الجمعة، 5 يونيو 2020

الأثر المعتزلي في ترجمة التوراة لسعديا جاؤون الفيومي



سعديا بن يوسف الفيومي، عاش بين (882- 942م)، وولد في قرية ”أبو صير“ بمحافظة الفيوم، ثم انتقل إل فلسطين وبغداد، وتتلمذ على يد اللغويين العرب، وتشربت روحه بمذهب المعتزلة. كان لأفكاره بالغ الأثر في تطور الفكر اليهودي في زمانه وعلى المفكرين من بعده. في هذه الورقة البحثة سأحاول أن أتتبع التأثير المعتزلي في ترجمته للتوراة.
مقدمة
عارض المعتزلة مَن يقولون بإمكانية رؤية الله في الحياة الأخرى، الذين اعتمدوا على بالنص القرآني الذي يقول ”وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ“ (سورة القيامة 23)، لكن المعتزلة رأوا أن إثبات الرؤية لله تقتضي نقصٌ ينبغي نفيه عن الله، والدليل القرآني على ذلك في النص الذي يقول ”لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ“ (سورة الأنعام 103). واستعانوا أيضًا بأحديث منسوبة للنبي تؤكد نفي رؤية الله، مثل حديث أبي ذر لمّا سأل النبي محمد ”هل رأيت ربك؟“ قال ”نورٌ أني أراه“ (صحيح مسلم، باب الإيمان، حديث 461، 462).[1] تأثر سعديا الفيومي بهذا الطرح المعتزلي، كما يظهر في ترجمته للآيات التي تتضمن تعبيرات توحي برؤية الله كما سنبين لاحقًا. في ذات الوقت تأثر سعديا بالمعتزلة في مسألة رفض التجسيم، ففي مقابلات الله في التوراة، نجده يبدل الله بملاك الله، ويتبع نفس المنهجية في ترجمته لبعض الآيات التي تتضمن تعبيرات مصل يد الله وذراع الله كما سنبين أيضًا.
وجه الله أم نور الله؟
في خروج 24 عندما تكلم الله مع شعب بني إسرائيل، يقول النص البيروتي أن الشعب ”رأوا الله“ (ع11)، لكننا نجد الفيومي يترجمها ”نظروا نور الله.[2] وقبل ذلك عندما رأى موسى العليقة المشتعلة ”خَافَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى اللهِ“ (خر3: 6)، فيترجمها الفيومي أنه خاف أن ينظر ”نور الله“.[3] وفي خروج 33 يقول الله لموسى ”وَجْهِي يَسِيرُ فَأُرِيحُكَ“ (ع14) لكن الفيومي يترجمها ”نوري يسير معك“.[4] وبقية القصة كما هو موضح في الجدول التالي:
خروج 33: 18- 23 (الترجمة البيروتية/ فانديك)
خروج 33: 18- 23 (سعديا الفيومي)
فَقَالَ: «أَرِنِي مَجْدَكَ». فَقَالَ: «أُجِيزُ كُلَّ جُودَتِي قُدَّامَكَ. وَأُنَادِي بِاسْمِ الرَّبِّ قُدَّامَكَ. وَأَتَرَاءَفُ عَلَى مَنْ أَتَرَاءَفُ، وَأَرْحَمُ مَنْ أَرْحَمُ». وَقَالَ: «لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَرَى وَجْهِي، لأَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ». وَقَالَ الرَّبُّ: «هُوَذَا عِنْدِي مَكَانٌ، فَتَقِفُ عَلَى الصَّخْرَةِ. وَيَكُونُ مَتَى اجْتَازَ مَجْدِي، أَنِّي أَضَعُكَ فِي نُقْرَةٍ مِنَ الصَّخْرَةِ، وَأَسْتُرُكَ بِيَدِي حَتَّى أَجْتَازَ. ثُمَّ أَرْفَعُ يَدِي فَتَنْظُرُ وَرَائِي، وَأَمَّا وَجْهِي فَلاَ يُرَى».
قال: أرني الآن وقارك. قال له: أنا أمر بجميع نوري بين يديك، وأنادي بحضرتك، وأرؤف على من أرؤف، وأرحم لمن أرحم. وقال له أيضًا: لا تستطيع أن تنظر أول نوري، لأنه لا يراه إنسان فيحيا. فقال له الله: فهوذا موضع عندي انتصب على الصوان. فإذا مرّ بك نوري صيرتك في نقور الصوان، وظللت بسحابي عليك حتى يجوز أوله. ثم أزيل سحابي حتى تنظر أواخر نوري،ـ وأوائله لا ترى.[5]

يتضح من الجدول السابق أن الفيومي يفضل تعبير ”نور الله“ بدلاً من تعبير ”وجه الله“ الذي ينطوي على تجسيم واضح. نفس الشي تعبير ”ورائي“ الذي يعني ”خلف“ أو حتى ”قفا” الله، يلجأ الفيومي إلى وصف ذلك بأواخر نور الله في مقابل ”أول نور“ الله، أي وجهه، ويستبدل كلمة ”مجدي“ بنوري أو وقاري أحيانًا.   
الله أم ملاك الله؟
على نفس المنوال نجد تغييرًا واضحًا في النصوص التي تتضمن التجسيم (الأنثروبومورفيزم)، أي نعت الله بصفات بشرية. ففي قصة مصارعة يعقوب مع الله، يقول يعقوب ”نَظَرْتُ اللهَ وَجْهًا لِوَجْهٍ“ (تك32: 30)، فيترجمها سعديا ”رأيت ملاك الله مواجهة“.[6] وموسى الذي قيل إنه كان يتكلم مع الله ”وَجْهًا لِوَجْهٍ، كَمَا يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ“ (خر33: 11)، يترجمها الفيومي ”ويتكلم الله مع موسى شفاهًا كما يكلم المرء صاحبه“.[7] فيتجنب ذكر كلمة ”وجه“ كما شرحنا سابقًا. كذلك في تك 3: 5 يغير صيغة التحذير لآدم وحواء من ”تَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ“ إلى ”تصيران كالملائكة عارفين الخير والشر“.[8] ومرة أخرى بدلاً من ”جَاءَ اللهُ إِلَى أَبِيمَالِكَ فِي حُلْمِ“ (تك 20: 3)، يترجمها ”جاء ملاك الله إلى أبيمالك“.[9]
يد الله أم قدرته؟
بالطبع يُنسب لله كثيرًا في أسفار موسى الخمسة تعبيرات مثل يد، وذراع، وإصبع، وهي تندرج تحت الوصف التجسيمي الذي رفضه المعتزلة، وفسروا آية ”يد الله فوق أيديهم“ (سورة الفتح 10)، تفسيرًا مجازيًا كتعبير عن سلطان الله على خلقه، في حين فسرها الفريق المضاد المتشدد بأن لله يدًا أكبر من يد البشر كلهم. نرى أثر ذلك في ترجمة الفيومي فهو يستبدل تعبير ”إصبع الله“ (خر31: 18) بتعبير ”قدرة الله“.[10] وفي مرات يترك تعبير يدي الله، وفي مواضع عدة يترجم مثلا تعبير ”أَمُدُّ يَدِي وَأَضْرِبُ مِصْرَ“ (خر3: 20) بتعبير ”أبعث بآفتي فأضرب المصريين“. من الواضح أنه كلما استطاع كان يتجنب تعبير ”يد الله“.[11] 
قراءة نقدية
كثير من المصادر تنسب هذا التأثر الواضح للفيومي في مسألة إنكار الصفات بالمعتزلة، مشددين على دور الإسلام في التأثير على غير المسلمين، وأن اليهود لم يكونوا سوى نقله عن علماء المسلمين. لكن ربما تكون هذه نظرة من جانب واحد؛ إذ يصرح المستشرق الأمريكي البارز هاري ولفسون في كتابه ”فلسفة المتكلمين“ أن هناك من الباحثين المحدثين مَن يقولون بوجود أصل مسيحي لإنكار المعتزلة للصفات الإلهية.[12] ويستشهد ولفسون ببيكر الذي يقول أيضًا إن إنكار المعتزلة للصفات ”يستند إلى الرأي المسيحي الذي يذهب إلى أن عبارات التشبيه في الكتاب المقدس لا يجب أن تؤخذ حرفيًا“.[13] وبالفعل نحن نجد تأصيلاً لهذا لدى العلامة أوريجانوس في كتابه العمدة ”المبادئ“ إذ يؤكد أن الله ليس بجسم، وبالتالي لا يُرى؛ لأن الرؤية من خصائص الأجسام، ويقول ”هكذا نحسب أن موسى قد شاهد الله، لا من حيث مشاهدته بعيني الجسد، وإنما من حيث فهمه برؤية القلب وحس الإدراك“.[14]
نفس الشيء نجده عند يوحنا الدمشقي الذي عاش بين (676- 749م)، وكان والده وزيرًا في بلاط الخلافة الأموية، إذ يقول: ”كل ما يُقال في الله بصورة جسمية إنما يُقال بصورة رمزية... يُراد بعيني الله وجفنيه ونظره قوته المشرفة على الكل ومعرفته التي لا خفي أمامها... ويُراد بأذنيه وسمعه تعطفه واستجابته سؤلنا... ويُراد بفمه وكلامه إعلان مشيئته... ويُراد بوجهه إعلانه تعالى... ويُراد بيديه فاعليته في عمله... ويُراد بيمينه إغاثتنا في الصالحات“.[15]نفس المعاني نجدها في تفسير الزمخشري، الذي عاش بين 1074- 1143م، وهو معتزلي العقيدة؛ إذ يقول بأن العين تعني المراعاة والمراقبة، وكذلك القاضي عبد الجبار، وهو أحد مؤسسي المعتزلة، الذي يقول بأن المقصود بالوجه هو الذات، والمقصود باليد القوة.[16]
خاتمة
يظهر جليًا أن سعديا الفيومي تأثر برفض المعتزلة للتجسيم والتشبيه في ترجمته للتوارة، مما جعله يفضل تعبير ”نور الله“ بدلاً من ”وجه الله“، وأحيانًا ”قدرة الله“ عن ”يد“ أو ”إصبع الله“. واستبدال كلمة ”الله“ ب ”ملاك الله“. هذا فضلاً عن تأثره بمناهج التفسير والتأويل أيضًا، مما جعل الباحثين الإسلاميين يبرزون دور الفكر الإسلامي في تطور الفكر اليهودي. لكننا رأينا أن المعتزلة هو بدورهم قد تأثروا بالجدل المسيحي، وأن رفض التجسيم كان مستقرًا في المسيحية قبل ظهور الإسلام.  



[1] عزة محمد سالم، أثر مناهج تفسير القرآن الكريم في تفسير الحاخام سعديا جاءون لسفر التكوين، (مكتبة الآداب، القاهرة، 2009)، 142.
[2]  سعديا بن جاؤون بن يسوف الفيومي، تفسير التوراة بالعربية، أخرجه وصححه يوسف درينبورج، نقله إلى الخط العربي وقدم له وعلق عليه سعيد عطية مطاوع، وأحمد عبد المقصود الجندي، (المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2015)، 250.
[3]  نفس المرجع السابق، 201.
[4] نفس المرجع السابق، 274. 
[5]  نفس المرجع السابق، 274، 275.
[6]  نفس المرجع السابق، 153.
[7]  نفس المرجع السابق، 274.
[8]  نفس المرجع السابق، 86.
[9]  نفس المرجع السابق، 119.
[10]  نفس المرجع السابق، 269.
[11]  نفس المرجع السابق، 203.
[12]  هاري ولفسون، فلسفة المتكلمين، ترجمة مصطفى لبيب عبد الغني، (المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2016)، المجلد الأول، 118.
[13]  نفس المرجع السابق، 119. 
[14]  أوريجانوس، المبادئ، ترجمة الأب جورج خوام البولسي، (المكتبة البولسية، لبنان، 2003)، 182.
[15]  القديس يوحنا الدمشقي، المئة مقالة في الإيمان الأرثوذكسي، تعريب الأرشمندريت أدريانوس شكور، (المكتبة البولسية، لبنان، 1991)، المقالة 11، 76.
[16]  د. السعيد شنوقة، التأويل والتفسير بين المعتزلة والسنة، (المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة، 2005)، 157.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق