوم ليس بشيء. من هذا الجانب يصح إطلاق لفظة ”شيء“ على الله.
كان المسيحيون في رأي ولفسون يدركون أن بعض الناس أدينوا بالهرطقة لأنهم
قالوا بأن الأقنومين، الابن والروح القدس، هما مجرد اسمين من أسماء الله، ويقصد
بذلك الهرطقة السابيلية. لكنه يقول إن ”معظم المسيحيين، وهم من أهل الاعتقاد
الصحيح، يعتبرون هذين الأقنومين شيئين واقعيين.. متمايزين عن جوهر الله وغير
منفصلين عنه“.[6]
وبناءً على ذلك، فالمعتزلة الذين أنكروا ”واقعية“ الصفات الإلهية هم السابيليون إن
جاز التعبير، وأن المسيحيين الذين قالوا بثبوت الصفات الثلاث هم أصحاب الإيمان الأرثوذكسي.
يغفل د جورج بباوي هذه الخلفية، ويقرأ كلمة ”صفات“ على أنها أعراض أو أحوال
أو مجرد أسماء، والحقيقة ليست كذلك. بالفعل فإن وصف الماء بالبارد، هذه صفة للماء وليست
الماء نفسه. أو وصف الإنسان بالعاقل هذه صفة للإنسان وليس الإنسان نفسه.[7]
هذا تشخيص د جورج لوصف الثالوث بالصفات، وهو على خلاف الحقيقة تمامًا كما
أوضحنا.
ولنأخذ مثلاً عمّار البصري النسطوري (ت 845م) في كتابه ”البرهان“، وسنجد أنه
يعي تمامًا الفرق بين الأقانيم والأعراض، ويقول: ”الأشياء لا تخلو من أربعة وجوه:
إمَّا جوهر كقولك إنسان. وإمَّا أقنوم كقولك موسى وداود وسليمان. وإمّا قوى كحرارة
النار وشعاع الشمس. وإمّا عَرض كالسواد في المسود والبياض في المبيض. فأكمل هذه الأربعة
الأشياء الجوهر والأقانيم. لأن الجواهر كلها لها هذه القوى من مثل الحرارة للنار والشعاع
للشمس، وهي تحتمل الأعراض أيضًا... والأقانيم أيضًا مثل قولك موسى وداود وسليمان، وكل
واحد قائم بنفسه مستغنٍ عن غيره. فأمّا الأعراض والقوى المتوحدة في معانيها لا تقوم
بنفسها مثل الجوهر، والأقانيم فهي محتاجة إلى الجواهر التي تحملها وتكون فيها“.[8]
نلاحظ أن عمار البصري يضرب أمثلة للأقانيم بموسى وداود إلخ، وهي الطريقة
الآبائية التقليدية، خاصة عند الآباء الكبادوك. وأنه يصف الأقنوم بأنه ”قائم بنفسه
مستغنٍ عن غيره“ أو ما يُسمى subsistence وهو الوجود الذاتي الخالص المميز، وليس مجرد أحوال modes أو أعراض accidents، أو أشكال forms.
نحتاج ايضًا أن نورد بعض الأمثلة لبعض اللاهوتيين العرب في تعريفهم المباشر
لكلمة ”صفات/ خواص“. على سبيل المثال، إيليا أسقف نصيبين يقول بثلاث صفات ذاتية هي
الأزلية والنطق والحياة. ثم يقول إن ”حَد (تعريف) القنوم هو إضافة الصفة إلى
الموصوف. لأن الصفة إذا أُخذت وحدها قيل فيها إنها صفة... فإذا أضيفت إلى الموصوف
سُميت قنومًا. وهي طي الصفة مع موصوفها“.[9]وهنا
يتضخ الفرق بين الصفة بمفردها والصفة زائد الموصوف. وأحيانًا يعرفون الأقنوم بأنه
حاصل مجموع الصفة مع الجوهر، وليس الصفة بمفردها. نفس الشيء يؤكده الشيخ مصطفى
الملك ابي يوسف في موسوعة المؤتمن بن العسال: ”الخاصة هي الصفة، والأقنوم الذات
مع الخاصة، لا الخاصة بمفردها“.[10]
ولدينا شهادة واضحة من الأنبا ساويرس بن المقفع، أسقف الأشمونين في القرن
العاشر، في كتابه ”مصباح العقل“ إذ يقول ”إنما نعني بالأقانيم... ليست كالصفات
التي تكون وتبطل، ولا كالأعراض التي تفنى وتفسد“.[11]
وبذلك يوضح الفرق بين الصفة والأقنوم. ومرة أخرى يؤكد ”فمن أنكر ثبات هذه
الصفات (يقصد الأقانيم) وقيامها وأزليتها فقد أنكر ما قد اعتُرف به... كما فعل
اليهود وسابيليوس والمعتزلة، الذين يجعلون صفات البارئ اسماء خالية من المعاني“.[12]
كما أظهر ساويرس بن المقفع حقيقة أنه ”لا مشاح في الاصطلاح“ طالما كنا نقصد نفس
المعنى قائلاً: ”وإن عبَّر معبر فقال أشخاص أو خواص أو معاني أو صفات كما قال
المتقدمون، فإنما يذهبون إلى ما قلته“.[13] وبالتالي
هم يعون جيدًا السابيلية ويتجنبونها، هم فقط يستخدمون لغة عصرهم، ويُلبسون
المصطلحات المعنى الحقيقي لكلمة أقنوم ليصدوا ويردوا على المعارضين لأهم عقيدة في
المسيحية، وهي الثالوث.
يُتبع
[1] ولفسون، فلسفة المتكلمين، ج1، ص 190.
[2] ولفسون، فلسفة المتكلمين، ج1، ص 191.
[3] ولفسون، فلسفة المتكلمين، ج1، ص 194. يتحدث ق
أثناسيوس عن أن الاعتراف بوجود three realities (pragmata) لا يعني الاعتراف بثلاثة آلهة
(انظر De Synodis IV, 26).
[4] ابن حزم، الفصل، ج2، ص 120، ورد في ولفسون،
فلسفة المتكلمين، ج1، ص 196، حاشية رقم 37. يشرح ولفسون في هذا الجزء أن الفعل ”وصف“
ورد بالفعل في القرآن، دائما في سياق سلبي يتعلق بكلام خاطئ عن الله، لكن الاسم ”صفة“
لم يرد إلا مرة واحدة.
[5] ولفسون، فلسفة المتكلمين، ج1، ص 209.
[6] ولفسون، فلسفة المتكلمين، ج1، ص 212.
[7] د. بباوي، الثالوث، ص 13.
[8] عمار البصري،
البرهان، تحقيق ميشال الحايك، دار المشرق، بيروت، 1977، ص 51.
[9] إيليا الثاني، أصول الدين، ج1، ص 189.
[10] المؤتمن بن العسال، مجموع أصول الدين، ص 417.
[11] ساويرس بن المقفع، مصباح
العقل، تحقيق الأب سمير خليل، القاهرة ، 1978، ص 27.
[12] ابن المقفع، مصباح العقل، ص
30.
[13] ابن المقفع، مصباح العقل، ص
31.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق