هذا الكتاب يقع في أكثر من 700 صفحة (قطع متوسط)، والكاتب قسيس إنجيلي أردني، قرأت له كتابًا سابقًا بعنوان ”ضرورة التعددية في الوحدانية الإلهية“، إصدار دار منهل الحياة، ودار الهيئة الإنجيلية للنشر والتوزيع بالإردن. والكتاب مُترجم إلى اللغة الانجليزية أيضًا.
من أهم النقاط في الفصل الأول كلامه عن أن الرسالة
المسيحية تبدأ بالإنجيل، والإنجيل يفترض عقيدة الثالوث من خلال إرسال الآب للابن
لخلاص العالم وأيضًا لإرساله الروح القدس (ص 71). كما أن عقيدة الثالوث هامة
وأساسية لكل العقائد المسيحية الأخرى. لكن إخلاص الكاتب للكتاب المقدس وحده في
العقائد يؤدي إلى بعض الإشكاليات، ففي (ص 72) يقول إن كلمة ثالوث غير موجودة في
الكتاب المقدس بالتالي ”المسيحي غير ملزم أن يستخدمها“. وأعتقد أن هذه
مشكلة رفض البعض لما يُسمى ب conceptual terms أو
المصطلحات المفاهيمية.. هناك ثلاثة شخصيات.. فما الخطأ أن أقول أن هناك ثالوث! ربما
لأني من خلفية طائفية مختلفة عن الكاتب، فأنا مع وضع مصطلحات مفاهيمية لم ترد في
الكتاب المقدس، أستخدم مصطلح ”ثالوث“ (ترتليان وثيؤفيلوس الأنطاكي أول من
استخدمه)، كما استخدم الآباء في نيقية ”هوموأوسيوس“ برغم أنه ليس مصطحًا كتابيًا.
لكنه يتحدث بعد ذلك بشكل جميل عن عدم قدرتنا على استيعاب
طبيعة الله بشكل كامل، لأننا محدودون. ويقول عبارة جميلة: ”إن عقيدة الثالوث
ليست مشكلة تحتاج إلى حل، بل جمال يحتاج إلى اكتشاف“ (ص 76) هذا الجمال يقدم
باستخدام كلمة ”سر“. ويشرح الكاتب معتمدًا على Weinandy الفرق بين
المنهجية العلمية التي تهدف إلى إيجاد حل نهائي للمشكلة، والمنهجية اللاهوتية التي
تهدف إلى استيضاح السر دون الوصول إلى نهايته (ص76). لكن هذا لا يمنع من اتفاق
المنطق السليم مع هذا الإعلان الإلهي للثالوث، لكن ”لا يُلجأ إلى المنطق بسبب
النقص في الإعلان، بل بهدف الوصول إلى فهم أعمق للإعلان.. وتوضيحه“ (ص 93). هذا
هو مبدأ ”الإيمان الساعي إلى الفهم“ الذي نادى به أغسطينوس. من ناحية أخرى
يشرح الكاتب أن صعوبة العقيدة لا تعني عدم المنطقية.
في هذا الفصل الثاني يفرق الكاتب بين الوحدانية المطلقة،
وهو يقول إن بعض الفلسفات توصلت إليها بالفعل، والوحدانية بثالوث، وهذا تعبيره
المفضل. هناك بالتأكيد تقاطعات بين الاثنين لكن النقطة الأهم من وجهة نظري أنه في
الوحدانية المطلقة، ”مشيئة الله“ تقرر عمل بقية الصفات الإلهية. لكن في الوحدانية
بثالوث صفات الله تنبع من العلاقة بين الأقانيم، فهي تدفق لغني العلاقة السرمدية
بين الأقانيم. في الوحدانية المطلق الله هو ”سيد“، لكن في الثالوث الله ”سيد وأب“.
وفي كلا النوعين، وحدانية الله غير منقسمة وغير مركبة، وأظن أن هذه نقطة جيدة لبدء
الحوار مع المسلمين. في الوحدانية المطلقة أول مرة يختبر فيها الله العلاقة مع
الخلق، لكن في الوحدانية بثالوث الله يختبر العلاقة السرمدية بين أقانيمه.
في الفصل الثالث: يعلن العهد القديم عن الله
الواحد، وأيضًا ظهوراته في شكل ملاك أو إنسان أو غيره (ص 109)، موسى رأى ”وراء“
الله، وهاجر أيضًا (تك 16). ثم يستعرض المعاني المرتبطة بالله في العهد القديم،
أعجبني تحليله لآية 20: 28 ”كنيسة الله التي اقتناها بدمه“، كالآتي: 1- كنيسة الله
(يسوع) التي اقتناها بدمه، 2- كنيسة الله (الآب) التي اقتناها (يسوع) بدمه، 3-
كنيسة الله (الآب) التي اقتناها بدم خاصته، وخاصته هنا هو يسوع، 4- كنيسة الله
(الواحد الوحيد) التي اقتناها بدمه الخاص.
تعبير ”الله“ يشار به إلى الآب.. في العهد القديم غالبًا
للإشارة إلى أبوة الله لخليقته، ثم يظهر مصطلح ”الآب“ في العهد الجديد للإشارة إلى
علاقته بابنه الوحيد ”كما لوحيد (يو 1: 14)، ويقول إن ”الإعلان عن الآب هو إعلان
عن الثالوث“ (ص 123) لأنه في نفس الوقت إعلان عن الابن في علاقته بالآب، والروح
القدس حاضر أيضًا لأنه روح الآب والابن. ثم يقول إن هناك 120 موضع في العهد الجديد
يذكر الأقانيم بشكل بسيط ”دون دفاع ودون شرح ودون اعتذار!“ (ص 124). كما يشير
أيضًا تعبير الله إلى الألوهية أو الطبيعة الإلهية (127)، ثم يستخدم تعبير ”الله“
للإشارة إلى الابن كما في قول توما ”ربي وإلهي“ ويحلل في حاشية 40 لماذا لا يُفسر
هذا التعبير على أنه أسلوب تعجب.
في الفصل الرابع، لدي مشكلة في كلامه على أن ”الإنسان
المسيحي غير ملزم أن يستخدم“ كلمة أقنوم (ص 146)، فإن كان هناك بديل أفضل، فما
هو؟ وينقل عن عوض سمعان الذي يميز بين الأشخاص (ذوات منفصلة)، والأقانيم (ذات
واحدة). ويقول إن كلمة شخص تشير إلى الانفصال (147)، لكن الجملة الأهم في هذا
الفصل هي أن الثالوث ”ثلاثة أشخاص بألوهية واحدة، وهذه ميزة موجودة بتفرد في
الله فقط، وليس في أي من الخلائق“ (148). ثم يستعرض عدة أخطاء شائعة عن تصورنا
عن الله، كأن نحصر الإيمان بوجود الله فقط، أو نقول ب 3 آلهة، أو المودالية
(السابيلية)، أو الاستقلالية في العمل، أو التراتبية والتي يقول فيها ”لا يعلم
الكتاب المقدس التراتبية، بل الترتيب“ (149). لدي مشكلة مع عبارة ”هناك
تواضع حقيقي في ذات الإله الواحد. وظهرت هذه الصفة في التجسد والفداء“. هنا
خلط بين ما هو ثيؤلوجيا وما هو إيكونوميا، وليس من الصحيح أن كل ما يظهر في
الإيكونوميا يكون له مردود في الثيؤلوجيا. هذه مشكلة كارل رانر الذي قال قاعدته
الشهير ”الثالوث الأنطولوجي هو (يطابق) الثالوث التدبيري)، وإن كان هناك تفسيرات
متعددة لقاعدة رانر. ثم يتعرض لفهم طبيعي المسيح، ويناقش استخدام التشبيهات في شرح
الثالوث مؤكدًا على قصورها.
في الفصل الخامس، يتعرض الكاتب إلى مناقشة ما يرفضه
القرآن بشأن الثالوث، وأننا نرفض نفس الشيء أيضًا. ورفض القرآن للتجسد والفداء،
مؤكدًا أن المسيحية تتجاوز الوحدانية المطلقة بالكشف ”عن مستلزم طبيعي يجعل عمل
صفات الله ممكنًا“ (ص 170).
أمّا الفصل السادس: يقول إن السؤال الحتمي هو: ”كيف يمكن
أن تكون صفات الله عاملة سرمديًا خارج الخليقة دون أن يكون الله قائمًا في علاقة؟ ويشير
إلى صراع تاريخي إسلامي بشأن الصفات بين الاشاعرة والمعتزلة. المعتزلة قالوا بإن
صفات الأفعال غير أزلية (184)، لكن هذا يجعل الله قابلاً للتغيير. في المقابل
الأشاعرة قالوا بأن صفات الأفعال أزلية نابعة من مشيئة الله. كذلك رفض الأشاعرة أي
محاولة لتعريف صفات ذات الله أو السؤال عنها، بينما أصر المعتزلة أن صفات الله هي
ذاته وليست في ذاته كما قال الأشاعرة (ص 200). ثم تحدث عن الخلاف حول ”فتنة القرآن“
وهل كلام الله مخلوق (كما قال المعتزلة) أم أزلي (كما قال الأشاعرة)؟
في الفصل السابع: الوحدانية بثالوث قالت إن صفات
الأفعال نابعة ليس من مشيئة لا يمكن التكهن بها بل من طبيعة الله المعلن عنها (ص
209)، وصفات الأفعال تنبع من صفات الذات (ص 216). فتعامل الله مع البشر بصفات
الأعمال (محبة، رحمة، ...) ينبع من تعامل الأقانيم فيما بينهم.
في الفصل الثامن، يقول فكرة مهمة جدًا أن ”الشخصية“،
طالما اعترفنا أن الله شخص، لا تنحصر في الوجود، لكنها تحتاج إلى العلاقة (ص 231).
ويستشهد باللاهوتي الارثوذكسي يوحنا زيزولاس الذي قال (to be and to be in relation is identical). هذه العلاقة بين الأقانيم
تمكنه من ”مشاركة غنى ما يملكه“ (232). هناك جزء مهم يناقش لماذا التقيد بثلاثة
أقانيم وليس أكثر من ذلك.
في الفصل العاشر في سياق حديثه عن السكنى المتبادلة،
يقول إن البعض فسرها خطأ، مثل ليوناردو بوف، وقالوا إنها تلغي الترتيب في الذات
الإلهية، وأنها تلغي أية سيادة لأي أقنوم على الآخرين (ص 332). الإشكالية هنا أن
الكاتب يطابق بين الثالوث التدبيري والثالوث الأزلي، فمع وجود خضوع وترتيب في
التدبير يريد الكاتب أن يرده إلى ترتيب سرمدي أزلي. هذه الفكرة من النواتج الخاطئة
لتطبيق قاعدة Rahner الذي طابق بين الاثنين. فالابن
في التدبير مثلاً صرح بأنه لا يعرف الساعة، وكثير من الآباء قالوا إن هذا مناسب
لبشريته، فهل يمكن رد ذلك إلى نوع من عدم المعرفة للابن في الثالوث الأزلي؟ هذا
غير وارد. ولذلك قال الآباء أنه بلاهوته يعرف كل شيء. وبالتالي يجب عدم تطبيق
قاعدة رانر بحذافيرها في كل موقف.
الفصل 13 فصل خطير جدًا، لأن الكاتب يشير بوضوح إلى رفضه لفكرة الولادة الأزلية، ويقبل في المقابل فكرة البنوة الأزلية. لأن فكرة الولادة قد تتضمن فكرة اعتماد الابن في وجوده على الآب، مما يترتب عليه التراتبية، وهذا غير صحيح كما سأبين.المهم أنه يبني ذلك على أدلة كتابية بحروف الجر اليونانية. يقول: ”إن من المزايا العجيبة لدقة الوحي أنه يستخدم حرفي الجر ἐκ ، ἀπὸ للإشارة إلى المهمة الزمنية التي أرسل الآب الابنَ إلى الأرض، في حين يستخدم حرف الجر παρὰ للإشارة إلى العلاقة السرمدية بين الآب والابن“ (ص 452).
ويضرب أمثلة على آيات تدل على الإرسالية التدبيرية، مثل ”خرجت من قبل الله وأتيت ἐκ τοῦ Θεοῦ ἐξῆλθον“ (يو 8: 42 ب)، و”هو عالم أنه من عند الله خرج ἀπὸ Θεοῦ ἐξῆλθεν“ (يو 13: 3). وعلى الحالة الأزلية بآيات مثل: ”مجدًا كما لوحيد عند الآب μονογενοῦς παρὰ Πατρός“ (يو 1: 14)، ”من عند الله خرجت παρὰ τοῦ Θεοῦ ἐξῆλθον“ (يو 16: 27 ب)، ”خرجت من عند الآب ἐξῆλθον παρὰ τοῦ πατρὸς“ (يو 16: 28 أ)، ”خرجت من عندك παρὰ σοῦ ἐξῆλθον“ (يو 17: 8 ب).
يريد د عماد شحادة أن يصل إلى أن حرف الجر παρὰ في استخدامه للإشارة للعلاقة الأزلية بين الآب والابن يؤكد أن العهد الجديد يتجنب أي لغة توحي بالمصدرية أو الترتيب الزمني، ”فيشدد على أن الابن لا يخرج "من" الآب، بل "من عند" الآب، أي حيثما يوجد الآب، وذلك باستخدام حرف الجر παρὰ. ولو استخدم حرف الجر ἀπὸ / ἐκ لوصف العلاقة السرمدية، لعنَى ذلك ”مصدرية وأوحى بترتيب زمني، مما قد يؤدي إلى تراتبية في الثالوث“ (ص 453). يكرر نفس الشيء من جهة العلاقة مع الروح القدس (ص 516- 517) للتأكيد على نفس الفكرة، ويستدل بآية ”من عند الآب ينبثق παρὰ τοῦ Πατρὸς ἐκπορεύεται“ (يو 15: 26 ب).
هذا يختلف بالطبع عما قاله الآباء وصاغوه في مجمع نيقيه، لكن كاتبنا لا يبالي كثيرًا بفكرة صياغات المجامعات. فهو يتذرع دائمًا بالكتاب المقدس، وينسى أن الآباء قرأوا الكتاب المقدس جيدًا أيضًا. الأب متى المسكين في كتابه ”القديس أثناسيوس حقبة مضيئة في تاريخ مصر“ وص 402 يقول أن هناك اصطلاحين حارسين للوحدة الإلهية هما ”من الله ἐκ Θεοῦ“ و”في الله ἐν θεῷ“. ثم يقول عن التعبير الأول هو اصطلاح إنجيلي اتخذه الآباء في شرح علاقة الابن والروح القدس بالآب.. ”للحفاظ على وحدة الأصل“، أو المونارخية وهي بحسب الأب متى المسكين عقيدة لحراسة مفهوم وحدانية الله ضد أي انحراف ناحية الوثنية وتعدد الآلهة.
وجدير بالذكر أن قانون الإيمان استخدم هذا التعبير ”المولود من الآب قبل كل الدهور ἐκ τοῦ Πατρὸς γεννηθέντα πρὸ πάντων τῶν αἰώνων“. ومن جهة الروح القدس فإن عبارة ”المنبثق من الآب“ هي ἐκ τοῦ Πατρὸς ἐκπορευόμενον ولا يستخدم قانون الإيمان الحرف παρὰ بل ἐκ، فهل الكاتب يعتقد أن الانبثاق هنا مهمة تدبيرية؟! يتضح من هذا أن دكتور عماد شحادة لا يفضل تعابير قانون الإيمان النيقوي.. لصالح قراءة نصية معينة.. فما صحة وحقيقة هذا الأمر؟
للرد:
يذكر ستيفن دابي في كتابه (Jesus and the God of Classical Theism) يو 6: 45، 46 التي تقول: ”لَيْسَ أَنَّ أَحَدًا رَأَى الآبَ إِلاَّ الَّذِي مِنَ اللهِ ὁ ὢν ἐκ τοῦ θεοῦ“، فالابن هنا من ἐκ الله وليس παρὰ، ويستشهد بتفسير يوحنا ذهبي الفم الذي يقول إن عبارة ”من الله“ قيلت ”ليس من جهة العلية بل من جهة الجوهر κατὰ τὸν τρόπον τῆς οὐσίας لأنه لو قال هذا بمعنى العلية، لصرنا نحن كلنا بالمثل "من الله"، فأين سيكون سمو الابن“ (In Johann. 46.1 ).
كما يستشهد بآية يو 7: 28 – 29 التي تقول ”مِنْ نَفْسِي لَمْ آتِ، بَلِ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَقٌ، الَّذِي أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ. أَنَا أَعْرِفُهُ لأَنِّي مِنْهُ παρ’ αὐτοῦ ، وَهُوَ أَرْسَلَنِي“. عبارة ”هو أرسلني“ تفيد الإرسالية التدبيرية، لكن عبارة ”أنا أعرفه لأني منه“ (والتي يمكن أن تُترجم "من عنده" بناء على استخدام حرف الجر παρ’) تبين لماذا هو بالذات يعرفه حق المعرفة.. ويستشهد بفهم القديس أغسطينوس الذي يقول إن عبارة ”لأني منه“ تفيد أنه إله من إله ونور من نور، بينما عبارة أرسلني تتعلق بمجيئه إلى العالم (In Iohann. 31.4 ). في يو 1: 6 نقرأ عن يوحنا ”كَانَ إِنْسَانٌ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ ἀπεσταλμένος παρὰ Θεοῦ اسْمُهُ يُوحَنَّا“. فهل إرسالية يوحنا إرسالية سرمدية؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق